احمد عرابی زعیم مفتری علیہ
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
اصناف
وتدخل عرابي في مسألة أخرى وهي الميزانية المخصصة لإبلاغ الجيش ثمانية عشر ألفا من الجند، ولقد أبدت المراقبة المالية عدم موافقتها على المبلغ اللازم كله، وبعد أخذ ورد وافق عرابي على ما تيسر دفعه من هذا المبلغ على أن يوفر الباقي من وجوه أخرى.
لقد قطع عرابي على نفسه عهدا كما أسلفنا ألا يتدخل في شئون الحكومة القائمة، وعلى هذا الأساس قبل شريف رئاسة الوزارة، لذلك نرى أن تدخل عرابي في الأمور التي ذكرناها يوجب ملامته، ولن يشفع له أنه كان يطلب الخير، ولن يخفف من اللوم عليه أنه رضي آخر الأمر ولم يسبب للحكومة عنتا، فهذه الأمور من اختصاص الحكومة، وهي لا تمس جوهر قضية البلاد.
ووجه اللوم على عرابي أنه هيأ لأعداء الحركة القومية في مصر أن يمعنوا في تصويرها صورة عسكرية بحتة سببها تدخل الجند في شئون الدولة.
لم ين أعداء هذه الحركة الوليدة عن مناوأتها في مصر وفي خارج مصر، وإلى هذه المناوأة يرجع سبب جموح هذه الحركة والتوائها على شريف ثم خروجها آخر الأمر من يده، ولو أنه قدر لمصر في تلك الأيام العصيبة أن سلك الخديو غير ما اختار لنفسه من مسلك فآزر كبير وزرائه ضد ما كان يحاك للبلاد من دسائس لأمكن أن يسير شريف بالسفينة إلى شاطئ السلامة، لكن الخديو - وا أسفاه - لم يكتف بعدم المؤازرة، بل لقد التجأ إلى الأجانب، فكان عمله هذا أقوى مساعد على نجاح سياستهم ...
وكان كلفن العضو الإنجليزي في لجنة المراقبة المالية وإدوارد مالت قنصل إنجلترا في مصر هما اللذان يحكمان الشباك حول الخديو، وكانت لهما سياسة ماهرة غادرة تقوم على أسس أحكم وضعها أولهما وفق ما تعلم في الهند، فهما يظهران الولاء للخديو فيدسان له بذلك السم في الملق، ثم هما يخوفانه أبدا من تركيا والعرابيين جميعا فيذران قلبه هواء، وهما بعد ذلك يضللان الرأي العام في بلادهما ويرسلان التقارير السرية عما يجب أن يتبع إلى وزير الخارجية الإنجليزية ...
وكانت وسيلتهما في تضليل ذلك الرأي العام السيطرة على الصحف بالسيطرة على مراسليها، وكان كلفن نفسه مراسلا لإحدى الصحف، وكان مراسل التيمس يستقي منه المعلومات، أما شركتا روتر وهافاس فقد كان يعطى لكل منهما ألف جنيه في العام من خزائن مصر! وقل أن نصادف في تاريخ السياسة عملا أشبه فجورا من أن تحارب قضية شعب بنقود من خزانته.
وكانت الحركة الوطنية تلاقي أشنع الكيد خارج مصر من جانب الصحافة أول الأمر، إلى أن منيت بعد هذه المقدمة بالتدخل الرسمي الفاجر الذي لم يدع في تاريخ العالم عرفا إلا خرج عليه ولا قاعدة إلا سخر منها وحطمها تحطيما ...
أخذ محررو الصحف في إنجلترا وفرنسا ينددون بثورة مصر ويسخرون من نهضة مصر، ولو أنهم كانوا يحترمون المبادئ التي نادت بها بلادهم حقا لمنعهم ذلك مما فعلوه ...
وماذا جنت مصر يومئذ حتى تستقبل أوربا حركتها بأسوأ ما تستقبل به الحركات؟ ألم تجر في أوربا الدماء أنهارا في سبيل أمثال تلك المبادئ التي كان ينادي بها المصريون؟ وكيف تكون نغماتها عذبة مشتهاة إذا تغنت بها أوربا ثم تكون ممجوجة مملولة إذا هتف بها الشرقيون؟!
هذا شعب ينفض عنه غبار القرون، ويخطو نحو الحرية كما خطت أوربا، ثم هو يذب الأجانب عن قوميته وقد ثقلوا عليها بامتيازاتهم الأثيمة الظالمة ثقل الحشرات والهوام، فماذا كانت ترى أوربا في هذا من معاني الفوضى والهمجية ولم يصحب حركة المصريين عدوان على أولئك الأجانب على ما كانوا يلاقونه منهم من عنت وإفساد؟ إلا أنها السياسة والأطماع الاستعمارية تقلب عرف الناس نكرا وتجعل المبادئ التي ينادي بها دعاة الإنسانية في نظر الساسة أحلاما لا تجد لها مستقرا إلا في رؤوس الحمقى من الفلاسفة ورؤوس الأغرار من مصدقيهم ... أما الساسة فقد كانوا لا يتوانون عن الكيد، ولا يفتر لهم سعي في تلمس السبيل التي يستولون بها على الفريسة، وكان موقف إنجلترا وفرنسا من مصر ينطوي على كثير مما يبعث الألم والضحك معا. وكم من المآسي ما تضحك منه النفوس ضحكات لن يبلغ الدمع مبلغها!
نامعلوم صفحہ