احمد عرابی زعیم مفتری علیہ
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
اصناف
ولقد كتب عرابي هذه الآراء بعد الثورة، ولعل في ذلك ما يدعو إلى ضعف الثقة في قيمتها عند بعض المؤرخين، كما هو الحال مثلا في مذكرات نابليون التي كتبها في منفاه في سانت هيلانة، فلقد أخذها بعض المؤرخين على أنها دفاع من جانب نابليون عن أعماله بعد أن خلا إلى نفسه فنظر وتدبر.
ولكن أعمال عرابي التي لا ينكرها المؤرخون، حتى المغرضون منهم، لا تتناقض مع كثير مما جاء في مذكراته، وعلى الأقل في هذا الجانب الذي نتلمس فيه الدليل على ما نحسه من أن عرابيا قد اتجه منذ نشأته اتجاها وطنيا قوميا، وهذا أمر نراه على جانب عظيم من الأهمية، ففي هذه النزعة القومية نرى عرابيا الحقيقي. أما عرابي الذي صوره خيال المغرضين من المؤرخين والمدافعين عن الاحتلال من كتاب الإنجليز فما أبعده عن هذا! وهل كان يحلو لهؤلاء الذين استغلوا حركة عرابي أقبح استغلال إلا أن يصوروه أقبح صورة، فلا يكون عندهم إلا جنديا جاهلا مغرورا، واتته الظروف فراح يخبط في حماقته لا يلوي على شيء، وما زال في جنونه يلوح بسيفه حتى اضطر آخر الأمر إلى أن يسلمه صاغرا إلى قائد جيش الاحتلال الإنجليزي ...
ما كانت حركة عرابي عسكرية بحتة كما يتصور البعض، وما كان هو بالأحمق ولا بالمجنون، وإنما كان لابد أن تلتقي الحركة العسكرية - وهي لا تخلو من الصفة الوطنية - بالحركة الوطنية العامة، ولقد تم هذا الالتقاء في شخص عرابي، وكان النجاح حليفه فيما طلب باسم الأمة يوم عابدين، ولا لوم عليه بعد ذلك ولا جناح أن تحاك الدسائس وتوقد نار الفتنة تنفيذا لسياسة مرسومة سوف نميط اللثام عنها بكل ما وسعنا من حجة.
هذه النزعة الوطنية القومية في نفس هذا المصري الفلاح مع ما توافر له من صفات الغيرة والبسالة هي التي جعلت إليه قيادة الحركتين يوم التقتا، وما نشير إليها الآن هذه الإشارة في غير موضعها من سيرته إلا لنبين هنا أنها نزعة أصيلة فيه جاشت بها نفسه منذ شب، وكانت الثورة التي نشير إليها هي مظهرها فيما بعد. كتب في ذلك مستر بلنت، وكان من أصدقاء عرابي، يقول في علاقة عرابي بسعيد: «وقد حظى عرابي، وكان شابا حسن الطلعة، بعطفه، حتى لقد اختاره أركان حرب له ورافقه إلى المدينة في السنة التي سبقت وفاته، وقد كون عرابي آراءه السياسية الأولى أثناء هذه الصلة القريبة بسعيد، وهذه الآراء هي المساواة بين طبقات الأمة، وما يجب للفلاح من احترام باعتباره العنصر الغالب في القومية المصرية، وهذا الدفاع عن حقوق الفلاح هو الذي جعل لعرابي ميزة بين مصلحي ذلك العصر. فقد كانت حركة الأزهر ترمي إلى إصلاح حال المسلمين عامة بغير تمييز، بينما كانت حركة عرابي في جوهرها قوامها الجنسية، وهذا جعلها أوضح في معنى القومية ومن ثم قدر لها أن تكون أكثر شهرة وذيوعا.»
ولقد كان لصلة عرابي بسعيد على هذا النحو أثرها في حنق عرابي على إسماعيل، فلم يكن في قلب هذا الوالي شيء مما كان في قلب سلفه من الميل إلى المصريين، بل لعل ميله كان إلى الشراكسة، وقد أدى ذلك منه إلى ازدياد كراهية عرابي لهؤلاء واضطغانه عليهم، إذ يرى أن كل حظوة لهم عند الوالي إنما هي على حساب الوطنيين.
وقويت في نفسه النزعة الوطنية، وزادها قوة اتصاله بتلك الحركة الوليدة التي أخذت تدب في جسم الأمة وقد كرثتها الكوارث من وراء سياسة إسماعيل وديون إسماعيل.
وازدادت كذلك في نفسه نزعة التمرد والسخط، وتجلت في مواقف له كان من أهمها ما كان بينه وبين خسرو باشا الذي ما زال يكيد له ويسعى بالوشاية به عند أولي الأمر حتى رفت من الجندية.
وكان خسرو هذا شركسيا، وقد رقي حتى أصبح في مرتبة اللواء، وصار رئيسا لعرابي الذي كان يومئذ قائمقاما للآلاي السادس. ويذكر عرابي أنه رقي «لا بعلمه ومعارفه، بل لكونه شركسيا ومن الخارجين على الدولة العلية مع إبراهيم باشا بن محمد علي باشا في تلك الفتنة الدهماء التي دكدكت سياج الإسلام وكسرت شوكة الدولة العلية الحامية لجميع الموحدين».
ويعزو عرابي سبب رفته إلى أن خسرو قد سار بالوقيعة بينه وبين وزير الجهادية متهما إياه بأنه «صلب الرأي شرس الأخلاق لا ينقاد لأوامره ولا يحفل بما يصدر منها عن ديوان الجهادية»، ثم يقول عرابي معقبا على ذلك: «وما بي والله من شراسة، ولكني جبلت على حب العدل والإنصاف وبغض الظلم والإجحاف.»
ويذكر عرابي سببين للخلاف بينه وبين خسرو، أولهما أنه لم يشايعه فيما ذهب إليه من رغبة في ترقية أحد الضباط ممن كان عرابي من ممتحنيهم، وكان في نظر عرابي لا يستحق الترقية، بينما كان خسرو شديد الرغبة في ترقيته، هذا في الوقت الذي أبعد فيه خسرو عن الترقية ضابطا آخر يستحقها، وأوعز خسرو إلى أحد الضباط فدبر مكيدة لعرابي، فاتهم بإساءة استعمال سلطته، وحكم عليه بالحبس واحدا وعشرين يوما، ولكنه رفع ظلامة إلى المجلس العسكري الأعلى فقضى ببراءته.
نامعلوم صفحہ