ثم ينقطع الصوت وتستأنف شهرزاد حديثها قائلة: «بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة فاتنة ردت على ملوك الجن سفراءهم، وأبت أن تسمع طلب السلم إلا من الذين شبوا نار الحرب، وقد عاد السفراء إلى سادتهم مخذولين مدحورين، ولكن وزراء الملكة ورجال حاشيتها أنكروا في أنفسهم صنيع مولاتهم بالسفراء ومن أرسلوهم، ولم يستطيعوا مع ذلك أن يجهروا بما أضمروا أو أن يعلنوا ما أسروا، وعرفت الملكة ذلك، فلم تسألهم عنه ولم تبادلهم بشيء منه . على أن أباها طهمان بن زهمان هو الذي اجترأ عليها هذه المرة كما اجترأ عليها حين تحدت ملوك الجن ودعتهم إلى الحرب.»
قال طهمان بن زهمان: «لم يبق لي من الأمر شيء يا ابنتي يبيح لي أن أتحدث إليك فيما تبرمين أو تنقضين، بل لم يكن لي من الأمر شيء قبل أن أنزل لك عن هذا الملك الذي أنت أحق به مني، وأقدر بشبابك وحكمتك وفطنتك على تدبيره وتصريف أموره من هذا الشيخ الفاني الضعيف، فلست أتحدث إليك الآن؛ لأن لي في الحديث حقا يبيحه لي القانون أو تخولني إياه مراسم الملك، وإنما أنا أب يتحدث إلى ابنته، ومن حق الآباء يا ابنتي، بل من الحق عليهم، أن ينصحوا لأبنائهم، وإن كان من العسير على الشباب الذين يستقبلون الحياة واثقين بأنفسهم وبالحياة أن يسمعوا لنصح الشيوخ الذين يستدبرون العيش شاكين في أنفسهم وفي العيش، فهبيني أريد أن أريح نفسي حين أراجعك فيما أصدرت من أمر، إنك ملكة يا ابنتي، وللملوك حرمة وقدس، وما أرى إلا أنك حريصة على أن ترعى حرمتك ويوقر لك ما أنت جديرة به من الإكبار، وأحسب أن أول ما يجب عليك في ذلك هو أن تؤدي إلى الغير ما تحبين أن يؤديه غيرك إليك، وقد كانت بينك وبين هؤلاء الملوك حرب أعلنها السفراء، ويراد أن يكون بينك وبين هؤلاء الملوك سلم يطلبها السفراء ويقررونها. فما عدولك عن هذه الطريق المألوفة؟ وما ابتداعك سنة لم يعرفها ملوك الجن فيما توارثوا من السنن والتقاليد؟!
وسيقول بعض شعراء الناس في يوم قريب أو بعيد:
فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نساء ويوم نسر
وهذا اليوم لك يا ابنتي، فلا تبطري ولا تأشري، ولا تسرفي على عدوك المنهزمين، وخصمك المقهورين؛ فقد يكون يوم آخر عليك فيأشر عدوك كما أشرت، ويبطر خصمك كما بطرت، ويسرفون عليك كما أسرفت عليهم، ويردون سفراءك مهينين كما رددت سفراءهم مهينين.
وشيء آخر يا ابنتي وددت لو قدرته وفكرت فيه؛ فقد كان هؤلاء الملوك يستطيعون أن يرجعوا عن حربك كما أقدموا عليها دون أن يسفروا إليك أو يعرضوا عليك صلحا، ينتظرون أن تدور الأيام لهم بعد أن دارت عليهم؛ ولكنهم قبلوا الأمر الواقع ومضوا على سنة الملوك من قبلهم، فاعترفوا لك بالغلب وألقوا إليك السلم وطلبوا منك الصلح، فاحذري وقد لقيتهم هذا اللقاء ورددت مجاملتهم هذا الرد، أن يعودوا أدراجهم، وأن يطاولوا ويماطلوا وينتظروا معاودة الحظ لهم، وأن يبقى الأمر بينك وبينهم مختلطا مضطربا، لا هو بالسلم التي تستأنف فيها الصلات بين الأمم والشعوب، ولا هو بالحرب التي يكون فيها الغالب والمغلوب، وما أظن يا ابنتي أنك تريدين أن تغيري على هؤلاء الملوك في ممالكهم، ولا أن تغزو جيوشك كل واحد منهم في عقر داره؛ فقوتك لا تبلغ هذا، وحبك للرعية يأبى عليك أن تعرضيها لحرب الهجوم بعد أن عصمتها من حرب الدفاع. وإذا فسيبقى الأمر معلقا بينك وبين أعدائك حتى يستأنفوا الحرب أو تزهدي أنت هذه الحال المعلقة فتطلبي إليهم السلم، ويوشك كل واحد منهم أن يرد عليك سفراءك كما رددت عليه سفراءه. وبعد؛ فإن الملوك لا يعاملون أنفسهم هذه المعاملة، ولا يطلب أحدهم إلى الآخر أن يذل ويستكين ويسعى طالبا للصلح ومعطيا بيده. كان ذلك يجري في الزمن القديم قبل أن تتحضر الجن وتقرر القواعد التي تنظم العلاقات بين الأمم والشعوب وبين الدول والملوك، فأما الآن فإن نظام السفراء لم يخترع عبثا، وإنما أنشئ لمثل هذا الأمر الذي أنتم فيه.»
قالت الملكة باسمة: «أحبب إلي بكل ما تأمرني به يا أبت وبكل ما تشير به علي؛ فأنت الملك وستظل الملك دائما، وإنما أنا رعية لك، وإذا نهضت بالأمر فإنما أنهض به؛ لأن طاعتك علي واجبة، ولأن شبابي وقاء لشيخوختك، وكل ما قلته لي حق لا غموض فيه ولا غبار عليه لولا أني ضامنة أن هؤلاء الملوك الذين أثاروا حربهم ظالمين لن يستطيعوا أن يعودوا إلى ممالكهم حتى آذن لهم بهذه العودة؛ فإن السر الذي أتاح لي أن أحول بينهم وبين الفوز يتيح لي أن أحول بينهم وبين الإياب إلى أوطانهم، فهم معلقون بأمري بين النصر والهزيمة: لن ينصروا لأني لا أريد لهم أن ينصروا، ولن يرجعوا لأني آبى عليهم أن يرجعوا.»
قال طهمان بن زهمان: «ويحك يا ابنتي! أتستطيعين ذلك؟»
قالت: «كما استطعت أن أقفهم موقفهم هذا لا يتقدمون خطوة.»
نامعلوم صفحہ