ومن يدري يا مولاي! لعل ملوك الناس يعرفون من هذا بعض ما يجهلون، ويتهيئون منه لمثل ما يتهيأ له ملوك الجن، فلا تؤخذ دولهم على غرة، ولا تفجؤها الحوادث على غير تهيؤ ولا استعداد.
ومن أجل هذا كله يا مولاي لم يحتج طهمان بن زهمان ووزراؤه وأعوانه إلى وقت طويل ليحزموا أمرهم ويفرغوا من تدبير الأمن الداخلي؛ وإنما مروا بذلك مرا سريعا، واستقامت لهم أمورهم في ذلك على خير ما أحبوا.
وكانت فاتنة تسمع وترى وتبتسم غير حافلة بما تسمع ولا آبهة لما ترى، ولكنها مع ذلك كانت تجد شيئا من الرضا والغبطة؛ لأنها كانت ترى أباها حازما عازما يدبر الأمر وينفذ القضاء كعهده حين كان قويا جلدا نفاذا غير متهالك ولا مستيئس.
فلما فرغ القوم من تدبير أمور الرعية، أخذوا يعرضون أمور الحرب ويهيئون لاستقبال العدو المغير، ولم يكن الأمر هينا ولا ميسورا؛ فهم قد كانوا تعودوا أن يحاربوا هذا الملك أو ذاك من ملوك الجن، ولم يكونوا ينتظرون أن يحاربوا ملوك الجن جميعا، وهم كانوا قد ألفوا أن يستعدوا للشر يأتيهم من الجو أو يأتيهم من البر أو يخرج لهم من البحر أو ينجم لهم من الأرض، ولكنهم لم يألفوا أن يأتيهم الشر من هذه الوجوه كلها في وقت واحد؛ فلم يكن أمرهم سهلا ولا تشاورهم رفيقا.
وكانت فاتنة مع ذلك تنظر إليهم وتسمع منهم غير حافلة ولا مكترثة. على أن شيئا من الرثاء بلغ نفسها القاسية آخر الأمر فقالت لأبيها: «ارفق بنفسك وبهؤلاء القادة والساسة يا أبت، فلستم في حاجة إلى كل هذه الخطط التي تدبرونها وتقدرونها وتديرون فيها الحوار. إن مملكتنا معرضة لشر لا قبل لها به، فإما أن تنجح خطتي التي رسمتها والتي لا تعلمون منها شيئا، وإما أن نهلك جميعا دون أن تبقى لنا باقية.»
قال الملك وعلى ثغره ابتسامة مرة خير منها العبوس: «هو ذاك يا ابنتي؛ فإنك لا تنبئينني بشيء أجهله، ولكني لا أحب أن أوخذ على غرة أو أن أوتى من تقصير، فلأجاهد ما استطعت إلى الجهاد سبيلا، ولأعذر ما وجدت إلى الإعذار طريقا، وليجر القضاء بعد ذلك بما شاء!»
وما كاد الملك يفرغ من كلامه هذا حتى تغير من حوله كل شيء، فإذا الأرض تميد، وإذا الجو يكفهر، وإذا ظلمة قاتمة تريد أن تأخذ المدينة من جميع أقطارها، وإذا سحب متراكمة متراكبة تظهر في السماء مرسلة في الجو بروقا خاطفة ورعودا قاصفة، وإذا الوزراء والساسة يذهلون عما حولهم، وإذا القادة ينصرفون كل إلى موضعه من قيادة الجيش، لعله يعمل عملا أو يبلي بلاء. والملك ثابت مكانه لا يريم، ناظر أمامه لا يحول طرفه إلى يمين وشمال، وقد جمدت على ثغره ابتسامة كانت حائرة فاستقرت في مكانها، كأن نفس الملك لم تجد قوة ولا وقتا للتفكير أو التقدير فضلا عن الابتسام أو العبوس.
وفاتنة باسمة كأن شيئا لم يتغير من حولها، وكأن حدثا لم يحدث، وإنما هي قائمة كعهدها آنفا حين كانت تنظر إلى مجلس الحرب في كثير من السخرية وفي كثير من الرثاء، وحين كانت تنظر إلى أبيها في كثير من الرحمة والحب وفي كثير من الإكبار والإجلال.
على أن صوتا هائلا يملأ ما بين الأرض والسماء فجأة، فتهتز له جنبات القصر، ويثب له الملك ومن معه من أصحابه كأنما دفعتهم اللوالب في الفضاء، وإذا هم يسرعون إلى الأطناف يشرفون منها لا يدرون كيف أسرعوا ولا كيف دفعوا، وإنما يرون أنفسهم مشرفين ينظرون وكأنهم لا يرون، ويصغون وكأنهم لا يسمعون لكثرة هذه الجماهير التي أقبلت إلى القصر فزعة جزعة تجأر بالاستغاثة وتمعن في الضراعة، وقد استيقنت مخطئة أو مصيبة أنها ستجد عند الملك أمنا من هذا الخوف ووزرا من هذا الفزع.
والملك قائم مكانه ينظر ويصغى، ولا يزيد على النظر والإصغاء، وماذا يستطيع الملك أن يفعل وقد زلزلت الأرض زلزالها، ولبست السماء أبشع ثوب رآه سكان الأرض والجو، فالظلام يتكاثف، والسحاب يتراكم ويتدافع، والبرق يغمر المدينة بضوء مخيف لا يكاد ينصب عليها حتى ينقشع عنها، والرعد يتجاوب في الجو بأصوات متهدجة كأنها أصوات الجبال، والبحر من بعيد هائج مائج تصطخب أمواجه اصطخابا لا عهد لأحد به، وترتفع إلى السحاب فتتصل به لا يدرى أبلغته لأنها ارتفعت حتى انتهت إليه، أم بلغها لأنه انخفض حتى انتهى إليها، أم صعدت هي في السماء ما وسعها الصعود وهبط هو إلى الماء ما وسعه الهبوط حتى التقت السماء والماء شر لقاء.
نامعلوم صفحہ