لا أعرف، ولكن الأمر المؤكد هو أنني بعد بضعة أشهر من مكالمة أوما الهاتفية قدمت استقالتي من المكتب الاستشاري، وبدأت أبحث جديا عن وظيفة تنظيمية. ومرة أخرى لم يصلني رد على معظم خطاباتي، لكن بعد شهر أو ما يقرب من ذلك اتصل بي مدير مؤسسة حقوق مدنية شهيرة في المدينة لتحديد موعد للمقابلة. كان هذا الرجل طويل القامة، وسيما، وأسود اللون، وكان يرتدي قميصا أبيض اللون ورابطة عنق مزركشة وحمالة بنطلون حمراء. وكان مكتبه مشتملا على كراسي إيطالية الصنع، وبار مبني بالطوب غير المطلي، والمكان كله مزين بأعمال النحت الأفريقي. ومن خلال نافذة طويلة بالمكتب تتدفق أشعة الشمس على تمثال نصفي للدكتور كينج.
بعد أن ألقى المدير نظرة سريعة على سيرتي الذاتية، قال: «إنني معجب بسيرتك الذاتية.» وتابع قائلا: «وبالأخص خبرتك في مجال المؤسسات. فهذا هو العمل الحقيقي لأية مؤسسة لحقوق الإنسان في أيامنا هذه. حيث إن الاحتجاجات والإضرابات لم تعد تجدي في شيء. وحتى تؤتي هذه الوظيفة ثمارها، علينا أن نشيد جسورا بين أنشطتنا والحكومة والأحياء الفقيرة في المدن.» بعد ذلك تشابكت يداه معا قبل أن يريني تقريرا سنويا ذا ورق مصقول، مفتوحا على صفحة بها أسماء أعضاء مجلس الإدارة في المؤسسة، منهم وزير أسود و10 تنفيذيين بيض. وبعدها قال المدير: «أترى؟» ثم تابع: «علاقات شراكة عامة- خاصة. إنها نافذتنا على المستقبل. وهنا يكون عمل الشباب من أمثالك. المتعلمين. الواثقين بأنفسهم. الذين يقدمون المساعدة في اجتماعات مجلس الإدارة. كنت في الأسبوع الماضي أناقش هذه المشكلة مع جاك، سكرتير وزارة الإسكان والتنمية الحضرية، في عشاء في البيت الأبيض. ويا له من رجل رائع، جاك. كم سيتحمس لمقابلة رجل مثلك! صحيح أنني عضو في الحزب الديمقراطي لكننا لا بد أن نتعلم كيف نتعامل مع ذوي السلطة، أيا كانوا ...»
وعلى الفور عرض علي الوظيفة التي تشتمل مهام العمل فيها على تنظيم المؤتمرات حول مشكلات المخدرات والبطالة والإسكان. وقد أسماها «تسهيل الحوار». لكنني في الواقع رفضت عرضه السخي، مقررا وقتها أنني في حاجة إلى وظيفة تسمح لي بالاحتكاك بالشارع. فعملت لمدة ثلاثة شهور في أحد مكاتب رالف نادر في هارلم، محاولا إقناع الأقلية من الطلاب في سيتي كوليدج بأهمية التغيير. بعد ذلك عملت أسبوعا كاملا في توزيع النشرات الإعلانية لأحد المرشحين في انتخابات عقدت في بروكلين، وخسر المرشح ولم أتقاض أجري.
بعد ذلك بستة أشهر، أصبحت مفلسا وعاطلا، واعتدت شرب الحساء المعلب. وسعيا وراء حصولي على بعض الأفكار الملهمة، ذهبت لسماع كوامي توري الذي كان اسمه فيما مضى ستوكلي كارميشيل، والذي كان ذا صيت في لجنة تنسيق تحالفات الطلاب غير العنيفة وفي حركة القوة السوداء، وهو يتحدث في خطاب له في جامعة كولومبيا. وفي مدخل قاعة الاستماع كانت هناك امرأتان، إحداهما سوداء والأخرى آسيوية، تبيعان كتبا عن الأدب الماركسي، وتتناقشان معا بخصوص مكانة تروتسكي في التاريخ. وداخل القاعة اقترح توري برنامجا لإقامة روابط اقتصادية بين أفريقيا وهارلم لتجنب الإمبريالية الرأسمالية البيضاء. وفي نهاية محاضرته سألته شابة نحيفة ترتدي نظارة هل هذا البرنامج عملي في ظل الاقتصادات الأفريقية والاحتياجات العاجلة التي تواجه الأمريكيين السود. فقاطعها توري قبل أن تكمل سؤالها. قال: «إن عملية غسيل المخ التي أجريت لك هي التي تجعل هذا البرنامج غير عملي يا أختاه.» وفي ذلك الحين توهجت عينا توري وهو يتحدث كما لو كان مجنونا أو قديسا. وظلت السيدة واقفة في مكانها لعدة دقائق بينما كان توري يوبخها بقسوة بسبب موقفها البورجوازي. بعد ذلك بدأ الحاضرون يغادرون القاعة. وفي الخارج كانت السيدتان الماركسيتان تصرخان بأعلى صوتهما: «خنزيرة متبعة مذهب ستالين!» «عاهرة متبعة المذهب الإصلاحي!»
بدا هذا الموقف لي وكأنه كابوس مزعج. وبعده سرت هائما على وجهي في برودواي، متخيلا نفسي واقفا على حافة لينكولن ميموريال وأنا أنظر إلى إحدى المقصورات الفارغة والحطام يتطاير من حولي في الهواء. لقد ماتت الحركة منذ أعوام وتمزقت ألف قطعة. وكل سبيل للتغيير خضناه، وكل استراتيجية نفذناها. وعقب كل هزيمة قد يئول الحال حتى بالحركات التي تحمل أصدق النوايا إلى الابتعاد عن طريق كفاح من يدعون رغبتهم في تقديم الخدمات.
ربما كان هذا نوعا من الجنون الصريح. لقد أدركت فجأة أنني كنت أكلم نفسي في منتصف الشارع. الناس في طريقهم للعودة من العمل كانوا يتجنبون السير بجواري. واعتقدت وقتها أنني رأيت اثنين من زملاء جامعة كولومبيا في الزحام - كانت سترتاهما ملقاتين للخلف على أكتافهما - وهما يحاولان تجنب رؤيتي لهما. •••
وبينما أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التخلي عن مشروعي التنظيمي، تلقيت اتصالا هاتفيا من مارتي كوفمان. شرح لي أنه سيبدأ حملة تنظيمية في شيكاغو، وأعلن عن حاجته لتعيين شخص تحت التدريب. كان كوفمان سيغادر إلى نيويورك الأسبوع المقبل؛ ولذا اقترح أن نتقابل في أحد مقاهي ليكسينجتون.
في حقيقة الأمر لم يكن مظهره ليولد شعوري بالثقة البالغة تجاهه. فقد كان رجلا أبيض، متوسط الطول، ممتلئ الجسم، ويرتدي حلة مجعدة. كان وجهه يبدو مكتئبا بذقنه الذي لم يحلق منذ يومين. وبدت عينا الرجل وكأنهما شبه مغمضتين وهما تسكنان خلف عدستي نظارته السميكتين الدائريتين. وعندما نهض من على المنضدة ليصافحني أوقع بعض الشاي على قميصه.
قال مارتي وهو يحاول تنظيف المائدة بمنديل ورقي: «حسنا.» وتابع: «لماذا يريد شخص من هاواي أن يعمل في مهنة التنظيم؟»
جلست وذكرت له أشياء مختصرة عن نفسي. «إممم.» أومأ مارتي برأسه وهو يسجل ملحوظات على مذكرة مسطرة صفحاتها مطوية الزوايا. «يبدو أن هناك شيئا يغضبك.» «ماذا تقصد بذلك؟»
نامعلوم صفحہ