وبحلول اليوم التالي كانت حرارة نقاشنا قد تبددت، واقترح راي أن أدعو صديقينا جيف وسكوت إلى حفل يقيمه راي في منزله في العطلة الأسبوعية. ترددت لوهلة؛ إذ لم ندع أصدقاء بيضا إلى حفل للسود قط، لكن راي أصر، ولم أجد سببا مقنعا للاعتراض. وكذلك جيف وسكوت؛ فقد وافق كلاهما على حضور الحفل ما دمت أوافق أن أقلهما. وهكذا، بعد أن أنهينا إحدى مبارياتنا في مساء يوم السبت، ركبنا نحن الثلاثة سيارة جدي القديمة من طراز فورد جراندا وشققنا طريقنا إلى القاعدة العسكرية سكوفيلد باراكس على بعد 30 ميلا تقريبا خارج المدينة.
عندما وصلنا كان الحفل قد بدأ، فتوجهنا لنحصل على بعض المرطبات. لم يبد أن حضور جيف وسكوت يسبب أي اضطراب، وقد قدمهما راي لمن في الغرفة وبدءوا يتحدثون قليلا مع بعض الأشخاص، واصطحبا فتاتين للرقص معهما. لكني رأيت بوضوح أن المشهد قد أذهل صديقي الأبيضين. فكانا يبتسمان كثيرا. وينتحيان جانبا في أحد الأركان، وكانا يومئان برأسيهما من حين لآخر بخجل وعدم ارتياح لضربات الموسيقى، ويقولان: «معذرة» كل بضع دقائق. وبعد ساعة تقريبا طلبا أن أصطحبهما إلى المنزل.
وعندما ذهبت إلى راي لأخبره أننا سنغادر، قال بصوت عال محاولا التغلب على صوت الموسيقى: «ما الأمر؟» وتابع: «لقد بدأ الحفل لتوه يصل إلى أوجه.» «أظن أنهما لا يتأقلمان.»
والتقت عينانا، ووقفنا هناك برهة طويلة من الوقت، والضوضاء والضحكات تدوي من حولنا. ولم يبد في عيني راي أي أثر للرضا أو أية إشارة لخيبة الأمل؛ مجرد نظرة ثابتة من عين لا تطرف مثل عين ثعبان. وفي النهاية مد لي يده فأمسكت بها، وعينانا لا تزالان ثابتتين ثم قال: «نلتقي لاحقا إذن»، وسحب يده من يدي ورأيته وهو يبتعد في الزحام ويسأل عن الفتاة التي كان يتحدث إليها قبل بضع دقائق.
وفي الخارج كان الهواء لطيفا، والشارع خاويا تماما، فيما عدا الارتجاف الخفيف الذي يسببه مذياع راي، والأضواء الزرقاء التي تنير بصورة متقطعة في نوافذ المنازل ذات الطابق الواحد التي تمتد عبر الشارع الجانبي النظيف، وظلال الأشجار تمتد عبر ملعب لكرة البيسبول. وفي السيارة وضع جيف ذراعه على كتفي، وبدا فجأة يشعر بالأسف البالغ والارتياح في آن واحد. وقال: «أتعرف لقد علمني هذا الحفل شيئا. أقصد، أصبحت أعرف مدى صعوبة الأمر عليك وعلى راي في بعض الأحيان في حفلات المدرسة ... إنكم أنتم فقط السود.»
فأجبت: «آه، نعم.» وأراد جزء مني أن يلكمه. وبدأنا نقطع الطريق تجاه المدينة، وفي هذه الفترة من الصمت بدأ عقلي يعيد عرض كلمات راي في ذلك اليوم مع كيرت، وكل المناقشات التي دارت بيننا قبل ذلك، وأحداث تلك الليلة. وفي الوقت الذي أوصلت فيه صديقي بدأت أرى خريطة جديدة للعالم، خريطة مخيفة في بساطتها، وخانقة في المعاني التي تتضمنها. لقد كنا دائما نلعب في ملعب الرجل الأبيض، ووفقا لقواعده، هذا ما قاله راي. وإذا أراد الناظر أو المدرب أو المدرس أو كيرت أن يبصق على وجهك يمكنه هذا لأنه يتمتع بسلطة ليست لديك. وإذا قرر ألا يفعل شيئا من ذلك؛ أي إذا عاملك على أنك إنسان أو دافع عنك، فهذا لأنه يعرف أن الكلمات التي تتفوه بها، والملابس التي ترتديها، والكتب التي تقرؤها، وطموحك ورغباتك هي في الأساس ملك له. ومهما كان ما يقرر أن يفعله فهذا قراره وليس قرارك ، وبسبب هذه السلطة الجوهرية التي يمتلكها عليك، ولأنها ولدت قبل دوافعه الشخصية ونزعاته وستستمر بعدها، فإن أي تمييز بين الإنسان الأبيض الطيب والشرير ليس له معنى كبير. وفي الحقيقة لا يمكنك أن تثق أن كل شيء افترضت أنه تعبير عن نفسك الحرة كإنسان أسود - مثل الدعابات والأغاني والتمريرات من وراء الظهر في مباريات كرة السلة - جميعها قد اخترتها بنفسك. لقد كانت هذه الأشياء على أفضل تقدير ملجأ أو، على أسوأ تقدير، فخا. وباتباع هذا المنطق المثير للجنون فإن الشيء الوحيد الذي يمكنك اختياره ليكون ملكا لك هو الانسحاب إلى عالم أصغر فأصغر من الغضب، حتى يصبح معنى كونك أسود هو إدراك أنك بلا سلطة واعتراف بهزيمتك. والمفارقة الأخيرة هي أنه إذا رفضت هذه الهزيمة وتحدثت بغضب منتقدا آسرك، فستجد لديه اسما لهذا بإمكانه أن يسجنك في قفص آخر. كأن يصفك بأنك مصاب بجنون الاضطهاد. أو عدواني. أو عنيف. أو زنجي. •••
وعلى مدار الشهور القليلة التالية، تطلعت إلى ترسيخ هذا الكابوس. فجمعت كتبا من المكتبة؛ كتب لبالدوين وإليسون وهيوز ورايت ودوبويس. وفي المساء كنت أغلق باب غرفتي وأخبر جدي أن لدي واجبا منزليا يجب أن أنتهي منه، وأجلس هناك وأحارب الكلمات، محتجزا في جدال مفاجئ يائس أحاول أن أتصالح مع العالم كما وجدته عند ميلادي. لكن لا مناص. ففي كل صفحة من كل كتاب، سواء في الكتب التي تتحدث عن شخصية الزنجي الشرير مثل بيجر توماس أو شخصيات أخرى مجهولة، كنت أجد نفس الأسى، نفس الشك؛ ازدراء للذات لم تستطع السخرية ولا الفكر تغيير مساره. وحتى علم دوبويس وحب بالدوين وخفة ظل لانجستون استسلموا في النهاية إلى قوته المدمرة، فكل من هؤلاء الرجال وجد نفسه في النهاية مجبرا لأن يشك في قدرة الفن على إنقاذه، وكل منهم وجد نفسه في النهاية مجبرا على الانسحاب؛ أحدهم إلى أفريقيا والآخر إلى أوروبا والثالث إلى أعماق هارلم، لكنهم جميعا انتهى بهم الحال إلى نفس الفرار المنهك، جميعهم تملك منهم التعب، جميعهم يشعر بالمرارة، جميعهم تطاردهم الشياطين.
كانت سيرة مالكولم إكس الذاتية وحدها هي التي قدمت شيئا مختلفا. فكانت محاولاته المتكررة لتكوين الذات تخاطبني، والشعر الصريح في كلماته وإصراره الطبيعي على نيل الاحترام يعدان بنظام جديد وثابت، نظام عسكري في طريقته يصاغ من خلال القوة المجردة للإرادة. وقررت أن جميع الأشياء الأخرى، مثل الحديث عن الشياطين الزرقاء العيون وسفر الرؤيا، كانت عارضة على هذا البرنامج؛ فقد كانت أفكارا دينية بدا أن مالكولم نفسه قد هجرها في نهاية حياته. ومع ذلك، حتى عندما تخيلت نفسي أتبع نداء مالكولم، فقد منعني سطر واحد في الكتاب من هذا. فقد تحدث في هذا السطر عن أمنية كانت تراوده في يوم من الأيام، أمنية أن يتخلص، عن طريق العنف، من الدماء البيضاء التي تجري في عروقه. وعرفت أن أمنية مالكولم تلك لم تكن عارضة قط، وعرفت أيضا أن الرحلة إلى احترام الذات للدماء البيضاء لا تتراجع أبدا إلى مجرد فكرة مجردة. وتركت أنا لأتساءل ماذا أيضا سأمزق إذا ما تركت والدتي وجدي عند حدود مجهولة، ومتى أفعل هذا.
وأيضا إذا كان اكتشاف مالكولم الذي توصل إليه قرب نهاية حياته أن بعض البيض قد يعيشون إلى جواره إخوة في الإسلام، يشع بعض الأمل في احتمال التوصل إلى مصالحة في النهاية، فإن ذلك الأمل بدا أنه لن يتحقق إلا في المستقبل البعيد وعلى أرض بعيدة. وفي الوقت نفسه نظرت لأرى من أين سيأتي هؤلاء الأشخاص الذين يرغبون في العمل من أجل هذا المستقبل واستيطان هذا العالم الجديد. وفي أحد الأيام، بعد إحدى مباريات كرة السلة في صالة الألعاب الرياضية بالجامعة، بدأت بالصدفة أنا وراي حديثا مع رجل طويل ونحيل اسمه مالك كان يلعب معنا من حين لآخر. ذكر مالك أنه كان من أتباع «أمة الإسلام» ولكن منذ موت مالكولم وانتقاله إلى هاواي لم يعد يذهب إلى المسجد أو الاجتماعات السياسية، مع أنه كان لا يزال ينشد السكينة في صلاته المنفردة. ولا بد أن أحد الشبان إلى جوارنا قد استمع إلينا؛ إذ إنه انحنى إلى الأمام وعلى وجهه تعبير الرجل الحكيم. «إنكم تتحدثون عن مالكولم أليس كذلك؟ إن مالكولم يصور الحقائق كما هي، لا شك في هذا.»
فقال شاب آخر: «نعم.» واستدرك: «لكني سأقول لكم شيئا، إنكم لن تروني أنتقل إلى غابة أفريقية في أي وقت قريب. أو إلى أية صحراء لعينة أجلس على سجاد مع بعض العرب. كلا يا سيدي. ولن تراني أتوقف عن تناول اللحوم.» «يجب أن نحصل على بعض اللحوم.» «والعلاقات الحميمية أيضا. ألم يتحدث مالكولم عن رفض العلاقات الحميمية؟ هل عرفتم الآن أن هذا لن يجدي.»
نامعلوم صفحہ