هو في الغيط منذ الصباح الباكر وهو لا يعود إلى البيت إلا بعد أن تغيب الشمس وتوغل في المغيب. وتأتي إليه نبوية في الغيط وعلى ملأ من الذين يعملون فيه وتجالسه، في أول يوم ذهب فيه إلى العمل. وحرص أن يجعل الحديث بعيدا عن مواطن القلب، وحرص على ألا يتخاضع لها في الكلام وإنما شكرها؛ لأنها جاءت تهنئه بسلامة الخروج. وشغل نفسه بالذين يعزقون الأرض لا ينصرف عنهم ولا يميل إليها بكلمة، وإن كانت نفسه جميعا باقية بجانبها لا تستطيع عنها منصرفا، ولا تطيق منها فكاكا.
وابتسمت نبوية بتلك الشفافية التي عرفها الريف في قلوب فتيانه وبنياته؛ فمع أنها كانت ترى وجه وهدان وهو منصرف عنها إلى فئوس العاملين إلا أنها كانت واثقة أن نفسه جميعا بقلبها وجوانحها بجانبها. انتظرت مليا ثم قالت في شبه همس وفي صوت أغن: فتك بعافية يا وهدان.
وقال دون أن ينظر إليها: مع السلامة.
وصحبت نفسه وجوانحه وانصرفت، وقال هامسا لما بقي منه: ما تزال تحاول تشجيعي على مصيبتي.
وفي اليوم التالي جاءت نبوية، ولم يطق وهدان صبرا، أمسك يدها وانتفض جسمه انتفاضة لم يعرفها في حياته قط وابتعد بها عن الجميع: مجيئك بالأمس يرى فيه العاملون فتاة تهنئ ابن قريتها بالعودة إلى العمل. أما مجيئك اليوم فغير مقبول. عودي إلى البيت. - وكيف أراك؟ - سأجيئ أنا إليك. - أين ومتى؟ - أيوافق أبوك على مجيئك؟ - لم أسأله. - أتظنين أنه يوافق؟! - إذا اتصل الأمر بي وبك فأنا لا أفكر.
أحس بالكلمة كأنها رصاصة أصابت منه كل المقاتل، ونظر إلى ذراعه المبتورة وأبقى عينيه عليها لتخفيا دمعات تبادرت، فهمس وقال بصوت لا يكاد يسمع ولكن في نبرته أمر وحسم: عودي إلى بيتك.
وفي غير تردد قالت وهي تولي عنه: أمرك هو الأمر الوحيد الذي لا أناقشه، فتك بعافية.
وتزداد الدموع وبلا من عينيه، أما عافية الجسم فقد أنالها. أما عافية الروح فهيهات!
وظل وهدان يذهب إلى الغيط كل يوم، ومرت شهور. وكان أبوه يظن أول الأمر نزوة جريح فقد ذراعه ولا يريد أن يصاحب الفتية فيما يضطربون فيه. حتى إذا تتابعت الشهور وأوشكت أن تكتمل عاما أصبح الأب في غناء عن الذهاب إلى الحقل. وراح يقضي نهاره في جلسته الحبيبة عند عبد الحميد أبو ديدة الخياط الذي لا تمنعه صنعته عن الحديث، ولا عن سماع من يقرأ الجريدة له.
وكانت نبوية في كل يوم تذهب إلى حيث ترى وهدان وتطمئن عليه وتنصرف لا تقترب منه، ولكن لا تمضي أو تكون واثقة أنه رآها.
نامعلوم صفحہ