وعناية أفلاطون هي بالطبع بالطبقتين الأوليين، أما الطبقة الثالثة فلا يبالي بها كثيرا؛ إذ هي رعية حكومية فوقها طبقة الأوصياء يأمرون وينهون، ودونها طبقة المقاتلة تنفذ أوامرهم، وليست هذه الطبقات جامدة لا تمكن أحدا أن يرتقي من طبقة إلى طبقة إذا ظهرت منه كفايته وهو بعد صغير يمكن تربيته.
وقد ألغى حقوق امتلاك الأشياء وحقوق امتلاك الزوجات بين طبقة الأوصياء وطبقة المقاتلة، ولكنه أبقاهما بين طبقة العمال، وهو إنما ألغى الزواج والامتلاك بين هاتين الطبقتين عناية بهما؛ لأنه يريد أن يخضع أفرادهما لنظام خاص حتى ينشأ أفراد كل طبقة على صبغة خاصة.
أما الابتداء في تقسيم الطبقات فمن الصعوبة بمكان؛ فإنه ينبني بالطبع على الانتخاب، يختار الصبي الذكي لكي يكون وصيا فيربى تربية خاصة، ثم يختار صبي آخر يميل إلى الرياضة البدنية وتبدو عليه دلائل القوة فيختار لطبقة المقاتلة.
ولننظر في الوسائل التي يتخذها أفلاطون لتخليد هذا النظام ودوام بقائه، فهذه الوسائل تتلخص في ثلاثة أشياء، وهي: التوليد ثم التربية ثم الرياضة اليومية.
فأما في طبقة العمال الذين يزرعون ويصنعون، فليس هناك توليد مقصود بينهم؛ فهم يتزوجون وينسلون، أما تربية أولادهم فهي التربية الشائعة بين الزراع والصناع، يتتلمذ الصبي عند زارع أو صانع فيتعلم منه حرفته ويتخرج عليه، ويحترف هذه الحرفة وليس له رياضة يومية خاصة.
أما طبقة المقاتلة فيعيشون في ثكنة خاصة، فلا يملكون ولا يتزوجون وإنما يتعارفون إلى النساء فإذا حملن منهم لم ينتسب الابن إلى أب معروف - بل ينشأ مقاتلا - يتربى تربية الطبقة، ولا يعرف ولاء لغير وطنه، ولا يبالي بمصلحة لغير مدينته، ثم يربى الطفل تربية قاسية، فإذا كانت به عاهة قتل ونبذ، أما إذا وافق جسمه صناعة القتال احتفظ به وعني به ودرب تداريب خاصة لتقوية جسمه وذهنه.
وكذلك الحال في طبقة الأوصياء، يتلاقح النساء والرجال بدون تعيين امرأة بعينها لرجل بعينه، حتى يضيع النسب ولا يعرف أحد والديه، وهذا مع العناية بالانتقاء؛ فأجمل الرجال وأكثرهم حكمة وعقلا يشجع على التناسل حتى يكثر أولاده ويرثوا صفاته في الشجاعة والعقل، وكان أفلاطون يرى أن التفوق في خدمة الجمهور يجب أن يمنح صاحبه حق التلاقح مع عدد من النساء أكبر مما يمنح غيره، وليس من الواضح هل قال أفلاطون ذلك على سبيل مكافأة الوصي لحسن بلائه في خدمة الجمهورية؛ أو لأنه يريد الإكثار من نسله لأن تفوقه في الخدمة دليل تفوقه في العقل.
ولم يكن أفلاطون يسمح للطبقات بالاختلاط الجنسي، فلكل طبقة نساؤها ورجالها لا يتعدونها إلى غيرها، فكأنه كان يريد أن يجعل كل طبقة سلالة خاصة لها صفات خاصة، وكان كما قلنا «أسبرطي» المزاج يكره الضعف والمرض، فكان يقول بقتل جميع الأطفال المؤوفين وتحديد عدد أطفال طبقة العمال حتى لا يفيضوا على غلات الأرض.
أما تربية الأوصياء فكانت التربية الإغريقية المعروفة في زمن أفلاطون مع التعديلات التي يحتاج إليها نظامه، ولما لم يكن للأوصياء عائلة، فإن أولادهم يوكلون إلى مربين يعهد إليهم ثقافة أجسامهم بالألعاب الجمبازية وثقافة عقولهم بالموسيقى ما داموا صبيانا. ثم يلقن الصبي ضروب المعارف على طريقة اللعب، بحيث لا يشعر أنه يكد للتعليم، وإنما يتعلم وهو يلعب مسرورا، فإذا شب وضع له نظام آخر في التعليم، ثم يمتحن الشبان من وقت لآخر، فلا يدخل طبقة الأوصياء سوى الذين ثبت بالامتحان أنهم أهل لأن يتولوا حكومة المدينة، ويعيش الأوصياء فيما يشبه الثكنة، ولا يجوز لأحد منهم أن يقتني بيتا أو مخزنا، ولا يجوز لهم أن يمتلكوا أي شيء إلا تلك الأشياء الضرورية التي يستغني عنها الإنسان، وهم يكافئون مكافأة معتدلة تكفي حاجتهم؛ بحيث لا يشعرون بضيق الفاقة ولا يجدون أيضا سبيلا إلى الترف، وهم يأكلون معا ولا يجمعون الذهب أو الفضة. والقصد من كل هذا النظام أن يبقى الوصي نزيها لا تشغله مشاغله الخاصة عن النظر في شئون المدينة وينحرف رأيه في حكم لمراعاة مصلحة خاصة؛ فليس له قريب يحابيه أو ولد يدخر له المال، وكذلك أيضا لا يختلط بالناس ولا يعاشر أحدا من غير طبقته؛ فتستحيل المعاشرة إلى مصاحبة أو مصادقة تحول دون النزاهة.
والأوصياء يكونون في شبابهم من طبقة المقاتلة، يقضون وقتهم في تثقيف أجسامهم وعقولهم، فإذا بلغوا الخامسة والعشرين عهدت إليهم الرياسة في بعض أقسام الجيش وجرئوا على اكتساب التجارب، فإذا بلغوا الثلاثين وجاوزوا الامتحانات الشاقة، صاروا أوصياء؛ وعندئذ تقتصر أعمالهم على درس الفلسفة ووضع نظم الحكم.
نامعلوم صفحہ