ولننظر الآن في بيكون وأضغاث أحلامه، فقد رأينا أن كامبانيلا لم يأت بطائل، وكذلك الحال في بيكون، بل خيال بيكون مقصوص الجناح إذا قيس إلى خيال كامبانيلا، ثم في جناحه ريش مستعار أكثر ما في جناح كامبانيلا، وكثير من هذا الريش المستعار قد رأيناه على أصله في خيال أندريا وفي رؤيا أفلاطون؛ فلا حاجة إلى التكرار.
وأهم ما في رؤيا بيكون هو «بيت سليمان» وهو مؤسس أشبه شيء بالكليات، الغاية منه: «معرفة علة الحركة في الأشياء وأسرارها، وتوسيع سلطة الإنسان حتى لا يعجز عن عمل أي شيء ممكن، وفي هذا المؤسس معامل أو مختبرات محفورة في جوانب التلال، ومراصد يبلغ ارتفاع أبراجها نصف ميل، وفيها برك من الماء الملح والماء العذب، يبدو من أقوال بيكون أنه يريد منها أن تكون مختبرا لتربية الأسماك وسائر الأحياء المائية، ثم فيها الآلات تدير الأشياء، ثم هناك أيضا مصح لتجربة الأدوية، وقاعات كبيرة لعرض التجارب الطبيعية، ومراكز زراعية كبيرة لعمل التجارب في التطعيم، ثم المعامل الصيدلية والصناعية، ومعامل أخرى لعمل الاختبارات في الصوت والضوء والطيوب والطعوم؛ فهذه كلها يقول بيكون: إنها في «بيت سليمان» ويجمعها ركاما مشوشة بلا تنسيق، أشبه شيء بالمذكرات منها بالرؤيا المرتبة، ومن هذه الكلية أو «بيت سليمان» يخرج اثنا عشر عالما إلى البلاد الأجنبية للسياحة وجلب الكتب الغريبة، وكتابة التقارير عن المخترعات والأشياء العجيبة التي يرونها في سياحاتهم، وهذه الكلية هي أهم شيء في مدينة بيكون التي يسميها «أتلنتيس الجديدة» وسائر ما في هذه المدينة لا يختلف عما رأيناه في أفلاطون وأندريا.»
وهذه الكلية كما وصفها بيكون هي الحلم الذي لا يزال يحلم به للآن علماء الكليات، وقد أوشك أن يتحقق بعضه مثلا في «مؤسسة روكفيلر» في الولايات المتحدة، وهو يدلنا على هموم بيكون وأنها كانت هموم رجل عالم جدير بأن يكون أحد أركان النهضة الأوروبية.
فهو القائل بالعقل بدل النقل، يريد أن يبني الحقائق على التجربة والاختبار، وأن يعبئ قوى الإنسان إلى ترقية العلوم والمعارف، ويحشد لهذه الترقية جميع الكفايات التي في الأمة، ثم هو لا يترك فرعا من فروع المعارف الإنسانية، صناعة كان أو زراعة أو طبا أو غير ذلك، إلا ويهيئ له وسائل التجربة والاختبار الذي عليه تبنى أصول هذا العلم أو الفن ، ومع ما في رؤياه من التشوش والخلط، فإنه قد رسم لنا توسيما يوشك أن يكون كاملا عن كلية يقصد منها تقدم العلوم وترقية المعارف.
عصر الصناعة وأحلامه
يتسم القرنان الثامن عشر والتاسع عشر بظهور المخترعات الصناعية ووفرتها، ولو قيست هذه المخترعات في هذه المدة القصيرة إلى مخترعات الإنسان الآلية منذ خمسين ألف سنة لأربت عليها؛ إن لم يكن في الفائدة ففي تعدد أصنافها وتنوع أعمالها، فهذه الكثرة وحدها كانت من الدواعي القوية إلى أن يفكر الإنسان في مستقبل الآلات، وأن يرجو منها أن تقوم مقام العامل نفسه وتوفر عليه راحته. ثم كان من ظهور الآلات وإقبال الناس على الصناعة أن انتقلت الثروات الضخمة من البيوت القديمة إلى أفراد محدثين؛ فحدث من هذا الانتقال تزعزع في المجتمع لعدم انطباق الجديد على القديم، وانتهى الحال إلى الثورة الفرنسية، وليست الثورات في الحقيقة إلا محاولة عنيفة لإصلاح القديم الذي يتنافر مع الجديد، فإن لم ينجح الإصلاح فإن الثائر يعمد إلى الهدم، وكل هذه الأحوال تربة صالحة لأن يغرس فيها رجل المثل الأعلى ما يتوهمه من هيئة اجتماعية وما يحلم به من إصلاح. وقد سبق أن قلنا: إن الإنسان إزاء الوسط الذي يعيش فيه ويشعر بفساده أو ثقل أنظمته، أحد ثلاثة: فهو إما أن يفر منه ويتحول عنه إلى وسط آخر يوافقه، وإما أن يدافعه ويحتمي منه، وإما أن يهاجمه متعمدا إبداله.
ونحن إذا نظرنا إلى رجال القرن الثامن عشر ألفيناهم من الصنف الأول؛ يبغون الهروب، فقد تعاظمهم الفساد فآثروا تركه على معالجته. ففيهم جميعهم روح «روبنسون كروزو» يرضى بحال البداوة الساذجة في جزيرة قصية ويعيش منفردا له كفافه من العيش، يؤثر هذه الحالة على حضارة المدن وما فيها من ترف وتكلف وعجيج، ف «جان جاك روسو» مثلا يؤلف الكتب عن فساد الحضارة وما في نشر العلوم والآداب من الأذى للناس، ويصيح بالناس أن عودوا إلى الطبيعة، ثم هناك «شاتوبريان» لا يرى الجمال والجلال إلا في ذلك المتوحش النبيل الذي يعيش على الفطرة في بادية أمريكا، ثم يفحص نفسه فإذا به هو نفسه ذلك «المتوحش النبيل» الذي يهوى الهروب من الحضارة، ثم هناك «برناردين سان بيير» قد اشمأزت نفسه من الحضارة وتكاليفها فلم يجد مسرحا يمثل عليه خياله من السعادة إلا في أقاصي جنوب أفريقيا حيث الطبيعة لم تزل بكرا، وحيث سعادة الحب ووساوس الغرام تدب في الجسم مفاجئة؛ فلا يدريها الشاب وتخطئها الفتاة لأنهما من بداوة العيش بحيث يغمرهما الجهل والسذاجة، وكلاهما أساس السعادة في رأي هذا الفار من مكافحة الحضارة والنزوع إلى الطبيعة وسذاجتها، وإلى البداوة وحريتها، هو ردة في نفس كل إنسان، ونحن أكثر ما نكون شعورا بقوة هذه الردة عندما تكثر تكاليف الحضارة، ولو كان كل رجال المثل العليا من طينة هؤلاء الرهبان الذين يفرون من مواجهة الحقائق - بتوهم فردوس لا يمكن تحقيقه - لما تعنينا في سرد أحلامهم، فإنما نحن نعنى هنا بأولئك المكافحين المهاجمين الذين يرسمون لنا بناء حضارة جديدة كاملة أو شبه كاملة غير تلك التي يعيشون فيها.
وإذا عدت «طوبيات» الفلاسفة أو أحلامهم التي تخيلوا فيها من النظم ما هو أرقى مما لديهم، لكان ثلثا هذه «الطوبيات» ينسبان إلى القرن التاسع عشر، والثلث الباقي إلى سائر القرون، وإنما ذلك لكثرة مخترعات هذا القرن وانتشار الصناعة فيه، واختلاف التوازن في هيئته الاجتماعية اختلالا فادحا واضحا، وظهور طبقة من الناس تستبد بالعمال وتستأثر بالربح العظيم ولا ترضخ لهم إلا باليسير الذي يقوم بكفافهم أو بأقل منه.
فقد كانت الصناعة قبل ظهور الآلات في أيدي صناع يشتغلون بأيديهم، فالحذاء يشتري آلاته بأقل الأثمان، وينتحي ناحية المدينة يفتح فيها دكانا، فيصنع الأحذية ويبيعها بنفسه، يفعل ذلك كله وهو راض عن نفسه وعن حكومته وعن الحضارة التي هيأت له هذا النظام، ولكن ظهرت بعد ذلك الآلات؛ فسارت تصنع آلاف الأحذية في وقت قصير وغمرت السوق ببضائعها حتى لا تكاد تتسع لما يصنعه ذلك الحذاء البسيط، فهي تدفعه إلى أن يكون عاملا في ذلك المصنع الكبير الذي يصنع أشياءه بالآلاف، وقل مثل ذلك في سائر الصناعات، فإن الصناع الذين يصنعون بضائعهم بأيديهم قد استحالوا عمالا، لا رأس مال لهم، يطردهم المصنع عند تكدس بضائعه، وينزل أجورهم إلى أحط قيمة تضمنها مزاحمة العمال بعضهم لبعض؛ وينتج عن ذلك كله أنه يبقى العمال في فقر مدقع، وأن يثرى أصحاب المصانع إثراء فاحشا، وأن يدعو هذا التفاوت بين الحظين إلى تذمر العمال وإلى ظهور الحركات الاشتراكية.
وليس غريبا أن تظهر لفظة
نامعلوم صفحہ