وإذا عدت صيفا فلأكون في كنف شيخي أي من مدرسة ثابتة عنيفة، إلى مدرسة متنقلة أعنف. كان - رحمه الله - يذاكرني في كل فن ومطلب. في الإعراب والتصريف، ورواية الشعر والنثر.
وعدت من المدرسة في صيف سنة 1900 فرأيت شيخي مهدودا. ولكن نفسه ما زالت كما كانت ظل يذاكر في كل ما يعلم؛ ويبدي آراء أعجب بها، وأستغرب صدورها من مثله.
ونعيت إلينا في منتصف آب امرأة صاهرنا أحد أبنائها، فقال لي جدي : شكر لي ريس مدرستك جراءتك ووقفتك على المنبر، وأنا أحب أن أسمعك قبل غياب شمسي. هيء مرثاة تقولها غدا في المحفل، وأحب أن أسمعها لأعطيك رأيي فيها.
وكانت علامة انصرافي من حضرته فتحه كتاب صلواته الخمس - الشحيمة - فدخلت البيت، وأنا أفكر إلى أي كتاب ألتجئ. إلى مجاني الأدب، إلى مجالي الغرر، أم إلى الدرر لأديب إسحق. تلك كانت كتب مطالعتنا في ذلك الزمان، فتأبطتها مع كف ورق وقلم رصاص وقصدت موضع خلوتي وانفرادي. صخرة عالية في القرقفة، تحتها واد عميق استحليتها مقاما للدينونة، حواليها منطقة تكسوها خضرة السنديان والآس وأشجار برية مختلفة. هناك جلست على مقعدي الذي تعودت أن أقرأ - وأنا عليه - الكتب التي أحبها. قرأت عدة تآبين لأديب إسحق وفيه.
كنت سمعت أن تغاريد الطيور تهيج القريحة فتمنيت لو يجيء الحسون ويغرد بالقرب مني، ولكني ما سمعت إلا زقزقة عصافير غير ملهمة، ثم أخذت الحجال تتكلم في الأحراج المناوحة فما نفعتني ولا هاجت قريحتي. فصرت أقول: آه على الحسون، أين الحسون الآن؟ الحسون وحده يوقظ هذه القريحة النائمة. وا خيبتي عندك يا جدي. ها قد مضت ساعة وساعتان ولم أكتب شيئا. فلأكتب، وكتبت: كذا فليجل الخطب، وقبل أن أتم البيت، قلت: لا. غدا عيد السيدة، وهذا عيد عظيم في البلاد كلها، وخصوصا في ضيعة المرحومة، فكنيستهم على اسم السيدة. إذن الأفضل أن أبدأ هكذا:
لبس الرجال جديدهم في عيدهم
ولبست حزن الأمهات جديدا
الآن جرى القلم فلنكتب على خيرة الله، فكتبت: إنني في موقع حرج بين الموت والحياة، تخنقني الزفرات، وتغرقني أمواج البليات، قلبي مصاب بسهام الأحزان، وصرت هدفا لنوب الزمان. - غاق، غاق، غاق. هذا غراب ينعق، لعن الله الغربان! وزاد في الطين بلة أنه فرد غراب، وهكذا قطع الغراب مجرى الوحي والإلهام، فطويت ورقتي ودفنتها في عبي. وعدت إلى البيت، فوجدت جدي قاعدا ينتظر، فحكيت له ما جرى فضحك ضحكة مرة وقال: قريحة تهيجها دقات حجل ويهمدها نقيق غراب ما هي قريحة.
فقلت له: شر الصباح ولا خير المساء . غدا تسمع ما يعجبك.
فقال: اتكلنا على الله.
نامعلوم صفحہ