قابلت سيدنا البطرك، وخبرت أنه مثل الحديد.
فتعالى أبو طنوس إذ ذاك ولكش الشاب لكشة أزخم من الأولى وقال له: سمعت بأذنك يا ذكي. ثم هز برأسه والتفت إلينا قائلا كأنه يوبخنا جميعا: العوذ بالله، يجينا كل قبز لسانه يلحس قفاه، ويتطاول على الأوادم في بيوت الناس ولا نقول له كلمة. وتقلقل كمن يريد الخروج فاسترضيناه، ولا تسألني كيف، فللرضا عندنا تقاليد كثيرا ما تغسل الدم.
ثم عدنا إلى حديثنا فسألتهم عن جمعية مزارعي الدخان، فأثنوا عليها جدا، وخبروني أنها قابلت الرئيس ووعدها خيرا، فقال متشائم: الحكومة ملتهية بالاستقلال، والترتيب الجديد. فرد عليه أحدهم: أنت لا يعجبك شيء، النقلة من البيدر إلى البيت تكلفك جمعة، ومع هذا تلوم الحكومة إذا تأخرت ساعة.
فانتفض كهل عتل - نسيب أبي طنوس - وقال: يا الله، الليلة قصتكم عجيبة يا جماعة، هذا يقول: البطرك لان، وهذاك الحكومة ملتهية بالاستقلال. صح فينا قول المثل: القلة تورث النقار. نعم الاستقلال قبل الخبز، غيرنا خسر المال والرجال، ونحن أخذناه على الهينة. من من لبنان يقف وقفة أده، الله يعطيه ستين ألف عافية، ويطول عمره ما دامت الدنيا دنيا.
فأعجبت نخوة كهلنا الجمهور، فاهتز بعد خمول، ونسي الغلاء ورعبه، وصفق بعض التلاميذ لكلامه كأنهم في المدرسة. فالتفت أبو يوسف يمينا وشمالا مستغربا وقال للأولاد: عندنا عرس! استحوا، أمس مات الشيخ، كفنه ما تلوث بعد.
وانثنى يسأل جاره عن التصفيق فخبره، فسر، وحاول أن يتكلم فسبقه أحدهم وقال: اصبروا يا ناس، الله يساعد الريس عنده ألف مسألة أهم من مسألتكم. وأيده جاره بقوله: أي نعم مص القصب عقدة عقدة.
وتركوا الكلام لأبي يوسف فقال: سمعت من كثيرين أن ريسنا ممتاز، يحب الفلاح، لا بد من الفرج في أيامه، اصبروا لا تكونوا لجوجين. ثم نظر إلي وقال: خبره يا خال عن الحالة كما هي، ولا تنس غلاء الطحين، لو بعنا أقة الدخان بورقتين - ليرتين - وبقي سعر الطحين على حاله ما ترقينا شيئا. الفلاح تهمه الحبة، ومتى وجدها وجد كل شيء، وإذا بقي الغلاء اشتهينا العضة بالرغيف.
فقال له أحد المعلمين وهو يومئ إلي: ما باله فينا يا خال، باله بأحمد فارس.
فحرك أبو يوسف يده في وجه جاره وسأله: منو أحمد فارس؟ فما فاز بجواب. وأخذ الأستاذ يخبر عن تصريحات الرئيس وما ينوي عمله من مشاريع عمرانية حتى كان الكلام عن الري وجر المياه، فقال أبو طنوس: نحن لا نحتاج جر نهور، نحتاج جرة قلم تقصف عمر الغول؛ يعني الاحتكار.
فقال آخر: حسب الرئيس كل بلادنا مثل جبيل والبترون، فلو زارنا ووقعت عينه علينا رق قلبه لنا وكش الشركة من لبنان كله.
نامعلوم صفحہ