وليوم الجمعة عندنا ميزة أخرى لا تفارقه، فهو موعد وصول صاحب البريد. فلو مات - مثلا - عزيز علينا يوم السبت مساء لا يجيئنا نعيه قبل مساء الجمعة أي بعد أسبوع، فيصح بنا قول المثل: يا معزيا بعد حين يا مجدد الأحزان. يقول المثل اللبناني: إذا كذبت بعد شهودك، أما أنا فشاهدي في يدي وهو ختم البريد وخبري فرح - يقطع الموت من الدنيا.
دعتني لجنة دار الأيتام الإسلامية لحضور الاحتفال بالأستاذين أحمد أمين، وعبد الرحمن عزام المصريين، وسماع محاضرة أحدهما أحمد أمين، وأنا ممن يحترمون اجتهاد أحمد الأدبي، فأرسلت كتابها إلي يوم السبت 25 تموز فوصلني الجمعة مساء، بعد الحفلة بيومين. •••
قد أدركت بعد ما قدمت لك أن سهراتنا ستكون حافلة. نعم يا سيدي، وإنها من ليالي الدهر ، بحث فيها (مجلس القرية) شئونا هامة. وقبل تسجيل وقائع جلسته الخطيرة لا بد لي من أن أعرفك تواريخنا، وحدودنا، ومواقيتنا. الحدود والتخوم في عين كفاع كهوف ومغاور، فلو سئل أبو يوسف أين حصدت اليوم؟ أجاب: عند مغارة القطين. ولو سألت المعاز أين سرحت المعزى الليلة؟ قال لك: عند مغارة البابين. ولو سألت الصبيان من أين أكلتم عنبا وتينا؟ أجابوك: من عند مغارة الفتاح. ولو قلت للصبايا الحاملات العنب المتلالئ كثغورهن، من أين هذا؟ قلن لك: من عند مغارة طنوس فرنسيس. ولو سألت الناطور: أين رأيت أثر ديك فلان، ودجاجة فليتان؟ قال: عند مغارة القس مرقص أو مغارة القرقفة، ولو قلت لناظر يحملق: ماذا ترى؟ قال لك: رجلا فوق مغارة شير بنور لعله فلان. ولو خبرك الشيخ عن بطولته في أيام عزه قال لك: كنت معهم عندما كبسنا اللصوص في المغارة السودا، يوم عيد مار إلياس، وسلمناهم لطالب بك - مدير جبيل قبل ولده الشيخ وديع، حاكم بيبلوس.
أما مواقيتنا فصلوات، فهم يقولون جانا الجابي صلاة الظهر، وجا عداد المعزى عند صلاة الرهبان، ووصل المهندس بعقليني عند دقة الصلاة، وكبس مفتش المونوبول الضيعة والناس في الزياح، ورجع المرسال قبل القداس.
أما التواريخ فأعياد، يقولون: ولد حنا يوم عيد مار بطرس، وتزوجت صابات يوم عيد ماريحنا - يوحنا - ووقع البطرك إلياس عن البغلة قبالة عين كفاع يوم عيد جميع القديسين - وعيد جميع القديسين في الكنيسة كالجندي المجهول في الدولة - ووصل جرجس من أميركا ليلة عيد مار روحانا - قديس الضيعة - ومات صباح الميلاد، وكانت زلزلة (سنة 1918) ثاني عيد مار روحانا، وانتهت الحرب يوم عيد مار شليطا، وماتت بقرة فلان ليلة الغطاس، وهكذا.
والقرويون يعتقدون باختصاص القديسين، فكل قديس مختص بمرض، يشفي منه أو يبلي فيه. فهو يفعل الأمرين، كما يقول الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر ... إلخ، وبعض القديسين يخنق أيضا، ولذلك ينذرون لهم عند وقوع أقل عارض لهم. فسبحان مقسم الرزق على عبيده الصالحين في الحياة والممات. فالقرويون يتوقعون الري يوم عيد مار شليطا (20 تشرين الأول) شفيع البقر والحمير، وينتظرون نزول السماء يوم عيد مار جرجس البطل الصنديد الذي كان شفيع بني تغلب قبل الإنكليز وموعده 23 نيسان، ورية نيسان تسوي السكة والفدان، والخضر أو مار جريس أبو الحربة يخضخض البحر في هذا اليوم مفتشا عن أولاد التنين الذي قتله وخلص بنت الملك من شره. •••
أقبل الليل وأقبلوا، وسلموا وسلم عليهم بطرس - موزع البريد - اللطيف الأمين، وجلسوا كل على هواه، وتناول من يقرءون منهم الجرائد بلا إذن ولا دستور. وتحدث الآخرون عن أعمالهم اليومية، عن بيادرهم، عن مصيبة أحدهم بموت بقرته على البيدر وانكسار فدانه، وعن مؤاساة الضيعة له، والمؤاساة أحسن مزايا القرى، وخير ما فيها سلامتها من المن، وكان حديث العنب فأثنوا على كرم (الكساير وشحواتا) لأن عنبهما يحلو قبل الكروم كلها، وكانت المفاضلة بينهما، كما يفاضل بعضهم بين الشاعرين شبلي الملاط وبشارة الخوري، وتحدثوا عن السفرجل، والأجاص، والزيتون، والتين، وعللوا النفس باليسر في العام القادم؛ لأن غلتهم تنفق، فدعوا للأستاذ أده بطول العمر من صميم القلب ثم جاءوا على ذكر الدستور والاستقلال، فقال واحد: نحن على ما نحن، بدستور وبلا دستور.
وقال ثان: خلوا الدستور لطلاب الوظائف الكبيرة، نحن على هذه الحصيرة.
فهز ثالث رأسه وقال: هذا كلام، الدستور مليح، كيفما دارت الحال.
فأجاب رابع: عرفناهم فوق وعرفناهم تحت، العلة من الرجال، هم نوموا الدستور في القبور، وصيروا الاستقلال للاستغلال. الدستور منفعة لناس معلومين، أيش نفعنا الاستقلال وأيش عمل لنا الدستور؟ أين الضيعة مسكين ما له حظ من الحكومة إلا إذا كان له فيها ظهر قوي.
نامعلوم صفحہ