- ما أكبرها مصيبة يا أم سليم.
منصور أول فلاح خبير بتنقية الأشجار، كأنه تعلمها في مدرسة. يبني الحيط علو ثلاث قامات وطول يوم الجوع كأنه مخطوط بالميل. إذا دخل القرش عبه لا يقدر أحد أن يخرجه منه. حبس مؤبد. أمس طلب منه أخوه خمسة قروش فقامت قيامته. كان جوابه: من يكسر حق الفدان! حق الفدان مثل مال الوقف، لا تقربوا صوبه.
فأجابتها أم سليم: هنيئا لك يا أم منصور. ولد ممتاز، يسوى ألف تلميذ مدرسة مثل ابننا. ابننا لا يهمه إلا صقل شعره وفرقه يمينا وشمالا، يقف قبالة المرآة ساعة، ساعتين، والله يعلم متى ينتهي. إذا قلت له انقل الخروف من الشمس نظر إلي نظرة تفزع. كأنه يريد أن يأكلني بعينيه.
وبعد أن دقت على ظهر جارتها أم منصور دقات عنيفة صاحت بها: طيبي خاطرك يا أختي، ابنك ممتاز. جده ما كان متعلما وأملاكه نصف الضيعة. لا تتأسفي على العلم. - ولكنه من ناحية ثانية يا أم سليم، يضحك عليه أصغر ولد. يصدق كل ما يقوله له. أعلمه كل يوم ولا يتعلم. صدقيني، إذا قلت لك: فكري يرافقه أينما راح. أخاف عليه من أولاد الحرام.
فقالت أم سليم: ما دام لا يفرط بقرش فخوفك في غير محله.
فتنهدت أم منصور وقالت: وضحك الناس يا مستورة! راح الخنوص وجاء الخنوص.
وما فتحت أم سليم فمها لتجيب حتى كان أبو منصور منتصبا بالباب كالمارد يردد حديث زوجته، مقلدا نبرة صوتها وحركاتها قائلا: وضحك الناس يا مستورة. راح الخنوص وجاء الخنوص. الخنوص مستغن عن الكبير والصغير. اشكري ربك، عندك إبراهيم يسطو على طابور، وعندك خليل ينزع الدبس عن الطحينة. وعندك جميل مثل البدر. أم منصور يا أم سليم، تريد أولادها مثل بعضهم، والناس لا تكون شغل فبركة. إذا كان منصور لا يصلح للديوان، فهو أكبر معلم في سوق الفدان والبيت يلزمه كل شيء.
فتنهدت الأم وقالت: منصور مصمم على الرواح وحده لمشترى الفدان.
فصاح أبو منصور: من غير شر. يروح ويرجع مثل السبع. - أقنعه حتى تروح معه. - إذا ترجاني وباسها - وأشار إلى يده - وجها وقفا، رحت معه، وإلا فليذهب وحده. أهي سفرة إلى أميركا. يعرف الناس والناس تعرفه. - وهنا البلية يا رجل. خف ربك. - ومتى مت من يروح معه؟! اتركيه، الإنسان لا يتعلم إلا من كيسه.
وبينما كانت الأم والجارة والأب يتحاورون كان منصور على المصطبة قدام الباب سابحا في أحلام الشعراء يتأمل البقر تحرث الحقول ويتفتت قلبه حسرات، ندم لأنه كسر فدانه، ولم تقع عينه بعد على عجل يماشي البقرة الباقية عنده. جمع قواه العقلية وأخذ يقلب المشكلة على جميع وجوهها ، فما وجد أمامه إلا حلين: إما أن يبيع البقرة ويشتري زوجا ملائما، أو أن يفتش أيضا فلعله يجد. فتأفف وقال: تأخرنا، فات الفوت. أملاك الضيعة كلها تضحك وكرومنا معبسة. لا يضحك الأرض غير السكة. خيرات البشر على أكتاف البقر. طغاني الشيطان وكسرت فداني. الحق كله على خالي. ثم حرق على أنيابه وأعاد العبارة شادا على كل كلمة: كل الحق على خالي.
نامعلوم صفحہ