احادیث المازنی
أحاديث المازني
اصناف
في قصائده ورواياته الشعرية قليلة، ولكنه استطاع بهذا القليل أن يؤدي معانيه جميعا أحسن أداء، وأجمله، وكان جوتيه معاصره وزميله يمتاز بالثراء اللغوي، ومع ذلك لا يخلو كثير من شعره من الغموض المتعب، لا لأنه كان أعمق، فإن العمق ليس عذرا للعجز عن الإبانة.
وما من معنى يدور في النفس بوضوح إلا وفي وسع اللغة أن تكشف عنه، وذلك لأننا لا نستطيع إلى الآن أن نفكر إلا بمعونة اللفظ، فإذا دار في النفس معنى فإنه لا يمكن أن يتضح إلا إذا اتخذ صورته اللفظية، إذ كان لا يمكن أن يتبدى بغير ذلك، أي مجردا من الفظ الذي يكشف عنه، فإذا جاءت العبارة عن المعنى غامضة، فإنما يكون ذلك لأن صاحبه لم يستطع أن يجلوه لنفسه، ولذلك تجيء عبارته عنه مضطربة أو غير دقيقة، أو غير كافية الإبراز المعنى.
ولا ذنب للغة، ولا قصور فيها، لأنك حين تريد العبارة عن شيء، فإما أن يكون هذا الشيء قد تجلى لك ووضح وضوحا تاما، وحينئذ يكون قد اكتسى لفظه، لأنه لا سبيل إلى معنى بغير لفظ يكتسبه، وإما أن يكون هذا الشيء لا يزال غامضا في نفسك، ومعنى ذلك أنك لم تستطع أن تحيط بجوانب هذا الشيء وأن تتبينه على وجه جلي، وأنك لهذا لم تستطع أن تكسوه الثوب الذي يتبدى فيه لك وللناس.
وليس الشعر «علما» كما يمكن أن يتوهم الذي يقرأ قول الشاعر «إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه».
وعسى أن تكون القافية قد جنت عليه في هذا التعبير، ولو كان الشعر علما لكان أولى بالنبوغ فيه المتأخر دون المتقدم، ولكن الأمر «يكاد» يكون على النقيض، على أنه ليست هناك قاعدة مطردة، فالشعراء ينبغون في عصور البداوة وفي عصور الحضارة على السواء تقريبا، ولا ضابط هناك ولا قاعدة ولا مقياس يعول عليه لأن الأمر في الشعر ليس مرجعه إلى العلم أو الثقافة أو الحضارة، بل إلى المواهب الشخصية وإلى الأحوال الاجتماعية التي تساعد على ظهور هذه المواهب.
والحقيقة الوحيدة التي يمكنني، فيما أرى استخلاصها من تاريخ الأدب في الأمم المختلفة، هي أن نهضة الأدب في بلد ما، تكون إيذانا بنهضة عامة في هذا البلد، في كل باب.
وقد رأينا مصداق هذا في تاريخ اليونان، والرومان، والعرب، والفرس، وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا، فما من نهضة قومية في بلد من هذه البلاد إلا وقد سبقتها نهضة أدبية.
ولهذا يخيل إلى، وإن كنت لا أستطيع أن أجزم بصحة هذا الرأي أن حالة البداوة لعلها أعون على ظهور المواهب الشعرية، على أني أوثر أن أضيق نطاق هذا الرأي فأقول إن حالة البداوة أعون على رواج سوق الشعر، وأبعث على الإقبال عليه والاستمتاع به، وتعليل ذلك يسير، ولكن شرحه يطول، والمجال ضيق.
ويكفي أن أقول الآن - وإن كان هذا في الحقيقة لا يكفي - أن الشعر في هذه الحالة يكون أشبه بعمل من أعمال الجماعة وأوثق صلة بحياتها العامة، وهو يقترن في هذه المرحلة التي تعد إلى حد ما، بدائية، بالرقص والموسيقى، كما يقترن أيضا بمساعي الجماعة وآمالها ومخاوفها، وقد كانت هذه الفنون الثلاثة في كل جماعة بشرية في هذا الطور، مجتمعة غير مفترقة، أي قبل أن تتحضر، ويحدث فيها التخصص، وكان الموهوب من أفراد الجماعة يرفع صوته بالكلام الموقع على حركة الرقص والذين يتولون الطبل والزمر وغير ذلك، يتبعون الحركة والصوت، ويجعلون نقرهم أو نفخهم على مقتضى ما يسمعون، ويرون، ويحسون أيضا.
والشعر في هذه المرحلة من حياة الأمة يعد كما قلت - أشبه بعمل من أعمال الجماعة، أو تعبيرا عن آمالها ونزعاتها، والغامض المستبهم من غاياتها التي في نفوسها دون اتضاح.
نامعلوم صفحہ