العشرين عند ذكرنا التدبير اللطيف المحمود إبقاء للصحة ودوامها.
وأما ما (1) كان من الأغذية قحلا جافا، فإنه مذموم من جهة أخرى لأنه مع بعد انهضامه يولد غذاء مائلا إلى اليبس، ولذلك صار أكثر ما يستعمل على سبيل الدواء لا على سبيل الغذاء، وإن كان أقل رداءة من النوع الأول كثيرا لان الدم المتولد عنه أقل فسادا، لعدمه اللزوجة والغلظ لان ما كان من الغذاء لزجا فإنه، وإن كان يغذو غذاء كثيرا، فإن الغذاء المتولد عنه يقرب من البلغم الغليظ اللزج.
فإن سأل سائل عن الغلظ واللزوجة وقال: هل بينهما فرقان في أن كل واحد منهما في نفسه غليظ؟ قلنا له: لعمري إن بينهما فرقانا بينا (2) من قبل أنه، وإن كان قد تعمهما جميعا صعوبة الانهضام وبعد الاستمراء، فقد يختص كل واحد منهما بخاصة يمتاز بها من صاحبه، من قبل أن الغليظ ربما ولد دما يقرب من اليبس سريع التشبه بالأعضاء لقربه من الانعقاد والجفاف. واللزج، وإن كان غليظا، فإن الدم المتولد عنه بلغمانيا عسير التشبه بالأعضاء لبعده من الانعقاد بسرعة.
فالغلظ إذا أعم من اللزوجة لان كل لزج غليظ، وليس كل غليظ لزجا (3)، فإن عارضنا وقال:
ولم خالفت بينهما، وجالينوس قد ساوى بين الدم المتولد منهما في الغلظ حيث قال: ومن الطعوم ما ليس بلزج ويولد دما غليظا مثل الجاورس، ومنه ما ليس بغليظ ويولد دما غليظا مثل الفطر، فدل، بمساواته بين الدم المتولد من الجاورس والفطر، على أن الغليظ هو اللزج واللزج هو الغليظ، وإن كان من الغليظ ما ليس بلزج ومن اللزج ما ليس بغليظ.
قلنا له: لو أنصفت عقلك وأجلت فكرك في الأصول المنطقية لأشرفت على أن جالينوس، وإن كان ساوى بين الدم المتولد عن الغليظ واللزج في اسم الغلظ، فإنه لم يساو (4) بينهما في جوهرية الغلظ ولا في الهيولى الحامل له، من قبل أن الطعام اللزج إذا نسب إلى الغلظ فإنما نسب إليه لغلظ رطوبته ولزوجته وبعدها من الاستحالة والتشبه بالأعضاء. والغليظ فإنما ينسب إلى الغلظ لقحله وجفافه وصلابة جرمه وبعده من الانقياد لفعل الطبيعة وإن كان أسرع إلى التشبه بالأعضاء لما بينها وبينه من مجانسة اليبس.
فمن البين إذا أن اللزج إنما يحمل الغلظ في رطوبته وجوهرية غذائه، والغليظ فإنما يحمل ذلك في جسمه لا في جوهرية غذائه، والهيولي الحامل للغليظ في اللزج غير الهيولى الحامل له في الغلظ.
فالغلظ إذا أعم من اللزوجة، لان كل لزج غليظ الجوهر وليس كل غليظ لزج لان الغليظ إنما كان غليظا لقحله وجفافه وصلابة جسمه، لا لغلظ جوهره ورطوبته.
صفحہ 60