طارق رمضان
كرم يونس
حليمة الكبش
عباس كرم يونس
طارق رمضان
كرم يونس
حليمة الكبش
عباس كرم يونس
أفراح القبة
أفراح القبة
تأليف
نجيب محفوظ
طارق رمضان
سبتمبر، مطلع الخريف، شهر التأهب والتدريب. صوت سالم العجرودي المخرج يتدفق؛ يتدفق في حجرة المدير المغلقة النوافذ المسدلة الستائر. لا صوت يتطفل عليه إلا أزيز خفيف يند عن جهاز التكييف. صوته يمرق في إطار صمتنا اليقظ قاذفا بالصور والكلمات، نبراته ترق وتخشوشن، تتلون بشتى الأصباغ، محاكية أصوات الرجال والنساء. قبل ترديد أي حوار، يرمق صاحب الدور أو صاحبته بنظرة تنبيه، ثم يسترسل. وتنبثق الصور من واقع ثقيل صلب يجتاحنا بصراحة مرعبة، يجتاحنا بتحد مخيف. سرحان الهلالي، المدير، يجلس على رأس المائدة المستطيلة المكللة بالقطيفة الخضراء، يجلس كحارس صارم، يتابع التلاوة بوجه جامد هادئ، قابضا على سيجار الدينو بشفتين ممتلئتين، يحدق بوجهه الصقري في وجوهنا المشرئبة نحو المخرج، يصادر بجديته البالغة أي مقاطعة أو تعليق، يتجاهل انفعالاتنا المتوقعة ويدعونا بصمته البارد إلى تجاهلها أيضا؛ ألم يدرك الرجل معنى ما يلقى علينا؟ الصور تتماوج أمام مخيلتي مخضبة بالدماء والوحشية، أريد أن أتنفس بكلمة أتبادلها مع أحد! سحابة الدخان المنعقدة في الحجرة تزيد من غربتي. أغوص في الرعب، وأحيانا ألتصق بنظرة بلهاء بالمكتب الفخم وراءنا، أو بصورة من الصور المعلقة؛ صورة درية وهي تنتحر بالأفعي، صورة إسماعيل وهو يخطب فوق جثة قيصر. ها هي المشنقة تتخايل لعيني، ها هي الشياطين تتبادل الأنخاب.
وعندما نطق سالم العجرودي بجملة «يسدل الستار»، اتجهت الرءوس نحو سرحان الهلالي مترعة بالذهول.
يقول المدير: يسرني أن أستمع إلى الآراء.
وتقول درية، نجمة المسرح، باسمة: فهمت الآن لم لم يحضر المؤلف جلسة القراءة!
وأقول أنا، وأنا أحلم بتدمير العالم: المؤلف؟ ... ما هو إلا مجرم علينا تسليمه إلى النيابة.
يرد علي الهلالي بنبرة آمرة: الزم حدك يا طارق؛ انس كل شيء إلا أنك ممثل ... - ولكن ...
يقاطعني بغضبه الجاهز دائما: ولا كلمة!
ووجه عينيه نحو المخرج، فقال المخرج: المسرحية مرعبة! - ماذا تعني؟ - ترى كيف يكون وقعها في الجمهور؟ - لقد وافقت عليها وأنا مطمئن. - لكن جرعة الرعب جاوزت الحد.
وقال إسماعيل نجم الفرقة: دوري بشع!
فقال الهلالي: لا يوجد من هو أقسى من المثاليين، هم المسئولون عن المذابح العالمية! دورك تراجيدي من الطبقة الأولى!
فقال سالم العجرودي: قتل الطفل سيفقده أي عطف ... - دعنا الآن من التفاصيل، ممكن حذف دور الطفل. لقد نجح عباس يونس في إقناعي أخيرا بقبول مسرحية له، وشعوري يلهمني بأنها ستكون من أقوى المسرحيات التي قدمناها في عمر مسرحنا الطويل.
فقال فؤاد شلبي الناقد: إني أشاركك شعورك، ولكن يجب حذف دور الطفل.
فقال الهلالي: يسرني أن أسمع منك ذلك يا فؤاد؛ إنها مسرحية متقنة وصادقة ومثيرة ...
فقلت بحدة: ما هي بمسرحية؛ إنها اعتراف، هي الحقيقة، نحن أشخاصها الحقيقيون ...
فقال الهلالي بازدراء: ليكن؛ أتحسب أن ذلك فاتني؟ ... لقد رأيتك كما رأيت نفسي، ولكن من أين للجمهور أن يعرف ذلك؟ - ستتسرب الأخبار، بطريقة أو بأخرى ... - ليكن؛ الضرر الأكبر سيحيق بالمؤلف نفسه. بالنسبة لنا، سنضمن مزيدا من النجاح؛ أليس كذلك يا فؤاد؟ - أعتقد ذلك.
فابتسم الهلالي لأول مرة، وقال له: يجب أن يتم كل شيء في لباقة وكياسة. - طبعا ... طبعا!
فرجع سالم العجرودي يتمتم: الجمهور! ... ترى كيف يستقبلها؟
فقال الهلالي: هذه مسئوليتي أنا. - عظيم ... سنبدأ العمل فورا.
الجلسة تنفض؛ ألبث أنا وحدي مع المدير. لي دالة عليه (بحكم الزمالة والصداقة والجيرة القديمة). قلت له وأنا في غاية الانفعال: علينا أن نعرض الموضوع على النيابة.
فقال متجاهلا انفعالي: ها هي فرصة، لتمثل في المسرحية ما سبق أن عشته في الحياة. - إنه مجرم لا مؤلف! - وهي فرصة ستخلق منك ممثلا مهما، بعد عمر طويل مضى وأنت ممثل ثانوي. - إنها اعترافات؛ كيف نترك المجرم يفلت من يد العدالة؟ - إنها مسرحية مثيرة واعدة بالنجاح، وذاك أقصى ما يهمني يا طارق!
فاض قلبي بالغضب والمرارة، انتشرت أحزان الماضي كالدخان بكافة هزائمه وآلامه.
إنها فرصتي للتنكيل بعدوي القديم. ••• - من أدراك بهذه الأسرار؟! - عفوا ... سنتزوج! •••
ويتساءل سرحان الهلالي: ماذا أنت فاعل؟ - يهمني في الاعتبار الأول أن ينال المجرم جزاءه.
فقال بضيق: اجعل الاعتبار الأول لإتقان الدور.
فقلت بتسليم: لن يفوتني ذلك. •••
يقتحمني انفعال قهار عند رؤية النعش، فأجهش في البكاء مغلوبا على أمري، كأنه أول نعش أراه. الدموع في عيني مثلي مثيرة للدهشة؛ ألمح السخريات من خلال الدمع مثل ثعابين الماء. ليس هو الحزن أو العظة، ولكنه جنون عابر. أتجنب النظر إلى المشيعين؛ خشية أن ينقلب البكاء إلى هستيريا من الضحك! •••
أي كآبة تغشاني وأنا أخترق باب الشعرية؟ منذ سنوات لم تقترب منه قدماي. حي التقوى والخلاعة! أغوص في زحام وضوضاء وغبار النساء والرجال والصبية. تحت سقف الخريف الأبيض، كل شيء يلوح لعيني في ثوب الازدراء والكآبة. حتى الذكريات منفرة جارحة، بما فيها مجيئي بتحية لأول مرة وهي تتأبط ذراعي في مرح. مثل الهوان في الظل ومعاشرة الصعاليك والقبوع الحقير تحت جناح أم هاني. اللعنة على الماضي والحاضر، اللعنة على المسرح والأدوار الثانوية، اللعنة على أول نجاح تأمله من لعب في مسرحية عدو مجرم وأنت تعلو الخمسين من العمر. ها هو سوق الزلط النحيل الطويل مثل ثعبان، ها هي بواباته المتجهمة العتيقة، وها هما عمارتاه الجديدتان الوحيدتان، والبيت القديم رابض مكانه بما يطويه في صدره من تاريخ أسود وأحمر. لقد استجد جديد لم يكن، فتحولت المنظرة الخارجية إلى مقلى يجلس فيها للبيع كرم يونس، وإلى جانبه حليمة زوجته. شد ما غيرهما السجن؛ وجهان هما صورتان مجسدتان للامتعاض، ينغمسان في الكدر على حين يأخذ نجم ابنهما في اللمعان. لمحني الرجل، نظرت المرأة نحوي أيضا، لا حب ولا ترحيب هذا ما أسلم به، رفعت يدي بالتحية، فتجاهلها الرجل، وقال بجفاء: طارق رمضان! ... ماذا جاء بك؟
لم أتوقع استقبالا أفضل؛ اعتدت ألا أبالي! وقفت المرأة منفعلة، ثم سرعان ما جلست على كرسيها المجدول من القش، وهي تقول بمرارة ساخرة: أول زيارة مذ رجعنا إلى سطح الأرض.
ما زالت قسمات وجهها تتشبث بذكريات جمالها. الرجل يقظ مفيق رغم أنفه. من هذين ولد المؤلف المجرم.
قلت كالمعتذر: الدنيا شبكة من الهموم، وما أنا إلا غريق من الغرقى.
فقال كرم يونس: جئت من الماضي كذكرى من أسوأ ذكرياته. - لست أسوأ من غيري!
لم يدعني أحد للجلوس في المقلى، فلبثت واقفا في موقف الزبائن، وشجعني ذلك على التمادي فيما جئت من أجله، وتساءل كرم في جفاء: هه؟
فقلت بتحد: معي أخبار سيئة!
فقالت حليمة: لم نعد نحزن للأخبار السيئة. - حتى لو تكون عن الأستاذ عباس يونس؟
فقلقت نظرتها في حدة، وهتفت: لن تزال عدوه حتى الموت!
وقال كرم: إنه ابن بار؛ هو الذي أنشأ لنا هذه المقلى، بعد أن رفضت العودة إلى عملي القديم بالمسرح.
وقالت حليمة بفخار: وقد قبلت مسرحيته. - قرئت علينا أمس. - رائعة ولا شك! - مرعبة ... ماذا تعرفان عنها؟ - لا شيء. - ما كان بوسعه أن يخبركما ... - لماذا؟ - إنها باختصار تدور في بيتكم هذا، مكررة ما وقع فيه بالحرف الواحد، كاشفة في الوقت نفسه عن جرائم خفية تفسر الوقائع تفسيرا جديدا.
تساءل كرم بجدية لأول مرة: ماذا تعني؟ - سترى نفسك كما سنرى أنفسنا؛ كل شيء ... كل شيء، ألا تريد أن تفهم؟ - حتى السجن؟ - حتى السجن، وموت تحية، ولكنها تدلنا على من وشى بنا إلى الشرطة، كما تثبت لنا أن تحية قتلت ولم تمت! - ما هذا السخف؟ - إنه عباس أو من حل محله في المسرحية من يفعل ذلك.
تساءلت حليمة بحدة: ماذا تعني يا عدو عباس؟ - إني أحد ضحاياه، أنتما ضحيتان أيضا.
فتساءل كرم: أليست مسرحية؟ - إنها لا تدع مجالا للشك فيمن وشى بكما، ولا فيمن قتل ... - كلام فارغ ...
وقالت حليمة: عنده تفسير ولا شك! - اسألاه ... شاهدا المسرحية عند عرضها. - مجنون ... لقد أعماك الحقد! - بل الجريمة! - ما أنت إلا مجرم، وما هي إلا مسرحية ... - إنها الحقيقة ... - حاقد مجنون ... ابني عبيط، ولكنه ليس خائنا ولا قاتلا ... - هو خائن وقاتل، وليس عبيطا ... - هذا ما تتمناه. - يجب تسليم قاتل تحية إلى العدالة. - إنه الحقد القديم ... هل أكرمت تحية حينما كانت بيدك؟ - كنت أحبها، وكفى! - حب البرمجية ...
صحت بغضب: إني خير من زوجك، وخير من ابنك.
فسألني كرم بجفاء ومقت: ماذا تريد؟
فقلت ساخرا: أريد لبا بقرش.
فهتف بي: رح في داهية! •••
رجعت أخوض في أمواج الأطفال والنساء. توكد لدي أن عباس لم يشر إلى موضوع مسرحيته لوالديه، مما يشهد على تجريمه، لكن، لم يفشي سرا خطيرا لم يشك فيه أحد؟ أهي اللهفة على النجاح بأي ثمن؟ أيلقى جزاءه شهرة بدلا من المشنقة؟ ••• - طارق ... ماذا أقول؟ ... القسمة والنصيب! •••
عند ناصية شارع الجيش، التفت صوب العمارة، ثم ملت نحو العتبة. بمرور الأعوام، الشارع يضيق ويجن ويصاب بالجدري. نلت جزاءك يا تحية؛ من الإنصاف أن يقتلك من هجرتني من أجله. سيستفحل الزحام، حتى يأكل الناس بعضهم بعضا. لولا أم هاني، لتشردت في الطرقات. المشنقة هي قمة المجد يا عباس، لا ميزة لك إلا الفحولة، هزيمتها لا تنسى. ما معنى أن تعيش ممثلا من الدرجة الثالثة؟ في الأيام الحلوة، نما الحب وراء الكواليس، فقهت الغريزة الحية لغة الفحولة الخفية. نلت أول قبلة والموت يزحف على راسبوتين. - تحية ... إنك تستحقين أن تكوني نجمة لا ممثلة ثانوية كحالي. - حقا؟! ... إنك تبالغ يا أستاذ طارق. - بل شهادة خبير ... - أم عين الرضا؟ - حتى الحب لا يؤثر في حكمي! - الحب؟!
كنا نسير في شارع جلال، في النصف الثاني من الليل؛ سهونا عن قشعريرة البرد، وثملنا بدفء الحلم.
قلت: طبعا ... أتريدين هذا التاكسي؟ - آن لي أن أرجع إلى بيتي. - وحدك؟ - لا أحد معي في شقتي الصغيرة. - أين تقيمين؟ - شارع الجيش. - نحن جيران تقريبا؛ إني أقيم في حجرة ببيت كرم يونس في باب الشعرية. - ملقن الفرقة؟ - نعم ... هل تدعينني إلى شقتك، أو أدعوك إلى حجرتي؟ - وكرم وحليمة؟
ضحكت، فابتسمت. تساءلت: لا أحد في البيت سواكم؟ - ابنها الوحيد، تلميذ.
جميلة، وصاحبة شقة ومرتب مثل مرتبي! •••
لم يستدعيني سرحان الهلالي ونحن منهمكون في التدريب؟
يقف مستندا إلى مائدة الاجتماعات في تيار الشمس الدافئ، يبتدرني: اعتذرت مرتين عن التدريب يا طارق ...؟ - لم أجد ما أقوله، فواصل بضيق: لا تخلط بين الصداقة والعمل ... ألم يكفك أنك حملت عباس على الاختفاء؟ - لعله هرب بعد افتضاح أمره! - ما زلت مصرا على أفكارك الغريبة؟ - إنه مجرم؛ ما من شك في ذلك! - إنها مسرحية، وإنك ممثل لا وكيل نيابة. - ولكنه مجرم، وأنت تؤمن بذلك. - الحقد يعمي بصيرتك! - لست حقودا. - لم تشف من خيبة الحب بعد. - إننا نتدرب لنهيئ النجاح للمجرم. - إنه نجاحنا نحن، وهي فرصتك للضوء بعد عمر طويل في الظل. - أستاذ سرحان ... الحياة ... - لا تحدثني عن الحياة ... لا تتفلسف ... إني أسمع ذلك كل ليلة في المسرح حتى مللته ... إنك تهمل صحتك ... الجنس والمخدرات وسوء التغذية ... ولا تتورع عن تمثيل دور الإمام في مسرحية الشهيدة وأنت سكران! - أنت الوحيد الذي عرف ذلك. - أكثر من ممثل شم رائحة فمك ... هل تضطرني إلى ...
قاطعته بجزع: لا تعرض صداقة العمر للهوان ... - ولحنت في آية، وهو شيء لا يغتفر. - مر كل شيء بسلام. - أرجوك ... أرجوك ... انس هوس التحقيق الخرافي، واحفظ دورك جيدا ... إنه فرصة العمر!
وأنا أغادر الحجرة، قال لي: عامل أم هاني معاملة أفضل ... ستعاني كثيرا إذا هجرتك.
اللعنة ... تماثلني في السن، ولا تعرف الشكر. شهدت موت تحية، دون أن تدري أنها قتلت. سأمثل كل ليلة دور العاشق المهجور ... سأبكي مرارا وتكرارا أمام النعش ... ماتت دون أن تندم ... لم تتذكرني ... لم تعرف أنها قتلت ... قتلها المثالي ... إنه ينتحر في المسرحية، ولكن يجب أن يشنق في الحياة ... ها هي جريمة تخلق مؤلفا وممثلا في آن. ••• - ألم تحضر تحية؟ - كلا. - لم أقابلها في المسرح. - لم تذهب إلى المسرح. - ماذا تعني يا عباس؟ - أستاذ طارق ... أرجوك ... لن تحضر تحية إلى هنا، ولن تذهب إلى المسرح. - من أدراك بهذه الأسرار كلها؟ - عفوا ... سنتزوج ... - هه؟! - اتفقنا على الزواج. - يا ابن ... أنت مجنون؟ ... ماذا تقول؟ - حلمك ... نريد أن نكون شرفاء معك ... دعني ...
لطمته، تنمر بغتة بوجه يموج بالعدوان، ولكمني. شاب قوي رغم السحابة على عينه اليسرى. دار رأسي، جاء كرم يونس، وجاءت حليمة. تساءلا: ماذا حدث؟
صرخت: شيء مضحك ... رواية هزلية ... المحروس سيتزوج من تحية!
تساءل كرم ببرود مدمن ذاهل دائما : حقا؟!
وهتفت حليمة مخاطبة ابنها: تحية؟! ... أي جنون؟ ... إنها أكبر منك بعشرة أعوام!
لم ينبس، صحت أنا: لعب أطفال ... سأمنع هذا بالقوة.
فصاحت حليمة: لا تزد الأمور سوءا.
فصرخت بجنون: سأهدم البيت على من فيه!
فقالت لي ببرود: خذ ملابسك، ومع السلامة ...
فغادرت المكان، وأنا أقول بتحد: باق على أنفاسكم حتى النهاية. •••
ذبيح الكرامة، مهين الفحولة، مضغوط القلب، مهجور الأمل، يشتعل قلبه من جديد، بعد أن ظن أن الروتين قد أخمده. كنت أتوهم أن تحية ملكي مثل الحذاء المطيع، كنت أنهرها وأهينها وأضربها، كنت أتصور ألا حياة لها بدوني، وأنها تفرط في حياتها قبل أن تفرط في، فلما تلاشت بحركة مباغتة ماكرة قاسية، تلاشى معها الأمن والثقة والسيادة، وحل الجنون. وبزغ الحب من ركن مظلم غائص في الأعماق، ينفض عن ذاته سبات البيات الشتوي؛ ليبحث عن غذائه المفتقد. لاحت خلف شراعة الباب تلبية لنداء الجرس، عكست عيناها نظرة ارتباك مثل نطق ملعثم، ولكنها لم تتراجع، متحدية أزمة مصيرها. تفرست في الصورة الجديدة المتحررة من الإذعان الأبدي، المتطلعة إلى الجديد، وهي تنزلق فوق الحد الفاصل الذي يستثير كوامن الجريمة. - افتحي الباب يا تحية. - أنت تعرف الآن كل شيء. - هل تتركينني في الخارج كالغريب؟ - طارق، ماذا أقول؟ لعله خير لكلينا، وهو النصيب والقسمة. - إنه عبث وجنون. - كان علي أن أخبرك بنفسي. - ولكني لا أصدق ... افتحي. - كلا ... إني أعاملك بشرف. - ما أنت إلا عاهرة! - حسن ... دعني في سلام. - لن يحدث ذلك أبدا. - سوف نتزوج في الحال. - تلميذ ... مجنون ... نصف أعمى ... - سأجرب حظي. - افتحي الباب يا مجنونة. - كلا ... لقد انتهى كل شيء. - مستحيل ... - ذاك ما حدث. - لن تعرفي الحب إلا بين يدي! - لا يمكن أن تمضي الحياة على ذاك النحو. - لم تبلغي بعد سن اليأس؛ فلم ترتكبين الحماقات؟ - لنفترق بسلام ... أرجوك ... - إنها نوبة يأس خادعة ... - كلا ... - إني خبير بالأطوار الشاذة، التي يتعرض لها أمثالك! - سامحك الله! - يا مجنونة ... متى تغيرت؟ - لم أرتكب في حقك أي خطأ ... - عشت الكذب فترة ما ... - لا تتماد فيما لا فائدة منه. - إنك أول عاهرة.
ولكنها أغلقت الشراعة. •••
بقيت في بيت كرم يونس، عباس يونس ذهب؛ حل محل أبيه في وظيفة الملقن، بعد أن استغنى الأب عنها، اكتفاء بما يدره عليه بيته من أرباح وفيرة. توتر الجو في بادئ الأمر، فتدخل سرحان الهلالي، وهمس في أذني: لا تفسد علينا سهرتنا ... اعقل ... بإشارة تسترد أم هاني ... دخلها ضعف دخل تحية.
الهلالي مجنون نساء، ولكنه لا يعرف الحب؛ عاشر تحية مرة أو مرتين. لا يعترف بما يسمع عن الحب وآلامه، وهو يأمر وينهى في الحب، كأنه أحد الشئون الإدارية، ويطالب بالتنفيذ في الحال. لا أشك في نواياه الطيبة نحوي، وكم هيأ لي من فرص فوق خشبة المسرح، ضاعت كلها بسبب قصور موهبتي، ولكنه يؤمن بنجاحي في مسرحية عباس. وقد بشر أم هاني خياطة الفرقة برجوعي إليها، فرجعت إليها، فرارا من الوحدة، وتدعيما لحالي المالية المتوعكة، وقبل أن أبرأ من التجربة المريرة. لم أتوقع لزواج تحية أي استمرار أو نجاح؛ كانت دائما كثيرة العلاقات، تستكمل أجرها الصغير. لم تحب أحدا سواي رغم فقري، وقد كذبت توقعاتي، فحافظت على الزوجية حتى وفاتها، غير أن المسرحية هتكت ما خفي من سرها. في المسرحية؛ تعترف وهي على فراش المرض بأنها باعت نفسها لضيف أجنبي، وعند ذاك يقرر زوجها في المسرحية قتلها؛ وذلك بأن استبدل بالدواء حبوب أسبرين لا جدوى منها. إذن قد صدقت توقعاتي، وأنا لا أدري، وقتلها الذي أزعجها بمثاليته، الذي أرجو ألا يفلت من العقاب. •••
أي مغامرة!
أجد نفسي وجها لوجه مع عباس، في شقته التي كانت ذات يوم شقة لتحية، اندفع إليها في ذات اليوم الذي قابلت فيه والديه بالمقلى. إنه الآن مؤلف، ووحيد في الشقة. أخيرا أصبح مؤلفا، بعد رفض العشرات من المسرحيات. مؤلف زائف يسرق الحقيقة بلا حياء! دهش لحضوري؛ لا تدهش، ما مضى قد انقضى، ولكن آثاره تطرح نفسها من جديد. وقد صالح بيننا الهلالي ذات يوم فتصافحنا، وما في القلب في القلب. جلسنا في مكتبه؛ الشقة مكونة من حجرتين ومدخل، نتبادل النظر في وجوم، حتى قلت: أنت ولا شك تتساءل عما جاء بي! - لعله خير. - جئت لأهنئك على المسرحية.
فقال بفتور: شكرا. - سيبدأ التدريب غدا. - المدير متحمس لها. - بخلاف المخرج. - ماذا قال؟ - إن البطل قذر جدا، وبغيض جدا، ولن يتعاطف الجمهور معه.
فهز منكبيه استهانة وإن تجهم وجهه. سألته: تشهد جلسة القراءة؟
فقال ببرود: هذا شأني. - ألم تقدر أن حوادث المسرحية ستصب عليك مطرا من الظنون؟ - لا يهمني ذلك. - سيتصورون ولهم الحق أنك قاتل وخائن لوالديك. - سخف لا يهمني.
فانفرط زمامي، وقلت بانفعال: يا لك من قاتل محترف!
فرمقني بازدراء وتمتم: ستظل حقيرا، دائما وأبدا. - أتستطيع أن تدافع عن نفسك؟ - لست متهما كي أطالب بذلك. - سيوجه لك الاتهام أقرب مما تظن. - إنك أحمق.
قمت وأنا أقول: إنها على أي حال تستحق القتل.
وذهبت متمتما: ولكنك تستحق الشنق أيضا! •••
وجدتني في رحاب غضبة هلالية؛ عندما يغضب سرحان الهلالي ينقلب زوبعة. لمعت أنيابه، لمحت الوهج في عينيه اللوزيتين الجاحظتين. صاح: أنت أنت، كما كنت وأنت ابن عشرة، أحمق، لولا حماقتك لاستويت ممثلا مرموقا؛ تأبى إلا أن تتقمص وكيل نيابة! لم زرت عباس يونس أمس؟
هل شكاني إليه الوغد؟ آثرت الصمت حتى تخف العاصفة. صاح: لن تتقن دورك حتى تتفرغ له.
تمتمت بهدوء: بدأنا اليوم.
ثم بهدوء أعمق: مهم أيضا أن ينال المذنب جزاءه.
فصاح متهكما: ما من أحد منا إلا وفي عنقه دين من الذنوب، يستحق عليها السجن! - لكننا لم نقتل بعد. - من يدري؟ ... تحية إن صح أنها قتلت، فقد اشترك في قتلها أكثر من رجل، على رأسهم أنت. - إنه لا يستحق دفاعك عنه. - إني لا أعتبره متهما؛ هل لديك دليل واضح ضده؟ - المسرحية.
فضحك ساخرا، وقال: ما من مسرحية تخلو من اتهام، ولكن النيابة تطالب بأدلة من نوع آخر. - لقد انتحر في المسرحية. - هذا يعني أنه لن ينتحر في الحياة، وإنه لمن حسن الحظ أن يبقى ويكتب. - إنه لم يؤلف سطرا، ولن يؤلف سطرا، وأنت أدرى بما قدم لك من مسرحيات سابقة. - يا طارق رمضان، لا تكن مملا، انتبه لعملك، وانتهز فرصتك، فإنها لن تتكرر. •••
أتدرب على دوري في مسرحية القاتل، أستعيد حياتي مع تحية، بدءا من وراء الكواليس.
أنضم إلى البيت القديم بسوق الزلط. الحب في الحجرة، اكتشاف الخيانة، البكاء في الجنازة.
ويقول لي سالم العجرودي: إنك تمثل كما لم تمثل من قبل، ولكن احفظ النص جيدا. - إني أكرر ما قيل بالفعل.
فضحك قائلا: انس الحياة، وعش في المسرحية.
عند ذلك قلت له: من حسن الحظ أن من حقك التغيير. - لقد غيرت ما اقتضت الضرورة تغييره، فحذفت مشهد الطفل. - عندي فكرة.
فرمقني بضجر، ولكني قلت: البطلة وهي تحتضر، تطلب رؤية عشيقها القديم. - أي عشيق؟ ... ما من ممثل في المسرح إلا عشقها حينا. - أعني العشيق الذي أمثل دوره ... ويذهب إليها، فتعتذر إليه عن خيانتها، وتموت بين يديه. - إنه يقتضي إدخال تعبيرات جوهرية على الشخصية، وعلى العلاقة بين الزوجين. - ليكن. - إنك تقترح مسرحية جديدة ... البطلة نسيت تماما عشيقها القديم. - غير ممكن، وغير طبيعي. - قلت لك: عش في المسرحية، وانس الحياة، أو تفضل بتأليف مسرحية جديدة، فنحن في زمن مؤلفي النزوة والصدفة. - ولكنك حذفت الطفل ودوره! - ذاك شيء آخر؛ إنه غير ملتحم بالأحداث، وقتل وليد بريء خليق بأن يفقد البطل أي عطف. - وقتل زوجة تعيسة؟ - اسمع، مئات من المتفرجين يودون في أعماقهم قتل زوجاتهم. •••
أليس هذا هو كرم يونس؟ بلى! إنه يغادر حجرة المدير. لم يكن بقي على عرض المسرحية إلا أسبوعان، وكنت واقفا أمام مدخل البوفيه، أحاور درية نجمة الفرقة، وبيد كل منا فنجان قهوة. قلت له وهو يقترب منا في بدلة قديمة، ورقبة البلوفر الأسود تطوق عنقه حتى أسفل الصدغين: شرفت المسرح.
فرمقني شزرا، وقال بجفاء: ابعد عن وجهي.
وحيا درية تحية عابرة ومضى. قطعت درية حديثها عن الغلاء، وقالت: جاء ولا شك يسأل عن سر اختفاء عباس.
فقلت بحنق: ما هو إلا اختفاء مجرم.
فقالت درية باسمة: لم يقتل، ولم ينتحر. - لن ينتحر، ولكنه سيشنق.
رجعت تقول: كان يجب أن يقودنا النصر إلى حياة أيسر.
فقلت بسخرية: لا يحيا حياة يسيرة إلا المنحرفون؛ لقد بات البلد ماخورا كبيرا. لم كبست الشرطة بيت كرم يونس وهو يمارس الحياة كما تمارسها الدولة؟!
فقالت درية ضاحكة: نحن في زمن القومية الجنسية. - إني رجل منبوذ من أسرتي العريقة لانحرافي، فلم تحدق بي الخيبة؟ - أيها الخائب الأبدي الذي لم يجد إلا أم هاني حقلا لاستغلاله! •••
ليلة الافتتاح 10 أكتوبر؛ الليل في الخارج يزفر نسمة لطيفة، أما في الداخل فثمة نذير بجو حار. بين المشاهدين كرم وحليمة، الهلالي، فؤاد شلبي؛ أنا الوحيد الذي يكرر دوره الذي لعبه في الحياة فوق الخشبة. إسماعيل يلعب دور عباس؛ حياة البيت القديم تعرض من جديد بكل قصتها، وتلحق بها جرائم جديدة أكثر وحشية. المدير يقامر، ويتسلل إلى حجرة نوم حليمة. الفضائح تتعانق وتتوج بالخيانة والقتل. لأول مرة في حياتي تختم مواقفي بالتصفيق. النجاح خمر. هل تشاهدنا تحية من وراء القبر؟ النجاح خمر. الجمهور غارق في الصمت، أو منفجر في التصفيق. المؤلف المجرم الجبان غائب. أي رد فعل انداح في جوارح كرم وحليمة؟ ستغطيها التجاعيد قبل الهبوط الأخير للستار.
يجمعنا البوفيه للاحتفال التقليدي، لأول مرة في حياتي تحس الأبصار بوجودي؛ إني شخص جديد تماما. تحية تخلق من العدم أكثر من رجل. ارتسمت على فم أم هاني ابتسامة واسعة تتسع لتسلل بولدج. وراء كل عظيم امرأة. قال لي سرحان الهلالي: ألم أقل لك؟
وقال فؤاد شلبي: مولد ممثل كبير.
إسماعيل نفسه تجلت في ابتسامته المتكلفة الغيرة، مثلت العشق والبرمجة والجنون ... ملأت بطني بالشويرمة والكونياك. تحالف الكونياك مع خمر النجاح، حتى نخب المؤلف شربته. رأيت حليمة في التايير الذي استأجرته من أم هاني.
غادرت المسرح حوالي الثالثة صباحا. أم هاني تتأبط ذراعي وأنا أتأبط ذراع فؤاد شلبي. قال: هلم نتمش في القاهرة في الوقت الوحيد الذي يتاح لها فيه الوقار.
قالت أم هاني: بيتنا بعيد. - معي سيارتي ... تلزمني بعض المعلومات.
سألته: ستكتب عني؟ - طبعا.
ضحكت عاليا، رحت استجابة له أتحدث عن الماضي. - ولدت بمنشية البكري ... فلتان متجاورتان ... آل رمضان، وآل الهلالي ... رمضان أبي كان لواء بالسواري، من باشوات الجيش القديم ... الهلالي من ملاك الأرض ... أنا البكري وسرحان الوحيد ... لي أخ قنصل، وأخ مستشار، وأخ مهندس ... باختصار؛ طردنا أنا وسرحان من المدرسة الثانوية بلا ثمرة، ولكن بخبرة واسعة ببيوت الدعارة والحانات والمخدرات ... لم يترك أبي شيئا ... ورث سرحان سبعين فدانا ... أنشأ فرقة حبا في الإدارة والنساء ... عملت معه ممثلا ... انقطع ما بيني وبين إخوتي ... أجر بسيط ... ديون نثرية كثيرة ... لولا النسوان ...
ندت عن أم هاني آهة. تساءل فؤاد: طبعا كان لك نشاط سياسي؟
ضحكت مرة أخرى. - لا أنتمي إلا للحياة ... أنا وكرم يونس توءمان روحيان ... يقال: إنه مدين في نشأته إلى أم عاهرة ... حسن، لقد نشأت أنا في أسرة، فكيف تفسر تماثلنا؟ ... هذا يعني أن الموهبة لا تتأثر بالبيئة! كلانا يحتقر الحياة المحترمة ... الحق أن ما يفرق بيننا وبين الآخرين هو أننا صادقون، أما الآخرون فمنافقون.
تساءلت أم هاني: هل ستكتب هذا الهذيان؟
فقلت متحديا: فؤاد نفسه من حزبنا!
فتمتم في مرح: يا لك من وغد ... ولكن ألا تؤمن بوجود أخيار بكل معنى الكلمة؟ - طبعا، مثل الأستاذ عباس مؤلف «أفراح القبة» ... إنه مثالي كما تعلم؛ لذلك زج بوالديه في السجن، وقتل زوجه وابنه!
سألته أم هاني: ماذا ستكتب؟
فقال وهو يتجه بنا نحو سيارته الفيات: لست مجنونا مثله.
غادرنا السيارة أمام الحارة بالقلعة، منعه من الدخول طفح المجاري، سرنا على طوار متآكل، ونشوتنا تخمد تحت وطأة الرائحة الكريهة! هل يتواصل النجاح ويتغير الحال؟ هل أتحرر من هذه الحارة الكئيبة، وهذه المرأة الخمسينية التي تزن مائة كيلو؟!
أنا وتحية نغادر البيت القديم بسوق الزلط، في طريقنا إلى المسرح. حبكت معطفها الأسود حول جسمها الناضج، واخترقنا موجة من البرد في عتمة المساء. يخطر لي أن جسمها معد للفراش لا للمسرح، وأننا في خيبة الموهبة سواء. قلت لها: ونحن نحتسي الشاي، ضبطت الولد يختلس إليك نظرة جائعة. - عباس؟ ... إنه مراهق! - سيعمل ذات يوم قوادا ماهرا. - إنه مؤدب ، متبرئ من بيته! - ابن كرم وحليمة، وفي هذا العصر العجيب؛ ماذا تنتظرين؟
الآن أدرك أنني لم أفطن إلى ما كان يدور في نفسها. •••
يقول لي سرحان الهلالي ضاحكا: ما تصورتك قط في صورة عاشق حزين. - وهل تصورت ذات يوم أننا نعبر القنال وننتصر؟ - إنها مثلك في الفقر. - حدثها ... أرجوك. - يا مجنون ... لقد قررت هجر المسرح ... إنه سحر الزواج. - يا للشيطان ... إني أكاد أجن! - إنه الغضب ليس إلا ... - صدقني. - البرمجي لا يحتمل الهزيمة. - ليس الأمر كذلك. - بل هذا هو كل شيء ... ارجع من فورك إلى أم هاني؛ لأنك لن تجد من يقرضك.
بعد تردد قلت: أحيانا يخيل إلي أن الله موجود!
فقهقه قائلا: طارق يا ابن رمضان ... حتى للجنون حدود! •••
نجاح «أفراح القبة» مستمر؛ نجاحي يتوكد ليلة بعد أخرى. أخيرا صادف الهلالي المسرحية التي تثري مسرحه، قرر لي مكافأة يومية أنعشت روحي وجسدي. وسألني فؤاد شلبي: أعجبك ما كتبت عنك؟
فشددت على يده بامتنان، وقلت: بعد أكثر من ربع قرن، تظهر لي صورة في المجلة. - لن تتراجع بعد اليوم ... أما علمت! لقد ظهر المؤلف المختفي. - حقا؟! - زار أمس الهلالي في مسكنه؛ أتعرف لماذا؟ - هه؟ - طالب بحصة من الأرباح.
قهقهت عاليا حتى أزعجت عم أحمد برجل وراء البوفيه، وقلت: ابن حليمة! ... وماذا كان رد الهلالي؟ - أعطاه مائة جنيه. - خسارة في عينه. - لقد أصبح بلا عمل، وهو منكب على كتابة مسرحية جديدة. - ابتزاز ... وهيهات أن يكتب جديدا ذا قيمة. - فال الله ولا فالك! - وأين كان مختفيا؟ - لم يبح بسره لأحد. - أستاذ فؤاد، ألم تقتنع بتجريمه؟ - لم يقتل تحية؟ - لاعترافها بخيانته.
فهز منكبيه، ولم ينبس. •••
عندما رأيت النعش يتهادى من مدخل العمارة، اجتاح جوفي فراغ مخيف، تمادى حتى لفظني في العدم. هجم علي البكاء هجمة غادرة فأجهشت، الصوت الوحيد الذي أثار المشيعين، حتى عباس كان جاف العينين. رجعت في سيارة سرحان الهلالي، قال لي: عندما سمعت بكاءك ... عندما رأيت منظرك ... كدت أنفجر ضاحكا لولا ستر الله.
قلت باقتضاب: كان مفاجأة لي أيضا. - لا أذكر أنني رأيتك باكيا من قبل.
فقلت باسما: لكل جواد كبوة.
أرجع الموت ذكريات الحب والهزيمة. •••
سمعت بالخبر في مقهى الفن، قبل الذهاب إلى المسرح، هرعت إلى حجرة سرحان الهلالي، سألته: الخبر صحيح؟
فأجابني بوجوم: نعم، كان عباس يقيم في بنسيون في حلوان ... غاب طويلا ... عثر على خطاب في حجرته يعترف فيه بعزمه على الانتحار. - هل عثر على جثته؟ - كلا ... لم يعثر له على أثر. - هل ذكر أسبابا لانتحاره؟ - لا ... - هل اقتنعت بانتحاره؟ - لم يختفي والنجاح يدعوه للظهور والعمل؟
وفصل بيننا صمت كئيب، حتى سمعته يتساءل: لم ينتحر؟
فقلت: لنفس الأسباب التي انتحر من أجلها بطل مسرحيته. - إنك مصر على اتهامه. - أتحدى أن تجد سببا آخر.
انفجر الخبر في الوسط الفني، وبين جمهور المسرح. لم يسفر البحث عنه عن شيء. اتخذت الإجراءات المألوفة في هذه الأحوال. داخلني شعور عميق بالارتياح؛ قلت لنفسي: لن يعرف نجاح المسرحية حدودا يقف عندها.
كرم يونس
الخريف نذير، فهل نحتمل برودة الشتاء؟ عمر ينقضي في بيع الفول السوداني واللب والفشار. وهذه المرأة التي قضي علي بها مثل السجن؛ لم نسجن في بلد تستحق غالبيته السجن؟ قانون مجنون لا يدري كيف يحترم نفسه. ماذا سيفعل كل هؤلاء الصبية؟ انتظر حتى تشهد هذه البيوت القديمة وهي تنفجر! التاريخ يحزن لتحوله إلى قمامة، المرأة لا تكف عن الأحلام؛ ولكن ما هذا؟ من هذا؟ شبح من الماضي. إلي بخنجر مسموم! ماذا تريد يا مستنقع الحشرات؟ قلت لحليمة بامتعاض: انظري ...
دهشت، تساءلنا: أيجيء للتهنئة أم للشماتة؟ - ها هو يقف ملقيا بابتسامته الكريهة، بعينيه الضيقتين، وأنفه الغليظ، وفكه القوي العريض! كن جافا معه مثل الزمن. - طارق رمضان! ... ماذا جاء بك؟
وقالت حليمة منفعلة: أول زيارة من أهل الوفاء مذ رجعنا إلى سطح الأرض.
فقال طارق: ما أنا إلا غريق من الغرقى.
فقلت بحنق: جئت من الماضي كذكرى من أسوأ ذكرياته.
وشغلت عنه بزبون، ثم رمقته بازدراء، فقال: معي أخبار سيئة!
فقالت حليمة: لا تهمنا الأخبار السيئة. - حتى لو تكون عن الأستاذ عباس يونس؟
فقلت: إنه ابن بار ... عرض علي أن أعود إلى المسرح، فلما رفضت أنشأ لنا هذه المقلى.
وقالت المرأة: وقد قبلت مسرحيته.
لكنه ما جاء إلا من أجل المسرحية؛ هل أعمته الغيرة؟ يطيق الموت، ولا يطيق أن ينجح عباس؛ فليمت بغيظه! إنك أصل البلاء، لا يفهمك مثلي؛ فنحن من خرابة واحدة. قال: المسرحية تدور في هذا البيت، عنكم، وتهدي إلينا جرائم جديدة لم تخطر ببال أحد. أيمكن ذلك؟ عباس لم يقل لنا كلمة عن موضوعه، لكنه شاب مثالي. تساءلت: ماذا تعني؟ - كل شيء ... كل شيء ... ألا تريد أن تفهم؟
ماذا يعني؟ لماذا يفضح عباس نفسه؟ سألته: حتى السجن؟ - وأنه هو الذي وشى بكما إلى الشرطة، وهو الذي قتل تحية. - إنه لسخف. - وتساءلت المرأة: ماذا تعني يا عدو عباس؟
وتساءلت رغم انقباض قلبي: أليست مسرحية؟
وقالت حليمة: لديه التفسير الصحيح. - شاهدا المسرحية بنفسكما. - أعماك الحقد. - بل الجريمة. - ما مجرم إلا أنت!
وقلت له وانقباض قلبي لا يزايل قلبي: حاقد مجنون ... ابني عبيط، ولكنه ليس خائنا ولا قاتلا.
فصاح: يجب القبض على قاتل تحية.
اشتبك مع المرأة في خصام جارح وأنا شارد في أفكاري، حتى سألته بخشونة: ماذا تريد؟
وطردته شر طردة! •••
غصت في بئر، لا يمكن أن يجيء من آخر الدنيا ليلقي بأكاذيب يسير كشفها؛ إنه وغد ولكنه ليس أحمق. لا قدرة لي على الانفراد بوساوسي. نظرت نحو المرأة، فالتقيت بعينيها تنظران نحوي؛ إننا غريبان يجمعهما بيت قديم، لولا إشفاقي من إغضاب عباس لطلقتها. عباس وحده الذي يجعل للحياة طعما مقبولا؛ إنه الأمل الوحيد الباقي. تمتمت المرأة: إنه يكذب.
فسألتها وأنا أشد منها التماسا لنقطة رحمة: ولم يكذب؟ - ما زال يحقد على عباس. - ولكن هناك مسرحية أيضا. - لا نعرف عنها شيئا، اذهب إلى عباس. - سأقابله حتما. - ولكنك لا تتحرك!
إني خائف، إنها غبية وعنيدة. قلت: لا داعي للعجلة. - يجب أن يعرف ما يدبر من وراء ظهره. - وإذا اعترف؟ - ماذا تعني؟ - إذا اعترف بأن مسرحيته تحوي ما قال الوغد؟ - ستجد التفسير المريح . - لا أدري. - لم يفضح نفسه إذا كان قاتلا حقا؟ - لا أدري ... - تحرك ... هذا هو المهم. - سأذهب طبعا. - أو أذهب أنا. - ليس عندك ملابس صالحة ... صادروا نقودنا ... ضربني المخبر الكلب. - ذاك تاريخ مضى ... فكر الآن فيما نحن فيه. - الوغد كاذب. - يجب أن تسمع بأذنك. - لم يكن يوافق على حياتنا ... كان مثاليا كأنه ابن حرام ... ولكنه لا يغدر بنا، ثم لماذا يقتل تحية؟ - إنك تستجوبني أنا؟ - إني أفكر. - لقد صدقت ما قال الوغد. - وأنت أيضا تصدقينه. - يجب أن نسمعه. - الحق أنني لا أصدق! - إنك تهذي ... - اللعنة! - اللعنة حلت يوم ارتبطت بك! - ويوم ارتبطت بك. - كنت جميلة. - هل رغب فيك أحد غيري؟ - كنت دائما مرغوبة ... إنه سوء الحظ. - كان أبوك ساعي بريد، أما أبي فكان موظفا في دائرة الشمشرجي. - ذلك يعني أنه كان خادما.
_ أنا من أسرة. - وأمك؟ - مثلك تماما. - مخرف ... ولكنك لا تريد أن تذهب. - سأذهب عندما يروق لي.
تشتت فكري، ليكن ما يكون، لن يصيبنا أسوأ مما أصابنا. ألم نبدأ - أنا وهذه المرأة - من ملتقى مفعم بالحرارة والرغبة والأحلام الجميلة؟ ... أين نحن من ذلك الآن؟ ولكن يجب أن أذهب على أي حال؛ لعل العصر هو أنسب الأوقات. •••
لم أعرف مسكن ابني من قبل. منذ زواجه انفصلنا، لم يكن بيننا خير؛ كان يرفض حياتنا ويحتقرها، فنبذته واحتقرته، وبانتقاله إلى بيت تحية تحررت من نظراته الممتعضة. أسعى إليه الآن بعد أن لم يبق أمل غيره؛ تلقانا بعد السجن ببر ورحمة، فكيف يكون هو الذي زج بنا فيه؟ سألت البواب عنه، فقال: ذهب منذ ساعتين حاملا حقيبة. - سافر؟ - قال إنه سيغيب بعض الوقت. - ألم يترك عنوانه الجديد؟ - كلا.
ذهلت، حدث ما لم أتوقعه. لم لم يخبرنا؟ هل بلغته اتهامات طارق له؟ وبازدياد قلقي، قررت أن أقابل سرحان الهلالي. ذهبت إلى مسرح الغد بعماد الدين، وطلبت المقابلة، فسرعان ما أذن لي. وقف مرحبا بي وهو يقول: أهلا، حمدا لله على السلامة ... لولا ظروفي لزرتك مهنئا. - سرحان بك، عذر غير مقبول.
فضحك ولم يكن شيء يحرجه أو يربكه، وقال: لك حق. - إنها عشرة طويلة؛ لقد قضيت عمرا ملقنا لفرقتك، وفتحت لك بيتي حتى قبض علي ... - إنني مخطئ في حقك ... تشرب قهوة؟ - لا قهوة ولا شاي، إني قادم بخصوص عباس ابني. - تقصد المؤلف المثير؟ ... ستنجح مسرحيته يا كرم نجاحا غير عادي، وأنت أدرى الناس بإحساسي. - عظيم ... ولكني لم أجده في مسكنه، وقال البواب إنه حمل حقيبته وذهب. - وماذا يقلقك من ذلك؟ ... إنه شارع في تأليف مسرحية جديدة ... ولعله وجد مكانا هادئا. - بلغتني أشياء عن موضوع المسرحية، فخفت أن يكون لذلك علاقة بذهابه. - تفكير خاطئ يا كرم. - طارق حاقد، وهو ...
فقاطعني: لا تحدثني عنه، فإني أعلم به، ولكن لا داعي للقلق على ابنك على الإطلاق. - أخشى أن يكون قد ...
وسكت، فقال ضاحكا: المسرحية خيال، ولو كانت ... - خبرني عن رأيك بصراحة! - لم أشغل عقلي دقيقة إلا بالمسرحية نفسها ... ما ارتكبه البطل في المسرحية في صالح المسرحية، هذا ما يهمني. - ولكنه وشى بوالديه وقتل زوجته؟ - خير ما فعل. - ماذا تعني؟ - ذلك ما خلق المأساة. - ألم تشعر بأن ذلك قد حدث فعلا في الحياة؟ - لا يهمني ذلك ألبتة! - أريد أن أعرف الحقيقة. - الحقيقة؛ المسرحية عظيمة، وأنا كما تعلم مدير مسرح لا وكيل نيابة. - وأنا معذب!
فضحك الهلالي، وقال: لا أدري شيئا عما تتحدث عنه، ثم إنك لم تكن تحبه قط! - الحاضر غير الماضي، وأنت سيد من يفهم. - المسرحية مسرحية لا أكثر من ذلك، وإلا جاز للقانون أن يدخل 90٪ من المؤلفين قفص الاتهام. - إنك لا تريد أن تريحني! - ليتني أملك ذلك يا كرم، لا تشغل نفسك بأوهام سخيفة، ولن يشاركك فيها إلا قلة من الأصدقاء المعروفين، أما الجمهور فلن يخرج عن حدود المسرحية. لماذا رفضت أن ترجع إلى وظيفتك القديمة كملقن للفرقة؟ - شكرا، اقترح عباس ذلك مؤيدا اقتراحه بموافقتك، ولكني لا أحب الرجوع إلى الماضي.
فضحك الهلالي، وقال: إني أفهم ذلك، أنت الآن سيد نفسك، ولعل المقلى أربح؛ ليكن يا عزيزي، ولكن لا تقلق على عباس، إنه يبني نفسه، وسيظهر في الوقت المناسب.
انتهت المقابلة، غادرته وأنا أنوء باحتقاري للجنس البشري. لا أحد يحبني ولا أحب أحدا، حتى عباس لا أحبه وإن تعلق به أملي، الغادر القاتل! ولكن فيم ألومه وأنا مثله؟ لقد تقشر الطلاء عنه فتجلى على حقيقته الموروثة عن أبيه، الحقيقة المعبودة في هذا الزمان، التي توشك أن تعلن ذاتها بلا نفاق. ما الفضيلة إلا شعار كاذب يتردد في المسرح والجامع! كيف زج بي في السجن في زمن الشقق المفروشة وملاهي الهرم؟ من هذا؟ صادفت طارق رمضان أمام باب البوفيه، مد إلي يد ثعبان فرفضته، قلت له أن ابعد عن وجهي. •••
لم أخطئ؛ أليس هذا هو زمن المخدرات؟ وأنا رجل بلا قيود، لا أخلص إلا للغريزة؛ مثلي تماما أولئك الرجال، ولكنه الحظ وحده. تقول حليمة: أتظن أن أجري وحده يكفي للإنفاق على بيتك وابنك؟ - إني على أتم الاستعداد للشجار! - الأفيون يهدم كل شيء. - فليهدم كيف شاء. - وابنك؟ ... إنه ولد رائع جدير بالرعاية!
لم أخطئ، لقنتني أمي مبادئ الصواب الأبدي. حليمة ترغب في تمثيل دور السيدة المحترمة، وتتناسى ماضيها الداعر. لن أسمح للنفاق بالمعيشة في بيتي.
وقلت للهلالي: إنكم تتعبون أحيانا للعثور على بيت مناسب؛ إليكم بيتي.
حدجني باهتمام، فقلت: في أعماق باب الشعرية، الجن نفسه لن يرتاب فيه!
لم أخطئ، البيت القديم يتجدد على مبادئ جديدة، ينفض عنه الغبار، تتأهب أوسع حجرة فيه لاستقبال القادمين من الجحيم. أحترم هؤلاء العظام الذين يمارسون الحرية بلا نفاق؛ الهلالي والعجرودي وشلبي وإسماعيل وطارق وتحية. أعد أيضا مخزنا من الأطعمة الجافة والشراب والمخدرات. حليمة تتوثب للنفاق، إني لا أرحم المنافقين! تثوب إلى حقيقتها الكامنة، تمسي ربة البيت الجديد بكل كفاءة. جميلة وذكية وحرة مثلي وأكثر، جديرة بقيادة ماخور. أمطرت السماء ذهبا، ولكن لم ينظر الولد إلينا بامتعاض؟ ابن من أنت؟ من أبوك؟ من أمك؟ من جدتك؟ ابن حرام أنت، ابن الكتاب والمسرح، وتصدق النفاق يا غبي. وتقول حليمة: الولد يقتله الحزن. - ليقتله الحزن، كما يجدر بأي غبي. - إنه يرفض. - لا أحب هذه الكلمة. - إنه يستحق الرحمة. - إنه يستحق القتل.
أصبح يمقتني، ويقتلع الحب القديم من قلبي. - انتبه لحياتك ... عش الواقع ... قلة نادرة تظفر بمثل طعامك ... انظر إلى الجيران ... ألا تسمع عما يجري في البلد؟ ألا تفهم؟ من أنت؟
عيناه تعكسان نظرة غريبة، إنه يعيش خارج أسوار الزمن؛ ماذا يريد؟ اسمع موعظة، هذا البيت بناه جدك، لا أدري عنه شيئا، جدتك جعلت منه مهدا لغرامها. أرملة وشابة ولا تختلف عن أمك. أبوك نشأ في أحضان الحقيقة، أود أن أحكي لك كل شيء؛ هل أخشاك؟! لولا أن عاجلت الوفاة جدتك، لتزوج منها الباشجاويش، ولضاع البيت. أراد أن يستولي علي بعد وفاتها، ولكني ضربته؛ لذلك سعى حتى جندت في الجيش القديم، ولكن البيت بقي. أم هاني قريبة أمي، وقوادة الهلالي؛ كانت الوساطة لأتعين ملقنا بالفرقة. أود أن ألقي عليك هذه السيرة ذات يوم؛ لتعرف أصلك، وتنتمي بلا مقاومة كاذبة إلى مبادئك الحقيقية. كن مثل أبيك ليجمعنا الحب كما كان وأنت صغير، ولا تنخدع بنفاق أمك. ستعرف كل شيء ذات يوم. هل أخشاك يا ولد؟! •••
رجعت إلى المقلى، فسألتني حليمة بلهفة: ماذا قال لك؟ - لم أقابله؛ غادر الشقة إلى مكان مجهول حاملا حقيبته.
ضربت فخذيها بقبضتيها، وقالت: مكان مجهول! ... لم لم يخبرنا؟ - من أدراك أنه يفكر فينا؟ - إنه هو الذي فتح لنا هذه المقلى. - وانتهى منا؛ إننا بالنسبة له اليوم ماض يحسن نسيانه. - إنك لا تفهم ابني؛ ليتك ذهبت إلى الهلالي!
صمت متأثرا بدفقة غيظ مجهولة البواعث فراحت تقول: إنك لا تحسن التصرف!
فقلت بازدراء: أود أن أفلق رأسك! - هل رجعت إلى الأفيون؟
فقلت ساخرا: لا يطمع إليه اليوم إلا الوزراء!
ثم استطردت: الهلالي لا يدري شيئا عن مكانه.
فتساءلت بقلق: زرته؟ - لا يدري شيئا عن مكانه. - أين ذهب ابني؟ هل أخلى شقته؟ - لا. - سيرجع ... لعل في الأمر امرأة. - تفكير ينسجم مع امرأة مثلك!
فهتفت: لا يهمك أمره، لا يهمك إلا نفسك. - قضي علي بأن أخرج من سجن إلى سجن.
فقالت بحنق: أما أنا فإني أعيش في زنزانة !
ومن شدة القهر نشجت باكية، فتضاعف حنقي عليها، وتساءلت في غرابة: كيف أحببتها ذات يوم؟ •••
البوفيه الأحمر، جدرانه وسقفه مطلية بحمرة قاتمة، كذلك أغطية مناضده وبساطه السميك. اتخذت مجلسي أمام طاولة الساقي عم أحمد برجل، على كرسي جلدي طويل إلى جانب أنثى لم أتبينها. قدم لي كالعادة سندوتش فول وفنجان شاي. وبالتفاتة لا بد منها، بهرني شباب ذو جمال رائق. أدركت أنها مثلي موظفة في المسرح؛ ففي الساعة الثامنة لا يتواجد أحد من الخارج. سمعت عم أحمد يسألها: هل من جديد عن الشقة يا آنسة حليمة؟
فأجابت بصوت دسم: البحث عن الذهب أسهل.
واندفعت متأثرا بانبهاري: هل تبحثين عن شقة؟
فأحنت رأسها بالإيجاب، وهي تزدرد رشفة شاي، فقال عم أحمد يعارف بيننا: السيد كرم يونس ملقن الفرقة. آنسة حليمة الكبش قاطعة التذاكر الجديدة.
فسألت بجرأة لا تنقصني: من أجل زواج؟
فأجاب عم أحمد عنها: إنها تقيم مع خالتها في شقة صغيرة مكتظة، وتحلم بشقة صغيرة خاصة، ولكن هناك عقبة الإيجار، وعقبة خلو الرجل.
وقلت بلا تريث: عندي بيت.
فالتفتت نحوي باهتمام لأول مرة متسائلة: حقا؟ - بيت كبير؛ إنه قديم، ولكنه مكون من طابقين. - الطابق شقة؟ - كلا ... إنه ليس مقسما إلى شقق.
فسألني عم أحمد: ممكن تستقل بطابق؟ - ممكن جدا.
فسألت هي: ألا يضايق ذلك الأسرة؟ - إني أقيم فيه وحدي.
فرفعت حاجبيها معرضة عني، فقلت مدافعا عن حسن نيتي: ستجدين الطابق آمنا أنت وأسرتك.
فلم تنبس معتبرة الموضوع منتهيا، أما عم أحمد فسألني: وكم الإيجار؟ - لم يستأجره أحد من قبل، ولست طماعا بحال.
فسألني جادا: هل آتيك بساكن؟
فقلت بنبرة إعلامية: لا أود ذلك؛ إنه بيت الأسرة وله ذكرياته، وإنما أردت أن أقدم خدمة للآنسة، بصفتها زميلة لي في المسرح.
فضحك عم أحمد برجل، وقال: أعطنا فرصة للتفكير، وربنا يسهل.
وذهبت الآنسة مخلفة في نفسي انتعاشا وحيوية ورغبة حريفة. •••
ها هي مقوسة فوق كرسيها متشابكة الذراعين، تعكس عيناها نظرة قرف ممتعضة، وتنعقد فوق جبينها تكشيرة كاللعنة؛ أليست الوحدة خيرا من عشير النكد؟ أين الانبهار القديم؟ أين سكرته المشعشعة؟ في أي مستقر من الكون تحنطت؟ •••
كلما رأيتها في البوفيه الأحمر، قلت لنفسي: «هذه الفتاة تستحوذ علي كالجوع.» إني أتخيلها تمرح في البيت القديم، تجدد شبابه، تدفئ دماءه؛ أتخيلها وهي تشفيني من عللي المزمنة.
ودأب عم أحمد برجل على تشجيعي كلما انفرد بي. قال لي مرة: حليمة قريبة لي من ناحية أمي ... متعلمة وذكية ... أنا من سعيت عند الهلالي بك لإلحاقها بعملها.
فشجعته بدوري قائلا: بنت ممتازة حقا! - خالتها طيبة، والبنت ذات خلق. - لا شك في ذلك.
ورمقني بابتسامة سكرت بها رغبتي المتحفزة. استسلمت لأنامل ناعمة، لنعاس مهدهد بأحلام اليقظة، وانفسحت أمامي عذوبة الحواس الطاغية. قلت له ذات يوم: يا عم أحمد، إني أرغب بصدق.
أدرك البقية المضمرة من كلامي، وتمتم بانشراح: جميل وحكيم. - لا دخل لي سوى أجري، ولكني أملك المسكن، وهو امتياز لا يستهان به في هذه الأيام. - الرغبة في الستر أهم من الظواهر.
وفي نفس الأسبوع استقبلني قائلا: مبارك يا كرم.
دخلت منطقة الظل الحنون، منطقة الخطوبة الصافية، منطقة شفافة يمتزج في نسيجها الحريري وشي الحلم وعذوبة الواقع. أهدتني كيسا جلديا تصطف في ثغراته وعلاقاته أدوات حلاقة الذقن، فسعدت به في طفولة، وإذا بسرحان الهلالي يرفع أجري جنيهين، مهنئا إياي بحياتي الجديدة، واحتفل بنا رجال المسرح في البوفيه، وشيعونا بالأزهار والحلوى. •••
فيم تفكر المرأة؟ ... يدها المعروقة تعبث بالفشار، ولا ينطوي رأسها على فكرة مريحة واحدة. قضي علينا أن نتبادل الضجر في هذه الزنزانة. القاذورات منتثرة فوق أديم الشارع العتيق، محددة له معالم جديدة تحت دفقات الضوء. هبات الهواء تطير ما خف منها، فيزحم أقدام صبية لا حصر لهم. فيم تفكر المرأة؟ •••
ليلة الدخلة؟ أجل، عند صياح الديكة، وقد جذبتنا الحقيقة نحو بؤرة خانقة، وغابت الأعين فلم يبق إلا التاريخ. انقبض قلبي حيال الحيرة المقتحمة، كدت أتصور أن الوجود قد مات لولا تصاعد النحيب المكتوم، وقال النحيب كل شيء، وتمتمت: لن أسامح نفسي.
حقا؟ ... وتمتمت أيضا: كان يجب أن.
ماذا؟ ... لا داعي لمزيد. وأيضا تمتمت: لكنني أحببتك.
عرفت سرها، ولكنها لم تعرف سري بعد. من أين لها أن تعلم أن رجلها ينحدر إليها من عهد سابق على التاريخ؟ من أين لها أن تتصور مدى حريته؟ لم أكترث للعبة، كانت مجرد دهشة فقط، وحتى الدهشة استسخفتها، وقلت بسخرية عميقة: لا يهمني الماضي.
فأحنت رأسها ربما لتخفي ارتياحها، وقالت: إني أحتقر الماضي، وأولد من جديد.
فقلت بنبرة عادية: هذا حسن.
نبذت أي رغبة في مزيد من المعرفة (لست غاضبا ولا مبتهجا، ولكني أحبها)، وانغمست في حياتي الجديدة بحرارة صادقة. •••
تمر الساعات، فلا نتبادل كلمة واحدة، مثل حبات الفول السوداني. ما من زبون يجيء إلا ويشكو الغلاء، والمجاري الطافحة، والطابور المهلك أمام الجمعية الاستهلاكية؛ أبادله العزاء. ربما نظر إلى المرأة متسائلا: ما لك ساكتة يا أم عباس؟
أي أمل أرتقبه أنا؟ هي على الأقل تنتظر عودة عباس! •••
انغمست في الزوجية بحرارة صادقة، انزعجت عندما وافتني ببشائر الأمومة، ولكنه كان انزعاجا عابرا.
وقد عشقت عباس في طفولته، وبدأ كل شيء يتغير منذ قال لي طارق رمضان: حوار هملت صعب ... ذوب هذه في فنجان شاي.
بدأت رحلة جديدة جنونية؛ صادف الإغراء رجلا لا يهمه شيء، وكانت ينابيع الحياة تجف، ومسراتها تختنق في قبضة أزمة قاسية. وتقول حليمة: أتريد أن تنفق أجرك على السم، وتتركني أواجه الحياة وحدي؟
أي صوت قبيح كأنما يصدر عن المجاري الطافحة. صرنا مثل شجرتين متعريتين؛ الجوع يطرق باب البيت القديم.
وذات يوم قلت لها بارتياح: نهاية حميدة. - عم تتحدث؟ - فلنعد الحجرة الشرقية للعب. - هه ...؟! - سيجيئون كل ليلة ولن نشكو الفقر.
رمقتني بنظرة غير متوقعة لخير، فقلت: الهلالي، العجرودي، شلبي، إسماعيل. أنت فاهمة، ولكن علينا أن نعد لهم ما يلزمهم. - إنه قرار خطير. - لكنه حكيم ... أرباحه خيالية. - لم يكفنا أن يقيم عندنا طارق وتحية ... نحن نتدهور. - نحن نرتفع ... ليسكت صراخك وصراخ ابنك. - ابني ملاك ... إنه الرعب له! - عليه اللعنة إن تحدى أباه ... إنك تفسدينه بأفكارك السخيفة.
إنها تستسلم بامتعاض. أنسيت ليلة الدخلة؟ عجيب أن يطمح أناس للتحرر من الحكومة على حين يرسفون بكل ارتياح في القيود الكامنة في أنفسهم. •••
ها هي راجعة من مشوارها، لولا خدمتها في البيت لتمنيت ألا ترجع، ينم وجهها عن الخيبة. لم أسألها عن شيء، أهملتها حتى قالت متنهدة: ما زالت شقته مغلقة.
رحبت بزبون لأتجنبها، فلما ذهب قالت بحدة كريهة: افعل شيئا.
غبت عنها راجعا إلى فكرة طالما أثارتني، وهي كيف تزج الحكومة بنا في السجن من أجل أفعال ترتكبها هي جهارا؟ ألا تدير هي بيوتا للقمار؟ ألا تشجع المواخير المعدة للضيوف؟ إني معجب بسلوكها، ولكني ثائر على نفاقها الظالم. وارتفع صوت المرأة وهي تقول: اذهب مرة أخرى إلى المدير.
فقلت ساخرا: اذهبي إليه بنفسك؛ فهو أقرب إليك مني!
فهتفت بحنق: الله يرحم أمك! - على أي حال؛ لم تكن منافقة مثلك!
فتأوهت قائلة: إنك لا تحب ابنك، ولم تحبه قط. - لا أحب المنافقين، ولكني لا أنكر مساعدته لنا.
فولتني ظهرها متمتمة: ترى أين أنت يا عباس؟! •••
أين سرحان الهلالي؟ غادر مجلسه، ولكنه لم يرجع. لا يمكن أن ينام في دورة المياه. اللعب مستمر، وأنا أجمع نصيبي عقب كل دورة. أين حليمة؟ أما آن لها أن تقدم شيئا من الشراب؟ أتساءل: أين المدير؟
لم يجب أحد، كل مشغول بورقاته. ترى هل حدجني طارق بنظرة ساخرة؟! يجب أن تقدم حليمة شيئا من الشراب. - يا حليمة!
لا جواب؛ لن أتخلى عن موقعي، وإلا سرقت. - يا حليمة!
دوى صوتي عنيفا، جاءت بعد قليل. - أين كنت؟ - غلبني النوم. - أعدي شرابا ... وحلي محلي حتى أرجع.
غادرت حجرة اللعب، صادفت عباس في صالة الدور الأول؛ سألته: ماذا أيقظك في هذه الساعة؟ - أرق طارئ. - أرأيت سرحان الهلالي؟ - غادر البيت. - متى؟ - منذ قليل ... لا أدري بالضبط. - هل رأته أمك؟ - لا أدري!
لم ذهب؟ ... لماذا ينظر إلي الولد واجما؟ ... إني أشم رائحة غريبة. إني أي شيء، ولكني لست مغفلا. وعندما لم يبق في البيت إلا أعقاب السجائر والكئوس الفارغة، رمقت المرأة بنظرة طويلة، ثم سألتها: ماذا حدث من وراء ظهورنا؟
فرمقتني بازدراء، وتجاهلتني تماما، فعدت أسأل: عباس رأى؟
فلم تجب، وازددت غضبا ... فقلت: إنه هو الذي ألحقك بالعمل!
فضربت الأرض بقدمها، فقلت بسخرية: لا شيء بلا ثمن، هذا ما يهمني، أما أنت فلا تستحقين الغيرة!
اندفعت نحو حجرتها، وهي تقول: إنك أحقر من حشرة!
فقلت مقهقها: إلا حشرة واحدة. •••
ها هي راجعة من مشوار جديد. فلتزدادي عذابا وجنونا. لبثت واقفة في المقلى، وراحت تقول: فؤاد شلبي مطمئن تماما. - قابلته؟ - في مقهى الفن. - من أين له أن يعلم؟ - قال إنها نزوة مؤلف، وأنه سيظهر في الوقت المناسب وبيده مسرحية جديدة. - لا بد من كلمة لتهدئة امرأة مجنونة مخرفة.
جرت كرسيها إلى أقصى المقلى، وجلست، ومضت تحدث نفسها: لو أراد الله لوهبني حظا أسعد، ولكنه رمى بي إلى رجل سافل مدمن.
فقلت بسخرية: هذا جزاء من يتزوج من عاهرة. - الله يرحم أمك. عندما يرجع عباس سأذهب معه. - إذن فليرجع عباس رحمة بي. - من يتصور أنك أبوه؟ - ما دام قد قتل زوجته، وزج بوالديه في السجن، فهو ابني، وإني لفخور به. - إنه ملاك، وهو من صنع يدي أنا.
تمنيت أن تكلم نفسها حتى تجن. وتذكرت صفعة المخبر على قفاي، واللكمة التي أسالت الدم من أنفي؛ الكبسة مثل زلزال مدمر. حتى سرحان الهلالي شد جفناه من الذعر. ومصادرة المال المخزون الذي بعنا أنفسنا حبا فيه؛ يا لها من قشعريرة! •••
أي شيطان يرقص في الصالة؟!
غادرت الحجرة، فرأيت طارق وعباس وهما يتضاربان. حليمة تصرخ. اجتاحني الغيظ؛ صرخت: ما هذا العبث؟
صاح طارق: مسرحية هزلية، المحروس سيتزوج من تحية.
بدا لي الأمر سخيفا، ومهددا بإطفاء نشوة المخدر المتصاعدة. صاحت حليمة: أي جنون! ... إنها أكبر منك بعشرة أعوام!
وتدفقت الإنذارات من فم طارق مع نثار لعابه، فقالت له حليمة بشدة: لا تزد الأمور سوءا!
فصرخ طارق: سأهدم البيت على من فيه.
سكت غيظي، وتسللت إلى السخرية واللا مبالاة، وقبل أن أتفوه بكلمة، قالت حليمة لطارق: خذ ملابسك، ومع السلامة.
فهتف: من وراء ظهري، في هذا البيت القذر.
فقلت له بهدوء تبدى غريبا في ذلك الجو العاصف: إنه قذر بسبب وجودكم فيه.
فلم يعن بالالتفات إلي، أما حليمة فسألت عباس: أحقيقي ما يقول؟
فأجاب المحروس: اتفقنا على ذلك.
فسألته دون مبالاة: لم لم تتفضل باستشارتنا؟
فلم يرد، فرجعت أسأله: هل يكفي أجرها للإنفاق على بيت زوجية؟
فقال عباس: سأحل محلك ملقنا للفرقة. - من مؤلف إلى ملقن؟ - لا تناقض بين الاثنين.
فصاحت حليمة بصوت متشنج: ابني مجنون!
وقالت لطارق: لا تكن أنت أيضا مجنونا.
فعاد يهدد، فصاحت به: غادر بيتنا!
فمضى وهو يقول: باق على أنفاسكم ليوم القيامة.
خلا المكان للأسرة الكريمة، جعلت أردد عيني بينهما في شماتة وسخرية. قالت له بضراعة: ما عرفتها إلا خليلة لهذا أو ذاك.
فقلت مقهقها: أمك خبيرة ... اسمع وافهم ...
واصلت ضراعتها: أبوك كما ترى وتعلم أصبح لا شيء؛ أنت أملنا.
فقال عباس: سنبدأ حياة جديدة.
فسألته ضاحكا: لماذا خدعتنا طويلا بمثاليتك؟!
غادر عباس البيت، فأجهشت هي في البكاء. رحبت في أعماقي بذهابه النهائي الوشيك. هللت لتحطم التحالف الكريه القائم بينه وبين أمه ضدي؛ إنه صوت معارضة دائم، ضقت به، وكرهته، وها هو يختفي فيكتسب البيت هدوءا وانسجاما؛ كنت أخافه أحيانا، تتجسد فيه أقوال أزدريها، وأفعال أحتقرها. وجعلت حليمة تندب حظها مولولة: وحدي ... وحدي!
فقلت لها بهدوء: وحدك؟ ... لا تدعي ما ليس فيك؛ فيم نختلف؟ ... نبع واحد، وحياة واحدة، وهدف واحد ...!
فحدجتني بنظرة تنز مقتا واحتقارا، ومضت إلى حجرتها مشيعة بقهقهتي العالية. •••
نظرت إلى ظهرها عابرا تلال الفول السوداني واللب والفشار والحمص المعبأة في جيوب الطاولة الممتدة؛ أي حياة تمضي بلا سرور، وفي جو مشحون بالكراهية والدخان! عودة الولد ونجاحه خليقان بأن يضيفا إليها جدة وإثارة! •••
أنا مرح، حليمة تداري وجومها، سرحان الهلالي يتساءل: أين طارق وتحية؟
ويقول سالم العجرودي: انكماش خطير في اللعب.
وقلت ضاحكا: أخبار مثيرة يا سرحان بك؛ ابني المجنون تزوج من تحية!
ضجت المائدة بالضحك، وقال إسماعيل: الظاهر أن ابنك فنان حقيقي.
وقال الهلالي: الولد الصغير؟!
فقال شلبي : زواج الموسم!
وقال إسماعيل: تجدون طارق الآن في الصحراء، مثل مجنون ليلى!
وضجت المائدة بالضحك مرة أخرى، ولكن سرحان قال بنبرة ذات معنى: ولكن حليمة لا تشارك في الأفراح.
فقالت حليمة وهي تواصل إعداد الشراب: حليمة في مأتم! - من يدري؟ ... ربما تصادفه السعادة التي لا ندري أين تقيم.
فقال سالم العجرودي: تحية امرأة طيبة رغم كل شيء.
فقلت وأنا أضحك عاليا: رغم كل شيء!
فقالت حليمة بحنق: السعادة في هذه الأيام من نصيب البغال.
وتساءل سرحان: وهل يواصل محاولاته في تأليف المسرحيات؟
فقالت حليمة: طبعا.
فقال باسما: عظيم ... ستهبه تحية تجارب مفيدة!
ثم انهمكت في جمع النقود، وأنا أتذوق أول ليلة تمر بلا رقيب. •••
المرأة تبحث عن ابنها، وأنا في المقلى وحدي؛ ترى أي نهاية رسمها لها في المسرحية؟ فاتني أن أسأل عن ذلك! هل يسدل الستار ونحن في السجن؟ في المقلى؟ ويجيء زبون في أعقاب زبون؛ هؤلاء الناس لا يدرون كم أحتقرهم وأمقتهم، منافقون، يفعلون مثلنا، ويؤدون الصلاة في أوقاتها؛ أنا خير منهم، أنا حر أنتمي إلى عصر سابق للدين وقواعد السلوك، لكني محاصر في هذه المقلى بجيوش المنافقين. كل رجل وكل امرأة مثل الدولة؛ لذلك تترككم للمجاري والطوابير، وتجود عليكم بالخطب الرنانة، ويحطم ابني رأسه بمواعظه الصامتة، ثم يرتكب الخيانة والقتل، ولو تيسر الأفيون وحده لهان كل شيء. لماذا تغرر بنا أيام الخطوبة؟ لماذا تهمس لنا بعذوبة غير موجودة؟ - إني مدين لعم أحمد برجل بسعادة فوق احتمال البشر. - لا تبالغ. - حليمة ... ما أسعد من لا يضيع خفقان قلبه في العدم!
وتألقت ابتسامة مثل فلة يانعة؛ أين تختفي هذه العذوبة؟ آه لو أن الرجوع في الزمان ممكن مثل الرجوع في المكان. في كائني البدائي ركن ساذج، يطيب له أحيانا أن يبكي الأطلال. كرم الذي لم يعد موجودا يبكي حليمة التي لم تعد موجودة.
ها هي المرأة راجعة، دخلت وجلست دون تحية، تجاهلتها تماما، ولم تنبس. في عينيها طمأنينة، فماذا عرفت؟ لا شك أن ثمة خبرا طيبا تضن به علي الخنزيرة! لو كان شرا لصبته على رأسي قبل أن تدخل. هل رجع عباس؟ أبيت أن أسأل، ومضى وقت، حتى قالت: نحن مدعوان لمشاهدة المسرحية.
وقدمت إلي إعلانا مطبوعا؛ استقر بصري على اسم المؤلف عباس يونس، جرفني زهو، تساءلت: هل نذهب؟ - أي سؤال؟ - قد لا يسرنا أن نرى أنفسنا. - المهم أن نرى مسرحية عباس.
صمت، فقالت: قلبي يحدثني بأن المؤلف سيظهر حتما. - من يدري؟ - قلبي يدري. •••
ذهبنا في أحسن صورة ممكنة؛ ارتديت بدلة لا بأس بها، واستأجرت حليمة ثوبا ومعطفا من أم هاني. استقبلونا استقبالا حسنا، وقالت حليمة: ولكني لم أر المؤلف.
فقال سرحان الهلالي: لم يحضر، ولكني أخبرتك بما فيه الكفاية.
إذن قد قابلته، وتلقت أخبارا لا بأس بها. ولما كان الوقت مبكرا، فقد ذهبنا لزيارة عم أحمد برجل. قدم لنا - هدية منه - سندوتشين وقدحين من الشاي، وهو يقول ضاحكا: مثل الأيام الماضية!
لم نعلق، لا بكلمة، ولا بابتسامة. وفي الوقت المناسب، انتقلنا إلى مقاعدنا في الصف الأول. كان المسرح كامل العدد، فقالت حليمة: هو النجاح.
فتمتمت: لا حكم إلا بعد مرور أسبوع.
رغم استهتاري توترت أعصابي. فيم تهمني مسرحية وأنا لا تهمني الحياة؟! آه، ها هو الستار يرفع عن بيتنا، بيتنا دون غيره؛ هل أراده العجرودي كذلك أو أنه عباس؟ الأب والأم والابن، إنه ببساطة ماخور ونادي قمار. يوجد أكثر من الجريمة والخيانة، الأم تبدو عاهرة بلا ضابط، علاقاتها تتتابع مع المدير والمخرج والناقد وطارق رمضان! هلت لحظتها أنفاسها تتردد في ثقل وخشونة؛ إنه الجحيم. استمتعي برأي ابنك فيك؛ رؤيته تتجلى بوحشية عن أبيه وأمه؛ من يتصور أن رأسه المتزمت يحوي هذه الخرائب كلها؟ إني سعيد برأيه في أمه، سعيد باطلاعها على رأيه فيها. المسرحية تنكل بي، وتنتقم لي. في لحظة الفضيحة هذه أنعم بالانتصار على الأم والابن معا، على عدوي اللدودين. ثم إنه لم يفهمني، إنه يقدمني كرجل منحل، كرجل واجه تحديات الواقع بالانحراف؛ لست كذلك يا غبي، لم أستو مركبا لكي أنحل. نشأت بسيطا بدائيا حرا، نشأت شاهدا ومدينا للنفاق؛ ذاك ما لا يمكن أن تفهمه، وسر نجاحك أنك تتملق النفاق والاستعلاء الكاذب. تلق مني بصقة في مهجرك الأبدي.
بعد تلاشي عاصفة التصفيق الهستيري، دعينا؛ اتباعا لتقليد قديم، للاحتفال بالنجاح في البوفيه.
سألتها همسا: نشترك أم نذهب؟
فقالت بتحد: كيف لا نشترك؟
تتظاهرين عبثا بالاستهانة، ليس لك جناحان مثلي. تمتمت: ما كان ينبغي أن ينتحر.
فقلت أغيظها: أي نهاية تتوقعين لقاتل؟ - لقد فاز بالعطف.
دارت الأنخاب. قال سرحان الهلالي: لي فراسة لا تخيب.
فقال سالم العجرودي: وحشية بلا شك، ولكنها مؤثرة.
فقال فؤاد شلبي: إنها تذكر الجمهور بمعاناته اليومية ... ولكنها متشائمة.
فتساءل الهلالي ساخرا: متشائمة؟!
ما كان ينبغي أن ينتحر بعدما تعلق به أمل الجمهور.
فقال الهلالي: ليس انتحارا، ولكنه مصير الجيل الجديد في نضال الإنقاذ! - سلم الأوغاد!
فقهقه الهلالي قائلا: ليحفظ الله الأوغاد!
والتفت المدير نحو طارق رمضان، ورفع رأسه قائلا: نخب اكتشاف ممثل عظيم في الخمسين من عمره!
فقال فؤاد شلبي بحماس: أهم من اكتشاف بئر بترول.
ونظر الهلالي نحونا، ولكني سبقته رافعا كأسي: نخب المؤلف الغائب!
سرعان ما ارتفعت موجة استحسان، فاضت النشوات على حساب المسرح، اختلط الجد بالهزل، تلذذت بتذكر فضائح كل رجل وكل امرأة؛ لماذا كان السجن من نصيبنا وحدنا؟ أيها الزملاء الأحرار، اشربوا نخبي أنا؛ فإني رمزكم الصادق.
وصلنا إلى بيتنا القديم عند الفجر، لم نجد أي رغبة في النوم، أشعلت فحم المدفأة، وجلسنا في الصالة؛ البلاط المعصراني مغطى بكليم أسيوطي قديم. رغم النفور المتبادل شعرنا بالرغبة في التواجد معا، ولو لحين قصير. من ذا يبدأ بفتح الحديث؟ ما أشد ما نتبادل من مشاعر الحذر والتوجس!
سألتها: أعجبتك المسرحية؟ - جدا ... جدا! - والموضوع؟ - يا له من سؤال سخيف لمن قضى عمرا في المسرح! - لم نتظاهر بغير ما في نفوسنا؟ ... لا مجال للشك. - أرفض هذا التفكير السخيف. - كل شيء حقيقي أكثر من الحقيقة. - كلام فارغ؛ لقد رأيت نفسي في صورة لا علاقة لها بالواقع.
فضحكت تاركا للضحكة وحدها الإفصاح عن رأيي، فقالت باستياء : إنه الوهم. - ألم نر الجميع على المسرح كما عرفناهم في الحياة؟ - المؤلف حر، يحافظ على من يشاء، ويغير من يشاء، وهناك أشياء جديدة تماما. - لم صورك في تلك الصورة؟ - ذاك شأنه. - اعتقدت طويلا أنه يحبك ويحترمك.
فقالت بحدة: ذاك ما لا شك فيه. - الحقيقة تتجلى في نظرتك الكلبية! - إني واثقة من نفسي.
قلت باستهانة: حتى طارق! ... ما تصورت أنك حرة لذلك الحد. - أرحني من أفكارك القذرة. - لولا الكذب لربحنا أضعاف ما ربحنا! - الحق أنه صورك في صورة أجمل من حقيقتك، وهذا يقطع بأنه استلهم الخيال قبل كل شيء.
ضحكت عاليا، فهتفت: سيسمعك العائدون من صلاة الفجر. - لم لا؟ ... ذلك الولد الغريب الذي زج بنا في السجن. - كيف تطالب أحدا بالتزام فضيلة؛ أنت الذي لا تؤمن إلا بنزواتك؟! - ولكنه ادعى المثالية حتى أوجع رأسي.
فقالت بحماس ظاهر على الأقل: إنه ولد رائع ... مؤلف مرموق ... ابني ...
فقلت ساخرا: إني معجب بوحشيته. - عندما يعود سأذهب معه هاجرة هذا البيت اللعين!
فقلت ساخرا: كل حجرة فيه تشهد لنا بالمجد.
غادرتني عند ذاك، فلبثت وحدي باسط الذراعين فوق المدفأة. كان يسعدني بلا شك أن أعرف المزيد عن أبي؛ أكان من هؤلاء المنافقين؟ لقد عاجله الموت فسقطت أمي، ونشأت أنا تلك النشأة المتوجة بقرون الشيطان، أما أنت يا عباس فلغز غامض! ما أشد الملل؛ إني مثل شيطان حبيس قمقم لا يجد مجالا للعبث. •••
تابعت نجاح المسرحية باهتمام وشغف، توقعت أن يعود المؤلف ولو مع المسرحية الجديدة، توقعت أيضا أن يغير نجاحه مجرى حياتي المملة، وكنت أتردد على المسرح بين الحين والحين لأتنسم الأخبار عنه، وفيما أنا أقطع المدخل ذات ضحى إذ هرع نحوي عم أحمد برجل، فمضى بي إلى داخل البوفيه الخالي. أقلقني وجهه المكفهر المتقبض، فاستشفقت وراءه خبرا كئيبا. قال: كرم ... كنت على وشك الذهاب إليك.
فسألته: ماذا؟ ... ماذا عندك؟ - عباس! - ماذا عنه؟ ... هات ما عندك يا عم أحمد. - اختفى من بنسيون كان يقيم فيه في حلوان، تاركا رسالة غريبة. - أي رسالة؟ ... ألا تريد أن تتكلم؟ - كتب يقول إنه سينتحر!
غاص قلبي، وخفق مثل بقية قلوب البشر. تبادلنا النظر صامتين؛ سألته: هل عثر على ...؟
فأجاب بحزن: كلا ... البحث جار.
تمتمت وأنا شارد الوعي: آه ... ربما ... من يدري، ولكنه ما كان يكتب الرسالة لولا.
فقال عم أحمد بنبرة من يعتبر المسألة منتهية: ربنا يلطف بكم. - يجب أن أذهب إلى حلوان. - لقد سبقك سرحان بك الهلالي.
رحلة عقيمة وأليمة! لا توجد إلا الرسالة، أما عباس فقد اختفى؛ مضى من الاختفاء الأول إلى الاختفاء الجديد. لن يعترف بانتحاره إلا إذا عثر على الجثة، ولكن لم يكتب ما كتب إن لم يكن قد عقد العزم حقا على الانتحار؟
وتساءل الهلالي: إذا كان يريد الانتحار حقا، فلم لم ينتحر في حجرته؟ - أيداخلك شك في صدقه؟
فأجاب ببساطة: أجل!
رجعت إلى البيت القديم مساء، فلم أجد حليمة؛ أدركت أنها ذهبت إلى المسرح مستطلعة أسباب تأخري. أغلقت المقلى الخالية، وجلست في الصالة أنتظر، وبعد مضي ساعة ثقيلة رجعت بعينين مترعتين بالجنون. تبادلنا النظر ثواني، ثم هتفت: كلا ... لو أراد أن ينتحر لانتحر بالفعل ... لا يمكن أن ينتحر.
وانحطت على الكنبة، وأجهشت في البكاء، وهي تلطم خديها.
حليمة الكبش
أولد من جديد، من جوف السجن إلى سطح الأرض، ويهل علي وجه عباس فأحتويه بين ذراعي، أدفن وجهي في صدره مثقلة بالعار والخجل. همست: شد ما أسأنا إليك؛ ليت الموت أراحك منا.
قال برقة: ما يسيئني إلا كلامك.
ونشجت باكية، فقال: الآن يطيب لنا الشكر ... دعينا نفكر في المستقبل.
فقلت بصوت مختنق: وحيد يا بني ... ابتلاك الله باسترداد زوجتك وابنك ... ونحن لم نرحمك. - ما مضى قد مضى.
لم يكد يتبادل مع أبيه كلمة، جمعتنا صالة البيت القديم، كبعض الأوقات الماضية، وراح يقول: أرجو ألا نعود إلى ذكر الماضي.
وصمت قليلا، ثم قال: فكرت في أشياء ... ولكن هل يود أبي أن يرجع إلى عمله القديم في المسرح؟
فقال كرم: كلا ... عليهم اللعنة. - سأحول المنظرة إلى دكان، ممكن أن نبيع بعض الأثاث، ونجعل من المنظرة مقلى ، تجارة يسيرة ومربحة ... ما رأيكما؟
فقلت بامتنان: الرأي ما ترى يا بني ... أسأل الله أن أسمع عنك خيرا قريبا. - بإذن الله ... أشعر بأنني قريب من النجاح.
فدعوت الله له كثيرا، حتى قال وهو ينقل عينيه بيننا: المهم أن يحل بينكما التعاون، وألا أسمع ما يسيئني.
فقلت بلهفة: طالما حلمت بأن أعيش معك. - إذا أراد الله لي النجاح، فسوف يتغير كل شيء.
وتساءل كرم بجفاء: ألا تتفضل بأخذها معك؟
فقال عباس بحرارة: أطالبكما بالتعاون ... سأبذل ما أستطيع لأوفر لكما حياة كريمة، ولكني أطالبكما بالتعاون.
أي تعاون؟! إنه لا يدري شيئا، إنه أبرأ من أن يحيط بأسرار القلوب إذا نفثت دخانها. من أين له أن يعلم بما فعل أبوه، وهو لم يشهد إلا سطحه الكئيب؟ إنه يبذل ما يجود به قلبه البار، ولكن هل غاب عنه أنه يجمع بين خصمين في زنزانة واحدة؟ من السجن إلى سجن، ومن المقت إلى ما هو أشد مقتا. لا أمل لي يا بني إلا أن تنجح، وأن تنتشلني من زنزانتي البغيضة. •••
أسترق إليه النظر وهو يعمل، يبيع الفول السوداني واللب والفشار والحمص، ويرمي بالقروش في درج نصف مفتوح، بعد إدمان طويل للرزق الحرام الغزير. لا شك أنه يحلم بالمخدر القاتل الذي شفاه السجن منه على رغمه؛ لولا أن عباس اشترط عليه أن نتقاسم الربح، لبادرنا الخراب من جديد. دائما مكفهر الوجه، لا يزيح قناع الأسى عن وجهه إلا في حضرة الزبائن. تمادى في العمر أكثر من الواقع بعشر سنوات، وهذا يعني أنني تماديت أيضا. أيام السجن الحزينة، وليلة الكبسة التي استبقت فيها أيدي المخبرين بلطم وجهي ... آه ... الأوغاد ... لم يزرنا منهم أحد. الهلالي وغد مثل طارق رمضان؛ حجزوا في القسم ليلة، ثم أطلق سراحهم، وحملنا الوزر وحدنا. حتى جيراننا يقولون إن القانون لا يصول ويجول إلا مع المساكين، يعزوننا، ويشمتون بنا، ولكنهم يتعاملون معنا. لا أمل لي يا بني إلا أن تنجح! يمر الوقت دون أن نتبادل كلمة، حرارة المقت أقوى من موقد الفرن. وكم أشعر بالتعاسة وأنا أنظف البيت القديم الكريه، أو وأنا أعد الطعام؛ كيف قضي علي بهذه الحياة؟ كنت جميلة ومثالا في التقوى والأدب. الحظ ... الحظ ... من ذا يدلني على معنى الحظ؟ ولكن الله مع الصابرين، وسوف يقول الحظ كلمته الأخيرة على يدك يا عباس، ولن أنسى زيارتك لنا ليلة مولد سيدي الشعراني، وقولك المفرح للكرب، المفتح لأبواب السماء: أخيرا قبلت مسرحيتي!
لقد انطلقت من صدري ضحكة كاللؤلؤة، لم تترنم فيه منذ الشباب الأول. حتى أبوه تهلل وجهه؛ ما دخله في الأمر ... لا أدري! لقد كرهته كما كرهني! حسن ... ها هو يستوي مؤلفا لا خرافة كما توهمت، طالما عددت مثاليته سفاهة، ولكن الخير ينتصر، ويجرف تياره المتدفق زبد السفلة من أمثالك. •••
لا أحب الخريف، لولا أنه يقربنا من ليلة الافتتاح. من أين تجيء هذه السحب التي تحجب النور؟ ألا تكفيني السحب التي سبح فيها قلبي؟ وجاءني صوت الرجل قائلا: انظري ...
رأيت طارق رمضان مقبلا كحادثة سيئة من حوادث الطريق. تساءلت: للتهنئة أم للشماتة؟
وقف قبالتنا يلقي بسلامه في فراغ. قلت: أول زيارة من أهل الوفاء!
ولم ألق بالا إلى اعتذاراته، حتى سمعته يقول: معي أخبار سيئة!
فقلت بتحد: لا تهمنا الأخبار السيئة. - حتى لو تكون عن الأستاذ عباس يونس؟
هرب دمي، تماسكت ما وسعني التماسك. قلت بزهو: قد قبلت مسرحيته! - ما هي إلا نكتة مبكية؛ ماذا تدرين عن المسرحية؟
وراح يسوق العجائب من خلال تلخيصه، ويختم قائلا: كل شيء ... كل شيء ...
دار رأسي، تساءلت وأنا أداري رعبي: ماذا تعني يا عدو عباس؟ - شاهدا المسرحية بنفسكما. - أعماك الحقد. - بل الجريمة. - ما مجرم إلا أنت! - يجب القبض على قاتل تحية ... - إنك مجرم وخسيس، وعليك أن تذهب ...
فضحك ساخرا، وتساءل: كيف يقولون إن السجن تأديب وإصلاح؟
كبشت كبشة حمص، ورميته بها، فتراجع هازئا، ثم ذهب. ماذا كتب عباس؟ ماذا فعل؟ ابني لا يقتل ولا يخون؛ لا يخون أمه على الأقل، إنه ملاك.
تبادلت مع الرجل نظرة؛ يجب أن أخرج من وحدتي الأبدية. قلت: إنه يكذب. - ولم يكذب؟ - ما زال يحقد على ابني. - ولكن توجد مسرحية. - اذهب إلى عباس. - سأقابله حتما. - ولكنك لا تتحرك! - لا داعي للعجلة.
فحنقت عليه ... إنه مثل طارق لا يحب عباس. هتفت: يجب أن يعرف ما يدبر من وراء ظهره. - وإذا اعترف؟ - ستجد التفسير لكل شيء. - لا أدري. - القاتل الحقيقي لا يفضح نفسه. - لا أدري. - تحرك. - سأذهب طبعا. - أو أذهب أنا. - ليس عندك ملابس لائقة. - إذن فعليك أن تذهب أنت. - الوغد يكذب. - يجب أن تسمع بأذنك.
ولكنه تراجع قائلا: كره حياتنا ... كان مثاليا كأنه ابن حرام ... ولكنه لا يغدر بنا ... ثم لماذا يقتل تحية؟ - إنك تستجوبني أنا! - إني أفكر. - لقد صدقت ما قال الوغد. - وأنت أيضا تصدقينه.
كدت أبكي، ولكنني أطبقت على شفتي، وقلت: يجب أن نسمعه. - الحق أنني لا أصدق. - إنك تهذي! - اللعنة! - اللعنة حلت يوم ارتبطت بك. - ويوم ارتبطت بك.
فقلت بتحد: كنت جميلة ... إنه سوء الحظ. - كان أبوك ساعي بريد، أما أبي فكان موظفا في دائرة الشمشرجي. - ذلك يعني أنه كان خادما. - أنا من أسرة ... - وأمك؟ - مثلك تماما! - مخرف ... ولكنك لا تريد أن تذهب. - سأذهب عندما يروق لي.
ثم غير نبرته قائلا: العصر أنسب وقت لوجوده في بيته.
سكت منادية الصبر المر؛ الشك يقتلني من جذوري! ماذا يقال عن أشرف الناس؟ الوردة النابتة في خرابة، في بلد اللصوص والضحايا! ابتاع لي قماشا لثوب يصلح للخروج، ولكني تقاعدت عن تفصيله؛ سأشرع من فوري في تفصيله وحياكته. يعيرني بأصلي ابن العاهرة، أما عباس فلا يمكن أن يخون أمه. احتقر كل شيء إلا حبي؛ الحب أقوى من الشر نفسه. •••
بيت الهنا بالطمبكشية، الشمس لا تغيب حتى في الشتاء والليل. حليمة الجميلة بنت الجميلة. أبي يرجع حاملا شيئا طيبا تحبه الأنفس، وتقول أمي لأبي: دعها تستمر ... التعليم فرصة العمر ... ليتني وجدت فرصتي.
ويقول قريبنا الطيب عم أحمد برجل: أصبحت البنت يتيمة ... الاستمرار في التعليم مشقة.
فتسأله أمي: وما العمل يا عم أحمد؟ - معها شهادة ... وهي ذكية ... يلزمها عمل ... ستخلو عندنا وظيفة قاطعة التذاكر.
وتسألني أمي: هل تحسنين عملا كهذا؟
فأقول بلهفة: التمرين يكمل ما ينقصني.
ويقول عم أحمد: الشمشرجي صديق الهلالي بك ... تشفعي به عنده، وسأكلمه من ناحيتي.
ها هي الدنيا تتفتح عن تجربة جديدة؛ هكذا أدخل المسرح لأول مرة، مكان فخم ذو رائحة خاصة مؤثرة، عم أحمد يتضاءل، ويلعب فيه دورا صغيرا. أدعى إلى مقابلة المدير، أدلف إليه في معبده الضخم بثوبي الأبيض البسيط وحذائي القديم. بهيكله العالي، وعينيه الحادتين، ونظرته المجتاحة، يبدو كائنا رائعا شديد التأثير. تفحصني حتى ذبت. يقدم لي فرخ ورق ليمتحن سرعة كتابتي للأرقام.
يقول بصوته الجهير: يلزمك تدريب قبل تسلم العمل يا ...
أقول بحياء: حليمة الكبش.
يبتسم معلقا: الكبش؟! ... ما علينا ... وجهك مقبول أكثر من وجوه ممثلات فرقتنا ... أريد أن أمتحنك عند انتهاء التدريب.
أجتهد بحماس وافق، لا غيرة على مستقبلي، ولكن إرضاء لذلك الساحر الرائع. وأقول لأمي؛ فتقول هكذا يكونون أولاد الأصول. أتخيل رضاه مثل نعمة مباركة، وأمثل بين يديه مضطربة الأنفاس. أنت تعويذة الفرقة يا حليمة. الله جميل يحب الجمال. متى بدأت مداعباته اللمسية؟ كان شعاع الشمس النافذ من الزجاج يغمر وجهي، وثمة مزمار بلدي في الطريق يعزف راقصا، وأدفع يده المترامية لاهثة: لا يا سعادة البيك، أنا بنت شريفة! تجلجل ضحكته في أذني، يتلاشى احتجاجي في صمت الحجرة المغلقة الواسعة، عاصفة من الأنفاس الحارة والتسلل الماكر تشوش إرادتي الصادقة؛ إنه الكابوس الذي ينقشع عن دموع لا تستدر عطفا! خارج الحجرة أحياء يذهبون ويجيئون، وتموت أمي قبل أن تعلم. •••
تحرك أخيرا عند العصر، خف توتر أعصابي. إني أتعلق بقشة، ولكن ماذا أنتظر؟ علي أن أعد الثوب لأستطيع الحركة. إنه يبوح بسره لي، لا للرجل الكريه. ماذا يبقى لي الآن سوى عباس. •••
الخيبة تجيء مع الأفيون؛ لا ... إنها أقدم من الأفيون. ما أعذب ما دفنت من آمال! يرشف آخر رشفة في الكأس، يبتسم ابتسامة مخمورة، يشير إلى الحجرة الملاصقة للمنظرة، ويقول: في هذه الحجرة، كانت أمي تخلو إلى الباشجاويش!
أذهل من هول المكاشفة، عباس نائم في لفافة المهد، أقول غير مصدقة أذني: سكرت يا كرم!
يهز رأسه قائلا: كانت تحذرني من مغادرة حجرتي. - ما كان يجوز.
ويقاطعني: لا أحب النفاق ... أنت منافقة يا حليمة. - الله يغفر لها ... ألا زلت تحقد عليها؟ - ولم أحقد عليها؟ - إني لا أفهمك! - زوجك رجل لا مثيل له بين الرجال ... لا يؤمن بأي أكذوبة بشرية.
ماذا يعني؟ إنه زوج لا بأس به، لكنه يسخر من كل شيء؛ من إيماني يسخر ... من مقدساتي وتقاليدي ... ماذا يحترم ذلك الرجل؟ ها هو يهتك أمه دون مبالاة! أقول له: أنت مرعب يا كرم.
فيقول باستهانة: ذلك من حسن حظنا، وإلا لطلقتك ليلة الدخلة.
انغرز دبوس محمى في قلبي، دمعت عيناي، تلقيت ثاني ضربة قاسية في حياتي. يقول: معذرة يا حليمة؛ متى تصيرين حرة؟ - أنت قاس وشرير. - لا تهتمي بهذه الكلمات التي لا معنى لها.
ويحدثني عن عشق أمه الجنوني للشرطي، عن إهمالها له، كيف نشأ حرا بفضل ذلك الإهمال الداعر!
ويقول بنبرة مخمورة: إني مدين لها بكل شيء.
إنه يطوقني كشيء مرعب، إني أعاشر قوة غير منتمية لأي قاعدة؛ على أي أساس أتعامل معه؟ الخيبة أقدم من الأفيون، الأفيون لم يجد روحا ليقضي عليها. •••
لمحته راجعا، فوثب قلبي رغم النفور. بدا في الطريق أطعن في السن مما يكون في المقلى. اتخذ مجلسه دون أن ينظر نحوي. سألته: ماذا قال لك؟
فقال ببرود: غادر شقته حاملا حقيبته إلى مكان مجهول.
يا للعذاب والرعب؛ متى يكف الحظ عن التنكيل بي؟ - لم لم يخبرنا؟ - إنه لا يفكر فينا.
أشرت إلى أنحاء المقلى قائلة: أحسن إلينا بوفاء لا نستحقه. - يريد بعد ذلك أن ينسانا. - كان عليك أن تذهب إلى الهلالي.
رمقني بازدراء وكراهية، فقلت بتحد: إنك لم تحسن التصرف. - أود أن أكسر رأسك. - كأنك رجعت إلى الأفيون. - لا يقدر عليه اليوم إلا الوزراء.
وإذا به يقول مخفضا درجة صوته: الهلالي لا يدري شيئا عن مكانه.
فسألته بلهفة: زرته؟ - لا يدري شيئا عن مكانه. - رباه ... هل أخلى شقته؟ - لا. - لعل في الأمر امرأة. - تفكير سليم من وجهة نظر امرأة مثلك. - ماذا يمكن أن أقول لمثلك؟ ... ثم إن أمره لا يهمك البتة.
وغلبني البؤس، فبكيت من أعماقي. •••
ذهبت مرتدية ثوبي الجديد، متلفعة بشال قديم، لم أحمل معي أملا، وتوكد هناك يأسي. قلت للبواب: عندك معلومات ولا شك؟ - أبدا.
لم أجد شجاعة للذهاب إلى المسرح، رجعت كارهة، زرت سيدي الشعراني، واستغثت بكراماته. مضيت إلى الزنزانة لأجد الرجل يضاحك زبونا وهو ناعم البال. جلست منهزمة حانقة، ونفد صبري، فقلت: افعل شيئا؛ أليس عندك حيلة؟ - أود أن أقتلك، سأقتلك ذات يوم. - زيارة جديدة للمدير.
فقاطعني: اذهبي إليه أنت، فهو يخص جواريه بعنايته. - الحق أنني ضحية أمك، مارست تعذيبي من وراء قبرها؛ هي التي خلقت منك هذا الوحش! - إنها تعتبر بالقياس إليك سيدة عفيفة! •••
هذا المسرح يشهد عذابي وحبي، شهد أيضا اغتصابي ولم يمد لي يدا، تحت قبته العالية تدوي شعارات الخير في أعذب بيان، وتسفح على مقاعده الوثيرة الدماء. وأنا ضائعة ... ضائعة ... محتقنة بسري، وهو لا يدري بحبي، ولا يهمه شيء؛ لعله نسي اسمي أيضا! - إنك تتجنبني ... شقيت حتى قابلتك. - هل ينقصك شيء؟ - ماذا؟ ... أنسيت؟ ... لقد فقدت كل شيء. - لا أحب المغالاة ... لم يحدث شيء ذو بال.
طفرت الدموع من عيني. - لا ... لا ... لا يجوز أن يلاحظ شيء في المسرح. - ولكنني ... ألا تدرك حالي؟ ... لا تتركني. - الأمر أبسط مما تتخيلين ... لم يحدث شيء ضار البتة ... احتفظي بصفاء ذهنك من أجل عملك ومستقبلك، وانسي ما كان، فلا فائدة ترجى من تذكره.
إنه الصوان، أمقته بقدر ما أحبه. مهجورة وحيدة معذبة. ستخمن خالتي سر عذابي ذات يوم. ماذا أرجو من دنيا لا يعبد فيها الله؟! •••
عند الأصيل، ذهبت إلى مقهى الفن، رأيت فؤاد شلبي يدخن الشيشة فقصدته؛ لم يتوقع حضوري بحال، فقال: مرحبا. وأجلسني وهو يقول: كان يجب أن أزوركم، اللعنة على الشواغل!
فقلت دون مبالاة: لم يزرنا أحد، لا أهمية لذلك، إنما جئتك مدفوعة بالقلق لاختفاء عباس.
فابتسم وقال: لا داعي للقلق، الأمر واضح، لقد هرب من المتطفلين، وخيرا فعل، ولا شك أنه يعد مسرحيته التالية. - أما كان يجب أن يخبرني؟ - اغفري له خطأه، لا تقلقي، ما زلت جميلة كما كنت يا حليمة، كيف حال كرم؟ - حي، يمارس هوايته في إتعاس البشر.
فضحك، وظلت ضحكته تثير أعصابي حتى غادرت المقهى. وجدت الشجاعة والتصميم هذه المرة للذهاب إلى المسرح، طلبت مقابلة المدير، دخلت الحجرة؛ الحجرة نفسها، الكتب الجلدية نفسها، الرجل نفسه؛ لا ... إنه رجل آخر، لم يبق من الآخر إلا نذالته، إدمان الشهوات كبره أكثر مما كبرنا السجن. أيهما المسئول أكثر عن تعاستي؟ وقف مرحبا ... هتف: أهلا ... أهلا ... يسعدني أن أراك بخير.
فتساءلت بسخرية وأنا أجلس: بخير؟! - كما يجدر بأم مؤلف ناجح! - إنه سر عذابي الراهن! - يا له من عذاب لا أساس له؛ عندي خبر سار، لقد اتصل بي تليفونيا.
قاطعته بفرحة مشتعلة: أين هو؟ - لا أدري ... إنه سره، فليحتفظ به كيف شاء، المهم أنه مكب على تأليف مسرحية جديدة. - هل ترك عمله؟ - نعم ... إنها مجازفة، ولكنه واثق من نفسه، وأنا واثق. - لم يكلف خاطره بالاتصال بي؟ - يتجنب أن يستجوبه أحد عن مسرحيته ... هذا ما أتصوره. - لقد قالوا وعادوا ... ما رأيك أنت؟ - المسرحية فن، والفن خيال مهما استمد من الحقائق! - ولكن ظنون الناس ...؟ - الجمهور لن يرى شيئا من ذلك كله ... إنه سخف، ولولا حماقة طارق.
فقاطعته: إنه عدوه، عليه اللعنة. - أطالبك الآن بأن تقري عينا. ••• - بلغني أن كرم يونس يطلب يدك؟ - أجل. - ممكن إصلاح الأمر. - لا ... أرفض هذا النوع من الكذب. - ستصارحينه؟ - أعتقد ذلك. - يا لك من فتاة استثنائية في هذا الزمن المغمور بالسفلة! هل تكاشفينه بالفاعل؟ - لا أهمية لذلك. - الأفضل ألا تفعلي. •••
مضيت إلى البوفيه، صاح أحمد برجل عند رؤيتي: خطوة عزيزة.
جلست أمامه صامتة، راح يعد لي السندوتش والشاي. هنأنا من أهل الأرض شخصان، أحمد برجل وأم هاني. غمرتني ذكريات المكان، الشاي، والسندوتش، والغزل، والمزمار الراقص في الجحيم، مثل قطرات مطر صافية أصابت مزبلة. وقال عم أحمد: نجاح عباس حظ طيب، وبشير بالعزاء عما سلف.
فقلت بأسى: لكنه هجرنا بلا كلمة طيبة. - لا تقلقي، لا يقلق أحد ممن حولنا لذلك! - وطارق رمضان؟! - إنه نصف مجنون. •••
التجربة عنيفة وجديدة، ثمة تصميم على الاعتراف، وخوف يخرسني في آخر لحظة؛ إني شريفة وطاهرة، وأكره الخداع، ولكن الخوف يخرسني. يبدو لي كرم مثالا للجدية والحب، فهل أفقده؟ وخرست حتى أغلق علينا بابنا، هالني ضعفي فبكيت، انتصبت الحقيقة عارية متوترة مستخذية بيني وبينه. همست: إني مجرمة ... عجزت أن أخبرك من قبل.
تحيرت، في مقلتيه نظرة ساهمة، ما أخشاه يقع! قلت: خفت أن أفقدك، وصدقني لقد اغتصبت اغتصابا.
وأخفيت عيني في الأرض، وانفعالاته تلفحني، وقلت كلاما، وقال كلاما، وضاع الكلام في وقدة الألم، لكن صوته حفر في وعيي وهو يقول: لا يهمني الماضي.
ازددت بكاء، ولكن بهرني شروق غير متوقع. قلت إنه شهم، وأنني سأكرس نفسي لإسعاده، وهمست وأنا أجفف عيني: ما أسهل أن يضيع الأبرياء ...! •••
ما أضيق صدري وأنا راجعة إليك؛ دخلت الزنزانة وجلست. سأقول كلمة عن لقاء فؤاد شلبي، ولن أزيد، لن أريحه، إنه لا يحب عباس، يتظاهر بعدم الاهتمام، ليته يتعذب كما أتعذب! نحن نبيع التسلية، أما تسليتنا الوحيدة فهي تبادل السباب. •••
في الخيبة أمضي درجة بعد درجة، لكن الشر الجديد يهدد أساس البيت. - الأفيون مخيف جدا، إنه يلتهمك! - شكرا له على أي حال. - إنك تنسحب من دنيانا بسرعة مزعجة. - أكرر له الشكر! - إني أبذل أقصى ما في جهدي، وهناك عباس، وهو حبيبك.
مضى يرشف من قدح الشاي الأسود غائبا عني. - مرتبي لا يكفي وحده للإنفاق على البيت. - عندك إيجار حجرة رمضان. - ولا هذا يكفي، الدنيا نار.
إني الآن أعرفك، ولذلك أخشاك، لست كما تصورتك في أيامنا الأولى. ها أنت تفقد كل شيء، حتى قدرتك التي تباهيت بها. استقل كل منا بحجرة خاصة، لا حب وأيضا لا طعام؟! أنت أنت الباقي يا عباس، لا تحفظ كلام بابا ... لا تصدقه؛ فإنه مريض. من حسن الحظ أنك غالبا وحدك، الله معك، فيه الكفاية! كن ملاكا، ليكن صديقك المدرس والكتاب والمسرح، كن ابني وابن الآخرين الطيبين؛ إنك النور الوحيد في هذا البيت القديم الغارق في الظلام، كن وحيدا في كل شيء. •••
يسترق إلي النظر أحيانا، لعلي أبوح له بما لدي؛ هيهات! أتحداك أن تكرهني أكثر. تساءل: عندما يجيء الشتاء، فكيف نحتمل البقاء في هذه المقلى المفتوحة؟
فقلت بثقة: عندما ينجح عباس يتغير المصير كله.
فرد بمرارة: عندما ينجح عباس!
فقلت بتحد: سأذهب معه، ولن يضن عليك بمعطف أو عباءة. •••
البوفيه الأحمر باق كما كان، يضحك من تغير رواده، سمع الكثير مما يقال، ولا يصدق أحدا. يقول لي عم أحمد برجل: هاك السندوتش، وسأعد لك الشاي.
ويجيء، فيجلس على المقعد إلى جانبي شاب، فيطلب أيضا الفول والسندوتش؛ إنه من أهل المسرح فيما يبدو، ولكنه ليس من الممثلين؛ شاب مقبول المنظر، كبير الرأس والأنف.
ويسألني عم أحمد: هل من جديد عن الشقة يا آنسة حليمة؟
فأجيبه بشيء من التكلف أمام الغريب: البحث عن الذهب أسهل.
وإذا بالشاب يسألني: هل تبحثين عن شقة؟
فأجبت بالإيجاب، وعارف عم أحمد بيننا، فراح يسأل بجرأة: من أجل زواج؟
آه ... بدأ الغزل، إنه يبدأ بسرعة في هذا المسرح، ولا يتردد عن استعمال العنف، وتقتل الفريسة على أنغام المزمار البلدي! - عندي بيت قديم مكون من طابقين. - الطابق شقة؟ - كلا ... إنه ليس مقسما إلى شقق.
عم أحمد يسأله إن كان ممكنا أن أستقل بطابق، فيجيب بالإيجاب. سألته: ألا يضايق ذلك الأسرة؟
فأجاب بجرأته المعهودة: إني أقيم فيه وحدي.
أعرضت عنه في استياء، فقال بلباقة: ستجدين الطابق آمنا، أنت وأسرتك.
شكرته وصمت، لم يترك أثرا سيئا في نفسي. ماذا يريد؟ لا علم له بمأساتي، ولا بحبي، ولا بسوء ظني. •••
قلت أذهب إلى أم هاني بشقتها الصغيرة بالإمام، حيث يقيم معها طارق رمضان. استقبلتني بحرارة، وكان علي أن أنتظر حتى يستيقظ طارق من نومه. خرج من حجرته منفوش الشعر مثل شيطان، وهو يقول بسخرية لا تناسب المقام: خطوة عزيزة.
فقلت له دون لف أو دوران: أعتقد أنك زرت عباس قبل رحيله! - حصل. - لا أستبعد أنك أسمعته ما حمله على الرحيل.
فقال بقحة: لقد شعر بالحصار فهرب!
فغضبت حتى طفرت الدموع من عيني، فصاحت أم هاني: ألا يعرف قلبك الرحمة؟! ما هذا الذي يقال؟ لقد شهدت وفاة تحية، وشهدت حزن عباس الجنوني!
دهشت وأنا أتلقى هذه الحقيقة، وسألتها: هل يتفق ما شاهدته مع ما يقال؟ - كلام فارغ.
فقال طارق: ما كان له أن يقتلها أمامك يا حمقاء. - الحماقة أن تتصور عباس قاتلا. - اعترافه يتجسد على المسرح ليلة بعد أخرى.
فقالت أم هاني: بفضله صرت ممثلا يصفق له الجمهور أكثر من إسماعيل نفسه. - بفضل جريمته ... جريمته التي حملته على الهرب.
فقلت بإصرار: إنه يقيم في مكان هادئ؛ ليتم مسرحيته الجديدة.
فقهقه ساخرا، وهو يقول: مسرحيته الجديدة! ... لا تحلمي يا أم عباس! •••
آه ... في تلك الأيام كان معقولا ومقبولا رغم كل شيء. - ما رأيك يا حليمة؟ طارق رمضان يرغب في استئجار حجرة عندنا!
فقلت محتجة: لا ... لا ... فليبق في مسكنه. - تشاجر مع أم هاني فاضطر إلى مغادرة البيت ... إنه يهيم بلا مأوى، والغلاء يرتفع يوما بعد يوم. - إنه لأمر كريه أن يقيم غريب بيننا. - إنه في حاجة إلينا، ونحن أيضا في حاجة إلى نقود. - إنه أشبه بالمتشردين. - إنه طامع في كرمنا، في كرمك أنت خاصة ... عندنا من الحجرات الخالية ما يكفي جيشا.
وأذعنت كارهة. لم أحترمه قط، ممثل فاشل، ويعيش بعرق النساء، ولكني لم أتصور أن يفعل بنا ما فعل! •••
ما ندري إلا وأم هاني تزورنا في المقلى، زارتنا في اليوم التالي لزيارتي لها، واضح أنها تريد أن تعتذر بالزيارة عن سوء معاملة رجلها لي. إنها في الخمسين مثل طارق، ولكنها بدينة، ولا تخلو من حسن، وحالتها المالية طيبة. قالت: إنهم يتحدثون عن نجاح المسرحية ... لم تنجح بهذا القدر مسرحية من قبل.
فقلت بأسى: ولكن المؤلف لا يريد أن يظهر. - سيجيء عندما يفرغ من مسرحيته الجديدة.
وصمتت المرأة قليلا، ثم استطردت: ما أسخف ما يقال ... ولكن طارق مجنون.
فتساءل كرم ساخرا: ألم يكن من الأفضل أن يقتل أمه؟!
كنت أميل إلى أم هاني، ولم ينتقص من ميلي لها أنها قريبة زوجي. •••
بيت الطمبكشية المكتظ بسكانه، مثل الباص تفوح منه رائحة المطاط. خالتي تخلي ركنا، لتستقبل فيه عم أحمد برجل. تقول له: لا تنس التموين، فاعتمادنا بعد الله عليك.
فيقول الرجل باهتمام غير عادي: جئت لما هو أهم! - افتح الجراب يا حاوي. - الأمر يتعلق بحليمة.
رددت خالتي عينيها بينه وبيني، فتصاعد الدم إلى خدي.
تساءلت: هه ... عريس؟! - صدق التخمين!
تطلعت إليه متسائلة، فقال: كرم يونس.
فتساءلت خالتي: ومن كرم يونس؟ - ملقن الفرقة. - ما معنى هذا؟ - موظف محترم بالمسرح. - تراه لائقا يا عم أحمد؟ - أعتقد ذلك، ولكن المهم هو رأي العروس. - العروس قمر كما ترى، ولكننا فقراء يا عم أحمد.
وجاء دوري للكلام. كنت كسيرة الفؤاد، أنطوي على سر دام، لا أحب العريس، ولكنني لا أنفر منه. شاب مقبول، ولعله يهبني راحة البال، وربما السعادة. قلت محاصرة بنظرات خالتي: لا أعرف عنه شيئا ذا بال. - موظف، يملك مسكنا، ويشهدون له بالطيبة.
قالت خالتي: على خيرة الله.
إنها تحبني، ولكنها ترحب بالتخلص مني. أنا كذلك أود النجاة من البيت المكتظ، وسرحان الهلالي وغد لا أمل فيه. ••• - الحياة لا تطاق، والجوع يتهددنا.
رمقني بسخرية، وقال: وجدت الحل الذي يخرسك! - هل تحررت أخيرا من المخدر الجهنمي؟ - وافق الهلالي على أن يسهر هو وشلته في بيتنا القديم!
لم أدرك مراده، فقال: سنعد لهم حجرة للعب الورق، وسوف يدر ذلك علينا رزقا سخيا.
فتساءلت في ذهول: نادي قمار؟ - عندك دائما أبشع الأوصاف ... ما هو إلا ملتقى للأصدقاء. - ولكن.
فقاطعني: ألا تريدين حياة طيبة؟ - ونظيفة أيضا! - ما دامت طيبة فهي نظيفة ... لا قذر إلا النفاق.
فتمتمت بقلق: وهنالك عباس أيضا؟
فصاح بغضب: أنا صاحب البيت لا عباس ... ابنك مجنون ... ولكن يهمك ولا شك أن يجد الغذاء والكساء. •••
كثيرا ما تختفي الشمس في هذا الخريف، وتغشى قلبي كآبة ثقيلة، ويستقبل الطريق الضيق كل يوم جنازة أو أكثر، فيمضي بها إلى سيدي الشعراني. والرجل كلما خلا من الزبائن راح يحدث نفسه؛ إني أحلم بأمل يعدني به عباس، ولكنه لا يجد ما يحلم به. •••
لم لا نسجل اللحظات السعيدة لنصدقها فيما بعد؟ أكان هو الرجل نفسه؟ أكان صادقا حقا؟ أهو الذي قال: إني مدين لعم أحمد برجل بسعادة فوق احتمال البشر.
حركت رأسي بدلال، وقلت: لا تبالغ!
فقال بصوت اضمحلت صفاته إلى الأبد: حليمة ... ما أسعد من لا يضيع خفقان قلبه في العدم!
ورغم أني لا أحبه، فقد أحببت كلماته، ودفئت بحرارته. •••
جاء اليوم الموعود، قلبي يموج بالفرح والخوف، ذهبت إلى الحمام الهندي، أمدتني أم هاني بفستان ومعطف وحذاء، رجعت من الكوافير بهالة جديدة من شعر طال إهماله. رمقني الرجل بسخرية، وقال: ما زال لديك بقية من استعداد للدعارة، فلم لا تستثمرينها في هذه الأيام الداعرة المجيدة؟
صممت على ألا أكدر صفو الليلة بأي ثمن. ذهبنا إلى المسرح، استقبلنا كما ينبغي لنا، رمقني سرحان الهلالي بإعجاب. قلت: ولكني لا أرى المؤلف.
فقال باسما: لم يحضر، ولكني أخبرتك بما فيه الكفاية.
تبدد الأمل الأول، انطفأ الشعاع الباطني المجدد لشبابي. ذهبنا لزيارة عم أحمد؛ كالعادة القديمة قدم لنا الشاي والسندوتش. تمتم ضاحكا: مثل الأيام الماضية.
عم تتحدث يا عم أحمد، ليت ما كان لم يكن، حتى الثمرة الوحيدة المعزية غائبة. بوجودي في المكان توترت أعصابي، وازددت حزنا. وفي الوقت المناسب دخلنا المسرح، انشرح صدري فجأة بامتلاء المسرح، وقلت: هو النجاح.
لم أسمع تعليقه، سرعان ما رأيت البيت القديم ترفع عنه الستار، تتابعت الأحداث، تجسدت أمام عيني عذابات حياتي، تجسدت بعد أن لم يبق منها إلا رواسب الأنين. وجدتني مرة أخرى في الجحيم، وأدنت نفسي كما لم أدنها من قبل، قلت هنا كان علي أن أهجره، هنا كان يجب أن أرفض، لم أعد كما كنت في ظني الضحية. ولكن ما هذا الطوفان من الجرائم التي لم يدر بها أحد؟ وما هذه الصورة الغريبة التي يصورني فيها؟ أهذا حقا هو رأيه في؟ ما هذا يا بني؟ إنك تجهل أمك أكثر مما يجهلها أبوك، وتظلمها أكثر منه. وهل اعترضت على زواجك من تحية بدافع الأنانية والغيرة؟ أي غيرة وأي أنانية؟ لا ... لا ... إنه الجحيم نفسه، إنك تكاد تجعل من أبيك ضحية لي؛ أبوك لم يكن ضحية لشيء سوى أمه، هذه صورة جدتك لا أمك؛ تراني عاهرة محترفة وقوادة؟ تراني القوادة التي ساقت زوجتك إلى السائح طمعا في نقوده؟ أهو خيال أم هو الجحيم؟ إنك تقتلني يا عباس، لقد جعلت مني شيطان مسرحيتك! والناس يصفقون ... الناس يصفقون!
كنت ميتة تماما وأنا أدعى لحفل البوفيه. سألني الرجل: نشترك أم نذهب؟
يتحداني ويسخر مني. ولكني قلت له بتحد: كيف لا نشترك؟
لكنني في الواقع لم أشترك، انغمست في غيبوبة محترقة، دوى رأسي بأصوات متلاطمة، تماوجت أمام عيني وجوه غريبة تصرخ وتضحك بلا سبب، سينفجر رأسي وتقوم القيامة. لتقم القيامة، لتقم القيامة، لن يدركني حكم عادل إلا بين يدي الله! قتلت وخنت وانتحرت، فمتى أراك؟ هل يتأتى لي أن أراك؟
وصلنا البيت القديم عند الفجر، تهالكت فوق الكنبة في الصالة، على حين راح يشعل المدفأة. جاءني صوته متسائلا: أعجبتك المسرحية؟
فقلت بفتور: أعجبت الجميع! - والموضوع؟ - موضوع قوي! - لم نتظاهر بغير ما في نفوسنا؟ - لا تفكر كطارق رمضان الحاقد. - كل شيء حقيقي أكثر من الحقيقة.
فقلت بغضب: لا علاقة بين دوري في المسرحية وبين الحقيقة.
فضحك ضحكة كريهة، فقلت متخطية عذابي: إنه الوهم! - الجميع كما عرفناهم في الحياة. - الجديد المتخيل أكثر من الواقع بكثير. - لم صورك في تلك الصورة؟ - المؤلف شخص آخر غير ابني. - توهمت كثيرا أنه يحبك ويحترمك! - لا شك في ذلك. - وجهك يشهد بنقيض لسانك. - إني واثقة من نفسي. - حتى طارق! ... يا لك من امرأة فذة!
صرخت: أرحني من أفكارك القذرة. - ذلك الولد الذي زج بنا في السجن! - لم يكن يصور نفسه، كان يصورك أنت. - كم ادعى المثالية!
فقلت مغالبة اليأس في قلبي: عندما يعود سأذهب معه.
وغادرته إلى حجرتي، أغلقت الباب، وأفحمت في البكاء؛ كيف لا تعرف أمك يا عباس؟! •••
يهبط السلم مترنحا، يكاد يقع من الإعياء. يراني، فيقول: كولونيا ... أنا في غاية الإرهاق.
أدخل حجرتي لأجيئه بالكولونيا، فيتبعني. أقول: إليك الكولونيا. - شكرا ... شربت أكثر مما يجوز. - وكان حظك سيئا من أول السهرة.
ينتعش قليلا، ينظر إلي، يقوم إلى الباب فيغلقه. أتحفز للرد، يقول: حليمة ... إنك رائعة! - هلم إلى فوق.
اقترب مني، فتراجعت مقطبة. - أتخلصين لهذا الحيوان؟
أقول بجدية: إني امرأة شريفة وأم.
وثبت إلى الباب ففتحته، تردد ثانية واحدة، ثم غادر الحجرة إلى خارج البيت. •••
ما من أحد منهم إلا راودني عن نفسي فرفضته، عاهرة؟! لقد اغتصبت مرة، عاشرت أباك زمنا قصيرا، ثم ترهبنت، إني راهبة لا عاهرة يا بني! هل زور أبوك لك تلك الصورة الكاذبة؟ إني امرأة محرومة تعيسة الحظ، ليس لي أمل سواك، فكيف تتصورني في تلك الصورة؟! سأحدثك عن كل شيء، ولكن متى ترجع؟! •••
المعربدة يتسللون إلى بيتنا العتيق بالليل، بقلوبهم الآثمة المستهترة، يدنسون الطريق المفضي إلى سيدي الشعراني. قلبي يهبط وأنا أطالع نظراتهم الفاجرة، ويطوف في إشفاق حول حجرة عباس. لكنك جوهرة يا بني، ولا يجوز أن تختنق في وحل الفقر. ها أنا أرحب بهم في مرح مصطنع، وأتقدمهم إلى الحجرة في الدور الأعلى، التي أعدت بقرض لاستقبالهم، وسأعمل لهم ساقية تقدم الطعام والشراب، ولا أدري أين أقف في المنحدر الوعر. - يا حبيبي، لا تنزعج، إنهم أصدقاء أبيك، كل الرجال يفعلون ذلك. - وأنت يا أمي ما شأنك وذلك؟ - إنهم زملائي في المسرح، ولا يليق بي إهمالهم.
ويقول سرحان الهلالي وهو يتخذ مجلسه إلى المائدة: مكان طيب وآمن.
إسماعيل يفنط الورق. فؤاد شلبي يقول ضاحكا: ممنوع جلوس تحية جنب طارق.
كرم يقف وراء الصندوق في طرف المائدة. طارق يعلق ضاحكا: صندوق نذور سيدي كرم يونس!
سرحان يقول محذرا: لا صوت يعلو على صوت المعركة!
كرم يذيب الأفيون بالشاي الأسود؛ يا لها من بداية لا تعرف لها نهاية! •••
رجعت إلى الزنزانة، كما رجعت الملابس إلى صاحبتها، ها هو يجلس بوجهه الكئيب الشارد، يبيع الفول واللب، ويشارك مع الزبائن في التشكي من الزمان. قلت وكأنما أحادث نفسي: نجحت المسرحية، وحسبنا ذلك عزاء.
فقال: لا يمكن الحكم قبل مرور أسبوع. - انفعال الجمهور؛ الانفعال هو كل شيء. - ترى كم أعطاه الهلالي ثمنا لها؟ - أول عمل يباع بأبخس الأثمان، وعباس لا يهتم بالمادة.
قهقه ساخرا، فلعنته في سري. •••
في الحجرة المترامية، يرمقنا إله الشر باسما، ويتمتم: أهلا حليمة ... أخمن أن ابنك يقدم مسرحية جديدة؟ - هو ذلك.
يقول مخاطبا عباس: المسرحيات السابقة لا قيمة لها.
فيقول عباس: إني أنتفع دائما بإرشاداتك. - بودي أن أشجعك، إكراما لوالدتك على الأقل. •••
الأسابيع تتلاحق، والنجاح يستفحل. لم يعرف المسرح نجاحا كهذا من قبل. الأسابيع تتلاحق والأشهر، متى يظهر المؤلف؟ ليكن رأيك ما يكون، فلأتألم ما شاء لي الألم، ولكن أين أنت؟ وقلت لأسمع الرجل: لا شك أنهم في المسرح يعرفون جديدا عن الغائب. - ذهبت إلى هناك آخر مرة منذ عشرة أيام.
لم أطالبه بشيء تحاميا للسانه، كان يتردد على المسرح من آن لآن، أما أنا فلم أجرؤ على الذهاب منذ ليلة الافتتاح، لكنه ذهب في ضحى اليوم التالي. إنه يوم دافئ، مشرق الشمس، وقد خفق قلبي بأمل ملهم. •••
أتصور عجائب وغرائب، ولكني لا أتصور أن يتزوج عباس من تحية. سيذهب عباس، ويبقى طارق رمضان، فأين عدالة السماء؟ - عباس، إنها تكبرك بعشرة أعوام على الأقل.
إنه يبتسم في استهانة، فأقول: لها سيرة وتاريخ؛ ألا تفهم ما يعنيه ذلك؟ - المسألة أنك لم تعرفي الحب.
تقلص باطني بمرارة، وتذكرت أحزاني الدفينة، فعاد يقول: سنبدأ حياة جديدة. - لا يمكن أن يتحرر إنسان من تاريخه. - تحية رغم كل شيء طاهرة.
لم أكن منصفة، ونسيت نفسي، كنت أتمنى له مصيرا أفضل، هذا كل ما هنالك. وقد زارتني تحية، بدت حزينة ومصممة.
قالت لي بتوسل: لا تقفي في سبيل سعادتي.
فقلت لها بحدة: إنك تسرقين البراءة. - سأكون خير زوجة له. - أنت!
تضايقت من لهجتي، فامتقع لونها، وقالت: كل امرأة في المسرح بدأت من سرحان الهلالي!
تقبض قلبي؛ أجل، كل واحد هناك يعرف ما يعرفه، ويستنتج ما لا يعرف. كأنها تهددني، إنني أمقتها، ولكنه سيبقى ابني رغم كل شيء. •••
ألم يتأخر الرجل عن ميعاد عودته؟
بلى، ها هي الشمس تسحب أطراف ذيلها من جدران الشارع الضيق، فماذا أخره؟ هل عرف أخيرا مكانه فقصده؟ هل يجيئان معا؟ إني أتخيل وجهه المهذب الباسم وهو يعتذر، وأومن بأن هذا العذاب لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. أجل، أطلعتني المسرحية على كوامن ضعفي، ولكنني حافظت دائما على نقاء قلبي، ثم ألم أكفر عن ضعفي بما فيه الكفاية؟ من كان يتخيل تلك الحياة مصيرا لحليمة الجميلة الطاهرة؟ لا يخفق قلبي الآن إلا بالسماحة والحب، فاقض يا رب بما أنت قاض، حتى كرم سأغفر له وحشيته تقديرا لتعاسته، سأغفر له كل شيء عندما يعود متأبطا ذراع حبيبي الغائب. قلبي يخفق بإلهام عجيب، ولكن مرور الوقت يكدره. وقال لي زبون وهو يمضي بلفافته: أنت يا أم عباس في دنيا أخرى.
ترامى إلي أذان العصر، والعتمة تزحف فوق نهار الشتاء القصير. ليس تأخره بلا سبب؛ إنه لا يقيم وزنا لانتظاري الملهوف، ولكن ماذا أخره؟ الشمعة تحترق، وريح الشتاء تعصف بذبالتها. وقفت وليس في نيتي أن أجلس ثانية؛ لقد تغير قلبي، خانني بلا ترفق، ونفد صبري، لا بد أن أذهب! أول من صادفني عند باب المسرح كان فؤاد شلبي. أقبل بحنان غير معهود، وبسط لي يديه، وهو يقول: أرجو أن يكون خبرا كاذبا.
فتساءلت وأنا أفقد البقية الباقية من الأمل: أي خبر؟
فارتبك الرجل، ولم ينبس، فتساءلت: عن عباس؟
فأحنى رأسه بالإيجاب ولم يزد، وغبت عن الوجود.
أفقت فوجدتني مستلقية على كنبة في البوفيه، وعم أحمد يعنى بي، وفي المكان فؤاد شلبي وطارق رمضان. حكى لي عم أحمد بصوت جنائزي، ثم ختم بقوله: لا أحد يصدق.
أوصلني فؤاد شلبي بسيارته، تساءل في الطريق: إذا كان انتحر، فأين جثته؟
فسألته: ولم كتب الرسالة؟
فأجاب: ذاك سره ... وسنعرفه في حينه.
ولكني أعرف سره، أعرف قلبي، أعرف حظي. عباس انتحر، الشر يعرفه المزمار!
عباس كرم يونس
البيت القديم والوحدة هما رفيقا عمري الأول، أحفظه عن ظهر قلب. بوابته مقوسة الهامة، شباك المنظرة ذو القضبان الحديدية، حجراته في الطابقين ذوات الأسقف العالية، والعروق الخشبية الملونة، وبلاط أرضياتها المعصراني، أثاثه القديم الشاحب من الكنبة والشلت والحصر والأكلمة، وزجاج شراعات أبوابه بقطعه الملونة بالأحمر والأخضر والبني، وأحياؤه من الفئران والصراصير والأبراص، وسطحه المغطى بحبال الغسيل مثل أسلاك الترام والترولي باص، المطل على أسطح تكتظ بالنساء والأطفال في عصاري الصيف. أجول فيه وحدي، وصوتي يتردد بين أركانه، مستذكرا درسا، أو مسمعا شعرا، أو مقلدا مقطوعة مسرحية، أو منشدا أغنية. أطل على الطريق الضيق متابعا تيار الخلق، تواقا إلى رفيق ألاعبه. يناديني غلام قائلا: انزل.
فأجيبه: الباب مغلق، والمفتاح مع أبي.
اعتدت الوحدة بالنهار والليل فلا أخافها، ولا أخاف الشياطين.
يقول أبي ضاحكا: لا شيطان إلا ابن آدم.
فتبادرني أمي: كن ملاكا.
وأتسلى عند الفراغ بمطاردة الفئران والأبراص والصراصير. قالت لي أمي ذات يوم: كنت أحملك معي وأنت وليد في مهد من الجلد، وأضعك على أريكة إلى جانبي في حجرة قطع التذاكر، وطالما أرضعتك في المسرح.
ذلك عهد لا أتذكره، ولكني أتذكر عهدا أحدث نسبيا، وأنا في الرابعة أو حوالي ذلك، فكنت أتجول في صالة المسرح، أو وراء الكواليس، وأستمع فيما بين هذا وذاك إلى ممثلين وهم يحفظون أدوارهم، فتمتلئ أذناي بأناشيد الخير والمواعظ ونذر الشر والجحيم، فأتلقى تربية لم تتح لي على يدي والدي الغائبين عني دوما بالنوم والعمل. وعند العرض الأول لكل مسرحية جديدة، كنت أشهدها مع والدي، وأمضي الوقت بين الانبهار والنعاس. وأيضا تلقيت أول كتاب مصور عن ابن السلطان والساحرة، أهدانيه فؤاد شلبي. هكذا عرفت بطل الخير وشيطان الشر في المسرح، ولم يكن لدى أحد من والدي وقت لتوجيهي، فضلا عن أن والدي لا يكترث بالتربية بتاتا، على حين قنعت أمي بوصية فريدة ترددها لي: كن ملاكا!
وتشرح لي معنى الملاك بأنه المحب للخير، المانع للأذى، النظيف الجسد والملبس. فولي أمري الحقيقي هو المسرح، ثم الكتاب عندما يجيء وقته، وآخرون لا يمتون بصلة إلى أبوي.
لذلك سرعان ما أحببت المدرسة لدى إلحاقي بها؛ انتشلتني من الوحدة، وجادت علي بالرفاق. وكان علي أن أعتمد على نفسي في كل خطوة، أستيقظ مبكرا، أتناول إفطاري البارد من الجبن والبيض المسلوق في الطبق المغطى بالفوطة، أرتدي ملابسي، وأغادر البيت في هدوء؛ حتى لا أوقظ أبوي النائمين. أرجع عصرا، فأجدهما يستعدان لمغادرة البيت إلى المسرح، أبقى وحدي، أؤدي واجباتي المدرسية، ثم أتسلى باللعب المنفرد والقراءة - المصورة ثم المكتوبة - ولا أنسى هنا فضل عم عبده، بياع الكتب المستعملة الرابض بمجلسه عند مسجد سيدي الشعراني. وأتناول عشائي المكون من الجبن والحلاوة الطحينية، ثم أنام. لا أحظى برؤية والدي إلا فيما بين العصر والأصيل، وحتى تلك الفترة القصيرة يضيع جانب منها في الاستعداد للخروج، ولا يبقى للمؤانسة والرعاية إلا القليل. وتعلق بهما قلبي وأشواقي؛ سحرني جمال أمي وعذوبتها وحنانها، والملائكية التي تدعوني إليها، وبدا لي أبي كائنا رائعا بمداعباته الرقيقة، وضحكاته السخية، ولم يفسد جو اللقاء المحدود بتحذير أو إرشاد أو تهديد، وآثر دائما أن ينفقه في دعابة ومرح، ولم يزد عن أن يقول لي أحيانا: تمتع بوحدتك، أنت ملك البيت، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ الولد الوحيد الذي لا يعتمد على أحد؛ كذلك كان أبوك، وستكون أروع منه.
فتسارع أمي قائلة: إنه ملاك، كن ملاكا يا حبيبي.
وأسأل أبي: هل كان جدي وجدتي يتركانك وحدك أيضا؟
فيجيب ضاحكا: أما جدك فقد تركني إلى الآخرة قبل أن أعرفه، وأما جدتك فكانت موظفة بالداخلية.
وتقطب أمي، فأشعر أن وراء الكلام سرا ما، وتقول: مات جدك مبكرا، ولحقت به جدتك، فوجد أبوك نفسه وحيدا. - في هذا البيت نفسه؟ - أجل!
ويقول أبي: لو نطقت الجدران لحدثتك بأعجب الحكايات.
كان بيت الوحدة، ولكنه كان بيت الوئام أيضا. وقتذاك، كان أبي وأمي زوجين متوافقين أو هكذا بدوا لعيني فيما بين الأصيل والعتمة، يتبادلان الحديث والدعابة، ويشتركان في عاطفة صادقة نحوي، وكان أبي يميل إلى الانطلاق في التعبير، فتوقفه أمي بنظرة تحذير ألحظها أحيانا فأتساءل. ولحظة ذهابهما كانت لحظة أليمة، لذلك كنت أنتظر يوم الخميس بنفاد صبر؛ لأذهب معهما وأشاهد المسرحية. وكلما تقدمت في التعليم والقراءة، طالبت بمزيد من القروش لشراء الكتب، حتى كونت مكتبة من قصص الأطفال المستعملة ... وقال لي أبي: ألا يشبعك أنك تشاهد المسرح كل أسبوع؟
ولكني لم أكن أشبع، ووثبت بي الأحلام إلى آفاق جديدة، حتى قلت له ذات يوم: أريد أن أكتب مسرحية!
فقهقه عاليا، وقال: احلم بأن تكون ممثلا، فهو أفضل وأربح. - وعندي فكرة أيضا. - حقا؟
ورحت أحكي له فكرة فاوست، وكانت آخر ما شاهدت، بلا جديد أضيفه، إلا أنني جعلت بطلها غلاما في مثل سني. فتساءلت أمي: وكيف ينتصر الغلام على الشيطان؟
فأجاب أبي: ينتصر الإنسان على الشيطان بوسائل الشيطان نفسه!
فهتفت أمي: احتفظ بأفكارك لنفسك، ألا ترى أنك تحدث ملاكا؟
منذ سن مبكرة، تشبعت بحب الفن والخير، ناجيتهما طويلا في وحدتي، وعرفت بهما بين أقراني في المدرسة، تميزت بينهم لما غلب على أكثرهم من العفرتة. وكلما ضاق المدرس بهم صاح: يا أبناء حي الغواني!
وملت إلى نخبة قليلة عرفت بالمثالية البريئة، حتى كونا من أنفسنا جمعية أخلاقية لمقاومة الألفاظ البذيئة، وكنا نردد الأناشيد، ونصدقها، ونؤمن بمصر الثورة الجديدة. وعلى حين نذر البعض أنفسهم لبطولات خارقة عسكرية أو سياسية، فقد نذرت نفسي للمسرح، وتصورته منبرا للبطولة أيضا، ويناسب من ناحية أخرى ضعف بصري الذي جعلني أستعمل النظارة الطبية قبل إنهاء دراستي الابتدائية. ومهما يكن من اختلافنا، فقد حلمنا بعالم مثالي جعلنا أنفسنا على رأس مواطنيه المثاليين، وحتى الهزيمة لم تزعزع أركاننا، وما دام الأناشيد لم تتغير، ولا تغير الزعيم، فماذا تعني الهزيمة؟ لقد شحب وجه أمي، وغمغمت بكلمات غير مفهومة، أما أبي فهز منكبيه كأن الأمر لا يعنيه، وراح يردد بصوت أجش ساخر:
بلادي بلادي فداك دمي
وقد توقف المسرح عن العمل أياما، فنعمت ببقاء والدي في البيت طيلة الوقت مرة، واصطحبني أبي معه إلى مقهى بشارع الجيش، فتذوقت تجربة جديدة. وإذن فإن الهزيمة لم تخل من نتائج طيبة غير متوقعة، وإن تكن قصيرة الأجل. •••
تقول أمي وهي تملأ أقداحنا بالشاي: عباس ... سيسكن عندنا غريب!
رنوت إليها غير مصدق، فقالت: إنه صديق أبيك، وأنت أيضا تعرفه، فهو طارق رمضان. - الممثل؟ - نعم؛ اضطر إلى ترك مسكنه، ولم يجد في أزمة المساكن حلا آخر.
تمتمت في غير ارتياح: إنه ممثل تافه ... ومنظره لا يسر. - الناس للناس، وأنت ملاك يا حبيبي ...!
وقال أبي: سيجيء مع الفجر، وينام حتى العصر، ويظل البيت مملكتك الخاصة عدا حجرة واحدة.
لم أشعر بمجيئه قط، ولكنه كان يذهب عادة مع والدي أو في أعقابهما. كان وقح النظرة، فظ التعبير ... وجعل يهتم بي اهتماما متكلفا مجاملة لأبوي، ولكني لم أحترمه. وشاهد مكتبتي يوما من مجلسه في الصالة، فسألني: كتب المدرسة؟
فقالت أمي بزهو: كتب أدب ومسرحيات، إنك تحدث مؤلفا مسرحيا! - اللعنة على المسرح، ليتني كنت بياع خردة أو لحمة راس.
عند ذاك سألته: لم لا تمثل إلا أدوارا صغيرة؟
فسعل سعلة غليظة، وقال: قسمتي! ... حظ أعرج يطاردني، ولولا شهامة أبيك، لاضطررت للبيات في المراحيض العمومية.
فقالت له أمي: لا ترعب الأستاذ بكلامك يا طارق.
فقال ضاحكا: على المؤلف أن يعرف كل شيء، والشر خاصة، فمن الشر ينبع المسرح.
فقلت بحماس بريء: ولكن الخير ينتصر دائما.
فقال ساخرا: هو كذلك في المسرح. •••
ثمة تغير مبهم يزحف بهدوء وحذر كالليل؛ ليس الصمت هو الصمت، ولا الكلام هو الكلام، ولا أبي هو أبي، ولا أمي هي أمي. أجل، لم تكن الحياة تخلو من اختلاف أو نقار، ولكنها كانت تمضي في إطار معاشرة طيبة. ما هذا الغامض الخفي الذي تسلل بينهما؟ كانت لها إشراقة دائمة، فتلاشت، وكان يعيش خارج ذاته في قهقهات وسخريات وملاطفات، فانطوى على ذاته. علاقة أمي بي إلى الحنان القديم - اتسمت بأسى لم تفلح في مداراته، أما أبي فأهملني تماما. تسرب إلى جنبات نفسي قلق وتوقعات مجهولة غير سارة. وفي مجلس الشاي قبيل الذهاب، سمعت طارق يقول لهما مرة: لا تستسلما للشيطان.
فقالت له أمي بمرارة: ما الشيطان إلا أنت!
فقال أبي محتجا: لست قاصرا!
ولم تسترسل أمي إكراما لحضوري فيما توهمت، ولما غادروا البيت انتابني شعور بالحزن والضياع. لقد حدث شيء ما في ذلك من شك. إني أسأل أمي، فتتهرب مني متظاهرة بالاستهانة، وأسمع حوارا محتدما بينها وبين أبي وهما منفردان في الصالة، فأنكمش وراء الباب الموارب متصنتا. تقول له بتوسل: ما تزال توجد فرصة للنجاة.
فيقول لها بغلظة: لا تتدخلي في شئوني الخاصة. - لكن فعلك ينعكس علينا، ألا تدرك ذلك؟ - إني أكره المواعظ! - الأفيون قتل زوج خالتي! - هذا يثبت أنه لا يخلو من فائدة. - لقد تغيرت أخلاقك، ولم تعد تحتمل.
اقتحمني الخوف، إني أعرف الأفيون، عرفته في مسرحية «الضحايا»، مناظر الهالكين لم تبرح ذاكرتي؛ هل يصير أبي واحدا منهم؟ هل يترك أبي المحبوب للفناء؟! وانفردت بأمي في الصالة، قبل مجيء أبي وطارق رمضان؛ رمقتها بحزن، فسألتني: ما لك يا عباس؟
فقلت بصوت متهدج: إني أعرف، إنه شيء خطير، لم أنس مسرحية الضحايا. - كيف عرفت؟ ... لا، ليس الأمر كما تتصور.
وجاء أبي منفعلا مما قطع بأنه سمعني، وصاح بي: يا ولد، الزم حدودك.
فقلت له: إني أخاف عليك!
فصاح بصوت أفظع من الأول: اخرس، وإلا كسرت رأسك.
وأخذت وأنا أراه في صورة جديدة متوحشة. تبدد حلم سعيد طويل، انسحبت إلى حجرتي، تخيلت منظرا مسرحيا متكاملا، يبدأ بطرد طارق، وينتهي بتوبة أبي على يدي، وقلت إن الخير ينتصر إذا وجد من ينصره، ولكن الحال مضى من سيئ إلى أسوأ! أبي يزداد انطواء، تلاشى الأب القديم، يغيب عنا، وإذا دعاه داع إلى اليقظة فلكي يصب اللعنات والإهانات. بت أخافه وأتحاشاه. أمي شقية، ولا تدري ماذا تفعل، وتسأله مرة: أجري وحده لا يكفي بيتك.
فيقول لها: انطحي الجدار!
أجل، لم تعد المعيشة كما كانت؛ تقشف في الطعام، وتراجع في المصروف. أنا لا يهمني الطعام ولا النقود؛ كيف أقتني الكتب؟ حياة الروح لا تستغني عن النقود للأسف الشديد، وأتعس ما رميت به أنني فقدت أبي؛ أين ذلك الرجل القديم؟ يثور على نظرة عيني، ويقول لي: إنك أنموذج سيئ لا يصلح للحياة.
وتدهور الحال حتى انفصلا تماما، فاستقل كل واحد منهما بحجرة. تفتت البيت، بتنا سكانا غرباء في طابق واحد؛ عزيز علي مصير أمي! ومن ذلك المنطلق، تخيلت موقفا مسرحيا يدور حول معركة بين أبي وطارق، يقتل أبي طارق رمضان، ثم يقبض عليه، ويمضي وهو يقول لي: ليتني سمعت كلامك. يعود الطهر إلى البيت القديم. ولكني أشعر بالندم، الندم على قسوة خيالي. وأسأل أمي: كيف تواجهين تكاليف الحياة وحدك؟ - إني أبيع أشياء صغيرة. انتبه لعلمك؛ فأنت الأمل الوحيد الباقي. - قلبي معك. - أعرف ذلك، ولكن لم يحن الوقت بعد لتحمل همومنا؛ يجب أن تعمل من أجل مهنة مفيدة. - حلمي أن أكون مؤلفا للمسرح. - مهنة لا تضمن لك ثروة. - إني أحتقر المادة، أنت تعرفين كل شيء عني. - احتقر المادة، ولكن لا تتجاهلها.
فقلت لها بحماس: سينصر الخير يا أمي. - إني أدمن الحلم كما يدمن أبي الأفيون. بالحلم أغير كل شيء وأخلقه، أكنس سوق الزلط وأرشه، أجفف طفح المجاري، أهدم البيوت القديمة وأقيم مكانها عمارات شاهقة، أهذب الشرطي، أسمو بسلوك الطلاب والمدرسين، أوفر الطعام من الهواء، أمحق المخدرات والخمر.
ويجلس أبي في الصالة ذات عصر، وهو يشذب شاربه بملقاط، وقبالته طارق يرفأ جوربه. ويقول طارق: لا يخدعك فقر الفقراء، البلد ملأى بأغنياء لا يدري بهم أحد.
فقال أبي: الهلالي يربح ذهبا.
فيضحك طارق قائلا: طظ في الهلالي وذهبه، حدثني عن النساء، وفائض البترول! - يعجبني الجنون، ولكننا عاجزون.
وتدخلت قائلا: كان أبو العلاء يعيش على العدس وحده.
فصاح بي أبي: انقل هذه الحكمة لأمك!
وألوذ بالصمت، وأنا أقول لنفسي: يا لهما من حيوانين! •••
تحية أمامي وجها لوجه، ناضجة الأنوثة جذابة العينين؛ نظرت إليها في ذهول وأنا لا أصدق عيني! في الأيام السابقة للامتحان، كنت أسهر الليل وأنام في النهار، فتح الباب وأنا أتمشى في الصالة، ودخلت تحية، أما أبي وأمي فقد سبقا للنوم. دخلت تحية وفي أثرها طارق رمضان؛ إني أعرفها، وطالما رأيتها فوق خشبة المسرح، تقوم بأدوارها الثانوية مثل طارق. نظرت إليها بذهول، فقالت باسمة: ماذا يوقظك في هذه الساعة المتأخرة؟
فقال طارق: إنه مجاهد، يسهر الليل في طلب العلم، وبعد أسبوع سيدخل امتحان الإعدادية. - برافو!
ومضيا يصعدان السلم إلى حجرة طارق؛ دار رأسي، فار دمي، أيجيء بها إلى حجرته من وراء أبي وأمي؟ أليس لها بيت يذهبان إليه؟ أي تدهور يهبط ببيتنا إلى الحضيض؟! عجزت عن تركيز ذهني، واحترق رأسي بالفكر. هاجمني الشر وأنا أعاني المراهقة والرغبات الجامحة، وأكافحها بالإرادة والطموح إلى النقاء، واشتعلت بالغضب حتى صرعني النوم. وأقبلت على والدي وهما يجلسان في الصالة عصرا؛ ما إن رآني أبي حتى تساءل في توجس: ماذا وراءك؟
فقلت بتدفق حار: حدث غريب لا يتصوره عقل؛ جاء طارق بتحية إلى حجرته أمس!
فمد إلي بصره الثقيل، وثبته علي دون أن ينبس، فتوهمت أنه لا يصدقني، فقلت: لقد رأيت بعيني.
فسألني ببرود مثير: ماذا تريد؟ - أردت أن أخبرك، لتؤدبه وتفهمه أن بيتنا بيت محترم؛ يجب أن تطرده.
فقال بحدة: انتبه لعملك، ودع شئون البيت لصاحبه.
وقالت أمي بصوت منخفض ذليل: إنها خطيبته. - ولكنه لم يتزوجها بعد!
فخاطب أبي أمي قائلا بسخرية وهو يومئ ناحيتي: يريد أن يموت جوعا.
فقلت مجتاحا بدفقة غضب: نحن الذين أفقرنا أنفسنا.
فرفع قدح الشاي ليرميني به، ولكن أمي وثبت بيننا، ومضت بي إلى حجرتي. رأيت عينيها منذرتين بالدمع، وقالت لي: لا فائدة ترجى منه، فلا تحتك به. بودي لو نهجر البيت معا، ولكن أين نذهب؟ أين نجد مسكنا؟ ومن أين لنا بالنقود؟!
لم أجد جوابا. تبدت لي الحقيقة ببشاعتها وبلا رتوش؛ لقد أذعنت أمي مغلوبة على أمرها، وغلب أبي على أمره مهزوما بإدمانه؛ إنه مسئول ما في ذلك من شك، ولكنه مغلوب على أمره. إنه أكثر من ذلك، فإنه يبدو أحيانا بلا مبادئ على الإطلاق. إني أحتقره بقدر ما أرفضه؛ لقد جعل من مأوانا العتيق بيت دعارة. أنا أيضا ضعيف، ما دمت لا أجد ما أفعله إلا أن أذرف الدمع الغزير . •••
نجحت، غير أني لم أسعد بالنجاح كما ينبغي، لازمني الشعور بالعار، استقر بأعماقي حزن مقيم، هاجرت في العطلة الطويلة إلى دار الكتب، كتبت مسرحية، رجوت أبي أن يعرضها على سرحان الهلالي، ولكنه قال لي: إنه ليس مسرح أطفال.
تطوعت أمي بتقديمها إليه، رجعت بها بعد أسبوعين، وقالت لي: لا تتوقع أن تقبل أولى مسرحياتك، وما عليك إلا أن تعيد التجربة.
حزنت، ولكني لم أيئس، وكيف أيئس بعد أن لم يعد لي من أمل إلا المسرح؟ وصادفت ذات يوم الأستاذ فؤاد شلبي في قاعة المطالعة، فصافحني، وذكرته بنفسي، فرحب بي. وتشجعت بلطفه، وسألته: كيف أكتب مسرحية مقبولة؟
فسألني بدهشة: ما عمرك؟ - ماشي في السادسة عشرة. - في أي مرحلة تعليمية؟ - الثانوية بدءا من العام القادم. - ألا تنتظر حتى تكمل تعليمك؟ - أشعر بقدرة على الكتابة. - لكنك لم تفهم الحياة بعد. - عندي فكرة عنها لا بأس بها.
فسألني باسما: ما هي الحياة في نظرك؟ - هي معركة الروح ضد المادة.
فازدادت ابتسامته اتساعا وهو يتساءل: والموت ما موقعه من هذه المعركة؟
فقلت بثقة: هو الانتصار النهائي للروح!
فربت على منكبي، وقال: ليت الأمور بهذه البساطة، تلزمك تجارب كثيرة، ابحث أيضا عما يهم الناس ويثيرهم؛ إني أطالبك بخوض خضم الحياة، والانتظار عشرة أعوام على الأقل.
دفعني حديثه في جوف الوحدة أكثر مما كنت؛ إنه يتصور أني بمنجاة من التجارب، لعله غاب عنه ما يحدث في بيتنا، وغاب عنه أيضا جهاد النفس في معركة المراهقة، النزاع الذي لا يهدأ بين السمو والشهوات، بين أشعار المجانين والخيام، بين تحية العابثة في الحجرة العليا وطيفها الزائر للخيال، بين الطين وقطرات السحب البيضاء. •••
إن ما يفعل بالحجرة المجاورة لحجرة طارق عجيب؛ بيع أثاثها القديم، اشتري لها أثاث جميل من مزاد علني، توسطتها مائدة خضراء، غطى بلاطها المعصراني بساط كبير، قام في جدارها الأوسط بوفيه؛ إنه استعداد غامض. وأسأل أمي فتقول: أبوك يعدها للسمر مع أصدقائه، كما يفعل الرجال.
رمقتها بارتياب، فما عاد اسم أبي يوحي إلا بالارتياب، فقالت: سيسهرون سهرتهم عقب إغلاق المسرح.
تعودت أن أقبع في الظلام في حجرتي لأرى الأشياء؛ لا ترى الحوادث على حقيقتها في بيتنا إلا من الظلام! وقد جاء الصحاب في هزيع موغل من الليل. رأيتهم يتقاطرون، في المقدمة والدي، الهلالي، إسماعيل، سالم العجرودي، فؤاد شلبي، طارق، تحية. تسللت إلى الدور الأعلى في الظلام، قد تحلقوا المائدة ودار الورق؛ إنه القمار كما رأيته في المسرح. مآسي المسرح تنتقل إلى بيتنا بأبطالها أو ضحاياها، هؤلاء الناس يتصارعون فوق الخشبة، أما هنا فيقفون صفا واحدا في جانب الشر، إنهم ممثلون، حتى الناقد ممثل أيضا، لا شيء حقيقي إلا الكذب. إذا جاء الطوفان، فلن يستحق السفينة إلا أمي وأنا. إن يكن للنية قيمة إذ لا عمل لنا. حتى أمي تعد الطعام والشراب. وأقول لها: ما كان ينبغي أن تقومي بخدمة السفلة.
فتقول كالمعتذرة: إنهم زملاء، وأنا ربة البيت. - أي بيت؟ ما هو إلا ماخور وناد للقمار.
فتقول بأسى: أتمنى لو أهرب، لو نهرب معا، ولكن ما الحيلة؟!
فأقول بحنق: لذلك أكره النقود! - لكنها ضرورية؛ هذه هي المأساة. على أي حال، فلا أمل لي سواك. •••
ما الخير؟ ما الخير بلا عمل؟ لا ينشط إلا الخيال، الخيال ميدانه المسرح. البيت غنيمة في يد السفلة. حداثة سني ليست بالعذر المقبول. إنه العجز، لذلك مر النصر كخبر. في الأقران من الطلبة حياة لا أشارك فيها إلا بالحماس والخيال، تتحول الكلمات الجميلة إلى صور لا أفعال، إنهم يرقصون رقصة الموت على حين أصفق أنا خارج الحلبة. ويجيء فؤاد شلبي بدرية ليتناجيا في الحجرة الثالثة، تحت إطار البسملة المهداة من جدي. وقلت لأمي: شلبي ودرية أيضا! علينا أن نذهب!
فقالت محمرة العينين: ليس قبل أن تستطيع ذلك أنت. - إني أختنق. - وأنا مثلك وأكثر. - هل الأفيون هو المسئول عن ذلك كله؟
فلم تنبس، فقلت: ربما كان نتيجة وليس السبب. - أبوك مجنون.
ثم بصوت منخفض: ولكني مسئولة عن انخداعي به. - أود أن أقتله!
فمست ذراعي بحنان، وهمست: انغمس في العمل، فأنت الأمل الباقي. •••
ليلة النار التي أهلكت آخر نبتة خضراء. من الظلام رأيت سرحان الهلالي يهبط السلم مترنحا، شعره منفوش، عيناه مظلمتان، يسوقه جنون أعمى. لماذا هجر الحجرة والمعركة محتدمة؟ خرجت أمي من حجرتها مستطلعة، وكنت أظنها فوق، لاقته أسفل السلم، تهامسا بما لم تبلغه أذناي، دخلت حجرتها فاندفع وراءها، توثبت للاندفاع ولكنني لم أتحرك؛ أهمني أن أعرف الحقيقة أكثر من أن أمنعها. أمي أيضا؟! لعله أغمي علي دقائق. هي النهاية التي ليس وراءها نهاية. تفتت الكون، وضج بسخرية الشياطين. اندفعت إلى الصالة، ومنها إلى الحجرة، وقد غرقت في الظلام، أضأت النور فوجدتها خالية، أطفأت النور، وخرجت إلى الصالة وأضأتها. لبثت واقفا بوعي مشتت، وإذا بوالدي يهبط السلم، حتى يقف أمامي، ويسألني بخشونة: ماذا أيقظك؟
فقلت وأنا لا أدري ماذا أقول: أرق طارئ. - هل رأيت سرحان الهلالي؟ - إذا لم يكن فوق، فقد غادر البيت. - متى؟ - لا أدري. - هل رأته أمك؟ - لا أدري.
رجعت إلى حجرتي، لبثت واقفا في الظلام يشتعل رأسي بأفكار جنونية. لم أشعر بمرور الوقت، حتى انتبهت إلى وقع أقدام الراحلين. لم يبق في الصالة إلا أبي وأمي، ألصقت أذني بثقب الباب لأسمع ما يدور. سمعته يسألها: ماذا حدث من وراء ظهورنا؟
لم تجب، فعاد يسأل: عباس رأى؟
لم تجب أيضا، فقال: هو الذي ألحقك بالعمل ... معروف أنه لم يعتق امرأة واحدة، حتى أم هاني.
لم أسمع لها صوتا، فعاد يقول: لا شيء بلا ثمن، هذا ما يهمني، أما أنت فلا تستحقين الغيرة.
أخيرا جاء صوتها قائلا: إنك أحقر من حشرة!
فقال مقهقها: إلا حشرة واحدة.
هذه هي الحقيقة؛ هذا أبي وهذه أمي. النار تتمادى في الاشتعال، أغمد خنجرك فحتى قيصر قد قتل. سيرانو دي برجراك صاول الأشباح! إني أرفض أبوي، القواد والداعرة؛ لا أنسى أنني رأيتها وفؤاد شلبي يتهامسان مرة، فلم يداخلني سوء ظن، ومرة أخرى مع طارق رمضان نفسه، فلم يداخلني شك. الجميع ... الجميع ... بلا استثناء ... لم لا؟ هي عدوي الأول. أبي مجنون مدمن، أما أمي فهي المدبرة لما يجري في الكون من الشر. •••
جاءني في حجرتي صوت أمي مناديا، فلم أستجب. من عجب أن مقتي لأبي متجسد واضح، أما شعوري نحوها فيتجسد في سخط عارم لا كراهية واضحة. سرعان ما جاءت، فأخذتني من يدي، وهي تقول: أجل القراءة، وكرس لنا هذا الوقت القصير النادر.
أجلستني إلى جانبها في الصالة، قدمت لي الشاي، قالت: أنت لا تعجبني هذه الأيام.
تجنبت النظر إلى وجهها، فقالت: إني أعلم بما يحزنك، ولكن لا تضاعف آلامي؛ ساعة الخلاص تقترب، وسنذهب معا.
يا لها من مخادعة! تمتمت: لا يطهر هذا البيت إلا حرقه! - حسبك قلبي الذي يعبدك!
هل أصب عليها الحمم الذي يمور به قلبي؟ لكن خيالي كان يدمر كل شيء، ثم يقف حائرا أمام عينيها.
وسألتني: هل تكتب مسرحية جديدة؟
فقلت: ستذكرك بمسرحية المرأة السكيرة.
إنها مسرحية تقدم عالما أسود من النساء الساقطات. فقالت: لا ... فلتشرق مسرحياتك بنور قلبك.
عند ذاك خرج أبي من حجرته، ونزل طارق وتحية. وقفت لأرجع إلى حجرتي، ولكن تحية اعترضت سبيلي قائلة بمرح: اجلس معنا أيها المؤلف.
لعلها أول مرة تعيرني اهتماما، فجلست، على حين قال طارق ضاحكا: سيكون هذا المؤلف تراجيديا.
فتمتم أبي ساخرا: إنه مريض بداء الفضيلة!
فقالت تحية وهي ترشف من قدحها رشفة: جميل أن يوجد في زماننا هذا فاضل.
فقال أبي: بصره ضعيف كما ترين، فهو لا يرى ما حوله.
فقالت تحية: دعوه في جنته، إني أحب الفضيلة أيضا!
فقال طارق ضاحكا: فضيلتك من النوع الضاحك المقبول.
فقالت تحية: إنه وسيم مثل أمه ... قوي كأبيه ... يجب أن يكون دون جوان.
فقال أبي ساخرا: انظري إلى نظارته؛ عيبه أنه لا يرى.
ولما ذهبوا فاض قلبي بالغضب والافتتان، نشط خيالي ليهدم ويعيد البناء؛ ما تحية إلا صورة من أمي، بل هي أفضل. عندما اعترضت سبيلي مستني فحركت حلما جديدا. عندما تذكرت مسها لي وأنا وحيد، انبثقت من سعير نفسي فكرة؛ هذه الدار العتيقة التي بناها جدي بعرق جبينه، وكيف تحولت إلى ماخور؛ هذه هي الفكرة، لا دليل لدي على نجاحها إلا ارتعاشة الفرح التي خامرتني. هل تصلح أساسا لمسرحية؟ وهل تقوم مسرحية بلا حب؟ •••
سمعت على الباب نقرا خفيفا، فتحته فرأيت تحية؛ ماذا جاء بها قبل ميعاد مجلس الشاي؟ دخلت وهي تقول: الجميع نيام إلا أنت.
وقفت في وسط الحجرة بملابس الخروج، تجيل النظر في أنحائها، وتقول: إنها بيت لا حجرة، مكون من غرفة نوم ومكتبة؛ هل أجد عندك حلوى؟
فقلت معتذرا: آسف!
استوى جسمها الناضج في وسط الحجرة، في هالة من الإثارة والجاذبية، ورأيت لون عينيها لأول مرة كالشهد الرائق. قالت: يجب أن أذهب، ما دام لا يوجد عندك إلا الكتب.
ولكنها لم تتحرك، بل راحت تقول: لعلك تتساءل عما دفعني للخروج مبكرة، إني ذاهبة إلى شقتي في شارع الجيش؛ ألا تعرفها؟ إنها تبعد عن باب الشعرية بمحطة ترام ... العمارة 117.
سألتها وقد ثملت تماما بحضور الأنوثة الفواح: انتظري حتى أجيئك بحلوى من الخارج. - سأجد في الطريق ما يلزمني؛ إنك لطيف جدا!
فقلت متناسيا في تلك اللحظة ما يرمز إليه وجودها من معاناة لضميري: أنت اللطيفة حقا.
فرنت إلي بنظرة موحية بالأحلام، وتحركت ببطء ورشاقة نحو الباب، فهمست على رغمي: لا تذهبي ... أعني ... خذي راحتك ...
لكنها ابتسمت في ارتياح ظافر، ومضت وهي تقول: إلى اللقاء!
تركت وراءها في الحجرة الهادئة عاصفة من الانفعالات البهيجة، لم تجئ لغير ما سبب، ولم تذكر رقم العمارة اعتباطا. خفق قلبي المحروم المتشبث بالبراءة، لأول مرة يجد قلبي امرأة حقيقية ليهيم بها؛ إنه لم يهم قبل ذلك إلا بليلي ولبنى ومية وأوفيليا وديدمونة. وفيما تلا ذلك من أيام، أصبح لكل نظرة نتبادلها خلسة معنى جديد يؤكد سحر الحياة. في غفلة من الحضور نتبادل حوارا ساخنا. وتساءلت وأنا من الحيرة في عناء: ترى أأرتفع أنا أم أهوي إلى الحضيض؟! •••
ورغم رياح أمشير المزمجرة في الخارج، ترامى إلى أذني من الطابق الأعلى صخب وعنف، رقيت في السلم مستكشفا، فرأيت في الصالة طارق وهو ينهال لطما على وجه تحية. تسمرت ذاهلا، توارت هي في الحجرة، على حين قال لي هو في برود: أزعجناك!
فتمتمت وأنا أكتم انفعالاتي: معذرة. - لا تنزعج، واستمتع بمشاهدة بعض عاداتنا اليومية.
وجاء صوتها المتهدج من الداخل صائحا: لن أرجع هذه المرة.
وسرعان ما تبعها طارق، وأغلق الباب.
ورجعت بحزن جديد غاص بي أكثر في قلب الظلام؛ لم ترضى امرأة جميلة مثل تحية بحياة مهينة مع رجل ك طارق؟ هل يتكشف الحب أيضا عن مأساة؟ وقد غابت بالفعل يومين، ولكنها رجعت في الثالث مشرقة الوجه! تقلص قلبي، وتضاعف حزني، احتقرت سلوكها، ولكن حبي لها تجسد لي حقيقة لا مفر منها، ولعله ولد ونشأ ونما من قبل أن أعيه بزمن غير قصير. وفي ذلك اليوم، عندما مضوا يغادرون المكان، تأخرت لإصلاح جوربها، ثم أسقطت من يدها لفافة ورق صغيرة قبل اللحاق بهم. بسطت الورقة بقلب مرتعش بالبهجة، فقرأت العنوان والساعة. •••
الشقة صغيرة مكونة من حجرتين ومدخل، ولكنها جميلة ونظيفة وتعبق بشذا بخور عذب. على منضدة في المدخل، استقر أصيص برتقالي كروي تنطلق منه باقة ورد وزهور كنافورة. استقبلتني باسمة في روب كحلي، وهي تقول مشيرة إلى الورد: احتفالا بيوم اللقاء.
دفعتني أشواق متراكمة إليها، فتعانقنا طويلا، وتذوقت فرحة القبلة الأولى، ولو ترك الخيار لي؛ لانتهى اللقاء قبل أن ننفصل، ولكنها تخلصت بلطف، وقادتني إلى حجرة جلوس زرقاء بسيطة وأنيقة، فجلسنا جنبا إلى جنب على الكنبة الرئيسية. قالت بصوت منخفض: تصرفنا جريء، ولكنه عين الصواب.
فرددت بتوكيد: عين الصواب. - ليس ممكنا أن نخفي ما بنا أكثر.
فقلت مصمما على إزاحة الطفولة: عين الصواب، أنا أحبك من زمن طويل. - حقا؟ ... أنا أيضا ... هل تصدق أني أحب لأول مرة؟!
لم أنبس، ولم أصدق، فقالت بحرارة: لقد رأيت بنفسك، وسمعت ربما ما هو أكثر، ولكنه التخبط لا الحب.
فقلت بأسف: حياة لا تليق بواحدة مثلك.
فاستأنست بكلامي، وقالت: لا يسأل متسول عما يليق وعما لا يليق. - يجب أن يتغير كل شيء. - ماذا تعني؟ - يجب أن نبدأ حياة لائقة.
فتمتمت بتأثر: لم أصادف أحدا مثلك، كانوا كلهم حيوانات.
فتساءلت بامتعاض : كلهم؟! - لا أريد أن أخفي عنك شيئا، سرحان الهلالي، سالم العجرودي، وأخيرا طارق.
صمت ... تذكرت أمي، أما هي فقالت: إن كنت ممن لا ينسون الماضي، فالفرصة ما زالت متاحة للتراجع.
أخذت راحتها بين راحتي، شعرت بقوة ذاتية تدفعني للقوة والتحدي، فقلت: لا أبالي إلا بالقيمة الحقيقية. - حدثني قلبي دائما بأنك أكبر من مخاوفي الصغيرة. - لست طفلا.
فقالت باسمة: لكنك ما زلت تلميذا. - ذلك حق، ما زالت أمامي مرحلة طويلة.
فقالت ببساطة مخلصة: أصبح لدي مدخر قليل، وبوسعي أن أنتظر.
لكنني وقعت في أسر الحب، وفاضت بي رغبة كامنة في هجر البيت الملوث الكئيب، فعقدت العزم على اتخاذ قرار يحول بيني وبين التراجع، ويفتح لي في الوقت ذاته طريقا جديدا. قلت: بل يجب أن نعقد زواجنا في الحال.
فتورد وجهها، وازداد حسنا، وأرتج عليها القول. فقلت: هذا ما يجب علينا.
قالت بانفعال: الحق أني أريد أن أغير هذه الحياة، أريد أن أهجر المسرح أيضا، لكن هل تضمن أن يمدك أبوك ببعض المال؟
فقلت باسما في أسى: هيهات أن يفعل، وهيهات أن أقبل مالا ملوثا. - وكيف إذن نتزوج؟ - بعد قليل سأفرغ من دراستي الثانوية، لن أجند لضعف بصري، فمن الأفضل أن أعمل، خاصة وأن موهبتي تعتمد على الدراسة الخاصة أكثر من الدراسة النظامية. - هل يكفي في هذه الحال مرتبك؟ - لقد طلب أبي إعفاءه من عمله في المسرح، اكتفاء بما يربحه من القمار وغيره، وهم الآن بصدد البحث عن ملقن؛ سأتقدم لأحل محل أبي، فأجد عملا في جو المسرح الذي أعقد به أملي في الحياة ... يضاف إلى ذلك أنك تستأجرين شقة، فلن تصادفنا عقبة السكن. - هل أستمر في عملي بالمسرح حتى تتحسن الأحوال؟
فقلت بحدة: كلا ... يجب الابتعاد عن أولئك الرجال. - قلت إنه لدي مدخر قليل، ولكنه لن يبقى حتى تقف على قدميك.
فقلت بحماس: علينا أن نتحمل حتى نبلغ النجاح المنشود.
عند بلوغ ذلك المرفأ، استسلمنا لعواطفنا، ونسينا إلى حين كل شيء، وربما لولاها ما واصلنا الحديث، ولكنها تخلصت من ذراعي بحنان وهي تهمس: يجب أن أتخلص من طارق ... لن أراه مرة أخرى.
فسألتها بضيق: سيجيء إلى هنا؟ - لن أفتح له الباب.
فقلت بتحد: سأخبره بكل شيء.
فقالت بقلق: أرجو ألا تتطور الأمور إلى ما يسوء.
فقلت بكبرياء: إني على استعداد لمواجهته. •••
رجعت إلى باب الشعرية مخلوقا جديدا، لأول مرة أراها من خلال نظرة المودع، فتلوح في غلالة أجمل وأجذب للحنان. عما قليل سأنتقل من مقاعد المتفرجين لألعب دورا في مسرح الحياة، سأستنشق هواء نقيا غير هواء هذا البيت القديم العطن. جلست في الصالة الخالية في الدور الأرضي، حتى رأيت طارق هابطا. حياني، ثم سألني: ألم تحضر تحية؟
فقلت وأنا أتوثب للنزول: كلا! - لم أقابلها في المسرح. - لن تذهب إلى المسرح. - ماذا تعني؟ - لن تحضر إلى هنا، ولن تذهب إلى المسرح. - من أدراك بهذه الأسرار كلها؟ - سنتزوج. - هه؟! - اتفقنا على الزواج. - يابن ... أنت مجنون؟ ... ماذا تقول؟! - قررنا أن نكون شرفاء معك.
ما أدري إلا ويده تلطمني، ثار غضبي، فوجهت إليه لكمة كادت تلقيه على الأرض، وإذا بوالدي يندفعان نحونا. صاح طارق: شيء مضحك ... المحروس سيتزوج من تحية!
هتفت أمي: تحية! ... إنها أكبر منك بعشرة أعوام!
راح طارق يهدد، حتى قالت له أمي: خذ ملابسك، ومع السلامة.
صاح وهو يمضي إلى الخارج: باق على أنفاسكم حتى النهاية.
وسادنا الصمت قليلا. تمتم أبي ساخرا: في العشق يا ما كنت أنوح.
وقالت لي أمي: عباس ... ما هي إلا نزوة إغراء. - لا ... إنها حياة جديدة. - وأحلامك ومستقبلك؟ - ستتحقق على خير مثال. - ماذا تعرف عنها؟ - لقد صارحتني بكل شيء.
فقهقه أبي قائلا: بنت مسارح، وتعرف الأصول ... وأنت شاب غريب؛ كان يجب أن تزهدك معرفتك لأمك في جنس النساء.
عند ذاك مضت بي أمي إلى حجرتي، وقالت لي: لها سيرة وتاريخ؛ ألا تفهم ما يعنيه ذلك؟
تجنبت النظر إليها، طحنتني من جديد الآلام الماضية. قلت: من سوء الحظ أنك لم تعرفي الحب ... سنبدأ حياة جديدة. - لا يمكن أن يتحرر إنسان من تاريخه.
أواه ... إنها لا تدري أنني أدري ... وقلت: تحية رغم كل شيء طاهرة.
ليتني أستطيع أن أقول عنك ذلك أيضا يا أمي. •••
ما إن أتممت المرحلة الثانوية، حتى قابلت سرحان الهلالي راجيا أن أحل مكان أبي، وفي الحال عقدت زواجي بتحية. ودعت البيت القديم وأهله بلا احتفال، وكأنما أمضي إلى المدرسة أو دار الكتب. لم يتفوه أبي بتهنئة أو دعاء، ولكنه قال: لماذا كان اجتهادك في المدرسة ما دام المصير هو عمل ملقن في الفرقة؟
أما أمي، فقد عانقتني وهي تنشج بالبكاء، وقالت لي: ربنا يسعدك، ويكفيك شر الناس، اذهب مصحوبا بالسلامة، ولا تنس زيارتنا.
ولكن العودة إلى الجحيم لم تخطر لي ببال، تطلعت إلى حياة جديدة، وإلى هواء نقي، وتمنيت أن أنسى البؤرة التي انصهرت فيها معانيا آلام العذاب والغم. ووجدت تحية في انتظاري، كما وجدت الحب ينتظر أيضا، وعرفت السعادة عندما تترجم إلى امتزاج بين اثنين متوافقين، فتضفي سحرها على الحديث والصمت، الجد واللهو، الطعام والعمل. وكانت تكمل بمدخرها ما يقصر عنه مرتبي، وحظيت باستقرار نفسي عوضني عما بدده القلق والتشتت والحزن والغضب الكظيم. وكنت أرجع إلى البيت حوالي الثانية صباحا، أستيقظ حوالي العاشرة، ويتسع الوقت بعد ذلك للحب والقراءة والكتابة أيضا. وكان كلانا يعقد أمله بالنجاح المأمول في تأليفي المسرحي، وفي سبيل ذلك رضينا بالبساطة في العيش، بل بالتقشف أيضا، وضاعف الاجتهاد والصبر والأمل من سعادتنا المشتركة. وأثبتت تحية بجدارة قوة إرادتها، فلم تذق قطرة من خمر على تعلقها القديم بها، بل امتنعت أيضا عن عادة التدخين توفيرا لثمنه، واعترفت لي بأن قدمها كادت تنزلق إلى إدمان الأفيون، لولا أن تعاطيها له صحب بأعراض صحية سيئة، كالقيء الشديد، فكرهته من أول الأمر. ولاحظت مهارتها كست بيت، حتى قلت لها مرة: بيتك نظيف دائما ومنظم، طعامك ممتاز، معاملتك مهذبة، ما كان يجوز.
وانقطعت عن تكملة الجملة، فقالت: مات أبي فتزوجت أمي من محضر، لقيت منها الإهمال، ومنه سوء المعاملة، حتى اضطررت إلى الهرب.
لم تزد، ولم أسأل عن مزيد، تخيلت على رغمي ما حدث حتى عملت ممثلة ثانوية عند سرحان الهلالي.
على رغمي أيضا، تذكرت أمي وعملها في المسرح نفسه، وتحت رحمة سرحان الهلالي. أضمرت حربا لا هوادة فيها على كافة ألوان العبودية التي يتعرض لها الناس، لكن هل يكفي المسرح ميدانا لهذه الحرب؟ ... وهل تغني فكرة البيت القديم، الذي تدهور فصار ماخورا؟! •••
حافظت تحية على رقتها وعذوبتها بصورة مباركة، لم تعرف علاقة أمي وأبي ذلك حتى في أيام طفولتي السعيدة؛ إنها - تحية - ملاك حقا، وآي ذلك تصميمها الناجح على محق عاداتها السيئة التي شابتها في عهد الأحزان، وهي تحبني بصدق، وقد تجلى ذلك في حرصها على الإنجاب، ولم أكن أرحب به، وكنت أخافه على مواردنا المحدودة، وعلى حياتي الفنية المفضلة عندي على كل شيء في الحياة، حتى الحب نفسه. غير أني كرهت أن أحول بينها وبين أمنيتها الأثيرة، وأبت أخلاقياتي الإذعان للأنانية. وكان الغلاء يتصاعد غير مكترث بتقشفنا وآمالنا، فحملنا على التفكير في وسيلة جديدة لمجابهته. وفي تلك الأثناء تحققت أمنيتها في الحمل، فركبني هم جديد، وكان علي أن أستعد للمستقبل القريب والبعيد معا، ثم أقنعني الحال بأنه لا مفر من الاستعانة بعمل إضافي إن أمكن.
وكنت قد تعلمت الكتابة على الآلة الكاتبة، محاكاة لما سمعته عن استعمال الكتاب الأمريكيين والأوربيين لها بدلا من القلم. وكنت أمر أمام «مكتب فيصل» للآلة الكاتبة في طريقي إلى المسرح، فعرضت نفسي على صاحبه، وسرعان ما قبلني بعد اختبار أجراه بنفسه. قبلت العمل من الثامنة صباحا حتى الثانية بعد الظهر، وقدر أجري بالقطعة، وقد استقبلت تحية الخبر بعواطف متضاربة. قالت: تنام في الثانية صباحا، لتستيقظ في السابعة على الأكثر بدلا من العاشرة، تعمل من الثامنة إلى الثانية، ترجع في الثالثة، ستنام ساعتين على الأكثر ما بين الرابعة والسادسة، لا راحة، ولا وقت للقراءة أو للكتابة ...!
فقلت: ما الحيلة؟ - أبوك غني!
فقلت باستياء: لا أقبل مليما ملوثا.
ورفضت الاستمرار في المناقشة. حقا إنها امرأة ممتازة، ولكنها عملية فيما يتعلق بالحياة. وكانت في قرارة نفسها تفضل الاستعانة بأبي على الانغماس الكلي في العمل الذي سلبني الوقت والفن والراحة. وقد اعتذرت من عدم الذهاب إلى مكتب فيصل يومين لأتم مسرحية. قدمتها لسرحان الهلالي. نظر إلي باسما، وتساءل: ما زلت مصرا؟
وفي فترة الانتظار، نعمت بأحلام جميلة. أجل، أصبح الفن هو الأمل الباقي للرغبة الملتهبة وللحياة الواقعية معا. وكنت شرعت في كتابة المسرحية قبل أن تنبثق في نفسي فكرة البيت والماخور التي لم تتبلور بعد، فأتممتها وأنا فرح بأخلاقيتها المثالية، غير أن سرحان الهلالي ردها إلي وهو يقول: أمامك مشوار طويل.
فسألته بلهفة: ماذا ينقصها؟
فقال بعجلة لا تشجع على الاسترسال: إنها حكاية، ولكن لا يوجد مسرح!
يا له من عذاب يهون إلى جانبه أي عذاب حتى عذاب البيت القديم؛ الفشل في الفن موت للحياة نفسها. هكذا خلقنا، والفن بالنسبة لي ليس فنا فحسب، ولكنه البديل عن العمل الذي يطمح إليه المثالي العاجز. ماذا فعلت لمقاومة الشر من حولي؟ وما العمل إذا عجزت أيضا عن الجهاد في الميدان الوحيد المتاح، وهو المسرح؟! وتمر الأيام، وأنا غارق في العمل كالآلة، أتعامل مع الحب خطفا، وقد انقطع ما بيني وبين حياتي الروحية جميعا، فلا قراءة ولا كتابة، وغاضت من الحياة بهجتها، فلم يبق منها إلا البثور في أديم الأرض، ومياه المجاري الراكدة، والمواصلات البهيمية.
في أويقات الراحة على كثب من تحية، تتمثل لي الحياة جدولا غائضا من السخرة والجفاف، نتبادل كلمات رقيقة في مناخ كئيب تلطفه أحلام اليقظة. الدبيب النابض في بطنها يعزف على أوتار النجاح المرتقب، أحلم أيضا بالنجاح، ولكن تشتعل أحلامي أحيانا بغضب متوحش، أحلم بنار تلتهم البيت القديم ومن يفسقون فيه؛ هكذا يتجسد غضبي على العار والشر، لكنه لا يمر دون خجل ومحاسبة للنفس. حقا لا توجد في قلبي ذرة حب لأبي، ولكني أقف مع أمي موقف المشفق المتردد، وأعرب عن آلامي من تلك الناحية، فتقول لي تحية: نادي قمار سري جريمة في نظر القانون، ولكن الغلاء جريمة أيضا!
فأسألها: هل تقبلين أن يقع ذلك في بيتك. - لا سمح الله، ولكني أود أن أقول إن من الناس من يجدون أنفسهم في محنة، فيتصرفون كالغريق الذي لا يتورع عن فعل في سبيل النجاة.
وقلت لنفسي إنني أتصرف كذلك الغريق، وإن لم أرتكب جريمة في حق القانون؛ لقد ملأت وقتي بالعمل التافه في سبيل اللقمة، حتى جف عود الحياة الأخضر؛ أليس ذلك جريمة أيضا؟
وتمر الأيام، ويشتد العذاب، فتتحرر الأحلام السرية بقوة شيطانية. وأنا جالس إلى الآلة الكاتبة، أشعر بحنين جارف إلى الحرية ... إلى الإنسانية المفقودة ... إلى الفن الضائع؛ كيف يحطم الأسير أغلاله؟ أتخيل دنيا مباركة، بلا إثم، بلا أسر، بلا التزامات اجتماعية، دنيا تنبض بالخلق والإبداع والفكر وحدها، دنيا تحظى بالوحدة المقدسة، فلا أب ولا أم ولا زوجة ولا ذرية، دنيا يمضي فيها الإنسان خفيفا، غائصا في الفن وحده. آه ... أي أحلام؟ أي شيطان يكمن في القلب الذي نذر نفسه للخير؟ فليتجل الندم في صورة ملاك باك، ولأنزو خجلا أمام المرأة النفاثة للحب والصبر. ليحفظ الله زوجتي، وليتب على والدي. وتسألني: فيم تفكر؟ ... إنك لا تكاد تسمعني.
فألمس راحتها بلطف، وأجيب: أفكر في القادم الجديد، وما نعده له. •••
وأنا أهم بالجلوس أمام طاولة عم أحمد برجل ذات يوم، قرأت في وجهه عبوسا ينذر بالسوء: خير يا عم أحمد؟ - يبدو أنك لم تعلم بعد! - إني قادم لتوي؛ ماذا هناك؟
فقال بحزن بالغ: أمس، عند الفجر، كبست الشرطة البيت ...! - أبي؟
أحنى رأسه. - وماذا حدث؟ - ما يحدث في هذه الأحوال، أفرج عن اللاعبين، وألقي القبض على والديك.
انهرت تماما، وغصت في هم خانق. نسيت عواطفي القديمة، نسيت غضبي الثابت، وعز علي جدا ذلك المصير المؤسف لأمي وأبي، عز علي لدرجة البكاء. وسرعان ما استدعاني سرحان الهلالي، وقال لي: سأوكل عنهما محاميا ممتازا ... لقد صودرت النقود ... عثر على كمية غير صغيرة من المخدرات ... يوجد أمل.
قلت بصوت ذليل: أريد أن أقابلهما فورا. - سيحصل دون شك، ولكن لا مفر من أداء واجبك الليلة ... هذه هي طبيعة المسرح ... الموت نفسه ... أعني موت أي شخص عزيز لا يمنع الممثل من أداء دوره، ولو كان هزليا.
غادرت حجرته مغلوبا على أمري، وتذكرت أحلامي المرعبة، فتضاعف ألمي. •••
قبيل المحاكمة، ولد طاهر، ولد في جو كئيب مكلل بالحزن والعار حتى تحية كانت تداري فرحتها أمامي، ودخل جداه السجن وهو في شهره الأول، وكان عليلا يثير القلق، ولكني هربت إلى العمل المتواصل، أغرق فيه همي وشعوري بالذنب. وقدر لي أن يعترض سبيلي ما ينسيني أحزاني الراهنة دفعة واحدة؛ إذ توعكت صحة تحية، وشخصنا المرض باجتهادنا الشخصي باعتباره إنفلونزا، وكان طاهر في شهره السادس، ولما مر أسبوع دون تحسن، أحضرت طبيب الحي، وقد قال لي ونحن على انفراد: يلزمنا تحليل؛ فإني أشك في تيفود.
وعلى سبيل الاحتياط، وصف لنا الدواء، وسألني: أليس الأفضل أن تنقل إلى مستشفى الحميات؟
فرفضت الفكرة عاقدا العزم على السهر عليها بنفسي. اضطررت لذلك الانقطاع عن مكتب فيصل، وتعويضا عما فقدت، ولمواجهة المصروفات الجديدة، بعت الفريجدير. جعلت من نفسي ممرضا لتحية، ومرضعا لطاهر باللبن المحفوظ، تفرغت للخدمة بكل إخلاص. عزلت طاهر في الحجرة الأخرى. مضت صحتها تتحسن بخلاف الطفل، بذلت جهدي مدفوعا بالحب والامتنان نحو المرأة التي لم ألق منها إلا ما هو عذب وخير. وفي نهاية ثلاثة أسابيع، وجدت تحية القوة، فغادرت الفراش لتجلس على مقعد مريح في مجرى الشمس. وكانت قد فقدت رواءها وحيويتها، ولكنها دأبت على السؤال عن الطفل. وجدت نسمة من راحة، رغم تعاسة طاهر؛ لا يلقى أي عناية طيلة مدة عملي في المسرح، ما بين الثامنة مساء حتى الثانية صباحا. أملت أن تنهض تحية لحمل العبء عني، ولكن حالتها ساءت فجأة، حتى استدعيت الطبيب؛ وقال الرجل: ما كان يجب أن تغادر الفراش ... إنها نكسة ... تحدث كثيرا بلا عواقب سيئة.
رجعت إلى التمريض بحزن مضاعف، وتصميم مضاعف، وعلمت أم هاني بحالي، فتطوعت للبقاء مع تحية مدة غيابي. وتردد الطبيب علينا أكثر من مرة، غير أن قلبي انقبض، واستشعر هما قادما.
تساءلت: هل تخلو دنياي من تحية؟ ... هل تحتمل دنياي بلا تحية؟ تمزقت بينها وبين الطفل المتدهور ، قلقت جدا من تسرب النقود من يدي، فماذا هناك لأبيعه أيضا؟ وجعلت أطيل النظر إلى وجهها الشاحب الذابل وكأنما أودعه، وأتذكر عشرتها الجميلة، فتظلم الدنيا في عيني.
وتلقيت النذير الأخير وأنا واقف خارج المسكن؛ كنت عائدا من المسرح، ضغطت على الجرس، سبق إلي صوت أم هاني وهي تجهش في البكاء. لقد أغمضت عيني متلقيا القضاء، فاتحا صدري بأريحية الكرماء للحزن البهيم. •••
عقب أسبوع من وفاة تحية لحق بها طاهر؛ كان ذلك متوقعا، والطبيب تنبأ به ولم يخفه علي. لم تجد الأبوة فرصة طيبة لترسخ في قلبي، وكان بقاؤه المعذب مصدر ألم دائم لي. لم أذكر من تلك الأيام إلا بكاء طارق رمضان. لقد تماسكت أمام الناس بعد أن نفدت دموعي في وحدتي، وإذا بصوت طارق ينفجر في ضجة لفتت إليه أنظار زملائنا في المسرح. تساءلت عن معنى ذلك؟ أكان يحبها ذلك الحيوان الذي نقل تقاليد عشقه المحفوظة إلى بيت أم هاني؟ ... تساءلت عن معنى بكائه لا كأرمل فحسب، ولكن كمؤلف درامي أيضا؛ إذ إن غيبوبة الحزن لم تنسني تطلعاتي الكامنة ...! •••
ها هي الوحدة؛ بيت خال، ولكنه مكتظ بالذكريات والأشباح، قلب مترع بالحزن والإثم. طالعني الواقع بوجه صخري يناجيني بصوت خفي، أن قد تحقق كل ما حلمت به. أريد أن أنسى الحلم ولو بمضاعفة الحزن، غير أن الحزن عندما يغوص حتى يرتطم بالقاع، ترتد منه إشعاعات غريبة ثملة براحة خفيفة. آه ... لعل طارق ضحك ضحكة عميقة خفية واجهت المعزين بإجهاشة الدمع. ها هي الوحدة، ومعها الحزن والصبر والتحدي، أمامي تجربة للتقشف والكبرياء، والانغماس في الفن حتى الموت. شرعت في التخطيط لمسرحية «البيت القديم - الماخور»، حضرتني فجأة ذكرى تحية قوية يانعة بثقل الكائنات الحية. عند ذاك انبثقت فكرة جديدة؛ ليكن البيت القديم هو المكان، ليكن الماخور هو المصير، ليكن الناس هم الناس، ولكن الجوهر سيكون الحلم لا الواقع؛ أيهما الأقوى؟ هو الحلم بلا شك! الواقع أن الشرطة كبست البيت، والمرض قتل تحية وابنها، ولكن ثمة قاتلا آخر هو الحلم؛ الحلم الذي أبلغ الشرطة، هو الذي قتل تحية، هو الذي قتل الطفل. البطل الحقيقي للمسرحية هو الحلم، هو الذي توفرت فيه الشروط الدرامية. بذلك أعترف، وبذلك أكفر، بذلك أكتب مسرحية حقيقة لأول مرة، أتحدى سرحان الهلالي أن يرفضها. سيعتقد هو وغيره أنني أعترف بالواقع السطحي لا الحلم الجوهري، ولكن كل شيء يهون في سبيل الفن، في سبيل التطهير، في سبيل الصراع الواجب على شخص ولد ونشأ في الإثم، وصمم بقوة على الثورة!
وانفعلت بحمى الخلق. •••
ها أنا أذهب إلى سرحان الهلالي في الميعاد المضروب، مضى الشهر الذي حدده لقراءة المسرحية. قلبي يخفق بشدة؛ الرفض هذه المرة خطير، وقد يجرف الصبر. لكنني تلقيت من عينيه بسمة غامضة هزت فؤادي المثقل بالحزن، جلست تلبية لإشارته مستزيدا من التفاؤل، جاءني صوته الجهوري قائلا: أخيرا خلقت مسرحية حقيقية.
وحدجني بنظرة متسائلة، كأنما يقول: من أين لك هذا؟ فتبخرت في تلك اللحظة - ولو إلى حين - همومي جميعا، وشعرت بحرارة التورد في وجهي. قال: رائعة، مرعبة، ناجحة؛ لماذا سميتها «أفراح القبة»؟
فأجبته بحيرة: لا أدري!
فقال ضاحكا في تعال: مكر المؤلفين لا يجوز علي، لعلك تشير إلى الأفراح التي تبارك الصراع الأخلاقي رغم انتشار الحشرات، أو لعله من أسماء الأضواء، كما نسمي الجارية السوداء صباح أو نور!
ابتسمت قانعا بسكرة الرضا، فقال: سأعطيك ثلاثمائة جنيه، ربما كان الكرم فضيلتي الوحيدة، وهو أكبر مكافأة لأول مسرحية.
ليت العمر امتد بك حتى تشاركيني فرحتي! وتفكر قليلا، ثم تساءل: لعلك تتوقع أسئلة محرجة؟ - إنها مسرحية، ولا يجوز إلقاء نظرة خارج نطاقها. - جواب حسن؛ أنا لا يهمني إلا المسرحية ... ولكنها ستثير عاصفة من سوء الظن بين معارفنا.
فقلت بهدوء: لا يهمني ذلك. - برافو ... ماذا عندك أيضا؟ - أرجو أن أشرع في كتابة مسرحية جديدة. - برافو ... حل موسم الأمطار ... وإني في انتظارك، سأفاجئ بها الفرقة في الخريف القادم. •••
في سكني الصغير، تغشاني الكآبة كثيرا؛ تمنيت أن أجد سكنا آخر، ولكن أين؟ بدلت الحجرتين كلا مكان الأخرى، بعت الفراش، واشتريت آخر جديدا. تغلغلت تحية في حياتي أكثر مما تصورت. لم يبدأ حزني شديدا ثم يخف، ولكنه بدأ خفيفا نسبيا ربما بسبب الذهول، ومضى يشتد، حتى وضعت أملي في النسيان بيد الزمن. سيتصور كثيرون أنني قتلتها، ولكنها تعرف الآن الحقيقة كلها. وقبيل الخريف، غادر والدي السجن، واحتراما للواجب الذي أرفعه فوق العواطف استقبلتهما بالبر والرحمة. رأيتهما شبه محطمين، فازددت حزنا. اقترحت على سرحان الهلالي قبول عودتهما إلى عملهما السابق في المسرح، فأوفر لهما العمل وأعفي نفسي منه؛ لأتفرغ للفن، فوافق الرجل، ولكنهما رفضا ذلك بشدة دلت على نفورهما من المسرح وأهله. باستثناء عم أحمد برجل وأم هاني، لم يكلف أحد نفسه بزيارتهما. ارتحت أنا لذلك؛ لأنه جاء مطابقا لما سجلته في المسرحية. ظل أبي غريبا رغم توبته الإجبارية عن الأفيون، لا رابطة في الواقع بيننا، والحق أنني لم أفهمه، ولا أدعي فهما له أطمئن إليه، وقد شاءت المسرحية أن أصوره كضحية للفقر والمخدر؛ ترى ماذا يقول عن دوره؟ هل أستطيع أن أواجهه بعد العرض؟! أما أمي، فما زالت متعلقة بي، وتود أن تشاركني حياتي، ولكنني أود أن أظل خفيفا، وأحلم بأن أعثر على مسكن جديد ولو حجرة واحدة. إن لم أشعر نحوها بحب، فإنني لا أضمر لها كرها، وسوف تذهل حين ترى دورها على المسرح، فتعرف أنني عرفت جميع ما حاولت إخفاءه عني؛ هل أستطيع بعد ذلك أن ألاقيها في نظرة؟ كلا، سأتركهما ولكن في أمان. فكرة المقلى فكرة طيبة، وصاحب الفضل فيها هو أحمد برجل. أملي أن يجدوا حياتهما، وأن تدركهما توبة صادقة. •••
وجدتني وجها لوجه مع طارق رمضان، في المسرح كنا نتبادل التحيات الضرورية العابرة، ولكنه هذه المرة يقتحم علي خلوتي بوقاحته المعهودة؛ إنه من القلة التي لا تعرف الارتباك ولا الحرج. طالما عاتبت أم هاني على معاشرتها له. قال كاذبا بغير ما شك: جئت لأهنئك على المسرحية.
بل جئت للاستجواب الحقير، ولكنني جاريته فشكرته. وبمكر أطلعني على رأي المخرج قائلا: إن البطل قذر جدا، وبغيض جدا، ولن يتعاطف الجمهور معه.
تجاهلت الحكم تماما؛ ليس البطل كذلك لا في الواقع ولا في المسرحية، ولكنه يهاجمني بلا زيادة ولا نقصان. جعلت أنظر إليه باستهانة، حتى تساءل: ألم تقدر أن حوادث المسرحية ستلاحقك بأسوأ الظنون؟
فأجبته ببرود: لا يهمني ذلك.
فإذا به يقول بانفعال واضح: يا لك من قاتل محترف!
فقلت باستهانة: ها أنت تعود إلى الماضي، وهو بالنسبة إلي تجربة حب، أما بالنسبة لك فما هو إلا محنة حقد. - أتستطيع أن تدافع عن نفسك؟ - لست متهما. - ستجد نفسك في النيابة قريبا. - إنك أحمق وحقير!
فقام وهو يقول ساخرا: إنها على أي حال تستحق القتل.
ثم مضى قائلا: ولكنك تستحق الشنق أيضا.
رمتني الزيارة البغيضة في دوامة، أقنعتني بوجوب الاختفاء عن أعين الأغبياء، ولكن هل أستحق الشنق حقا؟ كلا ... حتى لو حوسبت على النوايا الخفية! ما كانت أحلامي إلا رمزا للتخلص من متاعب راهنة، لا من الحب أو المحبوب، وهي تثار بانفعال اللحظة العابرة، لا بالعاطفة المستقرة، وعلى أي حال، لم يعد لي بقاء في مجال الشياطين. •••
دلني سمسار على حجرة في بنسيون الكوت دازور بحلوان. وجدتني في وحدة جديدة أنا والكتب والخيال، لزمت الحجرة أكثر الوقت، وخصصت الليل وقتا لرياضة المشي. استقلت من عملي، ولم يبق لي إلا الفن وحده. قلت لنفسي إن علي أن أركز على فكرة من بين عشرات الفكر السابحة في خيالي. عند الاختبار، تبين لي أنني لا أملك فكرة واحدة. ما هذا؟ إني لا أعيش في وحدة، ولكن في فراغ. وعاودتني أحزاني على تحية بصورة قاهرة ونافذة وعميقة، حتى صورة طاهر تجسدت لي في هزالها وبراءتها وهي تصارع المجهول. وكنت أهرب من كآبتي إلى الفن فلا ألقى إلا الفراغ، والخمود أيضا. أجل؛ لقد انطفأت الشعلة تماما، وانسحقت الرغبة في الخلق، وحل محلها فتور أبدي وتقزز من الوجود.
في تلك الأثناء، قرأت الكثير عن نجاح المسرحية المذهل، واطلعت على عشرات التحيات الموجهة لموهبة المؤلف، وتنبؤات عما سيجود به للمسرح. سخريات تتتابع معذبة لي، وأنا أتقلب في جحيم القحط، أتقلب في جحيم القحط والأحزان ، ونقودي تتناقص يوما بعد يوم. قلت أخاطب الكآبة المحدقة بي: ما توقعت ذلك قط.
أين موسم المطر الذي تغنى به سرحان الهلالي؟ لا توجد أفكار؛ إذا وجدت فكرة تمخضت عن لا شيء، إذا تطلبت فكرة تأملا، كتم أنفاسها الجفاف والخمود. إنه الموت، الموت كما يتبدى لحي؛ إني أرى الموت، وألمسه، وأشمه، وأعاشره.
وعندما نفدت النقود، ذهبت للقاء سرحان الهلالي في بيته؛ لم يضن علي بمائة جنيه خارج العقد. انخرطت في سباق مميت، ولكن الجفاف استفحل حتى صرت جسدا بلا روح، وتسلل إلي صوت الفناء الساخر، ينذرني بأنني قد انتهيت. لقد عبث بي ما شاء له العبث، ثم غادرني مكشرا عن أنياب القسوة والإعدام. ونفدت النقود مرة أخرى، فهرعت إلى سرحان الهلالي، ولكنه لاقاني بحزم مؤدب، معربا عن استعداده لمنحي هبة جديدة، تحت شرط أن أطلعه على أي جزء من المسرحية الجديدة. عدت هذه المرة إلى الوحدة والحزن والجفاف، بالإضافة إلى الإفلاس أيضا. خطر لي أن ألجأ إلى باب الشعرية، ولكن سدا اعترض الخاطر، مؤكدا لي أنني يتيم، وبلا بيت أو حي. عند ذاك قلت لنفسي: لم تبق إلا النهاية التي رسمتها للبطل!
اهتديت أخيرا إلى مخرج، رمقت الأعباء والهموم بشماتة وازدراء، حررت رسالة المنتحر محتفظا بالسر لنفسي، مضيت إلى الحديقة اليابانية قبيل العصر. لم أنتبه إلى ما حولي، لم أر إلا خواطري المتلاطمة في حمرتها القانية. جلست على أريكة. بأي وسيلة، وفي أي وقت؟ ثقل رأسي في مهب الهواء الجاف، ولم أكن نمت الليلة الماضية إلا ساعة واحدة، ثقل رأسي، وغلبني الإرهاق، وخفت النور بسرعة مذهلة. لما فتحت عيني، تبدت العتمة في هبوطها الوئيد؛ لعلي نمت ساعة أو أكثر. قمت في خفة غير متوقعة، وجدتني في حال جديد من النشاط، تخلص رأسي من الحرارة، وقلبي من الثقل؛ ما أعجب ذلك! انقشعت الكآبة، وتلاشى التشاؤم؛ إني الآن إنسان آخر. متى ولد؟ كيف ولد؟ لماذا ولد؟ تساءلت أيضا عما حدث في إغفاءة ساعة؛ لم تكن ساعة فقط على وجه اليقين، لقد نمت عصرا كاملا، واستيقظت في عصر جديد! لا شك قد حدثت في أثناء النوم أمور ذات شأن، ولولا فرحة الشفاء المباغت لاحتفظ الوعي منها بقبس. ألهتني الفرحة عن التشبث بالذكريات، فتلاشت أشياء لا تقدر بثمن، لكنني قمت برحلة طويلة وناجحة، وإلا فمن أين وكيف جاء البعث؟ وهو بعث غير معقول ولا مبرر، ولكنه حقيقة محسوسة ماثلة، يمكن أن ترى ويمكن أن تلمس، بالرغم من الفراغ والإفلاس، بالرغم من عناد الأشياء وتحدياتها، بالرغم من الخسران والأحزان! وإذن، فلأستمسك بالنشوة كتعويذة سحر، ولتكن قوتها في سرها الغامض؛ ها هي الحيوية تدب ناشرة شذاها الظافر. وفي الحال، مضيت نحو المحطة، وهي هدف غير قريب، ومع تتابع الخطوات، تدفقت الحيوية خلابة واعدة، كما تبشر السحابة الثرية بالمطر. ما هو إلا وعد وشعور وطرب، عدا ذلك فإنني مفلس ومطارد وذو حزن. وعندما تراميت بعيدا تذكرت الرسالة، ولكن أدركت أيضا أن قد فات أوان استردادها. قلت لنفسي لا يهم، وما يهم في هذه اللحظة إلا الإمعان في السير؟ ليكن من شأنها ما يكون، ولتكن العاقبة ما تكون! ذروة النشوة تتألق على جسد عراه الإفلاس والجفاف، ولكن تنطلق إرادته بالبهجة المتحدية.
نامعلوم صفحہ