وأما نحن فقد زاد فراغنا أيضا، لا لأننا أدخلنا الصناعة إلى الدرجة التي تؤدي إلى هذه النتيجة، بل زاد فراغنا لسبب آخر، هو زيادة عدد العاملين عن القدر المطلوب لأداء العمل زيادة رهيبة، حتى لقد علمت - مثلا - أن إحدى مجلاتنا التي تصدرها الدولة، بها سبعون محررا، مع أنه كان يكفيها اثنان أو ثلاثة، فكانت النتيجة هي أن معظم هؤلاء السبعين لا تظهر وجوههم إلا يوم صرف المرتبات؛ لأنهم حتى إذا واظبوا على الحضور، فلن يجدوا أماكن لجلوسهم مجرد جلوس، فكان أن دمجنا نحن الفراغ بالعمل على نحو ما دمجت الشعوب المتقدمة، لكن الفرق هو أن هذه الشعوب تحاول أن تجعل الدمج عملا كله. وأما نحن فنحاول أن نجعل الدمج فراغا كله. على أني أعود فأكرر ما ذكرته في موضع آخر، من أن هذه «البلطجة» لم تصب إلى نسبة قليلة من الشعب، هي - لسوء الحظ - متركزة في «المتعلمين» الذين يوزعونهم بالألوف هنا وهناك، دون أن يكون لهم عمل يؤدونه، وإذا وجدوه حاولوا التملص منه.
ليست المأساة اقتصادية فحسب؛ فأنا أترك ذلك لرجال الاقتصاد، لكن للمأساة جانبا آخر يعنيني في المقام الأول، وهو ما أصاب «أخلاقيات» العمل من فساد يكاد يودي بها؛ فالأصل في الإنسان المتحضر هو أن يعمل مزهوا بأنه يعمل، لكننا نريد أن نجعل الأصل هو الفرار من العمل ما دامت الرواتب مضمونة في أوقاتها. إنه إذا كان العمل وأسلوب أدائه وطريقة النظر إليه، هو بمثابة المنظار الذي تنظر خلاله لترى روح الشعب على حقيقتها؛ أهو شعب جاد أم هازل؟ أهو شعب متفائل أم يائس؟ أهو شعب مسئول أم مستهتر؟ أهو شعب يحترم نفسه أم هانت عليه تلك النفس؟ أقول إنه إذا كان العمل وأسلوب أدائه وطريقة النظر إليه، هو بمثابة الترجمة الذاتية للشعب، فلست أدري ماذا يكون حكمنا على أنفسنا؟
لقد كان «برنولد برخت» هو الذي سأل قائلا: في العشية التي فرغ معها العمل في إقامة سور الصين العظيم، أين ذهب البناءون؟! وله حق في السؤال؛ لأن هذا السور الهائل، لا بد أن يستوعب لبنائه ألوف الألوف من العاملين، فأين يذهب هؤلاء في اللحظة التي يتم عندها العمل؟ وكان أن أجاب أحد الأذكياء عن السؤال بقوله: إنهم يبدءون في ترميم الأجزاء الأولى من السور، ما دامت فترة طويلة قد انسلخت منذ بدئ ببنائها؛ فأخلاقيات العمل تقضي على العاملين بأن ينشئوا، وألا يكفوا عن صيانة ما أنشئوه، ذلك إذا بقيت للعمل أخلاق !
الفنون في مناهج الدراسة
عندما تجتمع جماعة منا لتخطيط مناهج الدراسة في مراحل التعليم المختلفة، فهي بمثابة من جلس ليفكر في الصورة التي يراد للجيل الآتي أن يصاغ في إطارها؛ فمن شأن الجيل الحاضر دائما أن يأخذه القلق بالنسبة إلى الجيل الذي يليه، وليس في ذلك غرابة؛ إذ إن الجيل الحاضر هو الوالد، والجيل الآتي هو الولد، فأين هو الوالد الذي لا يؤرقه مصير ولده؟!
والحياة تيارها دافق، يأتي موجها في كل جيل بشيء جديد، فإذا أراد الناس لأنفسهم أن يكون لهم فاعلية الحياة وتجددها، تحتم عليهم في كل مرحلة من مراحل الطريق، أن يحققوا لأبنائهم شيئين في وقت واحد؛ أولهما أن ينشأ هؤلاء الأبناء على جديد عصرهم، والثاني هو أن يكونوا على وعي بماضيهم الذي جاء لهم من أصلابه هذا الجديد. وإن أحد هذين الوجهين لا يكفي وحده؛ لأن انحصار الأبناء في عصرهم فقط يجعلهم كالذي يقرأ القصة من فصلها الأخير، وانحصارهم في عصور آبائهم فقط، يجعلهم كالذي وقف عند الفصول الأولى من القصة، ولم يتابعها إلى ختامها.
كل ذلك معروف ولا جديد فيه، ولكني أردت هنا الإشارة إلى نقطة يخيل إلي أن الأنظار لم تتجه إليها بالقدر الكافي، برغم أهميتها وخطورتها في تحقيق الوجهين اللذين ذكرناهما، وتلك هي أننا ونحن نخطط لمناهج الدراسة، نتجه بثقلنا نحو جانب «المعلومات» التي يحصلها الطالب متمثلة في مواد الدراسة المختلفة، ونهمل - أو نكاد نهمل - جانب «الفنون» مع أننا إذا ما أغفلنا الفنون فقد أغفلنا التربية الوجدانية كلها، وكانت الصورة التي نرسمها للجيل التالي ناقصة إن لم تكن شائهة كذلك.
إننا نكاد نقتصر في جانب الفنون على الفن «الأدبي» من شعر ونثر، وقد نضيف أحيانا مادة «الرسم»، لكنني في الحقيقة أريد شيئا آخر؛ فتحصيل «المعلومات» المتمثلة في مختلف المواد الدراسية، يدور معظمه على وصل الطالب بعصره الراهن من ناحيته العقلية وحدها. وإلى هنا لا اعتراض لنا على شيء؛ لأن دراسة علوم العصر أمر محتوم، بل ربما كان أمرا له الأسبقية على كل ما عداه، إذا كان في جوانب التربية المتكاملة أسبقيات.
لكن ما نعترض به هو - أولا - أن العصر ليس علما كله، بل هو علم وفن، ومحال على الإنسان أن يتنفس هواء زمنه بتحصيل علومه دون أن يتذوق فنونه، تذوقا لا يشترط فيه قبول تلك الفنون بحذافيرها؛ لأن رفض الرافض لا بد أن يسبقه دخوله في رحاب تلك الفنون على أساس من التربية الفنية المنظمة في المدارس والجامعات. ولقد شهدت من أساتذة جامعاتنا - ودع عنك طلابها - من لا يكاد يعلم حرفا من ألف باء الفنون في عصرنا؛ موسيقى أو تصويرا أو شعرا أو نثرا. ولست أدري كيف يجوز لأحد أن يدعي بأنه مساير لعصره، وهو لا يميز في فنون ذلك العصر رأسها من ذيلها.
على أن النقطة الأهم، هي أننا بحكم موقفنا الحضاري، نواجه مشكلة الجمع بين الماضي والحاضر؛ فلو كنا أمة بغير حضارة سابقة، لأخذنا حضارة العصر بعلومها وفنونها كما هبطت علينا، لكننا أصحاب تاريخ، فكيف نصب هذا التاريخ في قلوب شبابنا ليصبح الماضي حيا في عروقه؟ إننا نلجأ في هذا - أحيانا - إلى إدخال شيء من «علوم» آبائنا في مناهج الدراسة، ولكن «علوم» الآباء لا تحقق لشبابنا ما نريده لهم؛ فلو اكتفينا - مثلا - بأن نعرض على هؤلاء الشباب علم الكيمياء كما هو عند جابر بن حيان، أو علم الطب كما هو عند ابن سينا، لتعرضوا لخطر المقارنة بين علم قديم وعلم جديد. وعندئذ لا يشفع للعلم القديم أن يقال للدارسين إن العالم الفلاني كان أول من اكتشف كذا أو أول من اخترع كيت.
نامعلوم صفحہ