هذا الدأب الوئيد الذي لا يعرف السكون هو الطابع الذي يميز الحياة النامية في شتى صورها: فانظر إلى الشجرة كيف تنمو. إنها لا تكتمل نماء بين عشية وضحاها، بل تسير في طريق النماء قليلا قليلا حتى ليستحيل على أي عين أن تدركها متحركة في نموها، لكنها تدأب دأبا موصولا، فإذا هي الشجرة الوارفة الظليلة. وانظر إلى الإنسان تنمو مداركه من ألفاظ قليلة يتمتم بها حتى يصبح الرجل الناضج صاحب العلم الغزير والخبرة الواسعة، بل انظر إلى دخيلة نفسك: إلى هذه الأنفاس شهيقها وزفيرها تتعاقب الهوينا تعاقبا لا يقف إلا مع نهاية الحياة. إنني لو استثنيت أمثلة قليلة من الطبيعة كالسيل الدافق في عجلة وكالمطر المنهمر في سرعة الملهوف، وكالعاصفة الهوجاء، جاز لي أن أقول إن الطبيعة بأسرها تكره التسرع ولا ترضى عن السكون؛ فهي تفضل لظواهرها أن تسير في بطء سيرا دءوبا ... فحبذا لو سار الإنسان في حياته العملية على غرارها.
حياة على عجل
أقمت فيما أقمت به من مدن الولايات المتحدة الأمريكية، بمدينة «سياتل» في أقصى الشمال الغربي . وهناك في تلك المدينة العظيمة الواقعة على شاطئ المحيط الهادي، وجدت من علامات الثراء الضخم والعمل الدائب الذي لا يفتر ولا يكل، ما لم أجد له في غيرها مثيلا. لكنني لم أكد أستقر في ذلك البلد النابض بالحياة، المفعمة جيوبه بالمال، المليئة دوره وطرقاته بالنشاط والعمل، حتى تبينت أن مدينة «سياتل» هذه تتميز بأعلى نسبة في الانتحار! فكيف كان ذلك؟
سألت صديقا من أبناء الأرجنتين استوطن تلك البلاد لعشر سنوات مضين، وكان زميلا لي في الجامعة، أحاضر أنا في الفلسفة، ويحاضر هو في علم الطبيعة، وكنت آنس إلى صحبته وأستمتع بحديثه الذي كان يتقطر خبرة ويتفجر حكمة، سألته: «كيف تعلل ارتفاع نسبة الانتحار في هذا البلد الناجح؟» فقال: «إن الكثرة الغالبة من هؤلاء المنتحرين شباب جاء وافدا من شرقي الولايات المتحدة باحثا عن النجاح، فظل يزحف غربا متنقلا من بلد إلى بلد، فكلما أخطأ النجاح في بلد تركه وسار غربا، حتى إذا ما بلغ أقصى الغرب في مدينة «سياتل» الواقعة على المخيط، ثم أخطأ النجاح أيضا، لم يجد أمامه ناحية الغرب إلا المحيط يلقي بنفسه في لجته!»
وهنا انتقل بنا الحديث عن فكرة «النجاح» هذه، التي هي وليدة هذا العصر الصناعي، وإلى أي حد كان لها أبلغ الأثر على حياة الأمريكي الذي خلقها، فزعزع بها قيمة من قيم الحياة القديمة، وأعني بها قيمة الانتماء إلى موطن إقليمي معين؛ فما أسهل عليه أن يشد رحاله من بلد إلى بلد، ومن ولاية إلى ولاية، ليضرب بخيامه حيث الكلأ كما كان البدو يفعلون، وكل الفرق هو أن السيارة قد حلت محل الجمل. وإنها لمصادفة موفقة أن تسمى السيارة بهذا الاسم الذي كان قديما يطلق على قافلة الجمال؛ لأن المهمة الرئيسية في كلتا الحالتين واحدة.
فكرة وأداتها؛ أعني فكرة «النجاح» وأداة تحقيقها هي «السيارة» التي ينطلق بها الأمريكي هو وأسرته ضاربا في الأرض حتى يحقق نجاحه المنشود. أقول إن هذه الفكرة وأداة تنفيذها هما اللتان قد طبعتا الأمريكي على التجوال الذي لا يستقر في مكان واحد إلا ريثما يدوم له النجاح فيه؛ فيندر جدا أن تجد البيت الواحد يسكنه من الأسرة الواحدة جيلان متعاقبان؛ فالبيت الذي يسكنه الوالدان قل أن يكون هو نفسه البيت الذي يسكنه البنون في الجيل الثاني؛ لأن ارتحال هؤلاء البنين يوشك أن يكون أمرا مؤكدا، والمزرعة والواحدة لا تظل في ملكية مزارع واحد أكثر من عشر سنوات في المتوسط، كما يدل الإحصاء.
كانت الحياة في الدنيا القديمة سائرة على حكمة الضرب بالجذور في مكان مستقر ثابت. وإن أمثالنا السائرة لتكشف عن مثلنا العليا؛ فنقول نحن: «من فات قديمه تاه.» ويقول الإنجليزي: «إن الحجر المتدحرج لا يجمع الطحلب.» إشارة منهما إلى أن النجاح يستلزم البقاء في مكان واحد، ويقول الفرنسي بلسان باسكال: «أساس متاعب الإنسان مغادرته لغرفته.» ثم جاءت الدنيا الجديدة فأقامت حياتها على حكمة جديدة، وهي أن يحيا الإنسان حياة من تحتها عجلات سيارته تدور ولا تكف عن دورانها، متنقلة بصاحبها من بيت إلى بيت، ومن ولاية إلى ولاية ... فلئن كانت حياة البدوي القديم حياة على جمل، فحياة الأمريكي الجديد حياة على عجل.
غرور
والحديث ذو الشجون؛ فلقد ذكرت لك ذلك الأستاذ الأرجنتيني بخبرته الواسعة وحديثه الطلي. وأذكر الآن أني سألته مرة: «إلى أي حد ترى الشعب الأمريكي حريصا على العفة الجنسية؟» ذلك أني قد رأيته من أشد الناس محافظة، فقال: «إن الأمر ليختلف هنا اختلافا شديدا من إقليم إلى إقليم، والتعميم في الحكم على الشعب كله محال.» ثم سكت قليلا وابتسم واستطرد يقول: «على أني سأروي لك قصة في حياتي الشخصية هنا في مدينة «سياتل»، فقد توثقت أواصر الصداقة الحميمة بيني وبين طبيبة، حتى لقد كنت أزورها كل يوم معين من أيام الأسبوع باطراد لا يتخلف، فراودتني فكرة الزواج، ولبثت شهورا كلما عزمت أحجمت، وكلما أحجمت مرة عزمت مرة، كأنما الأمر كله متوقف على قرار أصدره أنا . وأما هي فلم أشك لحظة في أنها إنما تنتظر صابرة حتى أنطق لها بهذه الكلمة المرتقبة الحاسمة: «أريد الزواج منك يا فلانة .» وأخيرا حزمت أمري وجمعت شجاعتي، وذهبت إليها في موعدي المضروب من كل أسبوع، ولم تكد تستقر بنا الجلسة ويستطرد بيننا الحديث، حتى عرضت الزواج حاسبا أنها ستكون لحظة النشوة الكبرى في نفسها. ويا ما أشد دهشتي عندما أجابت بالرفض في صراحة حاسمة، فسألتها والصدمة توشك أن تفقدني صوابي: «كيف؟ ألم يختبر أحدنا الآخر شهورا عديدة، فإذا بيننا من اتفاق الطبع وانبساط النفس ما يندر أن يتحقق بين رجل وامرأة؟ إنني كما تعلمين مضرب عن الزواج مصمم على العزوبة الدائمة، فإذا وجدتني قد عرضت ما عرضته عليك، فما ذلك إلا لأنني وجدت فيك «إنسانة» رأتني أنسب الرجال.» فنظرت إلي ساخرة وقالت: «هذا غروركم أيها الرجال، تحسبون أن أمر الاختيار مرهون بكم، وأما المرأة فقبولها مؤكد مضمون. ألا فاعلم يا سيدي أنك كما قررت لنفسك العزوبة فكذلك قد قررتها لنفسي، وكما أردت التمتع بي يوما من كل أسبوع، فكذلك قد أردت التمتع بك يوما من كل أسبوع. على أني أضيف إليك الآن ما لم تكن تعلمه، وهو أن لكل يوم من بقية أيام الأسبوع صديقا سواك!»»
الجائع يحلم بالعيش
نامعلوم صفحہ