وإني لأنقل إلى القارئ عبارة أقتبسها من مقالة كتبها «فوكنر» القصصي الأمريكي المعروف؛ إذ قال: «منذ عشرة أعوام أو نحوها، أنبأني ناقد أديب معروف، هو من أصدقائي الخلص ومن ذوي المكانة الثابتة، أن مجلة أسبوعية مصورة عريضة الثراء واسعة الانتشار، قد عرضت عليه مبلغا كبيرا من المال ليكتب عني مقالا، لا عن مؤلف أو أكثر من مؤلفاتي، بل عني أنا بوصفي مواطنا فردا له حياته الخاصة، فقلت له: «لا.» وحذرته أن يكتب عن حياتي الخاصة حرفا واحدا؛ فعقيدتي هي أن مؤلفات الكاتب وحدها هي التي تقع تحت طائلة الجمهور، يناقشونها ويبحثونها ويكتبون عنها ما شاءوا؛ لأن كاتبها قد أباح لهم ذلك ضمنا حين قدم كتبه للنشر وتقاضى عنها الثمن، فلم يعد أمامه بد من قبول ما يريد الناس أن يقولوه وأن يفعلوه في تلك الكتب، من الثناء عليها إلى إحراقها بالنار. وأما حياته الخاصة فملكه الخالص؛ فمن حقه أن يدفع عن جوانبه الخاصة من أراد العبث بها، لا بل إنه من واجب الناس أن يعاونوه على ذلك؛ لأن حرية الأفراد لا تصان إلا إذا كانت حرية الفرد الواحد تنتهي عند النقطة التي تبدأ عندها حرية فرد آخر.»
ألا إنه لإهدار لكرامة الإنسان أن يتحول الإنسان عند أصحاب الصحف إلى سلعة تباع وتشترى؛ فبديهي أن الصحيفة التي تخوض في الحياة الخاصة لكاتب أو فنان، لا تفعل ذلك تمجيدا لأدبه أو فنه، وإلا لكفاها أن تعرض ذلك الأدب أو الفن، ولكنها تخوض في تلك الحياة الخاصة لأنها تجارة رائجة ربحها وفير وعائدها غزير.
متعة الحديث
إن أمتع ما يمتعني في الحياة هو حديث يجري مع صديق أو أصدقاء، نعلو فيه إلى ذروة يتحول عندها إلى فن بديع؛ هو الفن الذي يسوق به الإنسان مشاعره الدفينة في عبارة نقية واضحة، فإذا المشاعر التي بدأت عند صاحبها إحساسا مبهما غامضا قد تحولت بالحديث إلى قول معقول مفهوم؛ فالعلاقة قوية وثيقة بين العقل والنطق، حتى لقد سمي الإنسان بالحيوان الناطق حين أرادوا وصفه بأنه الحيوان العاقل. «في البدء كانت الكلمة» وأول الآدمية كان الكلام.
وإنما تذكرت متعة الحديث عندما ذكرت سقراط؛ هذا الفيلسوف الذي ارتفع بفن الحديث إلى أوج رفيع؛ فلم يكن حديثه لهوا ولا لغوا، لكنه كان الأداة التي يولد بها الحقائق من ضمائر حامليها؛ ففي جوف الإنسان ذخيرة من حكمة ومعرفة، تظل مبهمة في كمونها حتى يجيئها المحدث البارع فيخرجها على لسانه لفظا صريحا واضحا. إنني مؤمن - مع وايتهد - بالحديث وقيمته، وهو يقول عن نفسه في أواخر حياته: «لو أخرجت نفسي عن دائرة المعرفة التي أكتسبها من الكتب، والتي كان لا بد منها لأداء مهنتي، وجدتني قد لقيت أكثر ما لقيت من تهذيب عن طريق الحديث الجيد الذي طالما أسعدني الحظ أن أحظى به مع الأصدقاء.»
كان الحديث أول أداة عرفها البشر في نقل ثقافته، وسيظل أداة لا مندوحة عنها إلى أبد الآبدين؛ فماذا يساوي الكتاب المسطور إذا لم تقرأه قراءة من يتحدث إلى مؤلفه حديث المتدبر المتفهم الناقد الذي يوافقه هنا ويعارضه هناك؟ وماذا تساوي القطعة الفنية إذا لبثت تحدق فيها بعينيك دهرا كاملا دون أن تحكي لنفسك وكأنما تحدث نفسك عن مواضع الجمال فيها؟ حقا إن الإنسان - كما قيل - هو بأصغريه: قلبه ولسانه؛ فبالقلب يشعر، وباللسان يفصح عما قد شعر به. ولو اقتصر الأمر على قلب يشعر، لما عرفت الدنيا رسالة لرسول ولا فكرة لمفكر، ودع عنك إنسانا بغير قلب يخفق أو لسان ينطق؛ فهو والجماد سواء.
دعهم على سجيتهم
وهل تحب لغيرك ما تحب لنفسك؟ نعم، لو كان غيرك هذا في مثل ظروفك ظرفا بظرف، ولكن هيهات أن يتشابه اثنان! وما دامت الظروف اختلفت، فلم يعد من الخير لغيرك أن تحب له ما تحب لنفسك.
كان والدي يحب لي - وأنا الطفل الصغير - ما يحب لنفسه وهو الرجل الذي تقدمت به السن، ومن هنا كانت غلطته الكبرى في تربية أبنائه. كان وقورا فأحب لي أن أكون وقورا مثله. ولما كانت طبيعة الطفل تأبى الوقار، فقد فرضه علي فرضا وأرغمني عليه إرغاما، فلا بد أن يكون قد أطفأ في نفسي الناشئة ما كان عساه أن يذكو لو ترك على طبيعته حرا، فنصيحتي للكبار ألا يحبوا لصغارهم ما يحبونه لأنفسهم.
وأذكر بهذه المناسبة كتابا إنجليزيا كتب للأطفال، عنوانه «الريح في الصفصاف»، كتبه «كنث جراهام» سكرتير بنك إنجلترا. وقدم المؤلف لكتابه هنا بمقدمة تستوقف النظر لما أورده فيها من تحليل لوجهة نظر الأطفال إلى آبائهم وأولي أمرهم من الكبار؛ فهؤلاء الكبار هم - في نظر أطفالهم - مصابون بالجنون والعته، تعوزهم أبسط قواعد المنطق السليم؛ فالأطفال يتعجبون إذ يرون مقاليد أمورهم قد ألقيت في أيدي هؤلاء الكبار المرضى بفقر الدم، البطاء في حركتهم ونشاطهم، المغلولين إلى مقاعدهم، السجناء في بيوتهم، الذين استبدت بهم عاداتهم يكررونها في غفلة تكرارا مطردا مملولا. ولطالما يعجب الأطفال: بأي عقل في الدنيا يفضل الكبار قبوعهم في ديارهم وأمامهم متع الحياة وملاذها، كتسلق الأشجار والخوض في برك الماء؟ وإذا كانوا قد فقدوا الصواب فيما يختص بأنفسهم، فليتركوا الأطفال وشأنهم يغوصون في هذه المتع والملاذ.
نامعلوم صفحہ