فبفضل العنصر الأول - وهو اتساع نطاق معارفه إلى حد مذهل - أحيطت شخصيته خلال حياته وبعدها بهالة أسطورية يتمثل فيها مفكرا وعالما تتحدى عبقريته كل التصنيفات والتقسيمات الشائعة، ولم يكن من المستغرب أن تصور شخصية بهذه الصورة الأسطورية؛ ذلك لأن الرجل كان بالفعل نوعا من الأسطورة. وربما كان ليبنتس آخر ممثل لتلك الفئة «الموسوعية» من المفكرين؛ ففي عصره وربما قبل عصره بقليل، كان عهد التخصص قد بدأ، واتسعت المعارف البشرية إلى حد أنه أصبح من المحتم على المرء أن يختار بين الفلسفة أو الأدب أو العلم أو القانون أو السياسة، وأصبح من الصعب أن يجمع المرء بين أكثر من فرع واحد من هذه الفروع. ولكن الدهشة تمتلك المرء حتما حين يجد ليبنتس قد اشتغل بهذه الفروع كلها معا. وكانت له فيها كلها تقريبا مساهماته المبتكرة وكشوفه البارعة؛ ذلك لأن ظهور مثل هذه العقلية الموسوعية أيام اليونان في شخص أرسطو، أو حتى خلال عصر النهضة في شخص ليوناردو دفينشي، كان أمرا مفهوما ومعقولا، أما ظهورها في النصف الثاني من القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر فهو بالفعل أمر يقارب حد الإعجاز، لا سيما إذا كان الشخص الذي تمثلت فيه هذه الظاهرة الفريدة ينافس في مجال الفلسفة أقطاب المدرسة الديكارتية الكبار، وينافس في مجال الرياضة نيوتن ويتفوق عليه في صياغته لحساب التفاضل والتكامل، ويضع من النظريات القانون ومن الآراء السياسية والدبلوماسية ما يجعل له دورا إيجابيا في سياسة عصره، ويشتغل بالعلم الطبيعي فيتفوق فيه، ويكتب شعرا لاتينيا يحوز إعجاب معاصريه، ويؤلف في التاريخ مرجعا عظيم القيمة، وينشئ، يسعى إلى إنشاء جمعيات وأكاديميات علمية في مختلف المدن الأوروبية، فثقافة ليبنتس عالمية بالمعنى الصحيح، ومعارفه تكاد تكون شاملة بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه، ولهذه الحقيقة - كما سنرى - فيما بعد أهمية عظيمة في إيضاح معالم مذهب ليبنتس وطريقة تفكيره.
على أن الجانب السياسي من نشاط ليبنتس الشامل يستحق اهتماما خاصا؛ لأنه يمثل ظاهرة فريدة فيمن عرفناهم من الفلاسفة؛ ومن هنا فإنه يؤلف وحده عنصرا قائما بذاته نود أن نشير إليه إشارة خاصة، فمنذ اللحظة التي تعرف فيها ليبنتس إلى الكونت «بوينبرج» وهو في الحادية والعشرين من عمره؛ أصبح يقضي حياته كلها في صحبة الأمراء والحكام ورجال البلاط، واعتاد صحبة الشخصيات الأرستقراطية الكبرى، ورغم كل ما طرأ على حياته من التقلبات، فإن الاهتمام بالسياسة ظل هو القاسم المشترك بين أهم فترات هذه الحياة، وحتى في تلك الفترة التي تعد أخصب فترات حياته، الوجهة العلمية والفكرية، وأعني بها فترة إقامته في باريس، نراه لا يكف عن القيام بدور الدبلوماسي ورجل البلاط وكاتم أسرار الأمراء، ويقوم بأسفار وبعثات ومهمات غامضة لحساب إمارة «مينتس» الألمانية في نفس الوقت الذي كان فيه يكون صلات مثمرة إلى أبعد حد مع مشاهير رجال العلم والفكر والفلسفة الذين كانت تزدان بهم فرنسا في عهد لويس الرابع عشر.
ولقد كانت السمة البارزة في نشاط ليبنتس السياسي، وهي نمو وعيه الأوروبي إلى أبعد حد؛ ذلك لأنه على الرغم من اشتغاله في معظم أوقات حياته لحساب حكام ولايات ألمانية معينة، كان في تفكيره السياسي يتجاوز حدود الولايات والدول. وكان «مواطنا أوروبيا» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان. وكانت الفكرة الرئيسية التي تستحوذ على تصرفاته السياسية هي أن أوروبا كلها تكون وحدة حضارية وثقافية وسياسية واحدة. ومن المؤكد أن في تفكير ليبنتس في هذه الناحية أوجه شبه عديدة مع تفكير دعاة الوحدة الأوروبية المعاصرين، من أمثال الجنرال دي جول والسياسي البلجيكي «سباك» وغيرهما، رغم اختلاف ظروف الدعوة في كلتا الحالتين، ولا يقف وجه الشبه عند هذا الحد. بل إن تفكير ليبنتس السياسي كان يتضمن عناصر رجعية واستعمارية لا تقل وضوحا عن تلك التي نجدها عند أقطاب ساسة أوروبا الغربية المعاصرين، ويتمثل ذلك العنصر من تفكير ليبنتس في «خطته المصرية» المشهورة، ونظرا لأهمية هذه الخطة للقارئ المصري على التخصيص، فسوف نتحدث عنها ها هنا بشيء من التفصيل.
وضع ليبنتس هذه «الخطة» وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وكان يهدف منها إلى إيجاد وسيلة لصرف أنظار لويس الرابع عشر - ملك فرنسا وأكبر شخصية سياسية في أوروبا في ذلك الحين - عن أوروبا ذاتها، وتحويل طاقته الحربية إلى مكان بعيد عن أوروبا، بذلك يعود توازن القوى إلى القارة الأوروبية، ويتسنى في الوقت ذاته الدفاع عن أوروبا ضد «البرابرة والزنادقة».
ولقد كانت الظروف السياسية في ولاية مينتس هي التي أوحت إلى ليبنتس بهذه الخطة؛ ففي نهاية عام 1671م، كان من الواضح أن فرنسا تعد العدة لغزو هولندا. وكان أمير الولاية الألمانية يدرك أن تغير ميزان القوى في أوروبا قد يؤدي إلى تغيير كبير في الخريطة السياسية لأوروبا، وبالتالي إلى فقدان الولايات الصغيرة حريتها. وهكذا أراد - ومعه ليبنتس - أن يحول دون اقتراب الحرب من الولايات الألمانية، وسنحت الفرصة لليبنتس حين وقعت حوادث وتحرشات على حدود الإمبراطورية العثمانية، أذكت الحروب الصليبية من جديد في نفوس الأوروبيين. وهكذا وضع ليبنتس خطته على أساس أن توجه أسلحة لويس الرابع عشر - التي كان يعلم أنها ستنطلق عاجلا أو آجلا - ضد عدو المسيحية كلها في الشرق، وهم الأتراك العثمانيون، عن طريق غزو بلد عظيم الأهمية مثل مصر، فكتب مذكرة سياسية مفصلة موجهة إلى الملك، قدم فيها عرضا تاريخيا لجميع الحملات التي شنت على مصر من قبل، وتحدث عن مركز مصر الاقتصادي وموقعها الجغرافي، وأوضح مدى سهولة غزوها، والفائدة العظيمة التي ستجنيها فرنسا من هذا الغزو، وهي السيادة البحرية والاقتصادية على البحر المتوسط، والسيطرة على الغرب والشرق معا، وازدياد ألقاب الملك لقبا جديدا مشرفا! ولم تصل الخطة في بادئ الأمر إلى مسامع الملك. ولكن ليبنتس بذل مساعي عديدة، حتى أتاه رد يقول: إن الملك على استعداد لسماع الخطة منه. ولكنه عندما سافر إلى باريس في مارس سنة 1672م كانت الحرب ضد هولندا قد بدأت بالفعل، ووقع ما أراد ليبنتس أن يتجنبه بغزو مصر، ونحن نعلم بطبيعة الحال تكملة القصة؛ وهي أن نابليون بونابرت قد حقق الخطة التي اقترحها ليبنتس. وربما كان قد اطلع على هذه الخطة ذاتها وأخذ بها، فحقق بذلك حلما احتل أهمية كبيرة في تفكير فيلسوفنا هذا، وبدأ عهدا جديدا من تاريخ الاستعمار الأوروبي في الشرق الأوسط.
ففي حياة ليبنتس إذن عنصران يستحقان اهتماما خاصا، هما شمول معرفته ونشاطه السياسي، ومن المؤكد أن العنصران متعارضان؛ إذ إن التفرغ للأعمال السياسية، والتنقل المستمر في أسفار وبعثات ومهام علنية وسرية، لا يترك للمرء فرصة الانصراف إلى الفلسفة والعلم، ولا بد أن ليبنتس كان يتمتع بقدرات معجزة، أتاحت له أن يركز ذهنه في أعمق المسائل العلمية، ويتفوق في عدد هائل من الفروع المتباينة للمعرفة، في نفس الوقت الذي كان يحيا فيه حياة صاخبة حافلة بالنشاط وسط عدد كبير من الأباطرة والملوك والأمراء والوزراء والسفراء ورجال البلاط، يقوم فيه بواجباته السياسية والدبلوماسية والقانونية على أكمل وجه، وهنا لا يجد المرء مفرا من أن يفترض لدى ليبنتس نوعا من العزلة الروحية وسط هذا الصخب الذي أحاط نفسه به، ولولا أنه كان يعزل نفسه من آن لآخر بالفكر على الأقل، وعن العالم المزدحم من حوله، لما تسنى له ممارسة نشاطه العلمي الهائل على الإطلاق، فهو إذن كان يشعر بنفسه ذرة واحدة منعزلة بلا أبواب ولا نوافذ، تنطوي في ذاتها على صورة مصغرة للعالم كله، وتلك بعينها هي الفكرة الرئيسية في الكتاب الذي نعرضه ها هنا، وأعني به كتاب «مذهب الذرات الروحية». (2) مؤلفات ليبنتس وكتاب «المونادولوجيا»
ذكرنا من قبل أن ليبنتس لم ينشر في حياته سوى كتاب «الحكمة الإلهية»
Théodicée ، كما نشر بعض الأبحاث القصيرة في صحف علمية مختلفة. أما كتبه الرئيسية الأخرى - التي أوردنا من قبل أسماء بعضها - فقد نشرت بعد وفاته، وإن كان هو ذاته قد أعد بعضها للنشر. ولقد حفظ ليبنتس مؤلفاته - من كتب ومقالات وأبحاث - في صورة مخطوطات ومسودات كاملة، عثر عليها في مكتبته الخاصة، أو حفظت في سجلات سرية (وهذا ينطبق بوجه خاص على مذكراته السياسية). ولقد كان نشاط ليبنتس السياسي هو سبب حفظ أوراقه العديدة المتناثرة، فعلى الرغم من أن أحدا لم يهتم به عند وفاته، فإن عددا من الأحزاب والفرق السياسية كانت تشعر بالقلق خوفا من أن يكون قد ترك بين أوراقه أسرارا سياسية. وهكذا ضموا أوراقه ومخطوطاته، ودفعوا لورثته (وهم أقرباء بعيدون) مبلغا ضئيلا من المال ليتنازلوا عن حقوقهم فيها، وظلت هذه الأوراق حتى اليوم مودعة في مكتبة هانوفر، ولا يمكن القول إن مؤلفاته الكاملة قد صدرت في نشرة شاملة حتى اليوم؛ ذلك لأن أكمل النشرات، وهي تلك التي بدأتها «أكاديمية العلوم البروسية» سنة 1913م بعنوان «المؤلفات والرسائل الكاملة»
Sämmticke Schriften und Briefe
وكانت تزمع فيها نشر كل ما خلفه ليبنتس، قد انقطعت عام 1933م بعد الانقلاب النازي في ألمانيا.
نامعلوم صفحہ