ويظهر هذا الفارق بين عقلية الفيلسوف الذي يمزج العلم بالميتافيزيقا وبين عقلية العالم الحقيقي، في موقف ديكارت من جاليليو، فعلى الرغم من أن ديكارت قد تأثر إلى حد بالغ بمحنة جاليليو. وكانت هذه المحنة، التي بلغته أنباؤها في عهد مبكر نسبيا من حياته الفكرية (عام 1633م) - نقطة تحول في طريقة تعامله الفكري مع العالم المحيط به، فإنه يبدو أن العامل الذي تأثر به ديكارت في هذا الصدد هو النتائج المحتملة لهذه المحنة على مصيره هو، ولم يكن اهتمامه بمصير جاليليو نفسه، فديكارت كان يفكر في نفسه طوال الوقت الذي يبدي فيه انزعاجه من التهمة الظالمة التي وجهتها محاكم التفتيش إلى رجل لم يكن هدفه - آخر الأمر - إلا توسيع نطاق المعرفة البشرية وزيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة، وهي في رأيه أمور لا ينبغي أن تغضب لها أية سلطة دينية تفهم طبيعة رسالتها. وكان شغل ديكارت الشاغل في هذا كله هو: ماذا يكون موقف هذه السلطات الغاشمة من آرائه هو التي ترتكز على مواقف فيها بعض الاتفاق مع آراء جاليليو؟ وما الذي يفعله في مؤلفاته التي تتضمن هذه الآراء، والتي كان يزمع نشرها قريبا؟
أما جاليليو نفسه، فلم يكن ديكارت يهتم به كثيرا، أو كان على الأقل يتظاهر بعدم الاهتمام به؛ ففي خطاب إلى صديقه «مرسين» ذكر أنه لم يطلع على كتاب جاليليو الرئيسي إلا في عام 1634م، أي بعد عام من محنة العالم الإيطالي الكبير، واستخدم في هذا الصدد لفظا يدل على أنه «تصفح» هذا الكتاب
feuilleter
وفي خطاب آخر إلى مرسين، بتاريخ 11 أكتوبر 1638م، علق أعمال جاليليو، فقال: «وفيما يتعلق بجاليليو، أود أولا أن أقول لك: إنني لم أره أبدا، ولم يكن لي أي اتصال به؛ ومن ثم فلا يمكن أن أكون قد استعرت منه شيئا، كما أنني لا أرى في كتبه شيئا يجعلني أحسده، ولا أكاد أرى فيها شيئا أرغب في تبنيه»، ويعلل المؤلف الذي اقتبس هذين النصين
18
ضآلة اهتمام ديكارت بجاليليو، بأن الأول لا يتصور علما بغير منهج؛ ومن ثم كان ما يعيبه على جاليليو هو أنه ليس «فيلسوفا»، وبالفعل يمكن أن نعد جاليليو باحثا بلا منهج، إذا فهمنا المنهج بالمعنى الاستنباطي الذي فهمه ديكارت، وإذا اعترفنا بأن المبادئ الميتافيزيقية الرئيسية هي الدعامة التي يظل البحث في الطبيعة مرتكزا عليها حتى آخر مراحله. أما إذا كنا نفهم المنهج بمعناه العلمي لا الصحيح، لا بمعناه الذي يخلط بين مقتضيات الفلسفة ومقتضيات العلم، فإن جاليليو يغدو عندئذ رائدا من رواد المنهج الحديث، بالإضافة إلى ريادته المعترف بها في ميدان البحث العلمي ذاته.
وعلى أية حال ففي استطاعتنا أن نستشف من النص الأخير - ومن كلام ديكارت عن «الجسد» وغيره - لهجة ظاهرها الترفع والتعالي، وباطنها الإحساس بأنه إزاء عمل كبير لا يقدر على أن يجاريه، وعلى أية حال فإن تبرؤه الشديد منه لا يخلو من قدرة من الانتهازية.
ومما يلفت النظر أن «جسدورف» قد تنبه إلى الرسالة الأخيرة ذاتها (رسالة ديكارت إلى مرسين بتاريخ 11 أكتوبر 1638م)، واستدل منها على نتائج مضادة لتلك التي انتهى إليها «جوييه
Gouhier »؛ ذلك لأنه ركز على الجزء الذي يقول فيه ديكارت عن جاليليو: «يبدو أنه يفتقر إلى الكثير، من حيث إنه يكثر من الاستطراد ولا يتوقف لكي يقدم تفسيرا كاملا لموضوع ما، مما يدل على أنه لم يبحث تلك الموضوعات بطريقة منظمة، وعلى أنه بحث عن أسباب بضع نتائج جزئية قبل أن يدرس الأسباب الأولى للطبيعة، وشيد بذلك بناء بغير أساس»، ويؤكد جسدورف أن تلك «الأخطاء» التي عابها ديكارت على جاليليو هي في الواقع حسنات تحسب له؛ إذ إنه لم يصدر أحكاما تتجاوز ما يستطيع تأكيده. أما ديكارت فكان يزدري ذلك الصبر الطويل الذي يقتضيه البحث التجريبي، ولا يحاول الرجوع إلى الأشياء ذاتها للتأكد من صحة أحكامه؛ إذ كان على ثقة من أن الوقائع ذاتها ستخضع لأوامر النسق الفلسفي؛ وعلى ذلك فإذا كان جاليليو قد ارتكب خطأ جزئيا هنا أو هناك، فإن ديكارت قد أخطأ في موقفه الكامل، وعندما انهارت الأسس الميتافيزيقية التي شيد عليها المعرفة؛ انهار بناؤه العلمي بأكمله.
19
نامعلوم صفحہ