وسواء أخذ المرء بهذا التفسير، أم اكتفى بالقول إن ما تقدمه الرياضة مجرد «منهج»، أي أداة للبحث، وأن البداية الحقيقية هي البداية الميتافيزيقية التي تمهد لظهور العلم فيما بعد، فإنه في كلتا الحالتين يكون قد جعل للميتافيزيقا دورا سلبيا، يصبح فيه وجودها متوقفا أساسا على وجود العلم الذي تمهد له أو يمهد لها. (3)
ولو تأمل المرء موقع فكرة «الآلية» في فلسفة ديكارت؛ لوجد فيها دليلا آخر يؤيد الرأي القائل بأن مكانة الميتافيزيقا في مذهبه ثانوية أو تمهيدية بالنسبة إلى المعرفة العلمية؛ ذلك لأن هذه الفكرة تحتل موقعا رئيسيا في مذهب ديكارت. بل إنها هي المحور الذي تدور حوله نظرته إلى العالم وإلى الإنسان، وهنا نود أن ننبه إلى أن «المزاج الميتافيزيقي» - إن صح هذا التعبير - ينفر من فكرة الآلية، ولو تأملنا كبار الميتافيزيقيين طوال مجرى تاريخ الفلسفة؛ لوجدناهم خصوما ألداء لكل نظرة آلية إلى العالم أو الإنسان؛ فالآلية لا مكان لها في فلسفة أفلاطون، وأرسطو قد جعل من «الغائية» (أعني عكس الآلية) محورا لتصوره الخاص للعالم وللنفس البشرية، وكبار ميتافيزيقي العصور الوسطى تجاهلوا الآلية تجاهلا تاما؛ أي إن التراث الفلسفي حتى عصر ديكارت على الأقل كان يستبعد تماما الجمع بين الميتافيزيقا والتصور الآلي للكون والإنسان، وعلى العكس من ذلك كانت النزعة الآلية تحتل على الدوام مكانة رئيسية في تفكير الفلاسفة ذوي النزعة العلمية، الذين كانوا خصوما تقليديين للميتافيزيقا، ابتداء من ديمقريطس حتى أبيقور لوكريتيوس.
ولكن الصورة التي تبدو عليها فلسفة ديكارت ظاهريا، والتي يقبلها القسم الأكبر من شراحه، هي صورة فيلسوف يجمع على نحو فريد بين النزوع الميتافيزيقي الطاغي، الذي تكون فيه فلسفته كلها مرتكزة على الضمان الإلهي للحقائق البشرية، بين نظرة آلية متطرفة إلى العالم، لا تدع مجالا لتدخل القوة الإلهية إلا في أضيق الحدود. وفي أول المراحل فحسب؛ بحيث يسير كل شيء بعد بقواه الذاتية، وتتفاعل قوى العالم وعناصره فيما بينها بانتظام دقيق.
هذه الصورة تفتقر - في رأينا - إلى الاتساق الداخلي، وتبعث في فلسفة ديكارت نوعا من الازدواجية التي تكاد ترقى إلى مرتبة التناقض، فلا عجب إذن أن يحاول أنصار التفسير الميتافيزيقي الإقلال من أهمية الجانب الآخر المرتكز على الآلية، بقدر استطاعتهم، أو عرضه بطريقة مقتضبة عاجلة دون أية إشارة إلى التعارض الحاد بين النزوع الميتافيزيقي وتأكيد سيادة الآلية.
على أن صورة الفلسفة الديكارتية تبدو أكثر اتساقا إذا ما أدرك المرء الأبعاد الكاملة لتصوره الآلي للعالم والإنسان، وحاول بعد ذلك أن يجعل للميتافيزيقا المكانة التي تستحقها في مذهب آلي كهذا، وهي قطعا ستغدو عندئذ مكانة أقل أهمية مما تبدو عليه عادة، فديكارت - كما هو معروف - قد وضع صورة للعالم تختلف اختلافا كليا عن تلك الصورة التي رسمها فلاسفة اليونان للكون المنظم المنسق (
Cosmos ) وتلك التي قال بها مفكرو العصور الوسطى اللاهوتيون، الذين قالوا بعالم يسير وفقا لغايات إلهية محددة. وصحيح أن الصورة التي قال بها ديكارت لم تكن حصيلة منهج علمي سليم، بقدر ما كانت استدلالات فلسفية بحتة، (كما سنبين فيما بعد) ولكن هذا لا يمنع من القول إن عالم ديكارت أقرب بكثير إلى العالم الذي يقول به العلم الحديث، على الرغم من أنه لم يتبع كل منهج هذا العلم الحديث في الوصول إلى تصوره هذا، وبغض النظر عن تفاصيل نظرياته الطبيعية - وهي نظريات كان فيها قدر كبير من الخطأ - فقد كان تطور هذا العالم - منذ حالته الأولى حتى حالته الراهنة - يسير بطريقة آلية بحتة؛ إذ تحدث فيه «دوامات» هائلة يؤدي دورانها إلى تناثر أجزاء الكون وتمايزها، دون تدخل أية قوة خارجة عن نطاقه، دون وجود أية غايات يتجه هذا العالم إلى تحقيقها. وهكذا كانت الروح الآلية عنده أشبه بتلك التي سادت مذهب «ديمقريطس»، فيلسوف الذرة اليوناني المشهور، الذي كان بدوره من أكبر أنصار التصور الآلي البحت للعالم، والذي لا يمكن أن يعد فيلسوفا ميتافيزيقيا بأي حال من الأحوال.
على أن الأهم من ذلك هو تطبيق ديكارت لفكرة الآلية على المجال البشري، ذلك المجال الذي كان الميتافيزيقيون حريصين كل الحرص على أن يجعلوه مقرا للتفسير الغائي. وكانوا يرونه عالما قائما بذاته، مستقلا عن العالم الخارجي، وعن أية نظرية نكونها عن هذا العالم.
ولننظر إلى ما يقول ديكارت في كتابه «وصف الجسم البشري»
La Description du corp humain (1648م) مهاجما فكرة «النفس» على أساس أنها أسطورة قائمة على التشبيه بالإنسان (
anthopomorphisme )؛ نظرا إلى أننا قد جربنا جميعا - منذ طفولتنا - أن كثيرا من هذه الحركات تطيع الإرادة التي هي من قوى النفس، فإن هذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن النفس مبدأ كل شيء، وهو خطأ ساعد عليه الجهل بالتشريح ومبادئ الميكانيكا (لاحظ استخدام لفظ «الميكانيكا» في هذا المجال)؛ ذلك لأننا لا نأخذ في اعتبارنا سوى ظاهر الجسم البشري، فلم نتصور قط أن هناك عددا كافيا من الأعضاء أو من مصادر الحركة، تتحرك بذاتها على الأنحاء المتباينة التي نرى الجسم يتحرك بها،
نامعلوم صفحہ