Werner Sombart » على حق حين قال: إن نشاط صاحب العمل الرأسمالي يتطلع نحو غاية لا نهائية؛ ففي الماضي، عندما كانت حاجات الجماعة هي التي تتحكم في النشاط الاقتصادي - كانت هناك حدود طبيعية لا يمكن أن يتعداها هذا النشاط. أما عندما تصبح الغاية هي أن تزدهر الأعمال لا أن تلبى حاجات الجماعة، فلا يمكن أن تكون مثل هذه الحدود موجودة، ويستحيل أن يصل صاحب العمل الرأسمالي إلى نقطة يمكن أن يتوقف عندها ويقول: كفى! وحتى لو وقفت أية عوائق في وجه نشاطه، فإنه يبدأ في تجربة جوانب أخرى من النشاط تكون فرص التوسع أمامها أعظم؛ وبذلك يمتد توسعه طولا وعرضا أو انتشارا وعمقا، ويستحيل تصور هذا النشاط متوقفا؛ لأن التوقف معناه الاختناق والتدهور والانحدار.
وحين بحث «زومبارت» عن قيم للحياة كامنة وراء هذا السعي الجنوني إلى التوسع، رأى أن هذه القيم أشبه ما تكون بقيم الطفولة، فرجل الأعمال في نظره طفل كبير، وذلك في سعيه إلى الضخامة، مثلما يريد الطفل أن يكون كبير الجسم؛ بحيث يكون الحجم المجرد هدفا في ذاته، ويخلط بين الضخامة وبين ارتفاع المكانة أو العظمة. كذلك فإن رجل الأعمال طفل في سعيه إلى السرعة، واختصار الزمن في كل شيء. وفي بحثه عن التجديد المستمر، مثلما يرغب الطفل في تجديد لعبه وملابسه تجديدا دائما. وفي رغبته في الشعور بمزيد من القوة عن طريق توسيع أعماله واستخدام ألوف الناس الذين يتوقف مصيرهم على كلمة منه.
على أننا سوف نتبين بعد قليل أن هذا الوصف إذا كان ينطبق على وجه من أوجه نشاط الرأسمالي، فإنه لا ينطبق أبدا على بقية أوجه النشاط التي يتبدى فيها الرأسمالي أبعد ما يكون عن الطفل الكبير، ويتخذ صورا لا صلة لها على الإطلاق ببراءة الطفولة وسذاجتها.
والذي يهمنا الآن هو أن نلاحظ التحول الأساسي الذي طرأ على الرأسمالية وعلى شخصية الرأسمالي منذ مرحلتها المبكرة حتى مرحلتها المكتملة، فقد بدأت الرأسمالية - في عهدها الأول - تشق طريقها بفضل روح المغامرة والبحث عن الجديد والكشف عن المجهول. وكانت الأعمال الاقتصادية الناشئة في ذلك العهد تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من إشباع الحاجات الاستهلاكية للإنسان. أما عندما اكتملت خصائص الرأسمالية فقد انعدمت روح المغامرة، وأصبح رأس المال «جبانا»، على حد التعبير الشائع، وتحولت المنافسة التي كانت من أبرز سماتها في البداية إلى احتكار يعمل على تخفيف حدة التنافس أو تنظيمه أو إزالته لصالح أصحاب الأعمال وضد مصالح المستهلكين، وبدلا من أن تعمل الرأسمالية على إشباع الحاجات الحقيقية للإنسان، فإنها أخذت تخلق لديه عادات زائفة لا هدف لها سوى أنها تؤدي إلى فتح باب جديد للربح. ولكن على حساب الاستخدام الرشيد لموارد المجتمع.
وعلى حين أن الرأسماليين كانوا في أول عهدهم أشخاصا يتسمون بصفات النشاط والمثابرة وتقديس العمل - أيا كانت عيوبهم الأخرى - أو يبتدعون الأفكار الجديدة التي تكفل نجاح أعمالهم، فإن الكثيرين منهم أصبحوا في المرحلة اللاحقة أشخاصا تأصلت فيهم عادات الترف المفرط، والتفنن في التبذير الماجن. وكانت هذه الصفات الأخيرة أوضح ظهورا لدى الرأسماليين الذين انفصلوا عن عملية الإنتاج، ولم يعودوا يرتبطون بمصانعهم أو يعرفون شيئا عما يتم فيها، بل يعهدون بها إلى مديرين أكفاء، ويكتفون هم بما ينالونه من أرباح.
وبالمثل فإن الطبقة الرأسمالية أو البورجوازية - التي كانت في أول عهدها تحارب امتيازات الأشراف والإقطاعيين، أخذت تكرس جهودها للمحافظة على نفوذها عندما تحققت لها السيطرة، بل إن الطبقة الجديدة كانت في بعض الأحيان تتداخل مع طبقة النبلاء الزراعيين القديمة بالمصاهرة، وتحاول محاكاة العادات الأرستقراطية العتيقة. وبعبارة أخرى، فإن الرأسماليين عندما أصبحوا هم أصحاب المصالح الحقيقية القائمة، أخذوا يتجهون إلى المحافظة على مصالحهم، وبعد أن كانوا في البداية يستخدمون «العقل» قوة ثورية، أخذوا يستعينون به في تبرير الأوضاع القائمة بطريقة يغلب عليها الطابع المحافظ. والواقع أن هذا التحول كان أمرا تقتضيه نفس روح المرونة والحركية التي كان يتسم بها المجتمع الرأسمالي، فهذه المرونة ذاتها كانت تحتم أن تتحول العناصر التقدمية في الطبقة البورجوازية - بمضي الوقت - إلى أسلوب محافظ في التفكير والحياة، ثم تظهر طبقة جديدة أكثر نشاطا وابتكارا؛ لتحتل مكانة الطبقة التي أصبحت محافظة، ثم تتحول هذه الجديدة بدورها إلى الطابع المحافظ وهكذا. ولكن هذا الطابع المحافظ أصبح هو الطابع المميز للرأسمالية منذ اللحظة التي ظهرت فيها طبقة عاملة واعية تهدد مصالح الرأسماليين، أي منذ القرن التاسع عشر. (ج) الأوجه السلبية في المرحلة الرأسمالية
ليس من الصعب أن ندرك أن التحول الذي طرأ على الرأسمالية وعلى الطبقة البورجوازية من قوة تقدمية تعمل على محارية امتيازات الإقطاعيين الوراثية، وتؤكد انتصار العقل المنظم الواضح على الأفكار اللاعقلية الصوفية الغامضة التي سادت العصر الوسيط، إلى قوة رجعية لا تستهدف سوى المحافظة على مصالحها التي تزداد على الدوام توسعا وانتشارا. هذا التحول يمثل في ذاته وجها سلبيا إلى أبعد حد في النظام الرأسمالي؛ ذلك لأنه يدل على أن النظام لم يكن تقدميا إلا في مرحلته المبكرة، وعلى أن من شأن هذا النظام أن يتحول إلى الرجعية بمجرد أن تتحدد معالمه وتكتمل خصائصه.
على أن هذا ليس الوجه السلبي الوحيد للرأسمالية. بل إن عناصر الضعف والهدم تتغلغل في صميم بناء هذا النظام، وتجعل تجاوزه أمرا محتوما، وسوف نقتصر هنا على ذكر بعض الجوانب السلبية المرتبطة بالموضوع الذي نعالجه في هذا الفصل، وهو الوجه الفكري والمعنوي لمختلف النظم الاقتصادية: (1)
أول هذه الجوانب هو اللاأخلاقية. وربما بدا للبعض أن صفة اللاأخلاقية لا تصدق صدقا تاما على المجتمع الرأسمالي؛ لأن لهذا المجتمع نمطه الأخلاقي، وبالفعل يبدو هذا الحكم الأخير صائبا للوهلة الأولى؛ ذلك لأن الرأسمالية قد ولدت مذاهبها الأخلاقية الخاصة، مثل مذهب المنفعة
Utilitarianism
نامعلوم صفحہ