ولنلاحظ أولا، فيما يتعلق بستروس وسارتر على وجه التحديد، أن كلا منهما قد اتصل بالماركسية خلال فترة معينة من حياته: ستروس في أولها، وسارتر في آخرها، فقد اعترف ستروس في سيرته الذاتية بأنه كان في شبابه ماركسيا. أما سارتر فإن قصة التقائه المتأخر بالماركسية معروفة للجميع؛ ومن هنا كانت كتابات كل منهما تلجأ - بدرجات متفاوتة - إلى المصطلحات الماركسية، على الرغم من أنهما استخدما هذه المصطلحات بمعان متباينة، وعلى أية حال فإن من القرائن غير المباشرة على أن التضاد بين البنائية والوجودية ليس بالحدة التي يصور بها عادة أن ستروس، برغم خلافه الشديد مع سارتر، قد أهدى كتاب «التفكير غير المتحضر
La pensée sauvage » إلى ذكرى «مير لو بونتي» الذي كان أقرب إلى الوجودية بكثير منه إلى البنائية.
26
على أننا نستطيع أن نجد نواحي أخرى يتشابه فيها المذهبان دون وعي منهما بهذا التشابه، وأهم هذه النواحي، رأي ستروس في الطبيعة والثقافة، الذي نجد فيه ما يذكر برأي سارتر في الوجود والماهية، فمنذ كتاب «البناءات الأولية لنظام القرابة
Les Structures élémentaires de la parenté » وهو الكتاب الحاسم والأساسي في المذهب البنائي بأكمله، ويؤكد ستروس وجود تضاد أساسي بين الطبيعة والثقافة
Nature et culture
في الإنسان، فليس ثمة إنسان طبيعي، وإنما يكتسب الإنسان طبيعته من خلال ثقافة معينة. وهذا التقابل بين طبيعة الإنسان وثقافته وخضوع طبيعته للعناصر الثقافية، وهو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، الذي لا يعيش إلا في «الطبيعة» ولا يحور هذه الطبيعة إلا إذا حور نفسه من حيث هو نوع حيواني. وربما بدا لأول وهلة أن رأي ستروس في هذه المسألة ينطوي على مفارقة؛ إذ إن هدفه الذي لا يمل تكراره هو أنه يريد الوصول إلى الطبيعة الأساسية للذهن البشري، مما يوحي بأن لهذا الذهن تركيبا «طبيعيا» ثابتا. ولكن ستروس يؤكد - من ناحية أخرى - أن طبيعة الإنسان تكمن في خروجه عن الطبيعة، فإذا أردنا أن نبحث في ذلك التركيب الثابت الذي يميز الذهن البشري على نحو شامل، فلنبحث عنه في تلك النظم الثقافية (أي اللاطبيعية) التي انفصل عن الحيوان منذ أن وضعها.
وهذا يعني بعبارة أخرى: أن ستروس عندما بحث عن المبادئ الكلية للذهن البشري - بوجه عام - لم يحاول أن يلتمسها في تكوين طبيعي لم يتدخل فيه الإنسان وإنما تلقاه على ما هو عليه، بل إنه اهتدى إليها في ذلك التنظيم الثقافي الذي يتحكم به الإنسان في حياته، الذي يعبر مباشرة عما هو أساسي في طريقة تفكيره.
وإذا كان من الشائع النظر إلى الطبيعة التي لم يخلقها الإنسان على أنها هي الأصل، وإلى الثقافة على أنها الفرع أو الناتج، فإن ستروس يقلب الآية ويرى الثقافة أصلا والطبيعة (في حالة الإنسان بالذات) مشتقة منها، وإذا كان من الشائع أيضا وصف الطبيعة الخام بأنها ثابتة والثقافة بأنها نسبية متغيرة، فإن ستروس يؤكد أن الثقافة هي العنصر الثابت في تكوين الإنسان، ومنها يستمد الإنسان ثبات طبيعته، فمنذ اللحظة التي يحظر فيها زواج المحارم، يكون معنى ذلك ظهور عنصر ثقافي في المجتمع الإنساني (وهو الحظر، أي التنظيم الاجتماعي والقانون) يشكل الطبيعة (وهي غريزة الجنس) ويتحكم فيها؛ ففي هذا الحظر والتحريم تتجاوز الطبيعة ذاتها وتبدأ في تكوين بناء جديد، يحل فيه التنظيم المعقد المميز للإنسان محل العفوية والعشوائية المبسطة التي تميز بناء الحياة الحيوانية.
ولسنا نود أن نستطرد في وصف العلاقة بين الطبيعة والثقافة عند ستروس. بل إن ما قلناه يكفي لإيضاح المسألة التي نريد أن ننبه إليها، وأعني بها وجود نوع من التشابه ربما لم يتنبه إليه ستروس ولا سارتر بين البنائية والوجودية في هذه النقطة الأساسية؛ ذلك لأن من القضايا الرئيسية في الوجودية؛ تلك القضية القائلة: إن وجود الإنسان سابق لماهيته؛ أي إن ما يميز الإنسان هو عدم وجود طبيعة ثابتة مميزة له. ومن المؤكد أن هناك تشابها قويا بين تأكيد ستروس أن الإنسان يصنع طبيعته عن طريق الثقافة، وتأكيد سارتر أن الإنسان لا يبني وجوده على ماهية ثابتة، بل يصنع ماهيته من خلال وجوده. وفي كلتا الحالتين تأكيد لحقيقة أساسية: هي أن أهم ما يميز الإنسان هو ما يصنعه الإنسان نفسه، مع فارق هام مستمد من مجال اهتمام كل من المفكرين الكبيرين، هو أن ستروس كان يتحدث عن الإنسان الاجتماعي، على حين أن مدار حديث سارتر كان الإنسان الفردي.
نامعلوم صفحہ