والذي يهمنا في هذا الأمر هو أن ستروس بالرغم من تأكيد هدف «الانضباط» في العلوم الإنسانية، كان فيلسوفا في رفضه للطابع الذي تتبدى عليه الأشياء، وسعيه إلى حقيقة أعمق من هذا المظهر، ولنذكر في هذا الصدد أن «كانت» بدوره كان يضع نصب عينيه هدف العلم «المنضبط»، ويستهدف تحقيقه في مجال الفلسفة ذاتها، التي أراد منها أن تبحث عن عوامل الانضباط في علمي الطبيعة والرياضة وتطبقها في ميدانها الخاص. وهكذا يمكن القول: إن «كانت» أراد أن يجعل من الفلسفة «علما إنسانيا» بالمعنى الذي حدده ستروس.
بل إن تفاصيل الانتقال من مظهر العالم إلى الحقيقة العلمية متشابهة فيما بين «كانت» وستروس؛ ذلك لأن ستروس بدوره يرى أن ما نعرفه عن العالم الخارجي ندركه من خلال حواسنا، أي إننا نضفي على الظواهر التي ندركها سمات معينة، ترجع إلى الطريقة التي تعمل بها حواسنا وإلى الترتيب الخاص الذي يرتب به ذهننا المنبهات الحسية ويفسرها، ومن أهم سمات عملية الترتيب هذه تفتيت المتصل الزماني والمكاني المحيط بنا إلى قطاعات منفصلة؛ بحيث نرى في الطبيعة أشياء مصنفة في فئات، ونجعل الزمان مؤلفا من حوادث منفصلة متعاقبة، وما يحدث في حياتنا الاجتماعية. وفي ثقافتنا، هو انعكاس لما يحدث في إدراكنا للعالم المحسوس؛ إذ إننا نجزئ نواتج ثقافتنا ونرتبها بنفس الطريقة التي نجزئ بها نواتج الطبيعة ونرتبها، ونكون منها «بناء» مماثلا للبناء الذي ننظم به إدراكنا للعالم، وكما تحدث كانت عن مقولات ذهنية تكون قوالب لا بد أن يصاغ فيها كل ما ندركه عن العالم، ثم طبق هذه المقولات (في الجزء الخاص «بجدل العقل الخالص» من كتابه المشهور «نقد العقل الخالص») على نواتج الفكر الميتافيزيقي والتأملي البحت، فجعل منها ما يشبه «البناءات» التي تنقل من مجالها الأصلي إلى مجال مغاير، فكذلك فعل ليفي ستروس حين أكد أننا عندما نضع نظما اجتماعية أو نقوم بشعائر، نحاكي طريقة إدراكنا للطبيعة، ونحول النموذج الذي ندرك عليه الطبيعة إلى المجال الثقافي؛ بحيث يكون بناؤهما مشتركا. وهذا أمر مفهوم؛ لأن الذهن البشري هو الفعال في الحالتين، ولا بد من وجود نقاط تشابه أساسية في طريقة ممارسته نشاطه في كل مجال من المجالات.
ولكن مثلما أن تأكيد «كانت» لفاعلية الذهن البشري لم يؤد به إلى أن يكون مثاليا على طريقة باركلي، فكذلك كان ستروس بعيدا كل البعد عن هذا النوع من المثالية؛ فهو يعترف بأن للطبيعة وجودا حقيقيا خارج الذهن البشري، ولا يجعل وجودها متوقفا على إدراكنا الذهني لها، «ولكن فهمنا للطبيعة تتحكم فيه كثيرا طبيعة ذلك الجهاز الذي نفهمها به. وهكذا فإن فكرة ستروس هي أننا إذا لاحظنا الطريقة التي نفهم بها الطبيعة، وتأملنا خصائص التصنيفات التي نستخدمها وطريقة تعاملنا مع المقولات الناتجة عن هذه التصنيفات التي نستخدمها وطريقة تعاملنا مع المقولات الناتجة عن هذه التصنيفات؛ أمكننا أن نستدل على حقائق أساسية عن آلية التفكير»،
13
وإذا عرفنا آلية التفكير البشري؛ أمكننا أن ندرك نواحي التشابه الأساسية في الثقافات المختلفة التي تشترك في أنها كلها نواتج لذهن يعمل بطريقة واحدة.
وإذن فلم يكن ليفي ستروس مثاليا بنفس الطريقة التي كان بها باركلي مثاليا. ولكن مثاليته «كانتية» إلى حد بعيد، فهو بدوره يؤكد تدخل الذهن في كل شيء، ويتمسك بفكرة الترابط الوثيق بين كل الظواهر التي تجمع بينها آلية ذهنية واحدة، وتنفذ هذه النظرة الكانتية إلى صميم عمله الأنثروبولوجي، فيسعى إلى كشف العلاقات الباطنة بين مختلف مظاهر الحياة في المجتمع البدائي، وطريقة تشييدهم لمساكنهم، وأدائهم لشعائرهم وطقوسهم الروحية، وتنظيمهم لعلاقات القرابة بينهم، كل هذه تكشف عن بناء واحد قد يجد العالم الأنثروبولوجي صعوبة كبرى في الوصول إليه؛ لأنه بناء لا شعوري، لا يدرك عن وعي ولا يوجد على السطح الظاهر. ولكنه لن يعجز عن ذلك إذا كان مسلحا بالمنهج السليم.
أما هذا المنهج السليم فأهم ما فيه هو تأكيد أولوية البناء على مظاهره الخارجية، أو ما يمكن أن يسمى - بلغة كانت - بالقبلية
a priorisme ؛ ففي استطاعتنا أن نفهم النواتج الثقافية على أساس البناء الواحد الذي ترتكز عليه. أما إذا بدأنا بهذه النواتج ذاتها، ولم نحاول أن نردها إلى أساس سابق فلن نصل إلى أي فهم متعمق؛ ومن هنا كان انتقاد ستروس للنزعة الوظيفية عند «مالينوفسكي».
هذه الوظيفة كانت تتجلى - على سبيل المثال - في تفسير مالينوفسكي لظاهرة قيام قبائل معينة بتسمية نفسها بأسماء حيوانات؛ إذ كان يرى أن هذا راجع إلى الفائدة المكتسبة من هذه الحيوانات في الحياة اليومية لتلك القبائل، أو إلى أنها كانت تعتمد عليها في مأكلها، وغير ذلك من التفسيرات الوظيفية التي رفضها ليفي ستروس من أساسها؛ فالبناء سابق على مظاهره، وليست هذه الأفعال الجزئية هي التي تفسر البناء. بل إن البناء هو الذي يفسرها، وقد عبر ستروس عن هذه الفكرة بوضوح حين قال: «في الأنثروبولوجيا، لا تكون المقارنة هي التي يرتكز عليها الحكم العام. بل إن العكس هو الصحيح، فإذا كان من الصحيح - وهو ما نؤمن به فعلا - أن النشاط اللاواعي للذهن قوامه فرض أشكال على مضمون، وإذا كانت هذه الأشكال في أساسها واحدة بالنسبة إلى جميع الأذهان، تستوي في ذلك القديمة والحديثة البدائية والمتحضرة (وهو ما تدل عليه دراسة الوظيفة الرمزية كما تعبر عنها اللغة)، فإنه يكفي المرء عندئذ أن يدرك البناء اللاواعي الكامن من وراء كل نظام اجتماعي
institution
نامعلوم صفحہ