أضواء على أوضاعنا السياسية
أضواء على أوضاعنا السياسية
ناشر
دار القلم
ایڈیشن نمبر
الأولى
پبلشر کا مقام
الكويت
اصناف
أضواء على أوضاعنا السياسية
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد
فإن أعداء الإسلام من الصليبيين، واليهود والملاحدة في هجمتهم الثانية على بلاد الإسلام لم يكتفوا بهزيمة المسلمين العسكرية، بل عمدوا إلى خلافة الإسلام فأزالوها، وكانت رمزًا تجمع شتات المسلمين، ثم عمدوا إلى أوطان المسلمين فمزقوها أوطانًا وأقاليم، وأقاموا في كل موطن وإقليم سلطانًا مواليًا لنفوذهم ينفذ سياستهم بالترغيب والترهيب والحماية، ثم عمدوا إلى مناهج التعليم والتربية فصبغوها بصبغتهم في الإلحاد والكفر وأنشأوا بذلك أجيالًا من أبناء المسلمين يعادون دينهم، ويتنكرون لتاريخهم وأمتهم، ثم عمدوا إلى الدين والحق فحاصروه في نفوس أتباعه، وضيقوا الخناق عليه في كل مكان، واضطروا أهله إلى النجاة بأنفسهم أو تحمل صنوف
1 / 5
العذاب والبلاء، ثم شنوا بعد ذلك هجمة شرسة بأقلام وألسنة تقطر السم فشككوا في كل عقيدة من عقائد الدين، وأقاموا الشبه على كل فرعية من فرعياته، حتى أصبح الطريق إلى الله معوجًا للسالكين، فلا يكاد يهتدي إلى الإسلام أحد من أبنائه، حتى يقابل بسيل جارف من التشكيك والشبهات، ثم واصل الأعداء حملتهم على الجذور الإسلامية يريدون استئصالها والقضاء عليها حتى يسلم لهم فصل المسلمين عن أنفسهم وتاريخهم وبذلك يصبحون قطيعًا وراء كل ناعق.. وقد كان.
* ولن يستقيم للمسلمين أمرهم وترد إليهم مكانتهم وعزتهم إلا بإصلاح جذري كامل يستهدف تغيير العقلية الإسلامية، حيث ترتكز على الإيمان بالإسلام قولًا وعملًا، ويستنير بهدي القرآن والسنة في كل شأن من شؤون الحياة، وتكون أجيال هذه الأمة حلقات في سلسلة واحدة منذ محمد ﷺ إلى أن يقاتل آخرهم الدجال.. ولابد أن يشمل هذا الإصلاح توافر الحياة كلها، وهذه المقالات محاولة للإصلاح السياسي الذي هو بمثابة الرأس في الأمة والذي يجب أن يتجه الإصلاح إليه قبل كل شيء فصلاح الراعي لصلاح الرعية، ونحن نرى أن إصلاح السياسة يكون بتقديم النصح للولاة، ووزن أعمالهم بميزان الكتاب والسنة وهما الحكم على كل شيء لأنهما معصومان، ولأن هذه الشعوب شعوب إسلامية تنتمي إلى الإسلام، ويجب أن تساس وفق مبادئه وعقائده، ومن حق هذه الشعوب أن تعلم الحق في أخطر قضاياها وهي القضايا السياسية حتى لا تقاد كما تقاد السائمة ليس لها من أمرها شيء، بل من حقها أن تستشار وتسأل عن إبرام أي شيء.
وقد كان لهذه المقالات التي نشرت تباعًا في مقالات
1 / 6
أسبوعية بعنوان "منبر الجمعة" في جريدة الوطن الكويتية أثر بالغ بحمد الله وتوفيقه في كشف كثير من قضايا السياسات الملتوية لأعداد هذه الأمة، وفي تبصير كثير من أبناء الإسلام بالسياسة الواجب اتباعها في هذه المرحلة الراهنة من حياة الأمة، ويأتي نشرها في كتاب تحقيقًا لفائدة أعظم والله نسأل أن يكون عملنا هذا خالصًا، وأن يوفقنا في جميع أعمالنا إلى ما يحبه ويرضاه.
١٢ربيع أول سنة ١٣٩٨هـ
الموافق ٢٠فبراير سنة ١٩٧٨م
عبد الرحمن عبد الخالق
1 / 7
الدين والحياة
مازال كثير من الناس يطلق كلمة "الدين" على أمور التعبد والتقرب كالصلاة والصيام والزكاة والحج ولا يعلم أن التعبد هذا جزء من الدين، وليس الدين كله، فالدين عند الله هو الإسلام، والإسلام هو الانقياد والإذعان لله ﷾ في كل أوامره ونواهيه، وقد شملت أوامر الله ونواهيه لنا الحياة بأسرها، فليس من شأن من شؤون حياتنا إلا ولله ﷾ له فيه حكم، فحياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قد وضع الله لنا أصول التعامل فيها، وفصل بعض جوانبها تفصيلًا كاملًا، وإن كانت بعض جوانبها قد أجملها، وترك لنا التفريع والابتكار والتجديد، وهذه النواحي أعني الاجتماع والاقتصاد والسياسة هي أهم أمور البشر على ظهر هذه الدنيا وما كان الله ليتركها عبثًا أو سدى أو للتخبط والتجريب، وقد جهل الناس أحكام هذه الجوانب من جراء إزاحة الإسلام عنها واستبدلوا بأحكام الإسلام فيها أحكامًا أخرى من صنع البشر لاقى الناس منها الظلم والويلات.
ونحن بجهدنا المتواضع ومن هذا المنبر سنحاول جاهدين بحول الله وقوته جلاء أحكام الإسلام، في هذه الجوانب المهمة من جوانب حياة الناس، وليكون هذا إسهامًا في إعادة الإسلام
1 / 8
إلى هذه المواقع التي أزيح منها بفعل الاستعمار والجهل وسنرى أننا بالإسلام نحيا الحياة الحقيقية التي ملؤها الحرية والسعادة والعزة، وبدونه نحيا حياة أشبه بحياة الأنعام والدواب، وصدق الله القائل: ﴿أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾ .. فالكافر والغافل ميت والمؤمن حي لأنه عرف ربه وعرف سبل السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.
1 / 9
فلنسم الأشياء بأسمائها
الأسماء هي العناوين التي نطلقها على المسميات ومن خلالها نتعرف على ما أطلقت عليه، فإذا سمعنا -مثلًا- لفظ الشجاعة فإننا نتصور في عقولنا صفة حميدة تعني الإقدام والجرأة، ورباطة الجأش، وعزيمة القلب، وإذا سمعنا لفظ الخيانة تصورنا معنى واضحًا محددًا، فإذا قلنا إن فلانًا شجاع وقع في نفوسنا إنصاف هذا المذكور بهذه الصفة، وهكذا في كل ما يوصف به الأفراد والأشياء، والمقصود إننا نتعرف على الأشياء من خلال الأسماء التي نطلقها نحن عليها، فما بالكم إذا أطلقنا أسماء مغايرة تمامًا للمسميات التي نقصدها، فنطلق مثلًا على النار لفظ الماء وعلى البارد لفظ الحار، عل الخيانة لفظ الظرافة (وخفة الدم)، وعلى الشجاعة لفظ التهور والجنون، لا شك أننا سنعيش في فوضى لا حد لها، بل سنعيش في عالم مختلط مضطرب.
* وهذا الذي افترضه ليس فرضًا بعيدًا، وإنا هو واقع نمارسه الآن ونعيشه، إننا نعيش الآن عصرًا يصح أن نسميه عصر فوضى الأسماء، فلست واجدًا شيئًا قد تسمى باسمه -الذي يجب أن يتسمى به- إلا القليل النادر وهاكم البيان:
إذا طالعنا قاموسنا السياسي بكل ألفاظه المتداولة بين
1 / 10
أيدينا وجدنا أنها موضوعة في غير مواضعها ومنطوقة على غير معانيها وفي غير أماكنها، فالهزيمة المنكرة نكسة والهاء الشعوب ترفيه، والاستبداد حزم، وإفساد الناشئة تربية، ومحاربة الفساد تعني في هذا القاموس قمع الذين يأمرون بالقسط والعدل من الناس والكذب والخيانة سياسة وذكاء.
ألسنا يا قوم نسمي الإذعان للعدو والاستسلام له والرضى بالذل حلًا!! وسلميًا أيضًا، وقد نتصافح فنسميه صلحًا، والحال هذا لا يجوز أن يسمى حلًا ولا سلمًا، ولا صلحًا ولا شيئًا من هذا أصلًا، والمثال واضح وسهل، فأنت لو جاءك عدو فلطمك على وجهك وأخرجك من منزلك الذي تملكه، ثم أراد منك أن توقع أمام الناس وثيقة تثبت تنازلك عن دارك، وفعلت هذا الذي أراده ثم قابلت الناس فسألوك عما صنعت مع عدوك فقلت لهم: تصالحت معه، وحللت قضيتي معه سلميًا.. لضحك الناس منك (وهنأوك على شجاعتك) آسف لوبخوك على جبنك هذا إذا لم تكن لك مقدرة على إخراجه، وأما إذا كنت قادرًا على إخراجه وقلت ذلك لبصقوا في وجهك ولعجبوا من وقاحتك.
وحالنا مع أعدائنا من اليهود ليس بعيدًا عن ذلك، فهم مغتصبون والذين أخرجوا من ديارهم وملكها اليهود بعدهم لم يموتوا بعد، ونحن إما أن نكون غير قادرين على إخراجهم فمن (العبث) أن نقرهم على الباطل وآسف لاستعمالي كلمة العبث وهي والله كلمة في غير موضعها!! وأما أن نكون قادرين على إخراجهم.. فهل نسمي ما نفعله الآن معهم سلمًا وصلحًا وحلًا.. حرام عليكم لا تظلموا الكلمات.
وإن تركنا القاموس السياسي وجئنا إلى قاموسنا الاجتماعي وجدنا العجب: هذه التفاهة التي تطالعنا كل يوم
1 / 11
على صفحات الجرائد من أن فلانة أعدت العدة لاستقبال زوجها، وتلك احتفلت ودعت الصديقات لأنها عزمت على مذاكرة دروسها، والثالثة عزمت على تغيير فراش بيتها وذلك الطرطور دعا الأصدقاء ليهنئوا زوجته بعيد ميلادها، كل هذا ومثله كثير يقزز النفس كان ينبغي أن يوضع تحت عنوان: أخبار التافهين والتافهات، وهكذا وجدنا في مصطلحنا الاجتماعي الدياثة (وتعني رضا الرجل بالفاحشة على أهله) رقيًا وواقعيه، والخيانة في الأهل والمال صداقة وزمالة، ووجدنا ويا لداهية!! كل هذا الخنا والفجور والتفاهة في التأليف والتمثيل والإخراج فنًا، وكل أولئك التافهين والتافهات أبطالًا.. أرثي لهذه الكلمة (البطل) كيف رضيت بأن توضع في غير موضعها.
وإذا جئنا إلى قاموسنا الديني فالعجب لا ينقطع فالتمسك بالإسلام أضحى تعصبًا، والكفر بكل ما جاء به الرسول أضحى تطورًا، ورد أحكام الله والتعقيب عليه أمسى تفكرًا وتعقلًا، ولفظ المسلم يدل على كل هذا السقط من الناس الذي لا يعرف ولا يعمل ولا يؤمن بإسلام أصلًا، وأما الكفر فهو عتقاء مغرب (شيء لا وجود له) في كل بلاد الضاد والحال أنه يطالعك مجسمًا أينما توجهت، وهل الكفر إلا رد الحق بعد بيانه؟
وهؤلاء الذين يتأكلون بالدين، ويقولون على الله ورسوله ما لم يقله الله ورسوله، ويفتون كل إنسان بما يشتهي، ويلوكون كلمات يرددونها كالببغاوات بلا فقه ولا عمل نسميهم -زورًا- علماء الإسلام.
قال أحد الصحابة في عهد بني أمية: لو خرج رسول الله ﷺ لم يعرف مما كان يعهد شيئًا إلا أنكم تصلون جميعًا، فكيف لو خرج رسول الله الآن، هل تجد شيئًا من دينه
1 / 12
بقي كما هو، بل هل تجد حقيقة شرعية واحدة يفهمها الناس كما أراد هو لا كما فسروها أولوها وأطلقوها في غير موضعها؟
نحن مهددون باندثار حضارتنا لأننا زيفنا أعظم عملة نتعامل بها وهي الكلام، وإني لأعجب والله كيف نثور ونغضب ونسجن من زيف دينارا وغاية ما فعل أنه سرق من جيب الأمة دينارًا، ولا نثور ونغضب ممن يزيف الكلام وقد يكون في تزييف كلمة واحدة هلاك أمة بأسرها، وقد شرحنا هذا آنفًا، فأعد قراءة المقال، كلنا يشكو من الفوضى وما ذلك إلا أننا ألبسنا اللص لباس الشرف، وأعطينا المغتصب حق الملك، وخلعنا على الديوث لباس العصر وجعلنا كل التافهين أبطالًا، وكل المتشبهين رجالًا وكل الذين خانوا أمانة العلم علماء، وكل الذين باعوا أمتهم وأوطانهم قادة وزعماء فماذا بقي لنا؟! بقي أن نعيد ترتيب اللغة من جديد، وأن نتعلم من الصفر كيف نسمي الأشياء بأسمائها.
١٤ ديسمبر ١٩٧٦م.
1 / 13
لماذا يظلم الإنسان أخاه؟
كان عجبًا أن يقص الله علينا في كتابه أن أول أخوين عاشا على ظهر هذه الأرض قتل أحدهما الآخر عندما تعارضت مصالحهما، إذ يتصور من لا يعرف النفس البشرية -حق المعرفة- أن الأخ يفي أخاه بما ملكت يداه، وأنه لا يتصور أن يؤثر أخ شقيق منفعة مادية مهما عظمت على أخوة أخيه وبقائه بجواره وبخاصة إذا لم يكن في الأرض غيرهما، ولكن هذا حدث ولذلك رتب الله على هذا شريعة القصاص ليكون هذا مانعًا من الظلم، فالحدود جعلها الله إذن زواجر عن الظلم والإثم والعدوان، وعلى كل المسلم مدعو أولًا إلى أن يعرف حق أخيه الإنسان، وذلك للاشتراك في الأصل الواحد والرب الواحد، وأعني بالرب هنا الخالق ﷾، وهذا لا يمنع أن للمسلم حقوقًا أخرى غير الحقوق الإنسانية وذلك للاشتراك في الغاية والهدف الواحد.. وهذه الحقوق الإضافية للمسلم على المسلم لا تتنافى مع الحقوق الإنسانية، ولذلك أمر المسلمون بالعدل مع أعدائهم كما قال تعالى: ﴿يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ الآية، والعدل المأمور به هنا هو العدل مع
1 / 14
الأعداء الذين يبغضهم المسلمون وقد يحملهم بغضهم لهم على ظلمهم فنهاهم الله عن ذلك.
واليوم يتناسى المسلمون هذه الآداب، بل يهملونها وتتحول مجتمعاتنا دون وعي منا إلى مجتمعات تختفي منها الرحمة تدريجيًا، ويحل مكانها الظلم والعدوان، أو على الأقل الغفلة والنسيان: الغفلة عما يعانيه الآخرون بسبب غرورنا وجشعنا، وحبنا لأنفسنا، وأثرتنا.
يعاني الناس اليوم ألوانًا من الظلم الخفي الذي قد لا يحس به الكثيرون لما أحاطوا به أنفسهم من البهرج والزخرف والأموال والمشاغل:
ظلم التاجر الجشع الذي لا هم له إلا الربح والربح الفاحش عن طريق الاحتكار والتلاعب بالأسواق.
وظلم المالك باستغلال حاجة المحتاج..
وظلم صاحب العمل بامتصاص جهد العامل واستنفاد طاقته، وبخس حقه.
وظلم رب المال بالتسلط والقهر وامتصاص أموال الناس وجهدهم عن طريق الربا والمضاربة.
وإذا كان الرسول ﷺ يقول: [الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء]، فإنه أيضًا قد أمر بالضرب على يد الظالم، ومنعه من الظلم، والحكومة مدعوة للحل الثاني عندما تعجز الكلمات الطيبة والمواعظ الحسنة أن تفعل فعلها في القلوب الصماء.
٥ نوفمبر ١٩٧٦م
1 / 15
أيها الزعماء ... متى ستبدأون الرحلة الجديدة
وإلى أين؟!
مضت أربع سنوات الآن على حرب رمضان ١٣٩٣ هـ - ١٩٧٣م ورحلة السلم التي قادها الزعماء في هذه السنوات الأربع انتهت إلى فراغ - وهذا في حد ذاته رحمة من الله العلي العظيم، ولقد تغير الوضع في إسرائيل تمامًا، وأصبحت الآن من حيث الاستعداد العسكري غير ما كانت، فإذا كان زعماؤنا السياسيون الذين وضعوا آمالهم على السلم وحده، لم يستعدوا للحرب، فإن هذا يعني الكارثة، واليوم علينا أن نبدأ رحلة جديدة فكيف؟ وإلى أين؟..
أظن أولًا أنه لم يصبح هناك مجال لتنازلات جديدة لأن إسرائيل لم تتنازل عن شيء ففلسطين (الجغرافية) اختلت تمامًا وأعلنت إسرائيل أنها أرض يهوذا والناصرة، ومعنى ذلك أن شعار (حق شعوب المنطقة في العيش بسلام داخل حدود معترف بها) لا يشمل الفلسطينيين لأنهم في نظر اليهود ليسوا شعبًا من شعوب المنطقة!! وكارتر الذي ادعى أنه سيفاوض الفلسطينيين إذا اعترفوا بحق إسرائيل بالبقاء أنبته إسرائيل
1 / 16
تأنيبًا عظيمًا، وأخبروه بأن منظمة التحرير لا تعدو أن تكون كالمنظمات النازية التي يجب أن يكون مأواها هو السجون والمعتقلات، وسحب كارتر كل وعوده السابقة أو ابتلعها وقد تنبأنا بذلك.
واليوم أهداف إسرائيل واضحة وهي معاهدات جزئية مع كل من مصر وسوريا، يرد لكل منهما جزء من أراضيهما المحتلة في مقابل السلام الدائم ونسيان شيء اسمه قضية فلسطين، وشيء آخر اسمه الفلسطينيين والتكرم بإسكانهم في الدول العربية كمواطنين لا كلاجئين، وتصفية الضفة الغربية أولًا بأول من أهلها.. ولهذا نقول انتهت رحلة السلام إلى فراغ، ويجب أن نفكر في رحلة جديدة؟!
* بالطبع لا يمكن أن نقول بأن قواد الرحلة كانوا يريدون أن يصلوا إلى هذه النهاية، وربما كانوا يعلمونها، وإذا كانوا يعلمونها فلماذا ساروا فيها طيلة هذه المدة.. أربع سنوات.. العلم عند الله.
* نحن الآن أمام رحلتين لا ثالث لهما:
* الرحلة الأولى رحلة إنهاك وإشغال والهاء بمعارك بين الدول العربية الإسلامية تستنفذ فيها الطاقة، ويشغل الناس فيها لا عن إسرائيل فقط، بل حتى عن أنفسهم والنفوس العربية المليئة بالشقوق والأحزان هي أرض صالحة تمامًا لهذا وقد تستمر هذه الرحلة سنوات أربع أو خمس حتى تكون إسرائيل قد أقامت هيكلها وأنهت بأسلوب أو آخر وجود العرب في أراضيها وتكون المقاومة في الخارج قد طوقت تمامًا، وفقدت مضمونها ومبرر وجودها، وهذا بالطبع إذا لم يتق الزعماء ربهم ويفكروا في حاضر هذه الأمة البائس.
* والرحلة الثانية أن نبدأ بتجميع صفوفنا، ولم
1 / 17
شعثنا ونستعد لتحرير أرضنا استعدادا حقيقيا، وندخل مع اليهود القتلة معركة حياة أو موت نملأ فيها الأرض والبحر والجو على إسرائيل موتًا ودمارًا، وهذا الكلام ليس قطعة من خطبة حماسية وإنما هو الحق إذا أردنا الحياة والنجاة، ومازلنا ولن نزال نقول إسرائيل باطل صنعه العرب بأنفسهم.
لقد انتظرنا طويلًا حقًا حتى جرب الزعماء زراعة السلام في أرض إسرائيل التي لا تنبت إلا الحرب والدمار والفساد، وكانت هذه المدة الطويلة كافية لتسترد إسرائيل أنفاسها وترمم جيشها وتبني قوتها بعد أن أشرفت على النهاية ولم يبق إلا التسليم باعترافهم بعد حرب رمضان، ولقد صدقنا في ذلك المخادع كيسنجر، وألقينا ثقلنا مع أمريكا المحكومة بالمعادلات الصهيونية المعقدة وعلينا الآن أن نتخذ قرارنا الجديد من أرضنا ومن داخل نفوسنا، ومن آمال شعوبنا، ومما يمليه علينا ولاؤنا لأمتنا، وقبل ذلك من امتثالنا بديننا الإسلام الذي يفرض علينا أن لا نقبل الذل وأن لا نرضى بالهوان.
* والأمة كلها أمانة في يد من يملكون اتخاذ القرار السياسي، وما الشعوب إلا كركاب في قاطرة أو حافلة يقودها الزعماء، فإما أوصلوهم إلى أهدافهم وغاياتهم، وإما خانوهم وانحرفوا بهم إلى مهاوي الدمار فمتى يا قواد القاطرة ستبدأون الرحلة الجديدة وإلى أين؟!
٢٦ أغسطس ١٩٧٧م
1 / 18
أمانة الكلمة
من أعظم الأمانات التي سنسأل عنها بين يدي الله ﷾: "أمانة الكلمة" كما قال ﷾: ﴿ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد﴾ فالإحصاء الكامل لكل ما نطق به الإنسان ومحاسبته عليه إحدى عقائد الإيمان ومسائله التي يجب على المسلم استحضارها وتعظيم شأنها.
والكلمة المكتوبة شأنها تمامًا شأن الكلمة المنطوقة، فالكتابة وسيلة لإيصال المعنى المراد إلى الغير شأن النطق تمامًا، وقد تكون الكلمة المكتوبة أعظم أثرًا وأوسع انتشارًا وأطول عمرًا من الكلمة المنطوقة، ولذلك كانت جريرتها -في الإثم- أعظم، وثوابها -في الخير- أكبر وأكثر، كما قال ﷺ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، وهل العلم المنتفع به إلا كلمة حفظت بعد موت صاحبها في الصدور أو السطور وتناقلتها الألسنة أو الأقلام.
وكلمة الحق والعدل من أعظم الجهاد والدعوة إلى الله ﷾ منطوقة أو مكتوبة، كما قال ﷺ: [أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر]، وطالما كان
1 / 19
لهذه الكلمة الطيبة أثر في الأرض وثمار في النفوس كان لصاحبها أجر بذلك، كما قال ﷾: ﴿ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها﴾ الآية، وكذلك الشأن في كلمة الباطل والزور كلما عملت إفسادها في الأرض والنفوس كلما ازداد قائلها أو كاتبها إثمًا كما قال ﷺ: [ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا] (رواه مسلم) وبعد..
هل الكفر إلا كلمة تسير بصاحبها إلى النار، وهل الإيمان إلا كلمة تفتح الطريق إلى الجنة!
وإذا كان في الناس من يظن أن الكلمة الآثمة التي تلقى على عواهنها لا تضر صاحبها فهو يخطئ، وكذلك لا تنقص أجر الكلمة الطيبة أن صاحبها لم يكن يظن أنها ستبلغ في الخير ما بلغت فقد يرفعه الله بها في الجنة مائة درجة، وهو يوم قالها أو كتبها لم يكن يتصور ذلك كما جاء بذلك الحديث.
وقد يظن بعد هذا الإيضاح بعض الناس أن الكلمة الطيبة التي ترفع صاحبها في الجنة هذا المقدار أمرها هين ويستطيع كل إنسان ملك لسانًا أو قلمًا أن يفعلها ولكن لنعلم أن من شروط الكلمة الطيبة ما يأتي:
أولًا: أن تكون كلمة صدق، فالزور والباطل والكذب لا يمكن أن يكون طيبًا، وما أقل الصدق في أيامنا هذه.
ثانيًا: أن يكون صاحبها عاملًا بها فلا يكفي أن نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا والله يمقت على ذلك كما قال ﷾: ﴿يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون﴾ .
1 / 20
ثالثًا: أن يكون المراد من وراء الكلمة هو الله والدار الآخرة، كما قال ﷾: ﴿لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا﴾، فقيد ﷾ الأجر العظيم بابتغاء مرضاة الله سبحانه، هذه الشروط التي نرجو أن نلتزم بها ونوصي إخواننا بالالتزام بها عند بذل كلماتهم، وبذلك نحقق شيئًا من أمانة الكلمة التي كلفنا الله ﷾ بها.
وبهذا نفسح المجال لتأخذ الكلمة الطيبة طريقها إلى إصلاح القلوب والنفوس والمجتمعات ومحاربة الشر والرذيلة والظلم، وإذا فسح المجال للكلمة الطيبة الصادقة المخلصة فأثمرت العمل الطيب الصالح فإن الكلمة الخبيثة الشريرة الكاذبة يفتضح أمرها ويتوارى أهلها لأنها تصبح بعد ذلك كلمة منكرة معلوم كذبها وزورها.
ونحن في زمان كثر زوره وكذبه وقل صدقه وإخلاصه ولكن الكلمة الطيبة لا يقف أمامها الكلام الخبيث الكاذب، كما قال ﷾: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون﴾ .
عندما عرض على الأخ جاسم المطوع أن أشرف على هاتين الصفحتين المتخصصتين في الشؤون الدينية، علمت أنني أمام مسؤولية صعبة فليس المطلوب الآن هو ملء صفحتين بكلام منسوب إلى الدين أيًا كان هذا الكلام، ولكن المطلوب هو تقديم الكلمة الطيبة الصادقة الحكيمة التي تعالج ما تشكوه الآن من آلام وأسقام في هذه الفترة السيئة من تاريخها، ونحن نوجِّه نداءنا إلى أهل الكلمة النظيفة أن يشاركونا هذه المسؤولية، ولن نفسح المجال إلا لمثل هؤلاء ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، ونبشر القارئ أن وقته لن يضيع سدى وهو
1 / 21
يقرأ في يوم أجازته ما يكتب في هذه الزاوية، بل سيجد إن شاء الله أننا سنلتزم بأمانة الكلمة وسنحافظ جاهدين على شرف هذه الرسالة التي شرفنا الله بحملها وسيتعرف على إخوان له في الله يقدمون له النصح خالصًا ويتقبلون منه كل نقد وتوجيه وسيشاركونه آلامه وآماله في سعادة هذه الأمة وإعلاء شأنها.
٨ أكتوبر ١٩٧٧م.
1 / 22
السلمي.. عبث وسراب
سيأتي اليوم الذي يتحقق فيه للساعين إلى حل سلمي بين الأمة الإسلامية وبين اليهود أنهم كانوا يركضون خلف السراب، والذي يتبين لهم فيه أيضًا أنهم كانوا عابثين.. وذلك للأسباب الآتية:
أولًا: المسلمون واليهود أمتان مختلفتان عقيدة ومنهجًا وأهدافًا وسلوكًا، وتقوم كل منهما على تراث طويل من الحقد والكراهية وهذا التراث الطويل المتوارث بمعاهدات صلح فوقية تفرضها دول تنظر فقط إلى تحقيق مصالحها الشخصية الآنية وتبديل هذا التراث في حكم المستحيل، فقد أثبت اليهود لليوم أنهم شعب تراثي يعيش على أحكام التوراة، ويؤمن بأخبارها ويفاوض العالم المعاصر على أساس وعودها وما زال اليهود لليوم يشكلون حياتهم وثقافة صغارهم على أساس هذه العقيدة، وينفخون الحقد الأسود في قلوب أبنائهم للشعوب الإسلامية التي يتهمون أسلافهم بأنهم من أسباب شتاتهم وتشريدهم، وإذا كان اليهود يريدون من الدول الإسلامية أن تتخلى عن تراثها ليستسيغ أبناؤها قبول اليهود في هذه الأرض، فإن اليهود أنفسهم لم يفعلوا ذلك بتراثهم ليشعروا نحو شعوب هذه المنطقة بالأمن والسلام.
والشعوب الإسلامية والعربية خاصة وإن كانوا أقل
1 / 23
من اليهود تمسكًا بالتراث ونزوعًا إلى القديم، فإن العقيدة الإسلامية مازالت حية في نفوس سواد الناس، وهذه العقيدة الإسلامية عقيدة استعلاء فوقية لا ترضى لأصحابها بالذل والدنية ولا تحصرهم فقط في إطار الشعائر الدينية العبادية، وإنما تأمرهم بصبغ حياتهم السياسية والعملية والاجتماعية بأحكام الإسلام وهذه الأحكام تتناقض جذريًا مع الرضوخ لذل اليهود والاستكانة لاحتلالهم والرضا معهم بالذل والعار.. وبالرغم من أن المحاولات مستمرة لصرف الناس عن هذه العقيدة تمهيدًا لاستقرار اليهود في هذه الأرض وتوطئة لأمنهم وسلامهم فيها، فإن المشاهد أن هذه المحاولات فاشلة وستفشل وذلك أن التجارب أثبتت أن الأمة الإسلامية تزداد مع التحدي شدة وصلابة، ويدفعها التحدي دائمًا إلى الاعتصام بالدين والتمسك به.
هذا وما زال الخلق العربي القديم من الشعور بالنخوة والهبوب لنجدة المظلوم والدفع عن الضعفاء حبًا في نفوس أبناء الإسلام من العرب هذا الشعور الذي استثاره الإسلام ونماه كما قال تعالى: ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا﴾، وهذا الشعب الفلسطيني المظلوم المضطهد المخرج من أرضه مازال مثالًا حيًا يستثير الهمم العربية ومشاعر المسلمين، والعمل على تبغيض الفلسطينيين لسائر العرب وإيجاد التناقض بينهم وبين إخوانهم، وإن كان قد آتى ببعض ثماره لدى ضعفاء النفوس، فإنه لاشك منته وسائر إلى بوار، وذلك يتكشف الحقائق ولا بد يومًا أن تتكشف..
المهم أن قيام أمتين متجاورتين وبينهما هذا التناقض
1 / 24