ثم يفرق الصيف بيننا، فأذهب أنا إلى الجبل، ويقيم هو في باريس لا يكاد يفارقها إلا إلى ضاحية من الضواحي أو غابة من الغابات ينفق فيها النهار أو بعض النهار مع إلين.
ثم أعود إلى باريس آخر الصيف وقد قدمت إليه النبأ بعودتي فإذا بلغتها لم ألقه، فإذا انتظرته لم يسع لي، ولكن صاحبة الباب تصعد إلي ذات صباح وتدفع إلي قطعة من الورق ما أشك في أنها قد اقتطعت من علبة من علب السجائر وقد كتب عليها بخط مضطرب هذه الكلمات: «صديقك مريض ينتظر عيادتك.»
فأسرع إليه فأراه، ويا شر ما أراه! أرى صاحبي مريضا لا تظهر عليه آثار المرض، ولكنه مؤمن كل الإيمان بأنه مريض، لا يشكو شيئا، ولكنه واثق كل الثقة بأنه مريض. قد عرض على الأطباء فلم ينكروا من صحته شيئا، ولكنه مقتنع كل الاقتناع بأنه مريض وبأن الأطباء مخطئون، ولا أكاد أتحدث إليه وأتبسط معه في الحديث حتى أستيقن أنا أيضا أنه مريض وأن مرضه أخطر جدا مما يظن ومما كنت أقدر، فقد انتهى إلى الجنون الذي كان يخشاه أو إلى شيء قريب جدا من هذا الجنون.
كان يتحدث إلي في أمر السوربون أو في أمر إلين فيستقيم الحديث استقامة حسنة، ولكنه لا يكاد يسمع في الجو أزيز الطيارة - وما كان أكثر ما يسمع أزيز الطيارات في باريس - حتى ينهض بل يثب ويهم بالخروج، سألته ما خطبه؟ فأجاب: ألست تسمع أزيز هذه الطيارة فإنه دعاء لي إلى الخروج.
وكان قد استقر في نفسه أن الصحف الفرنسية كلها مجمعة على مقته وبغضه والكيد له، وكان يشتري منها أكثر ما يستطيع شراءه، وينفق في قراءتها أكثر وقته ليتبين هذا الكيد الذي تكيده له، وهذا المكر الخبيث الذي تمكره به، ولم يكن يلقى في ذلك كبير جهد، فقد كان هو ألمانيا، وكان كل ما تذكره الصحف عن ألمانيا موجها إليه ومنصبا عليه انصبابا، وكان يؤذيه من أمر هذه الصحف أنها لا تعرف له حبه لفرنسا ووفاءه لباريس وإقامته فيها حين تفرق عنها الناس، وما أشد جحود الفرنسيين للجميل وكفرهم لصداقة الصديق!
ثم يعظم الأمر قليلا قليلا، وإذا الحلفاء جميعا يمكرون به ويكيدون له ويدبرون له السوء، ولم لا؟ أليس الحلفاء يحاربون ألمانيا وهو ألمانيا! وأصبح ذات يوم مرتاعا حقا، فقد جاءه النبأ - ولست أدري كيف جاءه ولا من أين جاءه - بأن الحلفاء يأتمرون به لينفوه إلى المغرب الأقصى، وهو ينبئني بأنه قد جد في السعي لصرف الحلفاء عن هذا الإثم العظيم والظلم القبيح، فكتب إلى جماعة من أساتذة السوربون وإلى جماعة من كبار الساسة في مجلس النواب والشيوخ يقص عليهم القصة ويستعينهم على اتقاء هذه الكارثة، وهو ينتظر ردهم عليه، ولكنه ضيق بباريس هذه الخائنة الماكرة التي لا تعرف جميلا، ولا ترعى حقا، ولا تحفظ ود الصديق، والتي هي في حقيقة الأمر صورة صادقة لهذه الفتاة الخائنة التي كانت تسمى إلين والتي قد جحدت حقه ونسيت مودته وأعرضت عن حبه إعراضا، وأخذت تكيد له مع الكائدين وتمكر مع الماكرين. وهو يلح علي في أن يفارق باريس وينتظر الرد على كتبه في مدينة أخرى أقل خيانة وغدرا من هذه المدينة الخائنة الغادرة التي يسكنها الخونة الغادرون، والطبيب الذي يعوده لا يرى بأسا بأن يفارق باريس ويقيم في مكان معتدل الهواء كثير الشجر، وما هي إلا أن يستقر صاحبي في أحد الفنادق غير بعيد من باريس في طرف غابة من الغابات، ومن هذا الفندق تصدر رسائله التي لا تنقضي إلى أساتذة السوربون وإلى رجال وزارة الخارجية وإلي أنا. ويا لها من كتب تلك التي كانت تنتهي إلي في الصباح والمساء من كل يوم! حسبي أن أثبت منها هذا الكتاب القصير:
نوفمبر في ...
لم يبق لي أمل ولا شيء يشبه الأمل أيها الصديق، فقد أجمع الحلفاء أمرهم وأمضوا عزيمتهم لا يقبلون في ذلك مراجعة ولا شفاعة، بل هم قطعوا على الشفاعة كل طريق، فأفسدوا علي حتى أساتذة السوربون الذين كانوا يحبونني ويؤثرونني أشد الإيثار، فهؤلاء الأساتذة يتلقون رسائلي فلا يردون عليها، وأكبر الظن أنهم قد عرفوا خطي فهم لا يقرأون كتبي إذا انتهت إليهم، والغريب أن أحدهم فلانا ... كان قد امتلأ قلبه حبا لي وإعجابا بي حتى قبل ما عرضت عليه حين خطبت إليه ابنته، وهذه الخطبة هي التي غاظت إلين فصرفتها عني ولست أدري من أبلغها أمر هذه الخطبة التي كانت سرا، إلا أن يكون هذا الصديق الماكر الذي تعرفه، فقد شربت معه ذات ليلة وتبسطت في الحديث، فلما أصبحت انتهت إلي رسالة القطيعة من إلين.
وإلين من غير شك هي التي أفسدت علي قلوب الحلفاء وصورتني لهم في صورة العدو المخيف، وهي التي زينت لهم نفيي إلى المغرب الأقصى، يا لغيرة النساء! ويا لكيد النساء! ويا لضعف الرجال! ويا لسذاجة الرجال! وإن كانوا أساتذة في السوربون أو ساسة محنكين. لم يبق لي أمل في عفو الحلفاء، عفوهم عن ماذا؟ وهل جنيت عليهم ذنبا أو اقترفت في ذاتهم إثما؟ لقد كنت أدافع عنهم في كل فرصة وأذود عن حقوقهم بالقلم واللسان، ولكنهم قد أجمعوا أمرهم على نفيي، وأنت وحدك القادر على حمايتي ووقايتي من هذا النفي، وماذا تريد أن أصنع في المغرب الأقصى، أليست مصر أولى بي؟! أولست أنا أولى بمصر؟! إن في مصر حميدة وإن في فرنسا إلين، وجوار حميدة على بغضها لي أهون من جوار إلين، فإن حميدة لم تؤلب علي، ولم تكد لي، وإنما تلقت إساءتي إليها بالصبر والعفو، أما إلين فقد تلقت إحساني إليها بالجحود والعقوق، فلا مقام لي في هذا البلد، ولا سبيل إلى الرحيل إلا أن تعينني عليه وأن تحكم تدبيره إحكاما، فعيون الحلفاء يقظة لا تنام، وجواسيسهم منبثة في المحطات والثغور. ولست أدري كيف تريد أن تدبر الأمر، ولكني معتمد عليك في إخراجي من هذه الأرض، وأنا مستعد للتنكر فيما شئت من الاشكال والأزياء حتى أبلغ مصر، فإذا وضعت الحرب أوزارها وتبين للحلفاء أنهم قد ظلموني حين أساءوا الظن بي وسمعوا في وشاية الوشاة، فمن يدري! لعلي أعود إلى فرنسا فأتم درسي في السوربون وأقترن إلى هذه الفتاة التي أحبها حبا لا حد له، والتي قد رضيني أبوها لها زوجا، والتي كنت أسعد بزواجها لولا إلين ولولا وشاية هذا الصديق الخائن. صدقني إن من ضعف الرأي وفساد العقل أن تطمئن إلى هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أصدقاء.
21
نامعلوم صفحہ