فجحظت عينا هيفاء، وقالت: إذن لم يكذب ظني؟ - لا، لم يكذب، أنا هو ذلك القسيس الشرير، وأما الكذبة الثانية فكانت هذه الليلة إذ قلت لك: إن الذي سيكللك ليس قسيسا بل هو مثلي، والحقيقة أنه قسيس. - إني أشكر لك الكذبة الثانية التي محت شر الكذبة الأولى؛ لأني لم أكن راضية عن الزواج من ذلك الشرير، وقد آليت على نفسي أن أنتحر قبل أن أدخل معه إلى غرفته؛ لأني تصورته شيطانا رجيما، وتصورت أمي الحية التي أغوت حواء، وقد أدركت قصدها الشرير. ولكني لم أستطع النجاة من يدها؛ لأنها كانت تذعرني بتهديداتها، وتوهمني أن الحكومة تضعني تحت سلطتها بالرغم مني؛ لأني لم أزل قاصرة ولم أبلغ بعد السن التي أكون فيها حرة التصرف بنفسي. - ولكن يوسف لا يصدق أنها أمك؛ لأن الأم مهما كانت شريرة لا تضحي بابنتها هكذا، فهل هي أمك حقيقة؟ - كلا بل هي خالتي، وصرت أشك الآن بأنها كذلك؛ لأن الخالة لا تقل حنانا عن الأم ولا سيما إذا ربت. - من هي أمك يا هيفاء؟ - آه، لا أعرف لي أما؛ لأني لم أفتح عيني بصيرتي في هذا العالم إلا وأنا في حضن هذه الشريرة، ولكن قيل لي: إنها ليست أمي، وهي أقرت لي بأني ابنة أختها، وأنها لا تعرف أبي وأنها كانت في مصر، وحين رجعت إلى سوريا كانت أمي تحتضر، فأخذتني وربتني، وفي هذا العام جاءت بي إلى هنا بغتة من غير أن أدري شيئا. - ولكن ما اسم أمك؟ - قيل لي: إن اسمها حنة. - وهل تعرفين شيئا عن أبيك؟ - قيل لي: إن اسمه خليل وأنه مات، هذا جل ما أعرفه؛ لأن خالتي كانت تتنقل بي من بلد إلى بلد، وحيث نكون أرى أني غريبة، وليس من ينبئني عن أبوي وأهلي. - وماذا تعرفين عن خالتك. - لا أعرف شيئا؛ لأنها سر لا يدرك ففي أول وعيي كانت تسمى ندرة الزعفران، ثم لما انتقلنا إلى بلد آخر قالت: إنها تود أن تنتسب إلى زوجها المصري الذي مات، وأوصتني ألا أذكرها إلا باسم نديمة الصارم، كما كانت تسمى في مصر، وتهددتني بشدة إذا كنت أذكر غير هذا الاسم. - إذن أنت لست آسفة على فراق هذه المرأة؟ - بل إني مسرورة بالابتعاد عنها، ولكني لا أزال أخاف شرها، وأنا وحيدة لا أم لي ولا أب ولا قريب.
فذرفت دمعتان من عيني جورجي، فقال له يوسف: إني أستغرب أن تدمع عيناك. - ليست عيناي تدمعان يا يوسف، ولكن ضميري يدمع. - أين كان ضميرك قبل الآن؟ - أما قلت لك: إنه ذهب مع عائلتي؟! - عجيب أن يرجع. - بل عجيب أن تتعجب، وأنت قلت : إنك سترد لي ضميري، فهل نسيت؟ أما أنا فلن أنسى.
فتنهد يوسف وقال: الحمد لله.
ثم قال جورجي: تقولين يا هيفاء إنه ليس لك أب ولا أم ولا قريب تحتمين به ... فهل تريدين أن تسري نفسي بأن تقبليني أبا وأما وقريبا؟
فأطرقت هيفاء، فقال لها: إني فاقد كل سعادة وهناء في هذه الحياة، فهل تريدين أن تخلقي لي سعادة؟ - لو أستطيع. - تستطيعين إذا أردت أن أكون لك كل شيء تتمنينه. - إني أحتاج إلى أب يا سيدي، ولم أر حنو الأب في حياتي إلا الآن، فأنا ابنتك.
فهم جورجي أن يعانقها، ولكنها نفرت منه مزمهرة فامتنع والدمع يذرف من عينيه، وقال ليوسف: هل تريد أن تكون أخا لهيفاء يا يوسف؟ - أما أنا اقترحت ذلك عليك؟ إني ابنك منذ الآن، ولا أظنك تغدر بابنك يا أبتاه.
فلم يتمالك جورجي نفسه؛ لأن الدمع تفجر من عينيه تفجر الماء من صخرة، وفي الحال نهض بدعوى أنه خارج لقضاء حاجة، ودخل غرفة الحمام وأطلق لدموعه العنان، وما هي إلا هنيهة حتى سمع وقع أقدام، فنهض مسرعا وكفكف دموعه وعاد فوجد يوسف يتمشى في وسط الغرفة كأنه قلق، فقال له: تعال اجلس.
فقال يوسف: يكاد ينقضي الهزيع الثاني من الليل، ونود أن نبت أمرا. - أي أمر؟ - أمر هيفاء، أين تبيت الليلة؟ - تبيت الليلة هنا. - يستحيل. - لماذا؟ - لأنها لا تبيت إلا مع سيدة. - بل تبيت مع أبيها وأخيها، وأي سيدة أعطف عليها منهما؟!
فتردد يوسف بالجواب، وقال: ولكن هذا لا يليق. - ما زلت جبانا، لماذا لا يليق؟ - لأن الناس لا يعرفون أنها ابنتك وأختي. - كفى أن نعرف نحن، ومتى حان الوقت يعرف الناس ذلك، أليست لك ثقة بنفسك؟! لا تبيت هيفاء إلا حيث نبيت نحن وأنا المسئول.
فسكت يوسف مفحما، ثم قال: وهذا المنزل؟ - هو منزلي الليلة؛ لأن صاحبته عجوز يونانية، وهي صديقتي، وابنتها في سفر، وقد طلبت منها أن تخليه الليلة، وغدا ندبر أمر كل منا، فاطمئن. - ولكني أخاف مغبة هذا التدبير. - إذن أنت جبان القلب سيئ الضمير ضعيف الثقة فلا تصلح لي ابنا، دعنا من هذا الموضوع ولنبحث في أمر أهم. - ما هو؟ - ماذا تنوي أن تعمل أنت؟ - سأبحث عن خدمة. - بل تشتغل بتجارة. - ورأس المال؟ - هذا هو.
نامعلوم صفحہ