ادبیات زبان عربی
أدبيات اللغة العربية
اصناف
وكان اشتغال العرب بالعلم للعمل به، فتناولوا الكتب التي ترجموها من قوم كان حظهم منها حفظها على أنها من نفائس الذخائر ومآثر الجيل الغابر، وقد ظهر أثر العمل في عصر الرشيد، ومن ذلك الساعة الدقاقة المتحركة بالماء التي أرسلها إلى شارلمان ملك فرنسا وعظيم أوروبا لعهده، ففزع الأوروبيون منها لذلك العهد وتوهموا أنها آلة سحرية قد كمنت فيها الشياطين، وأن ملك العرب ما أرسلها إليهم إلا لتغتالهم وتوقع بهم شر إيقاع. وقد اجتمع في حضرة الرشيد كثير من أكابر العلماء، وكان يأتي بهم ويرفع منزلتهم، وكلما سافر لحج بيت الله الحرام استصحب معه مئة من العلماء.
ولما أفضت الخلافة إلى المأمون وجه عنايته إلى العلوم والآداب وشغف بالعلم كل حياته، ولم يكن يجالس إلا العلماء، وقد جمع وترجم كثيرا من كتب الفرس واليونان في الهيئة والطبيعيات وتخطيط الأراضي والموسيقى، وغرس للعلم والأدب جنانا ناضرة، فزكا نبتها، وتفتح نورها، وطاب ثمرها، ووصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها، ونالت به أكبر ثروتها، وكانت بغداد في عهده مدرسة علمية كما كانت دار خلافة، وكان من شروط صلحه مع ميشل الثالث أن يعطيه مكتبة من مكاتب الآستانة، وقد فعل. وقد ألف علماء العرب في زمنه أرصادا وأزياجا فلكية، وحسبوا الكسوف والخسوف وذوات الأذناب وغيرها، ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي، وقدروا ميل منطقة فلك البروج، وقاسوا الدرجة الأرضية، وأصلحوا بأمره غلط بعض الكتب التي ترجمت قبل زمنه.
وجاء الواثق بعد المأمون، وحذا حذوه في الاشتغال بالعلوم، واقتدى بالخلفاء الوزراء والأمراء في زمنهم وبعده، وأخذوا جميعا بناصر العلماء، وشدوا أزرهم، ورفعوا منزلتهم.
فأخذ العلماء في الاشتغال بكل علم وكل فن أمكن الاشتغال به في ذلك العصر، وبنوا علومهم على التجربة والمشاهدة. قال أحد فلاسفة الأوروبيين: «إن القاعدة عند العرب هي: جرب، وشاهد، ولاحظ تكن عارفا، وعند الأوروبي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ المسيحي: اقرأ في الكتب، وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالما.» ا.ه. فانظر الفرق وقارنه بما تجده الآن من فرط عنايتهم بالبحث وما ينجم عنه من إصلاحهم الخطأ فيما لا يحصى مما كانوا أثبتوه، حتى إن فطاحل منصفيهم لم يجدوا بدا من الاعتراف بإمكان أن يثبت لهم غدا ضد ما أثبتوه اليوم كما ثبت لهم اليوم ضد ما أثبتوه أمس، ولا من الإقرار بعدم الوقوف على كنه الكثير من ظواهر الكون التي ينتفعون بخواصها.
ومن العلوم التي كان للعرب فيها اليد البيضاء: علم الهيئة، والهندسة، وسائر العلوم الرياضية، فإن ما زادوه عليها من مخترعاتهم وما أصلحوه من أغلاط اليونانيين قبلهم جعل لهم الحظ الأوفر في هذه العلوم. قال ديلامبر في «تاريخ علم الهيئة»: «إذا عددت في اليونانيين اثنين أو ثلاثة من الراصدين، أمكنك أن تعد من العرب عددا كبيرا غير محصور»، وعن العرب أخذ الإفرنج الأرقام الحسابية وعلم الجبر والمقابلة الذي هو من وضع العرب، أخذوه باسمه ومسماه. وقال بعض المؤرخين إن ديوفنتوس الإسكندري من أهل القرن الرابع للميلاد هو أول من ألف في الجبر، وكتبه لا تزال موجودة إلى الآن. والحق أن هذه الكتب ليس فيها إلا قواعد استخراج القوى وحل بعض المسائل، وليس فيها أصول الفن وقواعده الأساسية التي امتاز بها وصار فنا مستقلا. ونظير ذلك علوم البلاغة، قالوا إن مؤسسها وواضعها هو الإمام عبد القاهر الجرجاني، مع أن العلماء قد سبقوه إلى الكلام في بعض مسائلها، ولكنهم لم يبلغوا بذلك أن جعلوها علما ذا أصول وقواعد كما جعلها.
وقد اكتشف العرب قوانين لثقل الأجسام، مائعها وجامدها، ووضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة، واخترعوا البندول للساعة، اخترعه ابن يونس المصري، والبوصلة البحرية، واخترعوا بيت الإبرة أيضا، وهم أول من استعمل الساعات الدقاقة للدلالة على أقسام الزمن، وأول من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض.
ومن علومهم التي وضعوها ولم يسبقوا إليها علم الكيميا الحقيقية، فهي من اكتشاف العرب دون سواهم، وعنهم أخذها الأوروبيون، وإنك لا تستطيع أن تعد مجربا واحدا عند اليونانيين، ولكنك تعد من المجربين مئين عند العرب.
وقد اشتغلوا بالطب والصيدلة، ولهم في ذلك المؤلفات العديدة النافعة، ومركبات الأدوية الصالحة. وهم أول من استحضر المياه والزيوت بالتقطير والتصعيد، وأول من استعمل السكر في الأدوية ، وكان غيرهم يستعمل العسل. وكان حكام الأندلس يعتنون بإدارة الصيدليات فيفحصون أدويتها إزالة للغش، ويسعرونها رفقا بالفقير، وفضلهم في الطب على أوروبا لا ينكر، وقد برعوا في الجراحة، وكان النساء بالأندلس يباشرن كثيرا من العمليات الجراحية بغيرهن من الإناث، وذلك ما يحث عليه أهل أوروبا وأمريكا اليوم. ولهم في هذه الفنون مؤلفون، يعدون في الطبقة الأولى من علماء العالم في العلوم التي اشتغلوا بها، ولا تزال مؤلفات كثير منهم باقية إلى اليوم، كقانون ابن سينا، ومفردات ابن البيطار. وإذا رجحت القول بأن يونان أخو قحطان غاضبه فرحل من اليمن، ونزل ما بين الإفرنجة والروم فاختلط نسبه بهم؛ كانت تلك الكتب اليونانية إنما هي بضاعة العرب ردت إليهم.
ولم يكن اشتغالهم بالجغرافية والتاريخ العام وتاريخ الأشخاص أقل من اشتغالهم بالعلوم السابقة، فلهم السياحات العديدة حول أفريقية وآسية وجانب من أوروبا، وقد رسموا ما اكتشفوه رسما حسنا، ولهم في تقويم البلدان مؤلفات عديدة بعضها مطبوع وبعضها غير مطبوع؛ فمن الأول «تقويم البلدان» لأبي الفداء، و«معجم ياقوت»، طبعا في أوروبا. ومن الثاني «نزهة المشتاق» للشريف الإدريسي محمد بن محمد الصقلي، كان في القرن السادس الهجري، وهو الذي صنع لرجار الفرنجي ملك صقلية سنة 1153 أول كرة أرضية عرفت في التاريخ، زنتها من الفضة 144 أقة، رسم فيها جميع أنحاء الأرض في زمانه رسما غائرا مشروحا بالاستيفاء، وصنف له أيضا كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» مرتبا على الأقاليم السبعة، وصف فيه البلاد والممالك مستوفاة مع ذكر المسافات بالميل والفرسخ. ومؤلفاتهم في التاريخ تفوق الحصر. والفضل الأول في الاشتغال بهذه العلوم يرجع إلى مدرسة بغداد التي كانت ينبوعا أصليا استمدت منه سائر المدارس الإسلامية. قال بعض مؤرخي الإفرنج: إن العرب استقاموا عدة قرون على الطريقة التي وضعها علماء مدرسة بغداد، واتبعوا قواعدهم، وهي الانتقال من النظر في المسببات إلى اجتلاء الأسباب، لا يعولون إلا على ما اتضحت صحته وعرفت حقيقته.
وقد أنشئت المدارس العديدة تباعا، وجمعت إليها العلماء، ولم يخل منها قطر من الأقطار الإسلامية ، وازدانت بهذه المدارس بغداد والبصرة والكوفة وبخارى وسمرقند وبلخ وأصفهان ودمشق وحلب في قارة آسية، والإسكندرية والقاهرة ومراكش وفاس وسبتة والقيروان في قارة أفريقيا، وأشبيلية وقرطبة وغرناطة وغيرها من مدن الأندلس العديدة في قارة أوروبا. وكان بالقاهرة وحدها عشرون مدرسة في القرن الرابع، وفي قرطبة وحدها من بلاد الأندلس ثمانون مدرسة في مدة الحكم بن عبد الرحمن الناصر المتوفى سنة 366.
نامعلوم صفحہ