81

ادب و حیات

الأدب والحياة

اصناف

الفراغ والقضية

جمعني مجلس في بلد من بلدان أوروبا بنفر من المثقفين المغتربين الذين أقاموا سنوات طويلة بتلك الديار، فاستوطنها البعض واكتسب جنسيتها، وحاول ذلك البعض الآخر فلم يفلح، وأكد فريق ثالث أنه لا يمكن أن يغير لون جلده؛ فهو مصري وسيظل مصريا إلى النهاية. وسرعان ما تحول الحديث إلى السياسة، فبدأت أسمع نبرات لم أسمع مثيلا لها منذ الستينيات في أوائل فترة إقامتي في بريطانيا، فأعادت إلى ذاكرتي أيام الأحلام الكبرى، وطفقت أحلل وأصنف ما سمعت أياما متوالية، تبعتها أسابيع من المناقشات مع ممثلي كل تيار من التيارات «النفسية» و«الفكرية» التي شهدتها حتى انتهيت إلى نتائج أعتقد أنها تهم كل مشتغل بالثقافة في بلادنا في هذا الوقت بالذات. وها هي أهمها:

يعتنق معظم المغتربين فكرة، هي أقرب إلى النظرة العامة منها إلى النظرية، مفادها أن بالعالم العربي اليوم فراغا «عقائديا» نشأ عن انحسار الفكر الاشتراكي القديم الذي بني على أساس نزعة التحرر والاستقلال، والذي كان يمكن أن يؤدي إلى نهضة كبرى لولا تدخل أهل «اليمين» الذين سيطروا على مجريات الأمور في هذا الجزء من العالم طوال العقدين الماضيين، والذين تبدو آثار تدخلهم في الحياة العامة أكثر من آثار تدخلهم في شئون الثقافة على المستويين العام والخاص.

ومن زاوية هذا الفراغ «العقائدي» تهاجم نسبة كبيرة من المغتربين (معظمهم من «العقائديين» القدماء) كل ما يدور في مصر والعالم العربي، ويرفع واحد من هؤلاء لواء ثورة شخصية على الجميع شعبا وقادة، وينتقون من صحف المعارضة (ومن الصحف القومية) الأخبار والتعليقات التي تدعم ما يذهبون إليه، ويرددونها فيما بينهم بعد تضخيمها وتفخيمها طبعا، وينتهون من ذلك كله إلى أنه لا حل «لمشاكل» مصر إلا إذا عادوا هم أنفسهم فشغلوا المناصب القيادية في شتى المجالات وأعادوا مصر إلى العهد الذهبي للأيديولوجيا «العقائدية» وما أدت إليه من قوة عسكرية واقتصادية واجتماعية لم تشهد مصر مثيلا لها في نظرهم منذ أقدم عصورها.

ومن بين المثقفين المغتربين نسبة أقل ترى أن «الحل» يتمثل في إحلال قضية جديدة محل «القضية» القديمة؛ أما «القضية» القديمة فكانت بناء الدولة العصرية القوية «المشروع القومي»، وأما القضية الجديدة فهي بناء الحكومة الإسلامية على أكتاف لابسي الجلابيب البيضاء من ذوي اللحى، فهم وحدهم المسلمون - في نظرهم - وهم وحدهم القادرون على فهم الحكم الإسلامي. أما صورة هذا الحكم فهي غائمة مظلمة في نظر معظمهم؛ إذ ينحصر ما يقولونه دفاعا عنه في انتقاد ما يخالف الإسلام في نظرهم من ممارسات اقتصادية أو اجتماعية وحسب؛ أي إن معظم ما يقولونه في هذا الصدد سلبي، ولا يكاد يصل إلى حد الإيجاب إلا في الندرة النادرة.

وتوجد نسبة أخرى من المثقفين المغتربين الذين يعيشون الحاضر دون بكاء على الماضي، فهم هانئون بما آتاهم الله من فضله، يحمدونه ويشكرونه على نعمائه إذ قيض لهم أعمالا تدر آلاف الدولارات في بلاد متقدمة توفر لهم الرعاية الاجتماعية والصحية وكل ما يطمحون إليه من مسرات الدنيا، في مجالات العلم والثقافة والترفيه، وكل ما تطمح إليه نفس المثقف. وقد رأيت منهم من يمارس الموسيقى والغناء، أو يلعب الشطرنج، أو يقرأ بنهم، أو يكتب حين تتاح له الفرصة، أو يخدم أبناء وطنه بدءا بأسرته وانتهاء بأهل جلدته. ولم تنقطع صلة هؤلاء بالوطن الأم؛ فلكل منهم مكان في مصر يقضي فيه شطرا من العام، وأصدقاء يركن إليهم في الملمات ويتطارح معهم الرأي؛ فهو في وفاق مع نفسه وزمنه، وأنا أذكر الزمن هنا لأنه مفتاح إدراكنا لنظرية الفراغ والقضية.

إن المدخل الذي يجب أن نسلكه إلى «نفسية» الفريقين الأولين هو توقف الزمن لديهم عند اللحظة التي غادروا مصر فيها، وقد غادرها معظمهم في فترة التحولات الكبرى في أوائل أو منتصف السبعينيات وما زالت أذهانهم حافلة بأحداث الستينيات، ولما كان عدد كبير منهم يعمل في المجالات الإعلامية فقد كان لكل منهم صولات وجولات في ساحات «العمل العام»، ولكل منهم «ذكريات» في عدة مواقع من مواقع «العمل الثقافي» الذي ارتبط آنذاك بما أسميته «العمل العام»، بل إن بعضهم ربط نفسه بقضية من القضايا التي وطن نفسه على اعتناقها مدى الحياة، وعلى اعتبار الإخلاص لها إخلاصا للحياة نفسها. أي إن ارتباطه بقضية ما أصبح مصدرا للمعنى الذي يهب لحياته قيمة؛ ومن ثم أصبح يتمسك بهذه القضية تمسكه بالمعنى غير عابئ بمرور الزمن أو بالتحولات التي شهدها العالم من حوله.

والحق أننا لم نتخلف عن الزمن حتى يمكن القول بوجود فراغ أو بعدم وجود قضية، بل إننا سبقنا الزمن - وليس هذا من قبيل الفخر الأجوف - حين أدركنا أن طريق الستينيات (طريق الحروب الإقليمية الخاسرة، والارتجالات الاجتماعية باسم الاشتراكية، والانغلاق على أنفسنا باسم الاستقلال، وامتهان الإنسانية باسم الشرعية الثورية) طريق لا يؤدي إلى ما كنا ننشده ونتمناه، بل هو طريق مسدود كما يشهد بذلك الآن من كانوا من دعاته؛ ومن ثم طفقنا نراجع أنفسنا ثقافيا (وسياسيا) حتى أصبحت قضايا الماضي غير ذات موضوع، ونشأت قضايا جديدة أهمها في نظري قضية الثقافة نفسها في عالم يتغير بسرعة لاهثة من لحظة إلى لحظة.

ولا أبالغ إذا قلت إن وجود هؤلاء المصريين وأضرابهم في الخارج يمثل في ذاته قضية من القضايا التي لم تكن مثارة في الستينيات؛ فهم امتداد للثقافة العربية (بمعنى أسلوب الحياة، وبمعنى جماع المعارف والآداب الإنسانية التي تبلور هذا الأسلوب)، وهم صور انفتاح مصر على العالم بصورة غير مسبوقة في تاريخنا، وأذكر ما قاله لي الدكتور شبايك في لوس أنجيليس عام 1981م، بعد أن أشار إلى أن عدد المصريين في ولاية كاليفورنيا وحدها قد تجاوز ربع المليون: «إننا ظاهرة ثقافية لا يمكن تجاهلها.»

أما الوجه الآخر لهذه القضية والذي لا يعي الكثيرون بوجوده، فهو اتجاه أنظار المصريين بصورة متزايدة إلى الخارج، وتغير ما يشغل نفوس الشباب وعقولهم عما شغل آباءهم، فلم يعد عالم نجيب محفوظ يمثل لهم إلا الماضي الذي توارى إلى الأبد، ولن تجد بين شباب الجامعة في مصر (ولا أقول في الخارج) من يذكر أو يستطيع أن يتصور طبيعة هذا الماضي. وأعتقد أن سرعة التحول التي اتسم بها القرن العشرون هي المسئولة عن الاضطراب العظيم والبلبلة التي تكمن وراء تصور وجود فراغ أو إساءة معنى وجود «القضية» أو «القضايا» الثقافية - ولهذا حديث آخر.

نامعلوم صفحہ