54

ادب و حیات

الأدب والحياة

اصناف

أول طريق هو نظرية النقد الكلاسيكي التي تربط بين المؤلف والنص المكتوب ربطا زمنيا، قائلة بأن المؤلف يسبق النص المكتوب في الزمن مثلما يسبق الأب ابنه.

وتقول النظرية الكلاسيكية أيضا إن الرواية ارتبطت بالواقع ارتباط المرآة بالحياة؛ أي إن الرواية تعكس واقعا محددا حتى ولو ظهرت الصورة معكوسة أو حتى مقلوبة، وإن اللغة هنا ما هي إلا وسيلة من وسائل الربط بين الواقع أو بين التاريخ وبين ذهن المتلقي الذي ينفتح على صورة محددة ثابتة من صور الحياة، فيستوعبها ويحللها، ويقبلها أو يرفضها.

أما الطريق الثاني فهو النظرية الجديدة التي تعتبر أن النص المكتوب لا علاقة له بالمؤلف إلا في حدود الكتابة؛ ولذلك فإن «رولان بارت» لا يستخدم كلمة المؤلف

author

لأنها تعني صاحب العمل، بل يضع في مكانها كلمة كاتب

scriptor

وهي كلمة جديدة لم تعرفها اللغة الإنجليزية قبل ترجمة أعمال «بارت» عن الفرنسية. أي إن المؤلف هنا أو الكاتب ليس صاحب العمل بقدر ما هو كاتبه؛ ولذلك فإن النص كما يقول «ليس سطرا من الكلمات يتضمن معنى واحدا - أي الرسالة التي يريد المؤلف الرب توصيلها - ولكنه مساحة كثيرة الأبعاد، تختلط فيها وتصطرع ضروب منوعة من الكتابة، ليس أيها بأصيل» ومعنى هذا أن علاقة المؤلف بالنص ليست علاقة زمنية؛ مما يترتب عليه ألا تكون العلاقة مع القارئ زمنية بالمعنى القديم.

وأما الطريق الثالث فهو عسير شاق؛ إذ هو يتصل بتحليل عملية التذوق باعتبار أن اللغة وسيلة من الوسائل التي يستخدمها الكاتب، أي إنها ليست الوسيلة الوحيدة؛ إذ تشترك معها وتشتبك وسائل كثيرة، أهمها على الإطلاق ما أسماه نقاد الستينيات «البنيويون» ونقاد السبعينيات «ما بعد البنيويين» بالنظم أو الأبنية. وهذه النظم أو الأبنية مستمدة من علم اللغة في الأصل، ولكنها أصبحت تطبق في ميادين ثقافية منوعة، وأصبحت من الوسائل التي يستعين بها المفكرون في تحليل العلاقات المتشابكة بين الأدب والحياة. ولنضرب مثلا واحدا لتوضيح ما نعني.

عندما قال الفارسي مخاطبا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حكمت فعدلت فأمنت فنمت» كان في الحقيقة يعكس نظاما أو بناء محكما يقوم على السببية؛ فتوالي حرف الفاء يوحي بذلك كما يدل الفعلان الأخيران، ولكن الفاء الأولى تفيد التوالي فحسب؛ فليس من المحتوم أن يعدل من يحكم، ولكنه من المحتوم أن يأمن العادل فينام؛ أي إن البنية هنا تغير من معنى الفاء وتفرض منطقا معينا لا ينبع من الدلالة الحقيقية للألفاظ! وقس على هذا الأبنية المختلفة التي تزخر بها اللغات الحية، وتوحي بضروب من المنطق لا يمكن استشفافها من المعاني أو الدلالات الظاهرية للألفاظ.

فإذا أضفنا إلى هذا ما جاء به نقاد ما بعد البنيوية من ضرورة إدراج الإيحاء والإيماء وسائر الإشارات والعلامات الاجتماعية في النص المكتوب؛ وجدنا أن لغة الرواية أصبحت أعقد بكثير مما يريد أصحاب المذهب الواقعي القديم إيهامنا به. فالتأكيد هنا على القارئ وعلى السياق الثقافي الذي يقرأ الرواية في ظله - وهذا اتجاه جديد رغم أن «دافيد لودج» يؤكد أنه موجود منذ الستينيات، أي منذ أن طور نقاد ما بعد البنيوية مناهج استخدام النظم في عام السيميوطيقا. وقد تساءل «لودج» وهو ممن كتبوا في البنيوية وثاروا عليها: كيف نستطيع تعديل النظم التي تعمل في ظلها حتى ننصف الكاتب والقارئ جميعا؟ لقد انفصلت لغة النقد عن لغة القارئ، وأصبح النقاد يخاطبون بعضهم بعضا.

نامعلوم صفحہ