ولم أجد إجابات شافية ولكنني ذكرت دراسة قديمة للكاتب الإنجليزي «الدوس هكسلي» عنوانها «كتاب وقراء»، ألقت الضوء على بعض ما اكتنف المسألة من غموض؛ فالعلاقة بين الكاتب والقارئ في نظره تشبه العلاقة في السوق بين البائع والمشتري، ويحكمها في نظره قانون الحاجة وإشباع الحاجة؛ ومن ثم فهو يفسر رواج بعض الكتب بأنها تشبع حاجة لدى القارئ أو تستجيب لمطلب من مطالبه، فإذا كان القارئ في عصر ما ينشد المعرفة، توقعنا رواج الكتب التي تقدم له هذه المعرفة مهما غلا ثمنها، وإذا كان ينشد التسرية والترفيه، توقعنا رواج الكتب التي تقوم بهذه المهمة، وإذا كان قد انشغل بقضايا الفلسفة أو قضايا الدين فلا بد أن تروج الكتب التي تتحدث عن هذه القضايا أو تلك؛ أي إن «الحاجة» تتحكم في الرواج؛ ومن ثم تتحكم في اتجاه الكاتب، ونوع الكتب المطروحة.
وعدت أتساءل ماذا يخلق هذه الحاجة - حتى إذا قبلنا هذا المنطق «الاقتصادي»؟ لا شك أن المجتمع مسئول عنها - والكاتب من أعمدة المجتمع الأساسية في كل زمان ومكان، وإذن فلا نستطيع أن نعفي الكاتب من مسئولية المشاركة في إيجاد الحاجة إلى ما يكتب أو ما يكتب سواه! ونحن نذكر جيدا أن الشاعر والناقد الإنجليزي الأشهر «ص. ت. كولريدج» قد نبه في أوائل القرن الماضي إلى أن الشاعر يشترك في إيجاد الذوق الأدبي اللازم لتقدير أدبه. ولذلك فإذا انصرف القارئ اليوم عن القراءة فربما كان السبب هو أنه لا يستطيع أن يجد ما يحتاجه من مادة. وإذا انصرف إلى قراءة مادة من نوع بعينه مثل مسائل الغيب وعذاب القبر، وتراث عهود الانحطاط فربما كان المجتمع قد ساهم في إيجاد هذه الحاجة عندما أوجد مناخا يسوده الانشغال بأمور الدين وسخر أجهزته الإعلامية لتأكيد هذا المناخ، وإذا كان القارئ لم يعد يقبل على قراءة المادة العلمية أو الفكرية أو الأدبية فربما كان السبب هو أن مجتمعنا ممثلا في أجهزته الإعلامية والثقافية - الرسمية وغير الرسمية - وأهمها الإذاعة والتليفزيون والمسرح التجاري ونوادي الفيديو؛ قد صرفه عنها بتقديم البديل الهزيل وهو الهزل الممجوج الذي لا يهدف إلا إلى استدرار الضحكات الجوفاء بحجة التسرية والترفيه، أو أفلام العنف والميلودراما «والبورنوغرافيا المقنعة» التي أدت إلى ازدهار نوادي الفيديو بصورة لم يسبق لها مثيل!
وعدت من تساؤلاتي إلى الكاتب ومسئولية الكاتب في مجتمعنا الذي ما زال يقول إنه ينشد المثل العليا للاشتراكية (والدستور ينص على أنه يقوم عليها)، فوجدت أن غالبية الكتاب في الصحف والكتب الكثيرة التي دخلت إلى مجتمعنا من باب حرية النشر أو حرية الفكر يتسابقون لاجتذاب القارئ عن طريق الإثارة فحسب؛ إما بالفنون الأسلوبية المعروفة مثل التشويق والتهويل، والتجسيم والتضخيم، وإما بالكذب الصريح أو غير الصريح. وإما باللف والدوران في حلقة مفرغة من التفاهات المرتبطة بفنون الفرجة والهزل مثل أخبار النجوم وفضائحهم وما إلى ذلك؛ ومن ثم فهم يشاركون في تحمل مسئولية إيجاد الحاجة إلى مثل هذه المادة، ومسئولية انصراف فئة في أقصى اليمين إلى متاهات الميتافيزيقا، وانكباب فئة أخرى تنعم برغد العيش على تفاهات الفرجة، وحيرة فئة ثالثة بين أحلام الأيام الخوالي عندما كان الجو نفسه ينضح بقطر العلم، ويفوح بأريج الثقافة. إننا نتعب أبصارنا وعقولنا كما يقول سربرياكوف؛ أملا في قارئ جاد لم تصبه صور المجتمع التي تصادفنا في الصحف ووسائل الإعلام باليأس، وقارئ آخر ما زال يبحث عن طريق يوصله إلى المستقبل رغم «أطر الحياة المفروضة» والاتجاهات التي أصبح من الصعب فهمها - ولا أقول تحليلها.
معنى الزمن
في أواخر عام 1989م عقدت جامعة القاهرة مؤتمرا عالميا فريدا حول صور مصر في أدب القرن العشرين، واجتمع الأساتذة والأدباء من شتى أقطار الأرض في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب يناقشون التغير والاختلاف الذي طرأ على صورة بلادنا في أدب العالم، بينما شغلت أنا ومعي كثيرون بالتغيير الذي طرأ على هذه الصورة في أدبنا نحن؛ ومن ثم كان البحث الذي ألقيته في المؤتمر يتناول ميلنا بصفة عامة إلى رؤية المستقبل في صور مستقاة من الماضي، وهي صور غير واضحة وغير متسقة وغير متماسكة، ولكنها تحيا وتكتسب معاني جديدة بسبب الحنين الطبيعي إلى كل ما فات ومات، فهذا الحنين الذي يعيد إحياء الزمن مسئول عن كثير من التخبط في تفكيرنا؛ فما معنى الماضي؟ وما معنى الزمن؟
إن الخطأ الأساسي في نظرنا إلى الزمن يرجع إلى تصورنا أن البقاء
Survival
رهن بالاستمرار؛ ومن ثم يتصور البعض أن تحقيق الذات يتطلب العثور على جذور لها في الماضي، وإحياء هذه الجذور والاحتفاء بها أيا كانت. وهذا تصور معناه القبول بالسكون والخمود
Stasis
ورفض الحركة والتحول، فاللغة تخدعنا بصورها البلاغية وتحول دون إدراكنا. حتى على المستوى الاستعاري، إن الجذور ليست الشجرة، بل إن الإنسان ليس شجرة!
نامعلوم صفحہ