صوتا يرفرف في الهزيع الثاني
إن للطيور سحرا يرتبط بالتجريد؛ أي باستحالتها أصواتا صافية مجردة، وهي أصوات ترتبط بأصوات السماء، مثلما يقول «شلي» عن القبرة، ومثلما يقول «كيتس» عن البلبل، ومثلما يقول «وردزورث» عن الوقواق! والصوت في ضمير البشرية كلام - والكلمة طاقة خلاقة، بل هي طاقة الخلق نفسها.
كان الصبي يعرف أن أباه يحب الطيور لألوانها وجمالها وطباعها وكان دائما ما يتمنى أن يرى كتابه «طيور مصر» مطبوعا في أبهى حلة، حتى يحاكي نظراءه من كتب العالم، ولكنه لم يكن يعرف سر تلك العلاقة اللغزية إلا حين مات والده وعاد به إلى مسقط رأسه رشيد؛ ليعود الجسد إلى الرمال، والكتاب بعد في المطبعة، وتعود الروح إلى الطيور.
عن البراءة والتجربة
منذ مائتي عام كاملة أصدر رسام مغمور يعيش في أحد أزقة لندن مجموعة من القصائد القصيرة التي تختلف كل الاختلاف عما عهده القرن الثامن عشر من فن الصنعة وحذق البناء، وتستخدم لغة ساذجة مما يدور على ألسنة البسطاء والأطفال، وأطلق على الديوان اسم «أناشيد البراءة»، وربما كان هذا هو ما أوحى للدكتور مصطفى محمود أن يصدر كتابا يحمل نفس العنوان منذ سنوات قليلة.
كان عام 1789م عاما حافلا بالنسبة لذلك الرسام - واسمه «وليام بليك» - كما كان حافلا بالأحداث السياسية في أوروبا؛ إذ شهد اندلاع الثورة الفرنسية، وشهد تباشير الصراع الذي غير وجه الحياة في أوروبا، كان «وليام بليك» آنذاك في الثانية والثلاثين، وكان يعمل مع زوجته في إعداد اللوحات الخاصة بكتب الأدباء بطريقة بدائية؛ إذ كان يرسمها بطريقة الحفر على الخشب، ثم يعد منها لوحات زنكوغرافية يلون كلا منها بنفسه؛ ولذلك فلم يلتفت النقاد إلى ذلك الديوان الأول، وظل «أناشيد البراءة» كتابا مطويا لا يلتفت إليه أحد حتى أصدر «بليك» الديوان المكمل له عام 1794م وأسماه «أناشيد التجربة»، وفيما بين هذا وذاك أصدر ذلك الشاعر الرسام عدة دواوين وعدة كتب؛ أهمها «سفر ثل، 1789م» و«زواج الجنة والجحيم، 1790م» و«أبواب الفردوس، ورؤى بنات ألبيون، 1793م» مما يطلق عليه النقاد كتب النبوءات.
وفي عام 1984م أصدر «لاريسي» أحد كبار نقاد الأدب الإنجليزي كتابا عن «وليام بليك» يدحض كل ما ذهب إليه النقاد في أوروبا وأمريكا منذ الخمسينيات عن هذا الشاعر؛ من أنه صوفي النزعة منفصل عن مجتمعه، لا علاقة له بما يدور في دنيانا، وقد ثبت بصره على ما يدور في عالم الروح أو في العالم الخفي الذي يربط وجودنا على الأرض بوجودنا في عالم الخلود؛ إذ ذهب «لاريسي» إلى أن مفهوم البراءة والتجربة ذو دلالة اجتماعية عميقة، وإلى أن «بليك» كان شاعرا يعيش هذه الحياة بكل أبعادها وأنه كان يعي تماما أوجه الظلم الاجتماعي والقهر الذي كان يسود المجتمع البريطاني في ظل النظام السياسي القائم؛ ومن ثم فهو يخرج تفسيرا جديدا يتفق مع مذهب المشرف على سلسلة الكتب التي تتضمن هذا الكتاب وهو الناقد النابه «تيري إيجلتون» وفحواه أن الفنان إذا كان صادقا فهو مرتبط بقضايا عصره وهو يسهم في تعميق الوعي بها، حتى لو لم يكن يهدف إلى ذلك وحتى لو لم يعلن صراحة عن مقصده.
أما التفسير الجديد للبراءة ومعنى البراءة بصفة عامة، فهو عدم إدراك وجود الشر أو عدم قبول وجوده، وما الشر في أبسط صوره إلا معاداة الحياة - وألوان هذه المعاداة كثيرة مثل إحداث الضرر والإيذاء والإساءة التي قد تتخذ صورا مادية صريحة؛ كانتهاك قوانين الإنسانية وثوابتها، بالسرقة والقتل والاغتصاب وما إلى ذلك، وقد تتخذ صورا نفسية؛ كالحقد والكراهية والحسد والبغضاء، وقد تكون المعاداة عداء للنماء والازدهار والخير إما بدافع الغيرة والحسد أو بدافع النقمة والتلذذ بالإيذاء (وهو الشر الصافي).
وأما معنى التجربة فهو عكس ذلك، أي إدراك وجود الشر وتقبل وجوده باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر تكوين النفس الإنسانية، أي باعتبار دوافعه عناصر غريزية مركبة في الإنسان لا يسلم منها أحد ولا تخلو منها أي نفس بشرية، وفي هذا الإطار يعيد «لاريسي» تعريف موقف «بليك» من شرور عصره، كما يفتح لنا بابا جديدا نفهم منه كيف استطاع الأدب الحديث أن يعيد تشكيل العلاقة بين البراءة والتجربة بحيث لم يعد ثمة من يمكن أن يكون بريئا كامل البراءة أو مجربا كامل التجربة، بل أصبح الأدب يصور الإنسان باعتباره كائنا يتمتع بقدر ما من كل منهما ويتفاوت قسطه من التجربة وفقا لما يصادفه من صور الشر.
وفي هذا الإطار أيضا تبرز لنا معان جديدة لما سبق أن قاله النقاد عن ضرورة الإحساس بالدهشة لدى الشاعر؛ فالشاعر الأصيل في دهشة دائمة؛ لأن لديه براءة دائمة! أي إنه لا يستطيع تقبل وجود الشر، ويدهش دهشة صادقة كلما صادفه أو سمع عنه! وهو أيضا يدهش لسلوك الأوغاد مهما كان علمه بانحطاطهم وخستهم؛ لأن لديه قلبا لا يتغير مهما توالت عليه التجارب، وهو يعجب من حقد الحاقدين، ولا يوطن النفس على قبوله، ويظل دائما أبدا يظن الخير بالناس مهما قيل له عنهم، ومهما كان اقتناعه المنطقي باختلاط الخير بالشر في كل نفس بشرية!
نامعلوم صفحہ