قال جالينوس: وليس يشك أحد، أن الذى يعلم أمور المرضى، على ما ينبغى، هو أولى الناس بأن يثق به المرضى، ليس لمعرفته بأمورهم فقط، لكن لأنه، مع ذلك أيضا، حرى بأن يستعد للشئ المزمع بأن يحدث بهم، قبل وقت حدوثه بزمان طويل. وكما أن الحاذق بتدبير السفن فى البحر عندنا، ليس الذى يجهد نفسه فى تدبير السفينة، إذا عرض للبحر اضطراب — وذلك أنه لا يؤمن عليه أن تغلبه شدة قوة الرياح، وحركة البحر — لكن الحاذق عندنا 〈هو〉 القادر على أن يعلم كون تلك الحركة، قبل وقت حدوثها بمدة طويلة، بالمخايل الدالة عليها، فإن وجد مرسى قريبا، بادر إليه، فأرسى. وإن منعه من ذلك عظم اللجة، احتال بكل حيلة لإحراز سفينته، وحياطتها من الآفات. وهو فى مهلة، قبل أن يقع الهول، والاضطراب. كذلك أفضل الأطباء، من علم ما سيحدث بالمريض، فاستعد له، قبل ذلك بمدة طويلة. وتأهب، وهيأ ما يحتاج إليه، لشئ شئ مما يحدث.
فقد اتضح مما قاله جالينوس، ومما قاله بقراط، أنه لا يتم للطبيب التقدم بالإنذار، إلا من بعد علمه بطبيعة المرض. ولا يتم له ذلك، أو يعلم كم أجناس الأمراض، وأنواع كل جنس، وفصوله، وعلاماته، وأسبابه. ولا يتم له إحكام علم ذلك، أو يعلم ما الأمور الطبيعية، وكم هى، ويقسمها بفصولها، ويخصها بخواصها، لأن بعلم هذه الأمور الطبيعية، يعلم الأمور الخارجة عن الطبيعة، إذ علم الضدين معا من المضاف. فلذلك من جهل أحدهما، جهل الآخر. وبغير شك أن المرض ضد الصحة، والصحة طبيعية، وكذلك أسبابها، وعلاماتها. فالمرض، وأسبابه، وعلاماته، إذا غير طبيعية . وليس عمل الطبائعى خاصة شيئا، غير حفظ الصحة، إذا وجدها لبدن الإنسان، أو التماسها، إذا وجد المرض قد نفاها، وأعدمها.
ولذلك قال جالينوس: إن قصد الطب التماس الصحة، وغايته إحرازها. وإذا كان الأمر على هذا، فقد بان أن من لم يعلم قوى الطبيعة، وأفعالها، على الإطلاق، لم يكن طبيعيا، لأنه لا يعلم أمزجة أنواع الحيوان، والنبات، والجماد. ومن لم يعلم ذلك، لم يعلم كيف قوام الحيوان بالنبات ولا كيف قوام النبات بالجماد، ولا كيف يستحيل، ويغتذى بعضه ببعض. وإذا كان ذلك عند الطبيعى مجهولا، فأجدر أن يكون بهذه الأجناس من الاسطقسات، واستحالة بعض الاسطقسات إلى بعض، وتولد ما تولد من امتزاجها من الأجسام، وما يعرض لجوهرها من الأعراض، أجهل. وإذا جهل ذلك، كان من الواجب ألا يعلم هذه الأشياء المقدم ذكرها فى بدن الإنسان، لأن الإنسان جزئى لهذه الكائنات، والجزئيات المتشابهة الأجزاء أبدا تابعة لكلياتها.
ولما علم معلمنا الفاضل جالينوس أن ذلك واجب ضرورة، وأن بقراط، وسائر قدماء الأطباء، بهذه الأصول تمسكوا، وعليها بنوا كتبهم، وبفروعها تعلقوا، فى حفظ الصحة، وفى شفاء الأمراض، اللذين هما غرض صناعة الطب، ومقصدها، عمد جالينوس إلى أصل أصل من هذه الأصول الطبيعية التى لا قوام لعلم حالات بدن الإنسان، إلا بعلمها، فميزها، ووضع فى كل أصل منها كتابا، ونسبه إلى ذلك الأصل، وسماه باسمه، لأنه يشتمل على ذلك الأصل، وفروعه، ولم يزل يفعل فى أصل أصل كذلك، حتى أتى على أصول الطب بأسرها.
صفحہ 149