ومن المشهور أن اليسير من علم صناعة الطب يضر ولا ينفع. وذلك لأن أصغر فروعها متشبث بأعظم أصولها، بل مشتبك بجملة أصولها. وليست كسائر الصنائع التى من تعلق منها بأصل، أو فرع، لم يتعلق ذلك بغيره، فهو لذلك ينتفع، وينفع الناس بما يعمله، ولا يلحقهم مما جهله ضرر. ومثال ذلك صائغ، علم من الصياغة عمل خاتم، فهو دائما يعمل خواتم، ولا يضره، ولا غيره، جهله بعمل الأسورة، والحانات مثلا.
فلذلك قال بقراط: الصناعة طويلة. ولذلك يجب أن يكون ملتمس هذه الصناعة من أولاد أهلها، قد عنى أبواه بتقويم مزاجه، وأخذاه بالعادات المحمودة فى تدابيره، وإصلاح أخلاقه، وبتلقينه، وتبصيره، ليكون بذلك معدا للتعليم بأيسر سعى.
فأما ملتمس هذه الصناعة من أبناء أهل الصنائع الأخر، فيكد، وما ينجح فى تعلمها، لأن النجار، والحداد، والدباغ، والحائك، مثلا، كل واحد منهم منصرف إلى صناعته، لا خبرة له بصناعة الطب، فيلقن ولده من أصولها، ما يلقنه الطبيب لولده ليله ونهاره. فإذا المقومون الذين قد راضهم أباؤهم من أهل صناعة الطب هم الذين يصلحون لتعلمها، لاكل من التمس تعلمها، كما قال جالينوس، فإنه قال: كما لا يصلح اتخاذ التمثال من كل حجر، ولا ينتفع بكل كلب فى محاربة السباع، كذلك أيضا لا تجد كل إنسان يصلح لقبول صناعة الطب، لكنه ينبغى أن يكون البدن والنفس ملائمين لقبولها.
وأيضا فقد بين إبقراط كيف ينبغى أن يكون البدن. من ذلك قوله فى شكل الأصابع، قال: شكل الأصابع ممن يعنى بصناعة الطب يجب أن يكون الذى فيما بينها واسعا، وأن تكون الإبهام مقابلة السبابة.
وأما النفس التى تليق لقبول الطب، فإنه جعل المحنة لها، بما أمر به من الأيمان. فمتى وجد الإنسان يمكنه حفظ ما أمر به فى كتاب الأيمان، علم أنه ملائم لقبول الصناعة، ومتى كان ممن لا يمكنه حفظ ما فى ذلك الكتاب لم يدن إلى تعلمها.
قال جالينوس: إن أحد الأسباب التى وضع إبقراط 〈من أجلها〉 كتاب الأيمان هو ما ذكرناه من امتحان الإنسان المريد تعلم صناعة الطب فى جسمه، ونفسه. ولأنا قد قدمنا فى الباب الأول من كتابنا هذا أوصاف الجسم المحمود، والنفس الفاضلة، فلذلك يستغنى عن إعادته هاهنا.
وأما السبب الثانى، فهو أن كثيرا من الصناعات، لا يمكن فيها أشياء، يمكن أن تضر من يستعملها. وأما صناعة الطب، فممكن فيها تلك الأشياء بأعيانها التى ينتفع بها، أن تضر أيضا. وللطبيب فى أكثر الأمراض أن يخلص المرضى، إن شاء، أو يقتلهم.
صفحہ 138