ثم هذا الالتزام للقدماء لا يعني بالطبع مدح فاروق أو عباس، وكذلك لا يعني تملق العامة وترويج الخرافات بينهم، ولا يعني كراهة التطور، ولا يعني أن يكون الأدب حلويات يتمززها القارئ؛ إذ هو في عصرنا قوت يغذو القارئ ويرفعه إلى الكفاح من أجل الخير.
ويجب أن نذكر أنه ما من ابتكار في الأدب إلا ويعود إلى خلاف للقدماء، وأولئك الذين يكبرون من شأن القدماء ينسون أنه كان لهؤلاء القدماء قدماء آخرون أيضا، أنكروهم وخالفوهم وشقوا أساليب جديدة في التعبير والتفكير. •••
عندما تخمد الحياة أو تهمد في الشعب، تهفو إلى الماضي، وتثير ذكرياته في اشتياق كما لو كان يشتاق إلى الموت؛ لأن في الماضي كثيرا من سمات الموت، بل هو موت، وهذا الماضي يشيع في نفوس أبنائه عقائد، في حين أن المستقبل يطالب بالمنطق والعقل والتزام الحقائق.
إن الانغماس في دراسة الماضي - إذا كان الدارس أديبا - ينقل إلينا أساليب التفكير والتعبير الماضيين، وهذا هو ما نرى مثلا في كثير من أدبائنا؛ فإنهم كانوا لا يرون عيبا في تسلط فاروق التركي على بلادنا، ألم يفعل ذلك الخلفاء والسلاطين؟ ولا يجدون من الدراسات سوى الدراسة القديمة لثقافة لا تمت إلى عصرنا، وهم لا يكادون يحسون أو يعقلون أن مصر الناهضة تعمل للانتقال من ثقافة الشرق القديمة إلى ثقافة الغرب العصرية، ثقافة الصناعة والعلم والديمقراطية والاشتراكية.
ما هو الأدب الرفيع الذي يجب أن نكتبه للشعب حتى يرتفع القارئ من اهتماماته الشخصية الصغيرة إلى هموم إنسانية عليا تزيد قلبه ذكاء وعقله إحساسا، فيعرف معاني الشرف والمروءة والخير والارتقاء والتطور، ويقف عندئذ على مستوى التاريخ؟
الأدب الرفيع هو التنقيب عن معنى الحياة ودلالتها، وهو البحث عن طبيعة الكون، وهو إقناع الإنسان بأن يكون إنسانيا، وهو ابتكار القيم الجديدة تأخذ مكان القيم القديمة وتزيد الدنيا والبشر جمالا وسعادة، أجل، وطعاما للجائعين.
وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، يجب ألا ننسى أن الأدب الرفيع، حتى الموسيقا، حتى الرقص، يهدف إلى الأخلاق العليا، أي يجب أن نحس ارتفاعا في النفس حين نسمع أغنية أو لحنا أو نرى رقصا، أما إذا أحسسنا الخسة والانحطاط، فإن الأغنية أو اللحن أو الرقص لن يعد أحدها من الفنون، وكذلك الشأن في أبي نواس، فإننا لا نستطيع أن نسمي أشعاره فنا جميلا؛ إذ كيف يكون اللواط جميلا؟!
ولكن يجب ألا ننسى أيضا أن الأخلاق العليا ليست هي الأخلاق العرفية التي يدعو إليها المجتمع؛ إذ قد يكون هذا المجتمع فاسدا، وإنما الأخلاق العليا هي التي يستنبطها الأديب أو الفنان بذكائه ومعارفه واختباراته، وديانته البشرية، ويدعو المجتمع إلى اعتناقها والتخلق بها.
ونهضة الأدب لا تعني شيئا آخر سوى نهضة الحياة، أي نهضة الإنسان والمجتمع، ينهض بالثورة، وينهض بالعلم، وينهض بالصناعة، وينهض بالثقافة، وينهض بالحرية، وينهض بالإنسانية.
والأدب الرفيع هو عندئذ أدب الأفكار.
نامعلوم صفحہ