هذا في السياسة، أما في الاقتصاد فإن أديبا واحدا في مصر لم يرتفع صوته بالدعوة إلى إنصاف العمال، الزراعيين والصناعيين، لا في مقال ولا في قصة، غيري، واتهمت واعتقلت بتهمة الشيوعية لهذا السبب، وإغفال الأدباء في مصر لموضوع العمال ينبني على أنهم إنما كانوا يتجهون نحو طبقة الباشوات والأثرياء والموظفين ويخاطبونها، ويلتفتون إلى اهتماماتها، دون طبقة العمال، كان الأدب لا يعنى بعشرين مليون مصري من 21 مليونا.
ثم اعتبر العائلة، إن في مصر كثيرين يكرهونني؛ لأنني أتناول موضوعات الزواج والطلاق والحب واليتم والفقر والتسكع بين الأطفال؛ اعتقادا بأني إنما أفعل ذلك لكراهتي للتقاليد، كأن تقاليدنا، في الفقر وفوضى العائلة، وتسكع أبنائنا بسبب الطلاق وتعدد الأزواج، يجب أن تعيش.
وهذه موضوعات قاطعها دعاة الأدب «للترف الذهني» ولمدح الملوك.
ثم اعتبر مجتمعنا الذي وصفته بأنه «مجتمع غير اجتماعي» أي أنه مجتمع انفصالي، على تناقض التعبير في الكلمتين، هذا المجتمع لم يجد من أقلام هؤلاء الأدباء من يعنى به ويطالب بتغييره؛ لأنهم يخشون العامة التي ربما تتهمهم بالثورة على التقاليد المحترمة.
إن الأدب «المرتبط» أو الأدب «الملتزم» يحتم علينا أن نتناول المشكلات الاجتماعية؛ لأن الأديب مسئول، ومسئوليته أمام المجتمع والإنسانية، فيجب أن يقف على الدوام ضد الحرب، والاستعمار، وضد الاستغلال، وضد احتقار المرأة، وضد التفاوت بين الجنسين في الحقوق المدنية والدستورية والاقتصادية، كما عليه أن يدعو إلى إنصاف العمال وإلى دعوة الحب بين الجنسين.
هذا إذا كان مسئولا، أما إذا لم يكن مسئولا، فليؤلف القصائد عن فاروق ويصفه بأنه «فيلسوف»، وليقل إن أبا نواس أديب عظيم، وليؤيد المستبدين في إلغائهم للدستور كي يحكم فؤاد أو فاروق بلا برلمان، ولتذهب الأمة إلى التراب. •••
أعظم ما يمتاز أو يتسم به الأديب العصري في أوروبا وأمريكا هو أن أدبه ينقل إلينا اعترافاته واختباراته، فهو يكتب في مؤلفاته ترجمة أو تراجم حياته من وجهاتها المختلفة، وهو ينقل إلى القارئ إحساسه ووجدانه، وعلى قدر إخلاصه في هذا النقل، وعلى قدر تفسيره الذكي لما يحس وما يجد، يلقى منا التقدير والحب والاحترام.
ذلك لأننا نجد في اعترافاته صورة لما نحس وما نكابد، ولكن صورته قد كتبت أو رسمت بذكاء وثقافة وفن لا يرتفع إليها القارئ الذي يجد فيها الطرب الذي هو أول شروط الفن.
وكثيرا ما أحزن عندما أجد طالب الأدب في مصر يتحدث عن الأسلوب كأنه شيء يعلم، ولذلك يتعب نفسه في قراءة الجاحظ أو المتنبي كي يأخذ بأسلوبهما، مع أن أسلوب الكتابة هو صورة لأخلاق الكاتب، فإذا وجدت الكتابة السلسة فثق أنها برهان على أخلاق الكاتب السلسة، وكذلك يجب ألا ننسى أن الأفكار تعين المعاني، ولذلك فإن الأسلوب التافه برهان على الأفكار التافهة.
وكثيرا ما أجد الأسلوب المطهم مع المعاني الجوفاء، فأفهم من ذلك أن الكاتب قد استعار الكلمات والعبارات، وكان هذا اهتمامه الأول، أما الموضوع فجاء في المكان الثاني من اهتمامه، فهو سترة مطهمة فوق شخص ليست له شخصية، وكثيرا ما ينخدع الشباب القراء بهذه السترة لزهرة ألوانها، ولا يكادون يلتفتون إلى ركاكة نسيجها.
نامعلوم صفحہ