ولز
كان الأديب الناشئ في إنجلترا يقضي تلمذته في درس الشعر والتاريخ والأدب القديم. أما الآن فإنه يبدأ بدرس الآراء الاقتصادية والاجتماعية. وكان الأديب قبل نحو مائة سنة يحوم حول الآراء الاجتماعية ولا يكاد يمسها، أما الآن فإنه ينغمس فيها. وتعود هذه الظاهرة إلى أن الوسط القديم لم يكن معقدا، ولم تكن المسائل الاجتماعية والاقتصادية تبرز بروزها الحاضر وتقصر المفكرين على التفكير فيها ومحاولة حلها. ويجب أن لا ننسى أن الوسط يؤثر في المذاهب الأدبية بأكثر جدا مما تؤثر المذاهب الأدبية في الوسط؛ وذلك أن الأديب يستمد إلهاماته وعواطفه من البيئة التي تحيط به سواء أكانت اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية. وهو يستجيب لها أو لواحدة منها بمقدار الصدمة التي يصطدم بها ذهنه. إذا كانت الحال الاجتماعية أو الاقتصادية من التعقيد بحيث تنبه وتوقظ، كما هي الآن بمفاجأتها وحروبها وأزماتها وثوراتها، فإن الأديب الناشئ يضطر إلى درسها ويعنى بها أكثر من عنايته بالأدب القديم.
وقد سبق أن قلنا إن الثقافة الإنجليزية أصبحت اجتماعية. الآن نقول إن الأدب الإنجليزي أصبح اجتماعيا. ولو أننا قابلنا بين أديبين عظيمين يغمران عالم الأدب الآن مثل «شو» و«ولز» والأدباء الذين عاشوا في القرن التاسع عشر لألفينا الفرق واضحا، فإن أولئك الأدباء لم يعرفوا القصة الاجتماعية كما يمارسها الآن «ولز» ولم يعرفوا الدرامة الاجتماعية كما يمارسها «شو».
وقد ظهر أدباء مجددون لهم بريق وحرارة. ولكنهم لم يستطيعوا إلى الآن أن يكسفوا ببريقهم «شو» و«ولز»؛ وذلك لأن هذين الكاتبين تناولا الحياة الإنجليزية بمشرط الجراح، ودأب كل منهما في إيضاح العلل والأمراض حتى اصطبغ تفكير المفكرين عامة بآرائهما. وأنت حين تقع على رأي مخيف، بل مرعب، ل «برتراند روسل» أو للآنسة «إيثيل مانين» أو ل «هولدمان جولياس» أو الآنسة ابنته (في أمريكا) فإنك تستطيع أن تبحث عن البذرة الأولى في هذين الكاتبين. وأيضا عندما تجد أسقف برمنجهام يقف في كنيسته ويجرح شعور المؤمنين حين يصرح لهم بأن القديس فرانسيس لم يكن يستحم، فإنك تستطيع أن ترجع في استقصاء هذه الوقاحة إلى الروح العلمي الذي يكتب به «ولز» وإلى أن القداسة التقليدية عنده لا تساوي نظافة الجسم.
ولم يقتصر «ولز» على القصة الاجتماعية، فإن دراساته في الموضوعات الاجتماعية قد تعددت؛ فإنه ألف كتبا مستقلة عن الاشتراكية والتاريخ والتنبؤات الاجتماعية والدين والاقتصاد. وهو لم ينس نزعته الأولى وهي النزعة العلمية، فإن أول كتاب ألفه كان عن التشريح. وقد حرر، ولم يؤلف، كتابا ضخما عن المعارف العلمية الحديثة. وله قصص يعتمد فيها على نظريات علمية سواء في البيولوجيا أو السيكلوجية. وقد ورث «جول فرن» في القصة الخيالية التي تعتمد على العلم، وألف في الحروب الهوائية القادمة. وقد عاش إلى أن رأى بعينيه أرجاء الجو تنبض بالمواخر الجوية، كما رأى أساطيل الطائرات تدك برلين ولندن. وله خيالات علمية عن طعام الآلهة، والجنون الذي ينشأ من مركب النقص.
ومع هذا الروح العلمي الذي يسود ثقافة «ولز» فإنك تقرأ قصته النابضة بالحركة فلا تشعر بأي نقص أو خلل في فنه. وهو أقرب المؤلفين إلى «دكنز» وله عطف خاص على الفقراء والمشردين والسكارى. ولكن عطفه ليس عطف البكاء والدموع، وإنما هو عطف الحب والضحك والاستهانة بمشقات الفاقة والحرمان. كما أن قصصه تغص بالأفكار التي تنقض وتهدم، كما تبني وتكمل.
ولز.
وقد ألف قصصا عن الزواج والحرب والعقاقير. وهو فيها جميعها ينحو نحو غايتين هما الحرية والتقييد؛ أي الحرية للفرد في تفكيره وعقائده ومسلكه الشخصي، والتقييد للنشاط الاقتصادي الذي يجب أن تقوم به الجماعات دون الأفراد. ونقول بعبارة أخرى إنه يطلب الاشتراكية ولكنه لا يريد أن يتقيد بمذهبها كأنها عقيدة ماركسية لا يجوز مخالفتها.
ويعد «ولز» الآن عند كثيرين في أوروبا الأب الروحي لحضارة المستقبل، كما هو زعيم التفكير الحر والدعوة إلى البر في السياسة، فهو ينتقض الدعوة الوطنية ويدعو إلى العالمية. وهو الخصم اللدود الآن ل «موسوليني» يجد المهضومون عنده أبدا صوتا صارخا لمكافحة الاستبداد. وقد دعا إلى الجمهورية في إنجلترا مع أن العرش ليس مكروها هناك. وإنما دفعه إلى ذلك كراهته للميزات الاجتماعية التي تنشأ من الميراث.
وأدب «ولز» مع كل ما ذكرنا، هو أدب صحفي، فلو أننا تناولنا كتابا أو قصة ألفها قبل عشرين سنة لشعرنا بالقدم والتأخر باديين عليها، فقد ألف مثلا قصة عن المرأة التي تطلب المساواة بالرجال وحقوق الانتخاب، وكلاهما قد تحقق الآن، فالقصة لا تدلنا الآن عن حال نعرفه في الوسط الراهن. وألف كتابا عن مستقبل أمريكا حوالي سنة 1903، لو أنه قرئ الآن لخالف الواقع. وله من هذه المؤلفات «الوقتية» عدد كبير نقصت قيمته أو زالت تماما لأنها كتبت لغير وقتنا، فخدمت قراء ذلك الوقت وانتهت عند ذلك. وهي هنا تشبه سائر مؤلفاته الاجتماعية التي تعالج أحوالنا الحاضرة، فإن قيمتها ستزول ولا يبقى غير دلالتها التاريخية. والدنيا دائبة في التطور؛ ولذلك فإن النزعة الصحفية في الكاتب ستعمل لفنائه لا لخلوده. وهذا الفناء هو في الواقع تضحية الكاتب بنفسه من أجل جيله.
نامعلوم صفحہ