والأدب يتبع أيضا بيئتنا الاجتماعية التي تنبني على أسس من البيئة الاقتصادية، فحيث تكون الزراعة على الأسلوب المصري وسيلة الإنتاج، يكون الأدب محافظا بل جامدا «جمود الفلاحين» ويكره التطور. ولا يؤمن الأديب بحرية المرأة، أو بحق الشعب في الحكم الديمقراطي، أو بسائر الآراء العصرية التي ترد إلينا من بيئات اجتماعية أوروبية نهضت على أنماط أخرى من النظم الاقتصادية. ولذلك نجد في مصر أن النزعة الكلاسية تغلب على الرومانتية، فنحن نكتب بلغة كلاسية اتباعية ونحن إلى القديم في الأدب، ونكتب عن أبطاله، ونكره الابتداع؛ لأن استقرار الوسط الزراعي عندنا قد انعكس في استقرار الآراء والعقائد في الأدباء عندنا. وقد كان المجتمع العربي أيام العباسيين زراعيا أيضا، فكان الأدب تقليديا، دينيا، قرويا (من حيث الاستسلام للقدر وضيق الآفاق) ولم تظهر فيه أي نزعات رومانتية ابتداعية إلا القليل جدا.
ثم انظر إلى الأدب في أوروبا وأمريكا الآن، فإن المجتمعات التي تعيش في طرز من الإنتاج الصناعي قد استحدثت طرزا من الثقافة العلمية تلائم هذا الإنتاج. هذه الثقافة العلمية التي لا يكاد يحتاج إليها وسط زراعي. ولذلك تجترئ شعوب هاتين القارتين وتقتحم المستقبل ولا تستسلم للقدر. وقد أحدثت الأزمات الاقتصادية التي نشأت من الإنتاج الآلي للمصانع أزمات نفسية انعكس أثرها في الأدب الأوروبي الأمريكي، فكان التقلقل والدعوة إلى آراء وعقائد جديدة بشأن الحكومة، والمرأة، والعامل، والفضيلة، والرذيلة، والدين.
وعندما تنتقل الأمة من الزراعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، كما حدث في إنجلترا في القرن التاسع عشر، أو بالأحرى في أواخره، نجد صراعا بين الأدباء التقليديين (الزراعيين) وبين الأدباء المجددين الثائرين (الصناعيين)؛ إذ يدعو الأولون إلى الاستمساك بالقديم في قواعد اللغة والتفكير، والإيمان، والعادات الاجتماعية، ويدعو الثانون إلى الابتداع والتغيير في كل شيء تقريبا. وتنتهي الغلبة بالطبع للثانين؛ لأن هؤلاء الثائرين يدعون إلى مقاييس جديدة للأخلاق، وإلى حريات جديدة للمجتمع. وكلتاهما، المقاييس والحريات، إنما دعا إليها تغير الإنتاج من الزراعة إلى الصناعة. بل من الصناعات اليدوية الصغيرة إلى الإنتاج الآلي العظيم.
وبين هذين الفريقين يقف فريق يبالغ في جموده، أو هو يفر من الواقع فيرتد إلى التاريخ القديم وكأنه يسير القهقرى نحو المستقبل. ونحن في مصر نرى كثيرا من أدبائنا قد يئسوا من مواجهة الحاضر والمستقبل ووجدوا في الحضارة العصرية ما يبعثهم على القلق ويثير فيهم المخاوف، فعمدوا إلى تاريخ العرب قبل ألف سنة يؤلفون عن أبطالهم ويدعون إلى التمثل بهم. وقد رأى الإنجليز مثل ذلك أيضا في كل من «تشسترتون» و«بيلوك» و«أرسكين» الذين دعوا إلى العودة إلى القرون الوسطى، ولكنهم بالطبع فشلوا وتغلب عليهم أولئك الأدباء الذين بصروا بالقوات الاقتصادية الجديدة التي غيرت المجتمع ودعت إلى أخلاق جديدة تلائم هذا التغير.
الرجعيون الثائرون
ساد الوسط الاجتماعي في القرن التاسع عشر في إنجلترا روح مادي يدفع بالناس إلى التكالب على جمع المال. وقد بعث هذا الروح انتشار الآلات وقيامها مقام الأيدي، فسهل بذلك جمع المال بتراكم الأرباح، وقيام المصنع الكبير الآلي مقام عشرات بل مئات المصانع الصغيرة اليدوية.
فإلى القرن التاسع عشر كانت الصناعات لا تزال في أيدي الصانعين، كل صانع يستقل بمصنعه، فهو نفسه عامل وصانع، فهناك طبقة كبيرة من العمال لا تملك سوى الأجور، وطبقة أخرى صغيرة من الممولين تملك المصانع الضخمة. وكانت الصناعات أشبه أو أقرب الأشياء إلى الفنون كما هو الحال إلى الآن في النجارة؛ فالنجار - المصري على الأقل - هو فنان كما هو صانع، يتأنق ويلتذ عمله وينشد منه جمالا ومصلحة. ولكن العامل في المصنع الآلي الكبير الذي يضم بين جدرانه نحو مائة أو ألف عامل لا يمكنه أن يمزج بين الفن والصناعة؛ لأنه يختص بجزء من العمل، كأن يقنع بصنع الكوتشوك من الأتومبيل، أو بدهنه بالطلاء، أو فرشه وتنجيد مقاعده أو نحو ذلك. فإذا قابلنا بينه وبين النجار ألفينا هذا الثاني خالقا يبتكر ويخرج من بين يديه شيئا تاما وله مادة أصلية، فما يزال به حتى يخرجه خلقا سويا قد انطبع بشخصيته، فالعامل هنا فنان يحب عمله ويلتذه وهو يرقى به. ولكن العامل في المصنع الكبير لا يصنع سوى جزء صغير من السلعة التي يقتسم صنعها العمال جميعا، فهو عامل لا أقل ولا أكثر، وهو أشبه بالآلة منه بالإنسان.
روسكين.
ولم تكن الصناعة اليدوية تؤذن بتراكم المال في أيد قليلة كما هي الحال الآن في الصناعات الآلية التي جمعت رءوس الأموال في طبقة من الممولين وجعلت جميع الصناع عمالا مأجورين.
وكان القرن التاسع عشر، أو العصر الفكتوري، في إنجلترا قرن الانتقال من الصناعات اليدوية إلى الصناعات الآلية. وهذا الانتقال نجده الآن على أشده يوشك أن يتم ويبلغ أوجه في الولايات المتحدة التي يصنع أحد مصانعها نحو عشرة آلاف أتومبيل في اليوم. وهذه الولايات المتحدة هي الرائدة الآن للعالم كله في هذا الاتجاه وفي إيجاد حضارة صناعية تمحو ما قبلها من حضارات زراعية أو يدوية.
نامعلوم صفحہ