الحمد لله أهل الحمد ومستحقه، ومستخلصه لنفسه، ومستوجبه على خلقه، الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وقفت -أدام الله عزك وتأييدك- على ما التمسته، ورغبت فيه، وحرصت عليه من جمع ما هو مفترق في الكتب، من آداب الحسن بن أبي الحسن البصري -رحمة الله عليه-؛ وزهده، ومواعظه، فأجبتك إلى ذلك، وجمعت ما تيسر لي جمعه، وأثبت ما انتهت القدرة إليه؛ حرصا على بلوغ مرادك، وقضاء لواجب حقك، وبالله أستعين، وهو حسبي ونعم الوكيل، وقد رسمت ما جمعته من ذلك على ثمانية فصول:
الفصل الأول: في ذكر منشئه، وصفة أحواله وأفعاله.
الفصل الثاني: فيما روي عنه من الآداب، ومكارم الأخلاق.
الفصل الثالث: فيما أورده من الحكم، والمواعظ مختصرا على جهة البلاغة والإيجاز.
صفحہ 21
الفصل الرابع: في ذم الدنيا، ونهيه عن التعلق بها.
الفصل الخامس: فيما روي عنه عند تلاوة القرآن من الحكم والمواعظ.
الفصل السادس: فيما أورده على جهة الاستغفار والدعاء، ونهي عن التصنع والرياء.
الفصل السابع: في مكاتباته للخلفاء، ومقاماته مع الأمراء.
الفصل الثامن: فيما روي عنه من المواعظ والحكم من سائر الأشياء.
صفحہ 22
الفصل الأول في ذكر منشئه، وصفة أحواله وأفعاله
هو الحسن بن أبي الحسن البصري. كان أبوه مولى لرجل من الأنصار، وكانت أمه مولاة لأم سلمة؛ زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، ربي في حجرها، وأرضعته بلبانها، ودر عليه ثديها؛ لبرها به، ومحبتها له، فعادت عليه بركة النبوة، فتكلم بالحكمة، وارتقى في الصلاح والمعرفة إلى أفضل رتبة، وكان -رحمه الله- أحد المتقين، ومن أولياء الله الصديقين.
روي في الخبر: أن عائشة -رضي الله عنها- سمعت الحسن يتكلم، فقال: من هذا الذي يتكلم بكلام الصديقين؟
صفحہ 23
وقيل لعلي بن الحسين -رضي الله عنهما-: إن الحسن يقول: ليس العجب لمن هلك كيف هلك؟ وإنما العجب لمن نجا كيف نجا؟ فقال علي: سبحان الله! هذا كلام صديق.
وروي عن الأعمش أنه كان يقول: ما زال الحسن يعتني بالحكمة حتى نطق بها.
وسمعه آخر وهو يعظ، فقال: لله دره، إنه لفصيح، ذو لفظ صحيح إذا وعظ.
وكان الحسن دائم الحزن، كثير البكاء، مطالبا نفسه بالحقائق، بعيدا من التصنع، لا يظهر التقشف، وإن كان باديا عليه، ولا يدع التجمل، ولا يمتنع من لبس جيد الثياب، ولا يتخلف عن مؤاكلة الناس، ولا يتأخر عن إجابة الداعي إلى الطعام، وكان له سمت يعرفه به من لم يكن رآه.
روي أن رجلا دخل البصرة، ولم يكن رأى الحسن، فسأل عنه الشعبي فقال: ادخل المسجد -عافاك الله- فإذا رأيت رجلا لم تر مثله قط رجلا، فذلك هو الحسن.
وقيل: ورد أعرابي البصرة، فقال: من سيد هذا المصر؟ فقالوا: الحسن بن أبي الحسن، قال: فيم ساد أهله؟ قالوا: استغنى عما في أيديهم من دنياهم، واحتاجوا إلى ما عنده من أمر دينهم، فقال الأعرابي: لله دره، هكذا فليكن السيد حقا.
وقيل: مر به راهبان، فقال أحدهما لصاحبه: مل بنا إلى هذا الذي يشبه سمته سمت المسيح؛ لننظر ما عنده. فلما قربا منه، سمعاه يقول:
صفحہ 24
يا عجبا لقوم أمروا بالزاد، ونودوا بالرحيل، وحبس أولهم على آخرهم، فهم ينتظرون الورود على ربهم؛ ثم هم بعد ذلك في سكرة يعمهون! ثم بكى حتى بل لحيته. فقال الراهبان: حسبنا ما سمعناه من الرجل، ثم انصرفا عنه.
وكان أهل البصرة إذا قيل لهم: من أعلم أهلها، ومن أورعهم، ومن أزهدهم، ومن أجملهم؟ بدؤوا به، وثنوا بغيره. فكانوا إذا ذكروا البصرة، قالوا: شيخها الحسن، وفتاها بكر بن عبد الله المزني.
وقال عبد الواحد بن زيد: لو رأيت الحسن، لقلت: صب على هذا حزن الخلائق؛ من طول تلك الدمعة، وكثرة ذلك النشيج.
وقيل له: صف لنا الحسن، فقال: رحم الله أبا سعيد، كان -والله- إذا أقبل كأنه رجع من دفن حميمه، وإذا أدبر كأن النار فوق رأسه، وإذا جلس كأنه أسير قدم لتضرب عنقه، وإذا أصبح كأنه جاء من الآخرة، وإذا أمسى كأنه مريض أضناه السقم.
قال يونس بن عبد الله: ما رأيت الحسن قط ضاحكا بملء فيه.
وقيل: جلس محمد بن واسع إلى ثابت بن محمد البناني، فرآه يضحك في مجلسه ويمزح، فقال: عافاك الله! إنك لتمزح في مجلسك، ولقد كنا نجلس إلى الحسن فكأنه إذا خرج إلينا كأنه جاء من الآخرة يحدثنا عن أهوالها.
صفحہ 25
فقال ثابت: رحم الله الحسن، كان من أهل الحق والجد، وأنى لنا نظرة منه؟! وما نحن والحسن إلا كما قال الأول:
وابن اللبون إذا ما لزم في قرن ... لم يستطع صولة البزل المقاعيس
وقيل: اعتزل الحسن الناس يوما، فدخل عليه رجل، فقال: يا أبا سعيد! أصلحك الله، لقد خفنا عليك الوحشة، فقال: يابن أخي! لا يستوحش مع الله -سبحانه وتعالى- إلا أحمق.
وقال حميد خادم الحسن: قال لي الشعبي يوما: أريد أن تعلمني إذا خلا الحسن لأجتمع به خاليا، فأعلمت بذلك الحسن، فقال: عرفه، وليأت إذا شاء. فخلا الحسن يوما، فأعلمت الشعبي، فبادر وأتينا منزل الحسن، فوجدناه مستقبل القبلة وهو يقول: ابن آدم! لم تكن فكونت، وسألت فأعطيت، وسئلت فبخلت، بئس والله -ويحك- ما صنعت! فسلمنا عليه، ووقفنا ساعة، فما التفت إلينا، ولا شعر بنا، فقال الشعبي: الرجل -والله- في غير ما نحن فيه، فانصرفنا ولم نجتمع به.
صفحہ 26
وقيل له يوما: كيف أصبحت يا أبا سعيد؟ فقال: والله ما من انكسرت به سفينة في لجج البحر بأعظم مني مصيبة، قيل: ولم ذلك؟ قال: لأني من ذنوبي على يقين، ومن طاعتي وقبول عملي على وجل، لا أدري أقبلت مني، أم ضرب بها وجهي؟ فقيل له: فأنت تقول ذلك يا أبا سعيد؟! فقال: ولم لا أقول ذلك؟! وما الذي يؤمنني أن يكون الله سبحانه وتعالى قد نظر إلي وأنا على بعض هناتي نظرة مقتني بها، فأغلق عني باب التوبة، وحال بيني وبين المغفرة، فأنا أعمل في غير معتمل؟
وقال له آخر: كيف حالك يا أبا سعيد؟ فقال: شر حال، قال: ولم ذلك؟ قال: لأني امرؤ أنتظر الموت إذا أصبحت، وإذا أمسيت، ثم لا أدري على أي حالة أموت؟
ودخل عليه رجل وهو يبكي، فقال: ما يبكيك -أصلحك الله-؟ فقال: (أخاف) والله أن يدخلني مالكي النار ولا يبالي.
وسأله عن الطامة رجل؟ فقال: هي الساعة التي يدفع الناس فيها إلى عذاب جهنم وبئس المصير؛ نعوذ بالله من النار، ومن عمل يؤدي إلى النار.
وذكرت النار يوما في مجلسه فقال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يخرج غدا من النار رجل بعد أن يقيم فيها أعواما))، ثم قال الحسن: ليتني كنت ذلك الرجل.
وكان يقول: ما صدق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولا والله ما صدق عبد بالنار إلا ظهر ذلك في لحمه ودمه.
صفحہ 27
وقيل لأبي سليمان الداراني: إن الحسن كان يقول: من أراد أن يخشع قلبه، ويغزر دمعه، فليأكل في نصف بطنه، فقال أبو سليمان: رحم الله أبا سعيد، كان -والله- من القوم الذين مهدوا لأنفسهم، وناقشوها الحساب قبل يوم الحساب، وإني لأرجو أن يكون من الفائزين، رحمه الله تعالى.
وكان رجل من أهل المسجد الحرام يقول: ما كنت أريد أن أجلس إلى قوم إلا وفيهم من يحدث عن الحسن بن أبي الحسن البصري، رحمه الله.
وقيل له يوما: يا أبا سعيد! أي شيء يدخل الحزن في قلبك؟ فقال: الجوع، قال: فأي شيء يخرجه؟ قال: الشبع.
وكان يقول: توبوا إلى الله من كثرة النوم والطعام.
وكان يقول: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من عبد جوع نفسه إلا لم يكن لأحد ثواب أفضل من ثوابه ذلك اليوم، إلا لمن جاء بمثل ما جاء به، -يريد: من صام لله سبحانه-.
وقال مالك بن دينار: دخلت يوما على الحسن وهو يأكل، فقال: كل يابن أخي! فقلت: أكلت، فقال: وإن فعلت، فأسعدني! فقلت، والله لقد شبعت، فقال الحسن: يا سبحان الله! ما كنت إخال أن مؤمنا يأكل حتى يشبع، فلا يقدر أن يساعد أخاه.
صفحہ 28
وقيل: حضر الحسن وليمة، وحضرها رجل من المتقشفين، فلما قدمت الحلواء، رفع يده رياء وتصنعا، فأكل الحسن، وقال: كل يا لكع، فلنعمة الله عليك في الماء البارد أعظم من نعمته عليك في الحلواء.
وقيل: إن الرجل كان اختزل من الطعام دجاجة، فقال الحسن: رد ما هو عليك حرام، وكل إن شئت ما هو لك حلال، واحذر الرياء والتصنع؛ فإن الله تعالى يمقت فاعلهما.
وقيل: رأى الحسن شيخا في جنازة، فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن: يا شيخ! أسألك بربك: أتظن أن هذا الميت يود أن يرد إلى الدنيا فيزيد من عمله الصالح، ويستغفر الله من ذنوبه السالفة؟ فقال الشيخ: اللهم نعم! فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كلنا كهذا الميت؟! ثم انصرف وهو يقول: أي موعظة؟ ما أبلغها لو كان بالقلوب حياة؟ ولكن لا حياة لمن تنادي.
ولقيه رجل -وهو يريد المسجد في ليلة مظلمة ذات ردغ- فقال: أفي مثل هذه الليلة تخرج يا أبا سعيد؟! فقال: يا ابن أخي! هو التسديد أو الهلكة.
وكان -رحمه الله- صاحب ليل.
وكان يقول: ما رأيت شيئا من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل، وإنها لمن أفعال المتقين.
وكان يقول: صلاة الليل فرض على المسلمين، ولو قدر حلب شاة أو فواق ناقة.
صفحہ 29
وكان يقول: إذا لم تقدر على قيام الليل، ولا صيام النهار، فاعمل أنك محروم؛ قد كبلتك الخطايا والذنوب.
وكان يقول: منع البر النوم، ومن خاف الفوات أدلج.
وقال له رجل: يا أبا سعيد! أعياني قيام الليل، فما أطيقه، فقال: يابن أخي! استغفر الله، وتب إليه، فإنها علامة سوء.
وكان يقول: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل.
وقيل: حاول الحسن الصلاة ليلة، فلم تطاوعه نفسه، فجلس سائر الليلة لم ينم فيها حتى أصبح، فقيل له في ذلك، فقال: غلبتني نفسي على ترك الصلاة، فغلبتها على ترك النوم، وايم الله! لا أزال بها كذلك حتى تذل وتطاوع.
وكان يقول: إن النفس أمارة بالسوء، فإن عصتك في الطاعة، فاعصها أنت في المعصية.
وقيل لعبد الواحد صاحب الحسن: أي شيء بلغ الحسن فيكم إلى ما بلغ، وكان فيكم علماء وفقهاء؟ فقال: إن شئت عرفتك بواحدة، أو اثنتين، فقلت: عرفني بالاثنتين، فقال: كان إذا أمر بشيء أعمل الناس به، وإذا نهى عن شيء أترك الناس له، قلت: فما الواحدة؟ قال: لم أر أحدا قط سريرته أشبه بعلانيته منه.
صفحہ 30
وقيل للحسن في شيء قاله: ما سمعنا أحدا من الفقهاء يقول هذا! فقال: وهل رأيتم فقيها قط؟! إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، الدائب على العبادة، الذي لا يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، إن قبلت منه، حمد الله، وإن ردت عليه، حمد الله.
وقيل: خطب إليه رجل ابنته، وبذل لها مئة ألف درهم، فقالت أمها: زوجه؛ فقد أرغبها في الصداق، وبذل لها ما ترى، فقال الحسن: إن رجلا بذل في صداق امرأة مئة ألف لجاهل مغرور يجب ألا يرغب في منكاحته، ولا يحرص على مصاهرته. وترك تزويجه، وزوجها من رجل صالح.
وقيل: شاوره رجل فقال: يا أبا سعيد! لي ابنة أحبها، وقد خطبها رجال من أهل الدنيا، فمن ترى لي أن أزوجها؟ فقال: زوجها من تقي، إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وقيل ليوسف بن عبيد: هل تعرف رجلا يعمل بعمل الحسن؟ فقال: رحم الله الحسن، والله ما أعلم أحدا يقول بقوله، فكيف يعمل بعمله؟! كان -والله- إذا ذكرت النار عنده كأنه لم يخلق إلا لها، وما رئي قط إلا وكأن النار والجنة بين عينيه خشية ورجاء، لا يغلب أحدهما صاحبه.
وقال حميد خادم الحسن: دخلنا على الحسن في بعض علله نعوده، فقال: مرحبا وأهلا بكم، حياكم الله بالسلام، وأحلنا وإياكم دار المقام.
فقلنا: عظنا يرحمك الله! فإنا نرجو الانتفاع بما نسمع منك.
صفحہ 31
فقال: هذه علانية حسنة إن صدقتم وصبرتم واتقيتم، معاشر إخواني! لا يكن حظكم من الخير سماعه بأذن، وخروجه من أذن، فإنه من رأى محمدا صلى الله عليه وسلم رآه غاديا ورائحا، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، بل رفع له صلى الله عليه وسلم علم الهداية، فشمر إليه، فهنيئا لمن اتبع سببه، واقتفى أثره، الوحا الوحا، ثم النجاء النجاء، علام تفرحون ولا تحزنون؟ أتيتم ورب الكعبة! كأنكم -والله- والأمر قد جاء معا، والسعيد من اعتد له.
قال أبو عبد الرحمن: دخلنا على الحسن وهو عليل، فأحضر كتابا ليكتب وصية، ثم قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فإن الحسن عبد الله وابن أمته، يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، من لقي الله بها صادقا لسانه، مخلصا قلبه، أدخله الله الجنة.
ثم قال: سمعت معاذا يقول ذلك، ويوصي به أهله، ثم قال معاذ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، ويوصي به أهله.
وقيل: لما احتضر الحسن، جزع جزعا شديدا، فقال له ولده، لقد أفزعتنا بجزعك هذا يا أبت، فقال: يا بني! قد جاء الحق، وزهق الباطل، وها أنا أصاب بنفسي التي لم أصب بمثلها.
وقال مالك بن دينار: رأيت الحسن -رحمة الله عليه- في منامي -بعد أن مات- مسرورا، شديد البياض، تبرق مجاري دموعه، فقلت: ألست من الموتى؟ فقال: بلى! قلت: فماذا صرت إليه بعد الموت .. فلعمري لقد طال حزنك في الدنيا؟ فقال: رفع -والله- لنا ذلك الحزن علم الهداية إلى منازل الأبرار، فحللنا بثوابه مساكن المتقين، وايم الله! إن ذلك إلا من فضل الله علينا. قلت: فما تأمرنا به يا أبا سعيد؟ قال: وما عسى؟ إن أطول الناس حزنا في الدنيا أطولهم فرحا في الآخرة.
وقال صالح المري: دخلت على الحسن يوما، فسمعته ينشد:
صفحہ 32
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من تراه كئيبا ... كاسفا باله قليل الرجاء
وكان إذا أصبح وفرغ من تسبيحه، أنشد:
وما الدنيا بباقية لحي ... ولا حي على الدنيا بباقي
وإذا أمسى، بكى وتمثل:
يسر الفتى ما كان قدم من تقى ... إذا عرف الداء الذي هو قاتله
قال حميد: دخلنا على الحسن يوما، فوجدناه يبكي وينشد:
دعوه لا تلوموه دعوه ... فقد علم الذي لم تعلموه
رأى علم الهدى فسما إليه ... وطالب مطلبا لم تطلبوه
أجاب دعاءه لما دعاه ... وقام بأمره وأضعتموه
بنفسي ذاك من فطن لبيب ... تذوق مطعما لم تطعموه
قال: وسمعته يوما آخر يبكي ويقول: أي رب! متى أؤدي شكر نعمتك التي لا تؤدى إلا بنعمة محدثة، ومعونة مجددة؟! ما أخسر صفقة من صرف عن بابك، وضرب دونه حجابك! ثم أنشد:
إذا أنا لم أشكرك جهدي وطاقتي ... ولم أصف من قلبي لك الود أجمعا
فلا سلمت نفسي من السقم ساعة ... ولا أبصرت عيني من الشمس مطلعا
صفحہ 33
ثم استغفر وبكى، وقال: القلب الذي يحب الله يحب التعب، ويؤثر النصب، هيهات، لا ينال الجنة من يؤثر الراحة. من أحب سخا. من أحب سخا بنفسه إن صدق، وترك الأماني؛ فإنها سلاح النوكى.
وقال له رجل يوما: يا أبا سعيد! ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟! قال: لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم من نوره، فهو يبدو على وجوههم.
وقيل له: يا أبا سعيد! كيف ترى في الرجل يذنب، ثم يتوب، ثم يعود؟! فقال: ما أعرف هذا من أخلاق المؤمنين.
وذكر بحضرته الصحابة -رضوان الله عليهم- فقال: قدس الله أرواحهم، شهدوا وغبنا، وعلموا وجهلنا، فما أجمعوا عليه اتبعنا، وما اختلفوا فيه وقفنا.
وكان يقول: كنس المساجد وعمارتها بالذكر نقود الحور العين.
وكان يقول: حقيق على من عرف أن الموت مورده، والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الجبار مشهده، أن تطول في الدنيا حسرته، وفي العمل الصالح رغبته.
واتصل به أن رجلا اغتابه، فبعث إليه بطبق فيه رطب وقال: أهديت إلي باغتيابك لي حسناتك، فكافأتك عليها، فاستحيا الرجل، ولم يعد لذكره بسوء.
وكان إذا رأى أن رجلا كثير البطالة غير مشتغل بما يعنيه من أمر دينه، أنشده:
يسرك أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد وأنت بغير زاد
صفحہ 34
وكان يقول: يابن آدم! نهارك ضيفك، فأحسن إليه؛ فإنك إن أحسنت إليه/ ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه، ارتحل بذمك، وكذلك ليلتك.
وولد له غلام فهنأه جلساؤه، وقالوا: بارك الله لك في هيبته، وزادك من نعمته، فقال: الحمد لله على كل حسنة، ونسأل الله الزيادة من كل نعمة، ولا مرحبا بمن إن كنت عائلا أنصبني، وإن كنت غنيا أذهلني، وبمن لا أرضى بسعيي له سعيا، ولا بكدي له في الحياة كدا، حتى أشفق عليه من الفاقة بعد وفاتي، وأنا في حال لا يصل إلي من همه حزن، ولا من فرحه سرور.
وكان يقول: إن خوفك حتى تلقى الأمن؛ خير من أمنك حتى تلقى الخوف.
وكان يقول: ما رأيت شيئا لا شك فيه أصبح شكا لا يقين فيه، من يقيننا بالموت، وعملنا لغيره.
وكان يقول: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من صدقة أفضل من صدقة اللسان))، قيل: يا رسول الله! وما صدقة اللسان؟ قال: ((الشفاعة الحسنة، يخفي الله بها الذميمة، ويقضي الحاجة، ويفرج الكربة)).
صفحہ 35
الفصل الثاني فيما أورده من الآداب ومكارم الأخلاق
روي عن الحسن -رحمه الله- أنه كان يقول: قضاء حاجة أخ مسلم أحب إلي من اعتكاف شهر.
وسأله رجل عن حسن الخلق ما هو؟ فقال: البذل، والعفو، والاحتمال.
وكان يقول: مروءة الرجل: صدق لسانه، واحتماله مؤنة إخوانه، وبذله المعروف لأهل زمانه، وكفه الأذى عن جيرانه.
وكان يقول: لو شاء الله -عز وجل- لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولو شاء لجعلكم فقراء ولا غني فيكم، ولكن ابتلى بعضكم ببعض لينظر كيف تعملون.
ثم دل عباده على مكارم الأخلاق، فقال -جل جلاله-: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
وقال: عدة الكريم: فعل وتعجيل، وعدة اللئيم: تسويف وتطويل.
صفحہ 36
وكان يقول: ما أنصفك من كلفك إجلاله، ومنعك ماله.
وقال: كنا نعد البخيل منا الذي يقرض أخاه الدرهم؛ إذ كنا نعامل بالمشاركة والإيثار. والله! لقد كان أحد من رأيت وصحبت يشق إزاره فيؤثر أخاه بنصفه، ويبقى له ما بقي، ولقد كان الرجل ممن كان قبلكم يصوم، فإذا كان عند فطره، مر على بعض إخوانه، فيقول: إني صمت هذا اليوم لله، وأردت إن تقبله الله مني أن يكون لك فيه حظ، فهلم شيئا من عشائك، فيأتيه الآخر ما تيسر من ماء وتمر يفطر عليه يبتغي أن يكسبه أجرا، وإن كان غنيا عن الذي عنده.
وكان يقول: أدركت أقواما، وإن الرجل منهم ليخلف أخاه في أهله وولده أربعين سنة بعد موته.
وكان يقول: إذا دخل الرجل بيت صديقه، فلا بأس عليه أن يتناول مما حضر من طعامه وفاكهته بغير إذنه.
وكان يقول: ما من نفقة إلا والعبد يحاسب عليها، إلا نفقته على والديه فمن دونهما، أو نفقته على أخيه في الله، وصاحبه في طاعته؛ فإنه روي أن الله -سبحانه وتعالى- يستحيي أن يحاسبه عليها.
وكان يقول: ليس من المروءة أن يربح الرجل على أخيه.
وكان يقول: احذر ممن نقل إليك حديث غيرك، فإنه سينقل إلى غيرك حديثك.
وكان يقول: ابن آدم! عملك لك، انظر على أي حال تحب أن تلقى عليها ربك؟
صفحہ 37
وكان يقول: إن لأهل الخير علامة يعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وقلة الفخر والخيلاء، وصلة الرحم؛ ورحمة الضعفاء، وبذل المعروف، وحسن الخلق، وسعة الحلم، وبث العلم، وقلة مثافنة النساء.
وكان يقول: ابن آدم! عف عن محارم الله تكن عابدا، وارض بما قسم الله تكن غنيا، وأحسن جوار من جاورك تكن مؤمنا، وأحبب للناس ما تحب لنفسك تكن عدلا، وأقلل الضحك؛ فإنه يميت القلب كما يموت البدن.
وكان يقول: أيها الناس! إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون.
وكان يقول: الصبر كنز من كنوز الجنة، وإنما يدرك الإنسان الخير كله بصبر ساعة.
وكان يقول: من أعطي درجة الرضا، كفي المؤن، ومن كفي المؤن، صبر على المحن.
وقيل: تساب رجلان بحضرة الحسن، فقام المسبوب وهو يمسح العرق عن وجهه، ويتلو: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، فقال الحسن: لله دره، عقلها -والله- حين ضيعها الجاهلون.
وقال: ابن آدم! لتصبرن أو لتهلكن.
صفحہ 38
وقال: لقد روي: أن رجلا شتم أبا ذر -رحمه الله- فقال: إن بيني وبين الجنة عقبة، إن جزتها، فأنا خير مما تقول، وإن عوج بي دونها إلى النار، فأنا أشر مما قلت، فانته أيها الرجل؛ فإنك تصير إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقيل: شتم رجل رجلا، فقال: لولا أن الله -عز وجل- [يسمع، لأجبتك].
وكان يقول: الصبر صبران: صبر عند المصيبة، وصبر عن المعصية، فمن قدر على ذلك، فقد نال أفضل الصبرين.
وكان يقول: ما من جرعة أحب إلى الله -عز وجل- من جرعة مصيبة موجعة يتجرعها صاحبها بحسن عزاء وصبر، أو جرعة غيظ يحملها بفضل عفو وحلم.
وكان يقول: ابن آدم! إنك لن تجمع إيمانا وخيانة، كيف تكون مؤمنا ولا يأمنك جارك؟ أو تكون مسلما ولا يسلم الناس منك، أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)).
وكان -عليه السلام- يقول: ((ليس بمؤمن من خاف جاره بوائقه)).
صفحہ 39
ثم يقول الحسن -رحمه الله-: ابن آدم! إنك لا تستحق حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، فأصلح عيب نفسك، فإنك لا تصلح عيبا إلا وجدت عيبا آخر أنت أولى بإصلاحه.
ابن آدم! إن تكن عدلا، فاجعل لك عن عيوب الناس شغلا؛ فإن أحب العباد إلى الله من كان كذلك.
وقيل: أنشده رجل يوما:
وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب
فقال: لله در القائل! إنه كما قال.
وكان يقول: ابن آدم! ما أوهنك وأكثر غفلتك! تعيب الناس بالذنوب، وتنساها من نفسك، وتبصر القذى في عين أخيك، وتعمى عن الجذع معترضا في عينيك، ما أقل إنصافك، وأكثر حيفك!.
وكان يقول: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)). وذلك أن الله -عز وجل- غفر لهم ذنوبهم، بما أسدوه من المعروف إلى خلقه في دار الدنيا، ثم يقول لهم يوم القيامة: هبوا حسناتكم لمن شئتم، فقد غفرت لكم سيئاتكم، فيهبون حسناتهم، فيكونون أهل معروف في الآخرة، كما كانوا في الدنيا.
وسئل: أي الأخلاق أفضل؟ فقال: الجود والصدق.
صفحہ 40