Adab al-Khilaf - Yasser Burhami
أدب الخلاف - ياسر برهامي
اصناف
أدب الخلاف [١]
إن الاختلاف سنة كونية قدرية كتبها الله على عباده، والاختلاف منه المحمود الذي يندرج تحت اختلاف التنوع، ومنه المذموم الذي يندرج تحت اختلاف التضاد، وعلى المسلم في العموم نبذ الخلاف، والأخذ بأسباب الاجتماع على الوحي المنزل من عند الله، مع الاجتهاد في محاربة البدع والمحدثات.
1 / 1
الخلافات بين الجماعات الإسلامية وكيفية علاجها
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن من أهم ما يواجه الصحوة الإسلامية المعاصرة من العقبات والعوائق: الاختلاف بين الاتجاهات الإسلامية المتعددة، ولا شك أن هناك عقبات كثيرة يضعها أعداء الإسلام أمام العمل من أجل إعلاء كلمة الله، وتمكين دين الله ﷿، ولكن هذه العقبات التي يصنعها الأعداء من الكفار والمنافقين أمرها هين ويسير، كما بين ذلك الله ﷿ بقوله: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران:١٢٠].
فمع التقوى والصبر واليقين بوعد الله ﷿ يضمحل كيد المجرمين الأعداء، هذا إذا عمل المؤمنون على الطريقة والصراط المستقيم، وفعلوا كل ما يمكنهم متوكلين على الله ﷾، لكن المشكلة الحقيقية هي فيما يكون داخل العمل الإسلامي نفسه من العقبات الداخلية التي هي من صنع أبناء الصحوة.
ولا شك أن من أكبر المشاكل والعقبات قضية الاختلاف الكبير في فهم الإسلام وتطبيقه، وفي وسائل الدعوة إلى الله، ومناهجها وأهدافها وأولويات العمل الإسلامي.
كان الاختلاف وما زال يصرف كثيرًا من عوام المسلمين عن الالتزام بالدين، ويصرفهم عن جميع اتجاهات العمل الإسلامي، وما زال هذا مرضًا مؤثرًا لدى الكثيرين، فعندما تسأله: لماذا لا تلتزم؟ يقول: إذا اتفقتم اتبعناكم، وهذا مبرر شيطاني -بلا شك- لدى الشخص غير الملتزم؛ لأن وجود الاختلاف ليس بمبرر لترك الالتزام، كما أن وجود الطعام المسموم لا يعني أن يصوم الإنسان عن سائر الطعام ويمتنع عنه حتى يهلك.
وازداد الأمر سوءًا بحدوث المعارك الكلامية، والاشتباك بالأبدان أحيانًا، بل وبالسلاح في أماكن متفرقة من العالم، وسفكت الدماء المحرمة بسبب وجود هذه الاختلافات، وهذا أتاح الفرصة لأعداء الإسلام من الكفار والمنافقين لاستغلال هذا التطاحن.
وكما يقال: تمكنوا من اللعب على وتر التناقض بين الاتجاهات الإسلامية المختلفة لإضعاف الجميع، وكان لهم -للأسف- ما أرادوه، أو كثير مما أرادوه في معظم البلدان الإسلامية التي ظهرت فيها الصحوة الإسلامية، نسأل الله ﷿ أن يبارك فيها وفي أبنائها، وأن يهديهم سواء السبيل.
واندفعت أكثر الاتجاهات الإسلامية في طريقها الذي تراه ملقية باللوم على من خالفها، ومتهمة لهم بالتقصير والفشل، وزادت نبرة الحديث بين الإسلاميين حدة، واشتعلت عباراتهم ومجادلتهم بعبارات نارية وقذائف ملتهبة؛ مما دفع البعض -في محاولة علاج هذه المسألة- إلى نبذ العمل الإسلامي الجماعي جملة، وقالوا: إن سبب هذه الاختلافات والمشاكسات والمحاورات هي وجود الجماعات الإسلامية، والحل هو: نبذ الجماعات الإسلامية بالكلية، وأن يكون الناس آحادًا كل منهم لا دخل له بالآخر، ولا يتجمع الناس حول عمل أو اسم أو قيام بأمر من أمور الدين، ورأوا أن العمل الجماعي بدعة، فصار الاختلاف بين الاتجاهات الإسلامية من أعظم ما يلبس به على الناس في قضية العمل الجماعي.
والبعض يتأول حديث رسول الله ﷺ لـ حذيفة عندما سأله قال: (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاض عليها)، متفق على صحته.
مع أن تفسيره الذي لا إشكال فيه: أنه منزل على أهل البدع؛ لأن الرسول ﷺ قال في الشر بعد الخير الذي فيه دخن: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان بشر، قال: فما تأمرني؟ قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاض عليها).
فالكلام واضح وجلي في أنه يشير بقوله: (تلك): إلى الفرق الداعية إلى أبواب جهنم، وهم يتمثلون في واقعنا المعاصر في المنافقين الذين يصدون عن سبيل الله، كالعلمانيين والقوميين والحزبيين، وأهل البدع كالخوارج والصوفية والشيعة ونحوهم ممن يناصر البدعة ويحارب السنة، فهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، وأكثرهم من المنافقين الزنادقة الملحدين الذين يريدون هدم الدين، والبعض منهم مغرر به لكنهم في الجملة يدعون إلى النار والعياذ بالله.
فالرسول ﷺ أمر باعتزال تلك الفرق، ولم يأمر باعتزال أهل العلم وأهل السنة، ولم يأمر بأن يبقى أهل السنة أوزاعًا متفرقين، ولم يأمر بأن يتركوا الاجتماع والتعاون على طاعة الله التي لا تتم إلا بالتعاون وإقامة واجبات الدين، وخصوصًا فروض الكفاية التي افترضها الله ﷿ على أمة الإسلام ككل.
وحمل الحديث على هذا يحمله ما لا يحتمل، وإن كان هذا في الحقيقة غرض خبيث من أغراض أعداء الدين، إلا أنه صار يردده الآن أناس ينتسبون إلى الالتزام والدعوة، بل إلى المنهج السلفي خصوصًا.
وهذا لم يغير من واقع الاختلافات شيئًا، بل زادت الاختلافات حدة حول هذه المسألة وغيرها من المسائل المنهجية، وأصبحت قضية معالجة الاختلاف وقضية العمل الجماعي إضافة إلى كم المسائل المختلف فيها بين الإسلاميين.
وتوقف العمل الإسلامي في كثير من المواطن والبلاد بسبب عدم حسم مسألة العمل الجماعي، أو بسبب الاقتناع بعدم مشروعيته وبدعيته، وبعدم مشروعية الاجتماع على الطاعات، فتعطلت تلك الطاعات التي لا يطيق الأفراد القيام بها، والتي لا يمكن إقامتها ولا إتمامها إلا بالاجتماع في عمل واحد، وفهم واحد، وقيادة واحدة.
وفي ظل وجود هذا الفريق الذي رأى أن المشكلة يكمن علاجها في توقف اجتماع المسلمين من أجل إقامة الواجبات في جماعات مختلفة أو متفقة، وجد فريق آخر على النقيض منه يرى أن كل خلاف بين الفرق والمناهج والجماعات قديمًا وحديثًا خلاف سهل يسير لا يضر.
ويتبنى هذا الرأي مفكرون كثيرون ودعاة وجماعات إسلامية كلها بالفعل تتبنى التهوين من شأن الخلاف أيًا كان نوعه، وجعل هذا الفريق غايته وهدفه أن يجتمع كل من انتسب إلى الإسلام سنيهم وبدعيهم في إطار شعار واحد، ومنهج فضفاض واسع يتسع للمتناقضات في فهم الإسلام، والعمل به في إطار قاعدة سماها ذهبية، وهي: أن نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنًا بعضا فيما اختلفنا فيه.
ونسي في غمرة حماسته الموقف الواجب -الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة- من أهل البدع وأهل الفرق النارية التي أخبر عنها رسول الله ﷺ أنها في النار، حتى ظن البعض إمكانية التقارب بين أهل السنة وبين شر أهل البدع كالرافضة أو غلاة الصوفية، وهذا الأمر نلمسه تاريخيًا وواقعيًا فالأستاذ حسن البنا ﵀ هو الذي أظهر هذه القاعدة التي سميت بالقاعدة الذهبية، وما زال هناك من يتكلم بها، وكمثال لذلك: يذكر الأستاذ عمر التلمساني أنه في الأربعينات حضر أحد رءوس الشيعة لزيارة مركز العمل للإخوان فسئل الأستاذ البنا عن الفرق بين السنة وبين الشيعة؛ إذ أنهم لا يعرفون الفرق، فغضب الأستاذ: حسن البنا ﵀ وقال: كتابنا واحد، ورسولنا واحد، وقبلتنا واحدة، ثم لما كرروا عليه السؤال قائلين: نحن نريد أن نعرف فقط الفرق، فشدد عليهم بنفس العبارة، ومن يتأمل الأصول العشرون التي تمثل لهذا الاتجاه يلحظ أن عباراتها صيغت بطريقة فضفاضة واسعة في معظم ما يتعلق بمسائل الخلاف بين الاتجاهات الإسلامية.
ومن ضمن هذه المسائل مسألة الصوفية، فصيغت عبارة: نحن دعوة سلفية وحقيقة صوفية، وبالنسبة لمسائل التوسل، فهي خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وبالنسبة لمسائل البدع الإضافية فهي محل اجتهاد، يتسع فيها الأمر، أما بالنسبة لمسألة الصحابة والإمامة فهي مسألة الفرق فيها ظاهر جدًا بين السنة والشيعة، فقالوا: نمسك عما شجر من خلاف.
وهذه العبارة غير واضحة الدلالة على الخلاف الذي نمسك عنه، هل يقصد به أن نمسك عن الخلاف بين السنة والشيعة، ويدخل كل منا على الآخر ويتواد معه، ونلغي الخلاف في هذه المسألة؟ أم يقصد بذلك ما شجر من خلاف بين الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وما جرى من وقائع بعد ذلك، مع تقديم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي في الخلافة والفضل؟ وهذا المنهج ما زال موجودًا ومؤثرًا في فهم قطاع عريض جدًا من الملتزمين بالعمل الإسلامي.
بل وصل بهم الأمر إلى التقارب مع أهل البدع المعاصرة كالعلمانيين مثلًا.
فالاتجاهات العقلانية المسماة أحيانًا -إذا كانت تقبل الإسلام كاسم ولا ترده صراحة-: بأصحاب الاتجاه الإسلامي المستنير، وهو اتجاه عقلاني محض يقدم العقل على النقل، ويرجح منهج الاعتزال، وربما وصل الأمر إلى مسائل أخطر من ذلك متعلقة بأمر الاعتقاد وتطبيق الشرع والالتزام به.
ويمكننا أن نمثل لهذا برجل مثل الأستاذ: فهمي هويدي ككاتب إسلامي كبير يقول مثلًا: إن العلمانية منقسمة إلى نوعين: علمانية متطرفة، وعلمانية غير متطرفة، فالعلمانية المتطرفة كالتي في تركيا، والعلمانية غير المتطرفة هي التي تقبل الحوار مع الإسلاميين، فهذه لا بأس من التقارب معها، والوصول إلى حل وسط، والتقارب مع القوميين منهم، ورغم التأكد من علمانيتهم وفصلهم للدين عن الدولة تواصلت الدعاوى إلى أنه ينبغي التقارب معهم وعدم إحداث أي فرقة مع هذا الاتجاه، وهكذا الحال مع الديمقراطيين والحزبيين، وإن لم يحض أبناء الصحوة الإسلامية بنفس هذه الروح من التسامح والتقارب، بل الشدة والغلظة كانت نصيبهم من هذه القاعدة التي سميت: ذهبية.
وهناك أمثلة أخرى داخل الاتجاه السلفي في الجملة -وإن لم تكن
1 / 2
الاختلاف القدري بين البشر
سنتحدث أولًا حول وقوع الاختلاف، وكونه أمرًا قدريًا كونيًا قدر الله وجوده، وقد دلت الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة على وجود الاختلاف بين بني البشر، وأن الله قدر ذلك عليهم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [يونس:١٩]، فبين الله سبحانه أن كلمته السابقة وقضاءه الأول في تأجيل الخلق إلى أجل معدود لا يقضى بينهم قبله في اختلافاتهم.
معناه: أن الاختلافات سوف تظل لا يقضى فيها إلى الأجل: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».
إذًا: القضاء في الاختلافات كلها إنما يتم يوم القيامة، والفصل الكامل إنما يكون يوم القيامة، وسيظل الاختلاف موجودًا قدرًا.
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود:١١٨ - ١١٩] في تفسير قوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) ثلاثة أقوال لأهل العلم: الأول: أنه للاختلاف خلقهم، وهذا قول الحسن في رواية، وأيضًا رواية عن ابن عباس ﵁، وقوله: (ولذلك) الإشارة فيها إلى الاختلاف المذكور في قوله: ﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود:١١٨ - ١١٩].
القول الثاني: أن: (لذلك خلقهم)، تعود على الرحمة، في قوله: (إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)، روى ابن وهب عن طاوس: أن رجلين اختصما إليه فأكثرا، فقال طاوس: اختلفتما وأكثرتما، فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا، فقال طاوس: كذبت، فقال: أليس الله يقول: ﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود:١١٨ - ١١٩]؟ قال: لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة، وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس ذكر هذا القول أيضًا، قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب.
والمتأمل لهذا الأثر يجد فيه بيانًا واضحًا لما أراد طاوس أن يقوله لهذا الرجل الذي قال: لذلك خلقنا، كأنه تصور أن الخلاف مطلوب شرعًا، ولذلك هو يماري ويجادل ويكثر، ويرى أن الخلاف أمر مطلوب شرعًا، فكذبه طاوس بذلك، فلما احتج عليه بالآية، بين له أن الأمر الشرعي الذي من أجله خلقوا هو الاجتماع والرحمة والعبادة لله ﷿ والطاعة، ولم يشرع الله لهم الاختلاف، فالرجل كان يرى شرعية الاختلاف، وليس أنه أمر قدري كوني فقط، فرد عليه طاوس ذلك.
القول الثالث: وهذا القول هو الذي جمع بين القولين السابقين، حيث أن كل قول نظر من وجهة معينة، وليس بينهما تناقض بل هو تفسير تنوع واختلاف تنوع، قال أصحاب هذا القول: المراد للرحمة والاختلاف خلقهم، قال الحسن: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك؛ فمن رحم ربك غير مختلف، فقيل له: (لذلك خلقهم) قال: خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره خلق هؤلاء لعذابه وخلق هؤلاء لرحمته.
وكذا قال عطاء والأعمش ومالك واختاره ابن جرير، والحق أنه لا تعارض بين هذه الأقوال، فمن قال: للاختلاف خلقهم.
فهو يعني أن هذه هي الحكمة القدرية الكونية الواقعة وإن لم تكن محبوبة لله ﷿، فاللام لام التعليل لبيان الحكمة الكونية، ومن قال: إنه للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب.
فهو يعني الأمر الشرعي الذي أمروا به، كما أنكر طاوس على ذلك الرجل الذي أراد تقرير مشروعية الاختلاف محتجًا بالآية، فقال له: كذبت.
فليس هذا الاختلاف بمراد شرعًا، فيكون اسم الإشارة (ذلك) راجعًا إلى الرحمة، واللام لبيان الحكمة الشرعية، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، أي: ليأمرهم بعبادته أمرًا شرعيًا، فالله أمر العباد بالاجتماع والرحمة التي هي ثمرة من ثمرات الاجتماع على طاعة الله وعلى دين الله، وليس الاختلاف أمرًا مشروعًا، فالقول الثالث جمع بين القولين، فأهل طاعة الله المنفذون لأمر الله الشرعي هم أهل رحمته سبحانه، وأما أهل الاختلاف المفارقون للحق الذي شرعه الله لهم فهم لم يخرجوا عن قضائه وكونه وحكمته القدرية، وقدر الله وجودهم لكي يفترقوا ويختلفوا، ويملأ الله بهم جهنم عدلًا منه وحكمة، ولذا قال: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود:١١٩]، فهؤلاء المخالفون للحق تملأ بهم جهنم حكمة من الله ﷾.
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة:٢٥٣].
فبين سبحانه أن اختلافهم بمشيئته، وإن كان المختلفون منهم المؤمن المحبوب، ومنهم الكافر الذي يبغضه الله ﷿؛ لأن حب الله وبغضه سبحانه تابع لإرادته الشرعية وأوامره على ألسنة رسله، يعني: من آمن وعمل بما شرع الله من الصالحات فهو محبوب عند الله، ومن كفر -وإن كان بمشيئة الله- فهو مبغوض عند الله ﷾.
ومن الأدلة على ذلك: قوله ﷾: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى:١٤].
فهذه الآية الكريمة تبين سبب الخلاف المذموم الذي ذم الله عليه أهل الكتاب رغم وجود العلم وهو البغي -وسوف يأتي بيانه أكثر إن شاء الله في أسباب الاختلاف المذموم- لكنه لسبق الكلمة من الله أن يظل الاختلاف، وأن يقع قدر الله فلا يفصل في الأمر ويظل الناس مختلفين.
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ [هود:١١٠]، فبين ﷿ أن الاختلاف قديم، وقد افترقت اليهود، ولولا الكلمة السابقة من الله لقضي بينهم، (وإنهم) أي: الذين أورثوا الكتاب من بعدهم (لفي شك منه) من الكتاب (مريب) بسبب اختلافهم في نصوصه وفي فهمه، وهذا بالنسبة لمن سبقنا، أما في أهل الإسلام فالنصوص متفق عليها، والخلاف لا يكون إلا في الفهم.
وقال النبي ﷺ: (إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهم الجماعة)، وفي رواية الحاكم في مستدركه: (ما أنا عليه وأصحابي)، حديث حسن.
وقال النبي ﷺ: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا)، إذًا: هذا أمر قدري كوني أنه سيقع الاختلاف وتفترق الأمة.
قال ﵊: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) صححه الترمذي وغيره.
فدلت هذه الأدلة على أن الاختلاف بين الناس واقع لا محالة، وقضاء الله فيه نافذ لسبق الكلمة منه سبحانه بتأجيل الفصل والقضاء بين الناس فيه إلى أجل مسمى، ولكن هل يعني ذلك أن نستسلم لهذا القدر ونقول: لا فائدة من الحرص على الاجتماع والتآلف، والبعد عن أسباب الاختلاف؟ هذا الأمر مبني على فهم قضية العلاقة بين الأمور الشرعية والأمور القدرية، فالقول بأنه علينا أن نستسلم لهذا القدر، وأنه مهما حاولنا الاجتماع وترك الاختلاف فلا فائدة، وأن السعي لإزالة الاختلاف مصادمة للمقادير، فهذا الفهم من أخطر المسالك وأبعدها عن الشرع الحنيف.
نعم، هذا الاختلاف من قدر الله الذي أمرنا الله شرعًا أن نفر منه إلى قدر الله المتمثل في الائتلاف والاجتماع، فنحن مأمورون بأن نفر إلى قدر آخر سيقع، ولكن ربما ضيق أو حصر، فبدلًا من أن يكون الاختلاف المذموم، وأن تكون الفرق المخالفة هي الغالبة المنتشرة القوية، نريد أن يتحجم هذا الخلاف؛ لتكون الفرق النارية أقل عددًا، وأضعف تأثيرًا وسلطانًا؛ لذلك فالواجب أن ندفع القدر بالقدر، وننازع القدر المكروه بالقدر المحبوب، كما قال عمر: (نفر من قدر الله إلى قدر الله)، وهذا كان في أمر الطاعون الذي تفشى في عهده.
فالواجب اتباع الشرع والإيمان بالقدر لا الاحتجاج بالقدر وترك الشرع، فنحن لا ندري ما الذي سبق به القضاء في حقنا، فإن الله سبحانه فاوت بين الناس في الأزمنة والأمكنة، فقد يكون في زمن ما في مكان ما أكثرهم أو كلهم على الحق، كزمن الصحابة ﵃.
وقد يأتي عليهم أزمنة الفتنة فيها ظاهرة، فيقع أكثرهم في الاختلاف المهلك، ويكون أهل السنة قلة ومنحصرين ومغلوبين في السلطان، وإن كانوا غالبين في الحجة، فنحن لا ندري ما سبق به القضاء في حقنا، لكننا مأمورون شرعًا بنبذ الاختلاف، والسعي إلى الاجتماع والائتلاف، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:١٠٣]، وقال: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران:١٠٥].
نلحظ في الآية الأو
1 / 3
الحرص على الاجتماع والدعوة إليه
من القواعد الكلية المتفق عليها بين أهل السنة: الحرص على الألفة والاجتماع، والنهي عن التفرق والاختلاف، ولذا سمي أهل السنة بالجماعة؛ لأنهم يأمرون بالاجتماع على ما كانت عليه الجماعة الأولى، وهي جماعة الصحابة ﵃ ومن كان بعدهم على ما كانوا عليه.
فالواجب الشرعي أن نسعى إلى التوحد والاجتماع على سنة رسول الله ﷺ بفهم وتطبيق الخلفاء الراشدين، وهذا هو المستفاد من قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
إذًا: سنته ﷺ لابد أن تطبق بطريقة معينة، وكذا القرآن لا بد أن يطبق بفهم معين وطريقة معينة، وهو ما سنه الخلفاء الراشدون، فإنهم لم يسنوا بدعًا، ولم يسنوا رأيًا لم يكن على عهد رسول الله ﷺ، وإنما فهموا الكتاب والسنة الفهم الصحيح، فكان تطبيقهم وفهمهم ملزمًا لمن أتى بعدهم.
فالواجب الشرعي أن نسعى للتوحد والاجتماع على سنة رسول الله ﷺ بفهم وتطبيق الخلفاء الراشدين ومن معهم من الصحابة ﵃، وأن نحارب البدع والأهواء المفرقة للأمة، كما قال: (وإياكم ومحدثات الأمور).
نحاربها حتى يقل أنصارها وأتباعها أو ينعدموا في مكاننا، فوجود الفرق الضالة لا يعني بالضرورة وجودها في كل زمان ومكان، ولا يلزم أن يكون أتباعها هم الأكثر، وقد اعترض البعض على متن حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، ومنهم الإمام الشوكاني حيث رد هذا الحديث، وقال: هذا الحديث منكر المتن، لأن معناه: أن أكثر الأمة في النار، وهذا ينفر عن الإسلام.
وكلامه غير صحيح.
وقال البعض: إنه يقتضي أن تكون هذه الأمة وهي خير أمة أخرجت للناس أكثرها من أهل النار، وهذا باطل بلا شك، فلا يلزم من تعدد الفرق أن يكون أتباعها أكثر الأمة، بل بحمد الله أكثر الأمة على الخير والإيمان والتوحيد في جملة العصور، وكون الفساد ينتشر في زمن ما أو في بلد ما لا يعني أن هذا هو الأصل، لذلك نقول: إن كثرة عدد الفرق النارية لا يلزم منه كثرة الأتباع، فمن الممكن أن يكثروا في زمن معين كما حدث في زمن دولة بني عبيد الذين يسمون الفاطميين، أو الخوارج ربما يكثروا في وقت معين، ولكن لا يلزم أن يكون هو الغالب والأعم في كل وقت.
فاليأس من الاجتماع من وسوسة الشيطان وعمله؛ لأنه يصد المسلمين عن العمل الواجب عليهم شرعًا بالبعد عن أسباب الاختلاف والتباغض، والأخذ بأسباب الاجتماع والتآلف.
خلاصة الأمر الأول: أن الاختلاف أمر قدري كوني منه المذموم شرعًا الذي يجب علينا أن نحذر منه، وأن نأخذ بأسباب الاجتماع على الوحي المنزل من عند الله، وعلى الأدلة الواضحات البينات التي هي من عند الله ﷾، وأن نجتهد في محاربة البدع حتى ينعدم أنصارها أو يقل عددهم، هذا هو الأمر الواجب شرعًا، ووقوع الأمر القدري الكوني لا يلزم أن يكون هو الغالب الأعم كما ذكرنا.
1 / 4
اختلاف التنوع وأثره في تكامل الأمة
أنواع الاختلاف الواقع بين المسلمين قديمًا وحديثًا يمكن أن يقسم بالاستقراء لأدلة الشرع والنظر فيها وكلام أهل العلم إلى نوعين من الاختلاف: اختلاف التنوع، واختلاف التضاد، واختلاف التضاد يقسم بعد ذلك إلى اختلاف تضاد سائغ، واختلاف تضاد غير سائغ.
فأما النوع الأول وهو اختلاف التنوع: فهو ما لا يكون فيه أحد الأقوال مناقضًا للأقوال الأخرى بل كل الأقوال صحيحة، وهذا مثل وجوه القراءات، وأنواع التشهدات والأذكار.
فمن قرأ مثلًا: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:٤] يعلم صحة قراءة من قرأ (ملك يوم الدين) فهذا لا يكون مناقضًا هذا؛ لأن كلًا منهما قرأ بقراءة صحيحة ومتواترة، والكل يعلم أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها كاف شاف كما ثبت في الحديث المتفق عليه، وكل هذه القراءات الثابتة الصحيحة قد نزلت من عند الله سبحانه.
كذلك من يقرأ بتشهد ابن مسعود: (التحيات لله، والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) لا يرى مانعًا من تشهد ابن عباس ﵁، أو تشهد عمر ﵁: (التحيات الطيبات المباركات)، (والتحيات الزاكيات لله) أو غيره من الصيغ، بل اتفق العلماء على جواز كل منها، وإنما اختلافهم في اختيار كل منهم لما يراه الأفضل لاعتبارات يراها، واختلاف التنوع مهم للغاية في هذا الباب.
ومن هذا الباب: الواجب المخير، وهو في الواجبات التي جعل الله ﷿ المكلف مخير فيها بين أن يفعل أحد هذه الأنواع ككفارة اليمين، وربنا ﷾ جعل كفارة اليمين على مرتبتين: المرتبة الأولى قال فيها: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المائدة:٨٩].
فمن أخذ بإحدى هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الآية أجزأته، وأما الصيام فلا يجوز الانتقال إليه إلا إذا عجز عن الثلاثة، فهناك ترتيب بين الثلاثة وبين الصيام، وليس أنه مخير بين الصيام وبين الثلاثة، فالثلاثة هي التي بينها التخيير فقط.
مثال آخر على الواجب المخير: ما وقع من الصحابة في غزوة بني قريظة، وهذه الواقعة يحتج بها كثيرًا في إثبات أن كل الخلاف لا بأس به، وهي أن النبي ﷺ أمر الصحابة يوم بني قريظة فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة).
فأدرك بعضهم العصر في الطريق فصلاها وقال: لم يرد منا إضاعة الوقت، وقالت طائفة: والله لا نصليها إلا في بني قريظة، فصلوها بعد غروب الشمس، ولم يعنف النبي ﷺ أيًا من الفريقين، بل لم ينقل عنه ﷺ أصلًا تصويب فريق وتخطئة آخر، فدلت هذه السنة التقريرية منه ﷺ على صحة فعل كل من الفريقين، ومن العلماء من يجعل أحد الفريقين مصيبًا والآخر مخطئًا مغفورًا له لا ينكر عليه، على خلاف في أي الفريقين كان مصيبًا، حيث إن من يقول بالقياس يقول: إن من صلوا في الطريق هم المصيبون، ومن يميل إلى الظاهر يقول: من صلوا في بني قريظة هم المصيبون، والصحيح أن كلا الفريقين مصيب، وأنه لا يفضل أحد الفريقين على الآخر، خلافًا لما ذهب إليه كثير من العلماء؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية يرجح فعل من صلوا في الطريق دون من صلوا في بني قريظة؛ لأنهم جمعوا بين الفضيلتين.
والصحيح: أن صلاة العصر في هذا اليوم بعينه -يوم غزوة بني قريظة- كان واجبًا مخيرًا بين أن يصليها في الوقت -يعني: في الطريق- وبين أن يصليها في المكان بعد الوقت، وذلك لأن النبي ﷺ لم ينقل عنه أنه أنكر -بل ولا صوب أو خطأ- كما فعل مثلًا فيمن أعاد الصلاة التي صلاها بالتيمم بعد أن وجد الماء، فقال للذي أعاد: (لك الأجر مرتين)، وقال للذي لم يقض: (أصبت السنة)، فبين لنا ﵊ من المصيب، وتبين من ذلك أن رسول الله ﷺ لا يقر على الخطأ، كما حدث لـ عمار حينما اجتهد فتمرغ في التراب كما تفعل الدابة عند فقد الماء، فقال له ﷺ: (إنما كان يكفيك أن تضرب الأرض هكذا، وضرب الأرض بيديه ثم مسح وجهه ويديه)، فالرسول ﷺ بين له الصواب في الأمر، فالرسول ﷺ لا يقر على الخطأ حتى ولو كان مما يغفر لصاحبه.
فمن أجل ذلك نقول: صلاة العصر في هذا اليوم كان الرسول مخير لأصحابه بين صلاتها في الوقت في الطريق أو بعد الوقت في بني قريظة؛ لإقرار النبي ﷺ للفريقين، ولو كان أحدهما مخطئًا لما أقره ﷺ، ولبين له الخطأ من الصواب.
ومن هذا الباب: تنوع الأعمال الصالحة، فالناس هممهم متفاوتة في أنواع الخيرات، فمنهم من يهتم بباب من أبواب الخير، وآخر يهتم بباب غيره، قال النبي ﷺ: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان).
وهذا يوضح لنا معنى قوله: (من أنفق زوجين في سبيل الله) أي: تكرر منه العمل حتى صار من أهله، وليس أنه أنفق مالًا معينًا، ولذلك جعل الصلاة والجهاد والصدقة والصيام من هذا الباب، فقال أبو بكر الصديق ﵁: (يا رسول الله! ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة)، يعني: لا ضرر عليه أن يدعى من أي باب يدخل الجنة، أبو بكر ﵁ همته عالية جدًا، فهو لا يفكر فقط أن يدخل جنة، بل يريد أن يبقى سباقًا في جميع أبواب الخير، ويريد أن يدعى من كل الأبواب فيكون ممن أنفق زوجين في الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، قال رسول الله ﷺ: (نعم، وأرجو أن تكون منهم).
ومعلوم أن المقصود من هذا الاجتهاد في نوع خاص من هذه الأعمال مع أداء الواجب في غيرها.
وهذا كلام مهم جدًا في اختلاف التنوع، بمعنى: أن الذي أنفق زوجين في الصلاة لا يترك الصيام أو الجهاد الواجب أو الصدقة الواجبة التي هي الزكاة.
فأهل الصلاة يصومون رمضان، ويؤدون الزكاة المفروضة، ويجاهدون في سبيل الله، ولكن جُلّ عملهم ومعظمه في الصلاة فرضًا ونفلًا، وكذا أهل الجهاد يصلون ويصومون ويزكون، ولكن معظم عملهم واجتهادهم في الجهاد فرض العين والكفاية.
وهذا النوع في غاية الأهمية؛ لأن همم العباد متنوعة، وقدراتهم وأفهامهم مختلفة، واستعداد كل منهم لنوع معين من العمل أمر فطري فيهم، والنادر من الخلق من له الهمة العالية والسبق في كل خير مثل أبي بكر.
لكن تجد أن الخير اجتمع في المتقدمين من الصحابة ﵃، وتوزع فيمن بعدهم، فالصحابة مجاهدون وعلماء، ومجتهدون في العبادة، وقائمون بالليل ومنفقون، وأمراء يقودون الأمة في نفس الوقت، لكن بعد ذلك توزعت هذه الأبواب على من بعدهم.
فتجد رجلًا كـ مسلمة بن عبد الملك فتح بلادًا كثيرة جدًا في أيام بني أمية لكن ليس له قول في الفقه، وكان الإمام مالك عالمًا لكن لم تكن له مشاركات في الجهاد، وليس معنى ذلك أنه كان تاركًا للجهاد الفرض عليه، لا؛ لأنه لم يكن الجهاد فرض عين في وقته، إذ كان هناك من يقوم بالجهاد.
أما ابن تيمية فقد كان بارزًا ﵀، لكنه ليس كالصحابة، ويكفي أنه ما تزوج من أجل أن يتفرغ للأمور الأخرى، وهذا من النقص عند شيخ الإسلام ابن تيمية.
أما أكثر الخلق فلا تجتمع فيهم الهمة في كل شيء، وهذه الأعمال الصالحة المتنوعة مطلوبة كلها، وتكامل المسلمين فيها هو الذي يأتي بأفضل النتائج.
إذًا: خلاف التنوع خلاف محمود وليس بخلاف مذموم، وقد وجد في المسلمين من كان اهتمامه بطلب العلم وتعليمه للناس، فكان على ثغرة من ثغور الإسلام يؤدي هذا الواجب، قال تعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة:١٢٢].
وأهل العلم وطلابه أنفسهم تنوعت هممهم، فمنهم من قضى عمره في طلب الحديث ومعرفة طرقه ورجاله وصحيحه وضعيفه، فكفى الله به المسلمين في هذا المجال، أمثال الإمام البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبي داود، فهؤلاء كان جل عملهم في الحديث، ومنهم من كان الاستنباط والفهم والفقه في الكتاب والسنة هو شغله الشاغل كالإمام الشافعي.
ولو قارنا بينه وبين ابن ماجة في الفقه والاستنباط فبلا شك الشافعي له قصب السبق في ذلك، بل لو قارنا بين الشافعي وأحمد فإننا نجد أن الإمام الشافعي ﵀ يقول للإمام أحمد: أنتم أعلم بالحديث منا، فدلونا على الحديث عراقيًا كان أو شاميًا أو حجازيًا حتى نقول به.
والإمام أحمد في الفقه أخذ معظم أصول مذهبه عن الإمام الشافعي، وكان بعض العلماء المتقدمين يقولون: المذاهب ثلاثة فقط، ويجعلون مذهب الإمام أحمد وجهًا من وجوه المذهب الشافعي، وإن كان له منزلة عظيمة بموقفه العظيم في المحنة، بالإضافة إلى فقهه وعلمه، مما جعل أهل العلم يذكرونه في الأئمة الأربعة.
وغيرهم اجتهد في التفسير مثل ابن جرير الطبري وآخر في التجويد والقراءات، أمثال عاصم بن أبي النجود -وإن كان ضعيفًا في الحديث أو حدي
1 / 5
محاذير اختلاف التنوع
لا بد في مسألة التكامل في اختلاف التنوع من ملاحظة عدة محاذير لابد من تجنبها، وأمراض ظهرت في العمل الإسلامي، بل ظهرت فيما سبق من العصور ونبه عليها العلماء.
1 / 6
من محاذير اختلاف التنوع: انشغال أفراد كل جماعة بما تراه
من هذه المحاذير الواقعة حاليًا وسابقًا: أن يكون انشغال الأفراد والجماعات بما يرونه أفضل الأعمال سببًا لتركهم الواجبات الأخرى التي تمثل الحد الأدنى من الالتزام بالإسلام.
يعني: أن الذي ينشغل بعمل معين يراه هو فقط دون ما سواه، ويهمل الواجب العيني عليه في الجوانب الأخرى، فكما أنه لابد أن يكون المجاهد مصليًا للفرائض، صائمًا لرمضان، كذلك يجب أن يكون المصلي مزكيًا صائمًا مجاهدًا جهاد فرض العين، وهكذا لابد أن يحقق أبناء الصحوة الحد الأدنى في مجالات العمل الإسلامي اليوم.
فلا يجوز أن يكون الاشتغال بعلم الحديث سببًا للجهل بالعقيدة أو الفقه أو الحلال والحرام الذي هو فرض عين على المسلم، فتجد البعض قد انشغل بطرق الحديث ورجاله، وهو لم يتعلم كيف يؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والرسل والقدر، ثم إذا سألته في أي مسألة أخرى لربما ظن نفسه عالمًا وتكلم بأي كلام لأنه حقق حديثًا أو أخرج كتابًا.
فلا بد أن يتحقق القدر الأدنى الذي لا يسع المسلم جهله فيما يجب عليه من معاني الإيمان والإسلام وصلاح القلوب، كما لا يجوز أن يكون طلب العلم والاهتمام بالإعداد العلمي والتربوي سببًا لترك ما يجب على الأفراد والجماعات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالضوابط الشرعية كما هو حاصل من بعض الاتجاهات.
فالبعض قد يرى المنكر أمام عينيه، ويرى الضياع التام وانحراف الشباب، وتجده على علم شديد، ويبذل جهده في العلم، ولكن لا دخل له بما يدور حوله مطلقًا، وتتعجب منه كيف بذل كل همته في طلب العلم، ومع ذلك ليس له أي دور في الدعوة إلى الله، ولا حتى في تعليم الناس، وأقصى شيء يفعله لهم هو أن يهتم بواحد منهم فقط، وهذا خلل كبير بلا شك، فأنت إذا رأيت المنكرات وخالطتها فعليك أن تغير هذه المنكرات بما تقدر عليه بموجب الضوابط الشرعية.
وكذلك لا يجوز لطلاب العلم مثلًا في وقت الجهاد أن يتركوا الجهاد العيني بحجة انشغالهم بطلب العلم، وقد صدر عن بعض المشايخ المعاصرين قولهم قالوا للناس: اذهبوا إلى البوسنة لتعلموا الناس؛ لأن أولويات العمل عندنا هي التصفية والتربية، وهذا كلام خطير جدًا وفهم غير صحيح لمسألة التصفية والتربية، وما المانع أن يتم الأمران معًا، إن هذا هو الواجب حاليًا؛ لأن العدو هجم عليهم في بيوتهم وبلادهم، وقتل نساءهم وأطفالهم وسباهم، ثم هم يقولوا للناس: لابد من طلب العلم أولًا، فنقول: لا مانع من طلب العلم تزامنًا مع الجهاد الذي هو فرض عين، فهل نأمرهم بترك الدفع عن أنفسهم وأهليهم وأعراضهم وأموالهم للتعلم؟ لا.
بل أنا أبذل جهدي في تعليمهم مع الدفاع عنهم.
وهكذا أيضًا لا يجوز أن يترك المجاهدون الواجب عليهم من العلم الذي هو فرض عين، وهذا حاصل أيضًا من أصحاب الجهاد، فهم يقولون: نحن مجاهدون وحسب ولا دخل لنا بطلب العلم، ويقولون: اتركوا هذه الكتب الصفراء، بل هناك من يقول: لا أحد يكلم الناس في الشركيات؛ لأنها ستفرق الأمة، وهذا حصل بالفعل في أفغانستان، بل وصل الأمر إلى أن تتصدر الفرق الضالة المنحرفة أشد الانحراف والذين يعتقدون العقائد الكفرية ويكون منها القادة والرؤساء، ويقال: فلان هذا هو الزعيم الذي يمكن أن نجتمع حوله.
حتى إنك لتجد بعض المجاهدين يشربون المخدرات ويبيعونها.
وهذه قضية خطيرة بلا شك، وكان مثل ذلك سببًا من أسباب عدم نضج الثمرة التي بذل فيها ما بذل من دماء أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة.
1 / 7
من محاذير اختلاف التنوع: الجهل بمبدأ التوازن في بناء الشخصية
إن الجهل والمعاصي من أعظم أسباب الهزيمة، وهذا المحذور للأسف قد وقع لأكثر الاتجاهات المعاصرة ففشلت في تحقيق التوازن في بناء الأفراد، فشغلت بواجب عن واجبات عينية وكفائية تقدر عليها، وظهر الخلل في الشخصية التي تتكون وتتربى في هذه الاتجاهات، فمن الخطير أن يحصل اهتمام بالغ بقضية على حساب قضايا، بل أصبح هناك في بعض الأحيان اهتمام بالغ بمسائل الفروع على حساب الأصول، فربما تجد من يكتب بحثًا مقداره مائتي صفحة في حكم السترة، وهذا وإن كان من الأمور المشروعة الموجودة في كتب الفقه، ولكن ليس بهذا الحجم الضخم، ففي المغني الذي يعد أكبر كتب الفقه وأعظمها قدرًا تكلم فيه مؤلفه في صفحتين فقط، وعملي لبحث بهذه الطريقة سيأخذ مني وقتًا وجهدًا كبيرًا، وربما كان من الأفضل اختصاره من كتاب منار السبيل من أجل أن يحصل له توازن في الاهتمام بالقضايا، ويكون هناك بعض إلمام بقضايا العقيدة مثلًا، فيقرأ معارج القبول، حتى لا يظهر عندنا أناس يبرزون في علوم معينة، وتجدهم في نفس الوقت يقصرون في بديهيات أخرى مثلًا في مسائل الإيمان والاعتقاد فيها ويكون عندهم خلل كبير جدًا فيها، كالاستشهاد بكلام أهل البدع، وهذا لا يحصل إلا عندما لا يكون هناك تكامل ولا توازن، ومثل هذا قد يكون بروزه في هذا النوع من العلم سببًا كافيًا لأن يقدم ويستفتى، ومن الناس من يبرز في الوعظ والإرشاد فيكون له تأثير كبير على الناس، وغالب الناس لا يفرقون أصلًا بين المفتي وغيره فيصبح مثل هذا مفتيًا لقطاع كبير جدًا من الناس، فهذا خلل كبير، ولابد أن يحصل نوع توازن في مثل هذا، فإذا كان الإنسان يحسن الوعظ فلا يظن في نفسه أنه قد أصبح محسنًا للفتوى، ولا بد أن يحصل ضبط لهذه المسائل.
فالحاصل أن هذا المحذور واقع في الاتجاهات الإسلامية، فبدل أن يحصل التكامل المطلوب يحصل عوضًا عنه أن الواحد ينشغل بجانب ويضيع بقية الجوانب، ولذلك فإن المطلوب أن يهتم كل واحد بجميع جوانبه الشخصية: من الناحية العلمية والعملية، فلا يتقن المسائل العلمية وهو عاق لوالديه، وقاطع للرحم، وسيئ الخلق مع الناس، وهو في الأموال أسوأ، فلا بد أن يستكمل المرء جميع الجوانب الشخصية، فيحافظ على عبادته الشخصية -على الأقل الواجبات- ولا يسهر طول الليل مع طلاب العلم ثم لا يصلي الفجر؛ لأن هذا سيؤدي إلى أنه هو نفسه سيخسر ويضيع.
وربما قيل لشخص: لا بد أن تتواجد كممثل للشيخ الإسلامي في المكان الفلاني، وأصبح اسمه يملأ الميادين والشوارع، وهو عضو مبرز في مكان معين، ومن ثم يتفوه بكلام قد يناقض أصل الاعتقاد، كأن يتكلم في الولاء والبراء بغير علم، وأذكر مرة أن عضوًا في مجلس شعب كان يريد أن يهاجم سياسة التقارب مع اليهود، فقالوا له: لابد أن تقف موقفًا شديدًا في ذلك، فجاء إلى قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى﴾ [البقرة:١٢٠]، فوجد أن الآية فيها ذكر النصارى، وهو يعلم أنه ليس له أن يتكلم في النصارى فبتر الآية، ثم قال: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ﴾ [المائدة:٨٢] فاقتص الآية الأولى لأنها لن تكون مناسبة للمقام -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من أجل أن فيها ذكر النصارى.
فالأمر فيه خلل كبير جدًا، فلا بد من أجل تحقيق التكامل المنشود في هذا النوع من الاختلاف أن نحدد بوضوح القدر الأدنى علمًا وعملًا للفرد والجماعة في المكان والزمان، وهو فروض الأعيان وفروض الكفاية التي تعينت، كالأمر بمعروف والنهي عن منكر متعين في كثير من الأحيان، فلا يسع أحدًا تركها طالما قدر عليها.
أما فروض الكفاية التي وجد من يقوم بها من الاتجاهات والجماعات الإسلامية المتعددة فالتكامل والتعاون فيها مطلوب رغم الاختلاف المنهجي الذي غالبه من اختلاف التضاد، يعني: رغم أن هناك اختلافًا منهجيًا متضادًا وبعضه غير سائغ، لكن أن نتعاون على الخير فيما هو خير واجب شرعي، فلا بد لنا أن نشد من أزر المجاهدين وإن كان عندهم بعض البدع والمنكرات طالما بقوا في دائرة الإسلام.
ولابد لنا من التعاون والتعاضد مع من يكفلون الأيتام والأرامل والمحتاجين، وإن رأينا تقصيرهم في طلب العلم فلا يحملنا ذلك على أن نترك الواجب الذي هم يقومون به، ولا بد من تأييد السواد الإسلامي في نواحي الحياة المختلفة طالما كان منضبطًا بالشرع، ولو كان لنا شيء من الملاحظات الأخرى على المنهج المتواجد فيه.
1 / 8
من محاذير اختلاف التنوع لدى الجماعات: تحقير أعمال الجماعات الأخرى
المحذور الثالث الذي يجب تجنبه لتحقيق هذا التكامل المنشود هو: أن يربى الأفراد داخل هذه الجماعات على تحقير الأعمال والعلوم الأخرى التي ليس لجماعته اهتمام كبير بها في سبيل حصر اهتمامهم وجهدهم في تنفيذ ما يطلب منهم، فطالب العلم لا يحقر الداعية، والداعية لا يحقر طالب العلم، أو أن هذا يقول: هؤلاء أصحاب كتب، والثاني يقول: هذا لا يفهم شيئًا، إنما يجمع الناس قليلًا ثم يتركهم يرحلون، وهذا يلاحظ في أماكن كثيرة متعددة، فتجد من فتح الله عليه في باب تبليغ الناس الحق، وعنده قدرة تامة على الوعظ يزدري طالب العلم، وطلاب العلم يزدرون الفريق الآخر، فلا شك أن التحقير لأعمال وعلوم الآخرين بدلًا من الشعور بأهمية كل منها هو الذي يولد الضغائن والبغضاء والأحقاد، وإذا أضيف إلى ذلك السخرية من الآخرين كان البلاء أشد، ودخل مسلسل الغيبة والنميمة والاتهام الباطل.
يكفينا في علاج هذا أن نلتزم بقول النبي ﷺ: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ [الحجرات:١١]، ولقد ربى رسول الله ﷺ صحابته على عدم تحقير أي عمل صالح يصدر من أي مسلم أو مسلمة، إذ بل ربما يكون فيه نجاته، ألم نعلم حديث النبي ﷺ أن بغيًا من بغايا بني إسرائيل دخلت الجنة في كلب سقته؟ ألم نعلم أن من أسماء الله تعالى الشكور الذي يشكر القليل من العمل ويغفر الكثير من الزلل؟ ألم نعلم فضائل الأعمال التي تقوم بها الاتجاهات الإسلامية على اختلافها سواء طلب العلم أو الدعوة أو الجهاد ونحوها، وكل هذه الأعمال لها فضائل على اختلافها، وقد ذكرت فضائلها في الكتاب والسنة، حيث وردت النصوص في فضيلة طلب العلم والدعوة والعبادة والتزكية والجهاد والنفقة في سبيل الله، ونصرة الدين، فكيف يتسنى لنا بعد ذلك تحقير شيء من هذه الأعمال والاستهزاء بأصحابها، والتهوين من أهمية هذه الأعمال والعلوم؟ إن النظرة المريضة بالاستعلاء على أصحاب العلوم والأعمال الصالحة الأخرى والتي لا تهتم بها الجماعة التي ينتمي إليها الفرد باعتبار أن الأولويات التي تحددها الجماعة هي وحدها الحائزة على الصواب لابد أن تختفي من بيننا نحن أبناء الصحوة.
وإذا جهل علينا أحد بالتحقير لعملنا وجهدنا لم نقابله بتحقيره هو وعمله، ولا بذكر مثالبه وعيوبه، بل نذكره بفضيلة ما نعمله وفضيلة ما يعمله، وأن كلا العملين مطلوب، فلا يجوز أن نسمح لطالب الفقه أن يحقر طالب الحديث، ولا أن يحقر طالب الحديث من خرج للدعوة، ولا أن يجعل الخارج للجهاد عمل الآخرين هباء منثورًا لا قيمة له، ولا أن يحقر الداعية طلب العلم، ولا أن يكون الساعي على الأرملة والمسكين مستشعرًا أن صلاح الأمة بعمله دون عمل من سواه، بل ننشر روح المحبة على الخير، ونمدح صاحبه، أفلا نحب ما يحب الله ورسوله ﷺ؟ أفنحزن إذا وفق الله عبدًا إلا طاعة لم نقم نحن بها؟ أليس أقل واجب أن نحبه على طاعته وندعو له بالتوفيق ونرجو له تمام الخير؟ ولا يجوز لنا أن نمن على أحد بعلمنا ولا بعملنا بل لله المنة علينا أن هدانا للإسلام ووفقنا للعمل بطاعته وطاعة رسوله ﷺ.
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات:١٧] فلا يقال: لولا نحن لخربت الدنيا، فهذا من الباطل، والدنيا عامرة بأهل الإسلام، ولن نكون شيئًا بغير عملنا للإسلام.
فالله ﷿ غني عنا وعن عملنا؛ فلا نمن على الله ولا على الناس ولا على المسلمين، ولا نقول: إن المسلمين كلهم تابعون لنا في هذا، أو إننا أصحاب الفضل في هذا، إنما الفضل لله ﷿.
1 / 9
من محاذير اختلاف التنوع: عقد مبدأ الولاء والبراء للجماعة
المحذور الرابع: عقد الولاء والبراء على هذه الأعمال المتنوعة والأولويات المختلفة، وتقديمه على أصل الولاء لدين الله والمنهج الإسلامي الصحيح، الذي هو منهج أهل السنة والجماعة بشموله وتوازنه، فنجد كثيرًا من الجماعات الإسلامية توالي وتعادي على ما جعلته من أولويات عملها، ونجد أفرادها يتخذون موقفًا ممن رأوا منه اهتمامًا بنوع آخر غير ما تعودوا عليه.
فهو يحب ويبغض على أساس أن الشخص هذا يعمل مثل ما هو يعمل، وينتمي إلى نفس نوع العمل، ولو وجده يخرج مثلًا في سبيل الله مع جماعة التبليغ يصبح له منه موقف آخر.
فالعلاج هنا يكمن في تعميق الولاء على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وليس التعصب على الأسماء ولا الأعمال ولا العلوم، بل نحب الطاعة من كل من أطاع الله ونواليه عليها كما نوالي غيره على طاعته الأخرى، ونبغض المعصية من كل من عصى الله ونبرأ إلى الله منها، سواء عمل صاحبها بما نراه من أولويات عملنا أو غيره، فلو أن شخصًا على المنهج السلفي ولكن في نفس الوقت يخدع الناس، أو يعق والديه أو فيه أخلاق ذميمة فأنا أحبه على منهجه وأبغضه على معصيته.
فمثلًا لو رأى طلاب العلم طالب علم منهم قد أتى معصية من المعاصي، فلا بد أن يبغضوا ذلك منه ويبرءوا إلى الله من هذا العمل، ولا يكون همهم التهوين من هذا الخطأ في حين لو ارتكب هذه المعصية من ينتسب إلى الاتجاه الآخر لم يلحظوا له خيرًا ولا طاعة لعلها تكون سببًا لمغفرة الله له.
والميزان في ذلك لابد أن يكون واحدًا منضبطًا وهو: الطاعة والمعصية الخير والشر، فنحب على الطاعة ونبغض على المعصية، ونحب أهل الخير ونبغض أهل الشر نحب على السنة ونبغض على البدعة، كما بينت ذلك أدلة الكتاب والسنة والإجماع.
خلاصة القول في اختلاف التنوع: أنه من مقتضيات الرحمة ومظاهرها، ولا بد من استثماره لتحقيق التكامل بين المسلمين، ولا بد من أجل ذلك أن نتجنب ترك الواجبات العينية الأخرى، وتحقير العلوم والأعمال الأخرى، والتعصب على اسم معين أو عمل معين.
بل لا بد أن يكون العمل على المنهج الإسلامي الصافي النقي، وأن نؤدي كل الواجبات المفروضة علينا لكي نحقق التكامل في الشخصية المسلمة التي تتربى من خلال العمل الإسلامي، ولا نحقر عملًا صالحًا ولا علمًا، ونوالي ونحب ونبغض على الكتاب والسنة، ونجعل الولاء والبراء لله ﷿، ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة:٥٥ - ٥٦]، وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:٧١].
1 / 10
الأسئلة
1 / 11
حكم التغاضي عن كل أنواع الاختلاف بحجة سلامة المقصد والهدف
السؤال يقول بعض الشيوخ: إن جميع الجماعات الإسلامية هدفها الوصول للإسلام الصحيح.
هذا دون النظر فيما يحتويه كل منهج من هذه المناهج، ولكن المهم الهدف النهائي، وضرب على ذلك مثالًا بمجموعات مسافرة إلى القاهرة، منهم المسافر بالقطار، ومنهم المسافر بالسيارة على الطريق الزراعي، ومنهم المسافر على الطريق الصحراوي، هل هذا الكلام صحيح؟
الجواب
هذا الكلام ليس صحيحًا؛ إذ ليس كل أنواع الاختلاف من اختلاف التنوع.
أو السائغ، وسوف يأتي الكلام عن اختلاف التضاد الذي منه ما هو سائغ ومنه ما هو غير السائغ، وهناك انحرافات منهجية خطيرة سوف تظهر في بيان أنواع الاختلاف الأخرى.
1 / 12
أدب الخلاف [٢]
كثيرة هي العقبات في طريق الدعوة إلى الله ﷿، ووجودها حكمة من الله بالغة، وسنة كونية منه تعالى ماضية، فقد كتب سبحانه الابتلاء على أهل الإيمان، ومحصهم بالمحن؛ ليظهر سبحانه للناس أهل الحق وأهل الباطل، وليميز الخبيث من الطيب، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
2 / 1
العقبات في طريق الدعوة
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: كثيرة هي العقبات في طريق الدعوة إلى الله ﷿، حكمة من الله ﷾ بالغة، وسنة ماضية أن يبتلي أهل الإيمان بأنواع الابتلاءات والمحن التي يميز الله ﷿ بها بين الخبيث والطيب، فيما يرى الناس شهادة قد علمه ﷾ أزلًا وغيبًا، لكنه ﷾ قدر وجود الابتلاءات والمحن والعقبات لكي يظهر للناس صفات أهل الحق وأهل الباطل، ولتستبين سبيل المجرمين، وليهدي الله ﷿ من شاء إلى صراط مستقيم، وإلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه.
هذه العقبات منها عقبات من خارج الدعوة، ومن خارج الدعاة والملتزمين المطيعين لله ولرسوله ﷺ، يضعها المنافقون والكفار وأعداء الدين في طريق الطاعة والالتزام، وهذه العقبات رغم كثرتها وخطرها إلا أنها ليست بعقبات في الحقيقة؛ ذلك أن الله تكفل بها، كما قال ﷾: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران:١٢٠]، تكفل الله بهم مع الصبر والتقوى، والخطورة الحقيقية تكمن في العقبات الداخلية التي تنبع من قلوب وأعمال وأقوال الملتزمين أنفسهم، وما يقع بينهم من اختلاف.
ولا شك أن الاختلافات التي وقعت بين الاتجاهات الإسلامية المختلفة في الصحوة الإسلامية -نسأل الله ﷿ أن يبارك فيها- كانت من أعظم أسباب انصراف الكثير من عامة المسلمين عن الالتزام جملة، ومن أعظم ما يستغله أعداء الإسلام لكي يصرفوا الناس عن الدين بجملته بزعم أن أهله مختلفون متفقون، ولا يحب بعضهم بعضًا، ويكادون يقتتلون بل قد اقتتلوا في مواضع مختلفة من العالم.
كل هذا مما يُجعل -كما يقولون- شماعة يعلق الكثير من الناس عدم التزامه عليها، فيقول: طالما أن هؤلاء الملتزمين مختلفون متنازعون متباغضون فدعونا من الكلام في الالتزام حتى يتفقوا.
وهذا خطر عظيم بلا شك، ولا يكون عذرًا عند الله ﷾؛ فإن وجود طعام خبيث في السوق لا يعني أن يصوم الناس عن الطعام بالكلية حتى يهلكوا، وهذا الذي يترك الالتزام بزعم أن الاختلافات قائمة بين الاتجاهات الإسلامية والمتناقضات موجودة هو كالذي يترك الطعام جملة ويقول: طالما وجد طعام فاسد فلن آكل شيئًا.
وأيضًا أثر هذا الاختلاف سلبًا على الكثيرين من أبناء الصحوة أنفسهم بأن صارت القضية الأولى لديهم هي حرب المخالفين، دون نظر إلى ما يسع فيه الخلاف مما وسع السلف وإلى ما لم يسع، وكذلك لم يفرقوا بين النوع والشخص المعين، فنشروا الحروب العنيفة، وزادت نظرة الآخرين للإسلاميين حدة، واشتعلت ثوراتهم ومجادلاتهم بعبارات نارية وقذائف ملتهبة على المخالفين، فكثير من الناس من أجل ذلك رأى أن يهجر العمل الجماعي جملة، ويقول: إن هذه الاختلافات عصبية جاهلية؛ فليكن كل منا وحده بعيدًا عن الآخرين.
وقد تأول البعض حديث حذيفة ﵁ الذي فيه: أنه سأل النبي ﷺ عن الخير والشر، وقال له: (إنا كنا في جاهلية وشر، فأتانا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: فقلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر، قلت: هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: فما تأمرني؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاضٌّ عليها)، فتأول بعضهم هذا الحديث وحمله على الجماعات الإسلامية المختلفة، فقال: هذه هي الفرق التي يجب أن نفارقها، وغفل عن أن الحديث يشير إلى الدعاة على أبواب جهنم، كأهل البدع والمنافقين كالعلمانيين والقوميين والحزبيين وأمثالهم ممن يوالون أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين، ويسعى إلى إبعاد الناس عن الدين، وكالفرق الضالة المنحرفة من القديم كالرافضة وغلاة الصوفية من عباد القبور وغيرهم، فظن هذا المسكين أن المقصود باعتزال تلك الفرق: أنها كل من اجتمع على طاعة الله ﷿، فسد على نفسه بابًا من أعظم أبواب الخير، وظن أن التعاون على البر والتقوى ممنوع منه في ظنه، وإن لم يصرح في كلامه أنه لا يجوز التعاون على البر والتقوى.
والحقيقة أن أمراض النفوس من وراء ذلك كثيرة، كأنفة الإنسان من أن يكون خاضعًا بدرجة ما، أو يكون ذليلًا على المؤمنين حتى يتحقق التعاون على البر والتقوى، فهذا أمر منبعه من عدم اكتمال تهذيب النفس، وقبولها للحق ولو كان ممن لا تميل إليه النفس.
المقصود: أن هذا أيضًا صار من أعظم أسباب تعطيل العمل الإسلامي جملة؛ لأن كثيرًا من الناس ظن أن الحديث مقصوده هذه الاتجاهات الإسلامية، مع أن الخير الذي فيها بلا نزاع أضعاف أضعاف الشر الذي وقع منها، فكم من تارك للصلاة والصيام والزكاة، بل وتارك لشهادة التوحيد في الحقيقة أو لمعناها وتطبيقها قد ردوه إلى الإسلام ردًا جميلًا، وكم من مفرط في أصول الإيمان مضيع لها، بل ربما جاحد منكر لها قد أعادوه إلى حظيرة الإيمان، وكم من عبادات ومعاملات والتزام بشرع الله قد حدث بسبب الخير الذي حدث بالدعوة إلى الله ﷿ على دخن في كثير منها، وربما زاد دخن بعضها جدًا حتى صار خللًا كبيرًا، لكنه في الجملة طالما لم يكن مؤصلًا لبدعة، ولم يكن متجهًا إلى منحى غير طريق أهل السنة والجماعة فإن خيره أكثر من شره، وعلى الأقل يجب أن يقبل خيره ويدفع شره، ولا يمنعنا علمنا بأن عنده دخن وشر من قبول الخير الذي أتى به طالما كان في دائرة الإسلام، بل علينا عند معاملة أهل البدع الضالين أن نعرف لهم أنهم ما زالوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ما لم ينقضوها، فإذا كان كذلك فالأولى أن يكون هذا موقفنا من المتأولين والجاهلين الذين ما دروا أنهم ناقضوا شيئًا من قواعد الدين.
2 / 2
نظرة الجماعات للاختلافات الإسلامية
وبعض الناس اتجه في مواجهة هذه الخلافات اتجاهًا آخر؛ حيث إنه لما وجد الصراعات محتدمة بين أبناء الصحوة الإسلامية -ومنذ زمن طويل بين الاتجاهات والفرق الإسلامية والمذاهب المختلفة- ظن أن العلاج لمثل هذا: أن يترك كل إنسان مخالفة الآخرين ولو كان معهم على ما يتفقون فيه، ولا يذكر شيئًا عن الخلاف، وأن كل إنسان انتسب إلى فرقة معينة فلا حرج عليه أن ينضم إلى تجمع آخر تحت قاعدة سموها ذهبية، وهي: أن نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، فطبقوا هذا على الشيعة والصوفية والخوارج وطوائف مختلفة من أهل البدع، ولا شك أن الصحوة الإسلامية في مراحل بدايتها إن لم تحدد هويتها ومعالم انطلاقتها فإنها ستتشعب بها أودية الأهواء، وتتفرق منذ البداية، ولا يكون هذا الذي أراد جمع الناس على هذا الشعار أو هذه القاعدة التي سموها ذهبية إلا كمثل إنسان أراد أن يطفئ جمرًا مشتعلًا بالنار فوضع عليه قطعة من الورق أو القماش سترت الجمر لحظات، ثم إذا بها تصبح وقودًا يزداد به الجمر اشتعالًا، وتتمزق هذه القطعة من القماش أو هذا الغطاء الذي حاول أن يغطي به هذه الاختلافات؛ لأنه لم يسلك في ذلك ما أمر به النبي ﵊ حيث قال: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
وربما وصل الحال ببعض هؤلاء أن يطبق هذه القاعدة في التعاون على ما اتفق عليه حتى مع المنافقين وأعداء الدين، بل لو نظرنا إلى واقع كثير من الحركات الإسلامية في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه لوجدنا أنها منيت بأقسى النكبات، وفشلت في قطف ثمار التضحيات العظيمة الهائلة بسبب مثل هذه القاعدة التي بنيت على شفا جرف هار، فنجد أن العلمانيين وغيرهم قد تحالف مع الاتجاهات الإسلامية في فترة من فترات حياته وعمره، بل قد انتسب وبايع بالسمع والطاعة لقيادة هذه الاتجاهات، ويكون واحدًا منها، ويظنه من لا يحسن هذه المسألة أحد المجاهدين في سبيل الله، ثم بعد تضحيات لآلاف وربما ملايين من الشهداء يأتي قطف الثمار على أيدي هؤلاء، وما ثورة الجزائر على الاحتلال الفرنسي ببعيدة عنا إذا تأملنا تاريخها، وما زال يحدث في واقع المسلمين في المشارق والمغارب مثل ذلك كثيرًا كما في أفغانستان وغيرها، فكم من مجاهدين عاشوا عمرهم على الجهاد، وحازوا ثقة المسلمين في فترة من عمرهم من أجل جهادهم لأعداء الدين من الكفرة والمنافقين، ثم إذا بهم في مرحلة لاحقة يتحالفون مع الشيوعيين والباطنية والشيعة فضلًا عمن هو دونهم في هذا الشر؛ فإنه بالأولى يقبل بهذه التحالفات.
فتتمزق الأمة تمزقًا خطيرًا، وتجد أن الإسلاميين في هذه الحالة صاروا ظهرًا يركب ليوصل به إلى غايات خبيثة منكرة لا يستطيعون بعد ذلك أن يرجعوا عنها، ومن أمثلة ذلك القاعدة التي كانت ولم تزل تسبب خلافًا كبيرًا بين أبناء الصحوة الإسلامية.
وعلى الطرف الآخر لم ير البعض أي درجة من درجات الخلاف، بل كل مسألة عنده لابد فيها من مفاصلة وولاء وبراء وانتصار -في فهمه- للسنة، وربما يكون انتصاره إنما هو لفهمه المغلوط لأحاديث رسول الله ﷺ، وربما كانت مفاصلة في زلات بعض أهل العلم التي تغفر في جانب محاسنهم الكثيرة، لكنها بالنسبة له قضية حب وبغض وولاء وبراء، ومن لم يقبل قوله فيها أو قول إمامه أو شيخه فلا بد أن يحارب ويعادى حتى يرجع إلى ما ظنه حقًا في ذلك، فأثر هذا الفريق أثرًا كبيرًا في توسعة هوة الاختلافات بين المسلمين.
وعلى الناحية الأخرى طرف آخر رأى أن كل خلاف هو خلاف سائغ لا بأس منه ولا حرج فيه، وأن التفرق الحاصل هو خير وليس بشر، ولا شك أن هذا يختلف عمن رأى أن يجتمع المسلمون فيما اتفقوا فيه؛ فإنه وإن كان يعذر كل مخالف؛ لكنه يأمر بالاجتماع تحت رايته، ولا يرى جواز الخروج عن هذه الراية، وإن كان داخلها يتسع كثيرًا جدًا، وتكون ثوبًا فضفاضًا يتسع للتناقضات والاختلافات التي تدخل تحت قول النبي ﵊: (وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
والبعض الآخر يرى أن التعدد مفروض، وأننا ينبغي أن نحافظ على هذا الاختلاف، وقد غاب عنه أن هذه السلبيات التي نراها واقعة في العالم الإسلامي من تباغض وتحاسد وتنازع مما يؤدي إلى تأخير العمل الإسلامي على الأقل إن لم يؤد إلى صرف الكثيرين عنه، فإن إغفال مثل هذه السلبيات في قضية الخلاف يؤدي إلى تمييع القضية، وظن الناس أن كل الاختلاف هو من باب اختلاف التكامل والتنوع، وليس كذلك بلا شك، فنريد أن نبين تصورنا وفهمنا لهذه القضية من خلال الكتاب والسنة، وفهم سلف الأمة، فنقول في مختصر كلامنا: إن اختلاف التنوع يجب استثماره بضوابط شرعية حتى لا يؤدي إلى المحاذير التي تقع من بعض السائرين والعاملين في الحقل الإسلامي، فيترتب على ذلك الفساد من جراء هذه المحاذير، وبدلًا من أن ينتفع بهذا الخلاف يصبح الأثر هو التفرق والاختلاف، وهذه المحاذير كانت: ترك الواجبات العينية الأخرى، وتحقير العلوم والأعمال الصالحة التي تقوم بها الاتجاهات الإسلامية الأخرى، والتعصب على اسم أو عمل معين دون الولاء على المنهج الإسلامي الصافي النقي منهج أهل السنة والجماعة بشموله.
2 / 3
اختلاف التضاد والموقف منه
النوع الثاني من الاختلاف: اختلاف التضاد، وهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويحكم بخطئه أو بطلانه، فالشيء الواحد تجده يقول بحرمته وبحله، مع العلم أن بعض المتكلمين في مسائل الخلاف من المتقدمين والمتأخرين يقول عن مسائل الاجتهاد المختلف فيها: كل مجتهد مصيب، ويعني بذلك: أن كل أنواع الاختلاف هي من النوع الأول طالما أن ذلك في الفروع، فلذلك يجعله من النوع الأول من الاختلاف وهو اختلاف التنوع، وقد نصر ذلك الجماعات الإصلاحية، مثل صاحب كتاب (الإصلاح)، فهو يميل إلى هذا القول، وكذا الإمام الدهلوي في كتابه (أسباب الاختلاف) يميل إلى هذا القول.
فهذا النوع من الخلاف موجود، ومعناه: أن كل قول يخالف القول الآخر يضاده ويحكم بخطئه أو بطلانه، وهذا يشمل المسائل سواء كانت اعتقادية أو عملية، ولنضرب مثلًا بمسألة اعتقادية فنقول: الإمام الشافعي يقول بوجوب القراءة خلف الإمام، والإمام أبو حنيفة يرى حرمة القراءة خلف الإمام، والإمام أحمد يرى وجوب القراءة خلف الإمام في السرية وعدم مشروعيتها في الجهرية، فهذه ثلاثة أقوال وكل قول منها يخالف ويضاد القول الآخر، وقد يتفق الشافعي وأحمد في جزئية وهي: وجوب القراءة في السرية، ويتفق في عدم القراءة في الجهرية أحمد وأبو حنيفة، لكن الحقيقة أن كل قول منها يخالف الآخر.
لكن لو جاء واحد وقال: كل مجتهد مصيب، والأقوال الثلاثة صحيحة، فهذا يكون قد أحدث قولًا رابعًا، حيث يقول: لك أن تختار ما بين هذا أو هذا أو هذا، كالواجب المخير، مثل قصة الصلاة في الطريق أو في بني قريظة بعد الوقت، والحقيقة أن هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الذين صلوا في الطريق هم الذين أصابوا، والقول الثاني: أن الذين صلوا في بني قريظة هم الذين أصابوا، والقول الثالث: أن الفريقين أصابوا، وبذا يكون كل مجتهد مصيب، وهذا ينفي اختلاف التضاد هنا خاصة، ويجعل جميع الاختلافات من اختلاف التنوع؛ لأن كلا الأمرين صحيح، هذا مراد من يقول: كل مجتهد مصيب.
وهذه العبارة نقلت عن بعض السلف، لكن ليس معناها ما فهمه هؤلاء المتأخرون من أن هذا من الواجب المخير، أو أن كله مفيد، وليس المعنى إصابة الحق، أو يقول هذا القائل: المطلوب الاجتهاد، وما فعله الإنسان بعد ذلك فقد أصاب الحق؛ لأن الحق هو ما يؤدي إليه الاجتهاد.
هذا الكلام غير صحيح؛ لأن مقصد من تقدم من السلف بقوله: كل مجتهد مصيب: أنه قد أدى ما عليه، ولا يلزم من ذلك ألا يكون هناك حق يطلب.
نقول: إن إثبات هذا النوع من اختلاف التضاد وهو: أن يكون الشيء الواحد هناك من يقول بحرمته وبحله معًا من جهة الحكم لا من جهة الفتوى لا ينبغي، أي: أننا قد نقول: إن الميتة محرمة، ولكنها مباحة للمضطر.
كفتوى لشخص وقع في الاضطرار، لكن الحكم العام أن الميتة محرمة.
كذلك الحكم بأن هذا الفعل حرام يكون في قليل النبيذ المسكر كثيره: فشرب نبيذ غير عصير العنب كثيره يسكر، وقليله لا يسكر، فالمخالف يقول: قليله حرام.
ليس من جهة الفتوى، كإنسان في حالة ضرورة ومخمصة لم يجد إلا ذلك النبيذ لسد رمقه، فهو حلال له في تلك الحالة كفتوى، وأما الحكم العام فهو حرمته عند من يقول ذلك عند عدم الضرورة.
المقصود: أن هذا الاختلاف ليس اختلافًا في فتوى المسائل بل في الأحكام العامة، ووقوع هذا النوع من الاختلاف في الملل والعقائد والأديان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ لأن هذا قطعًا واقع؛ فهناك اختلاف تضاد في الملل والأديان والعقائد، وهو من المجمع عليه بين المسلمين، ولم يخالف في ذلك إلا الزنادقة المنافقون -وللأسف ما أكثرهم في زماننا- ممن ينشرون بين الناس مفهوم مساواة الملل، وأن كل الأديان حق، وأن أهلها إن تمسكوا بما هم عليه فهم ناجون، فاليهود عليهم التمسك باليهودية، والنصارى كذلك، والمسلمون كذلك، بل صار بعضهم يقول: إن من يسأل عن حكم اليهود والنصارى في الدنيا والآخرة هل هم كفار؟ وهل هم مخلدون في النار؟ فهو يهدد الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، ولا يحترم الأديان، فهو عندهم يستحق أقسى أنواع العقوبات والعياذ بالله من الخذلان.
ولا خلاف بين العلماء أن من لم يكفر اليهود والنصارى، بل حتى لو شك في كفرهم أنه كافر مرتد مكذب بالقرآن، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران:١٩]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:٨٥]، وقال النبي ﷺ: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار)، متفق عليه.
هناك مقالة كتبها أحد الكتاب بعد سؤال وجه له، وهذا الكاتب عنده عاطفة إسلامية في جملة كتاباته، لكن انظر إلى الجهل العظيم والفظيع الذي عنده، وما كنت أظن أن مثله يكتب مثل هذا، وهو الأستاذ فهمي هويدي كتب مرة يقول: هذه الأسئلة ما زالت تطرح للأسف الشديد، فالذي يقول: هل هم كفار أم لا؟ وهل هم مخلدون في النار أم لا؟ كل هذه من علامات التطرف والتشدد في الفكر مرجعه إلى انتشار كتب سيد قطب في فترة من الفترات، وينقل عن بعضهم ويصوب هذا: أن المؤمنين في اصطلاح القرآن ليسوا أتباع دين خاص، ولكنهم المؤمنون بالإله الواحد، وأن كل مقر بوجود إله واحد مؤمن عند الله ﷾، يعني: أن كلمة «َالَّذِينَ آمَنُوا» تشمل اليهود والنصارى، ولا يلزم أن يكونوا على ملة الإسلام.
وكم كتبت مقالات من هذا القبيل من أستاذة يدرسون للناس الدين، فعميد إحدى كليات العلوم الشرعية كتب في بعض الجرائد يقول: إن الخلاف مع النصارى ليس خلافًا في التوحيد، ولكنه خلاف في النبوة، وهذا خلاف بسيط -يعني: تكذيب النبي ﵊ خلاف بسيط- لا يخرجهم من كونهم موحدين، ولا يخرجهم عن الإيمان، مع التناقض قطعًا.
أي: أن الذي يقول: إن الله هو المسيح بن مريم ليس مخالفًا في التوحيد، والذي يقول: إن الله ثالث ثلاثة ليس مخالفًا في التوحيد، والذي يعبد الأحبار والرهبان ليس مخالفًا في التوحيد.
أما زعمه أن تصديق النبي ﷺ ليس خلافًا في التوحيد؛ لأنه خلاف يسير.
فلا.
بل هو كفر يخرج من الملة بالتأكيد؛ لأنه لم يشهد أن محمدًا رسول الله.
كما أن من يصوب عبادة غير الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله فهذه قضية خطيرة للغاية، وما كنا نظن أننا يمكن أن نختلف بالذات على هذه المسألة المعلومة من الدين بالضرورة لولا أن من ينادي بحرية الاختلاف وحرية الفكر يدخل الملل الكفرية في ذلك، ويقول: إن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، حتى أثرت هذه الدعوة على كثير من أبناء المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2 / 4
الصواب في مقولة: كل مجتهد مصيب
قال ابن قدامة ﵀ في الكلام على مسألة كل مجتهد مصيب: وزعم الزاعم أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن الحق فهو معذور غير آثم.
في الحقيقة أن الجاحظ الذي سنسمع كلام ابن قدامة عليه لا يقول: إن الملل الأخرى حق، بل يقول: إن الذي يخطئ معذور، وعنده أن الذي يخالف ملة الإسلام يكون مخطئًا، ولكنه يقول: طالما نظر ولم يستطع أن يصل يكون معذورًا غير آثم.
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع جميعًا، وهذه كلها أقوال باطلة.
يقول ابن قدامة: أما الذي ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينًا، وكفر بالله تعالى، ورد عليه وعلى رسوله ﷺ؛ فإنا نعلم قطعًاَ أن النبي ﷺ أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، ونقاتل جميعهم، ونقتل البالغ منهم، ونعلم أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة، اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا، ولم يعرفوا معجزة الرسول ﷺ وصدقه، والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة.
معنى كلام ابن قدامة: أنه لا يلزم أن يكون الكافر معاندًا، فيمكن أن يكون الكافر جاهلًا يظن نفسه على الحق، ويظن أن دينه هو الصواب، وسلوك الناس يدل على ذلك، وبالتأكيد هناك من يقتل نفسه لأجل الكفر، بل مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل أن يبقى على ملته، وهذا أمر معلوم من أيام النبي ﵊، فقد استوهب أحد الصحابة من النبي ﷺ رجلًا من بني قريظة لمنة كانت له عليه، فوهب له نفسه وأهله وماله، فقال له: سألتك بالله إلا ألحقتني بالأحبة، فألحقه بالأحبة وقتله، بعد أن قال له: إن رسول الله وهبك لي ووهبتك لنفسك، انطلق حيث شئت، لكنه كان يريد أن يلحق بالأحبة مثل حيي بن أخطب ورءوس الكفر من اليهود.
وكثير جدًا من الكفار كانوا يضحون تضحية عظيمة عبر العصور المختلفة؛ لأن أكثرهم مقلدون للكبراء والرؤساء، لذا قال الرسول ﵊ لـ هرقل في الرسالة: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) ولم سيكون عليه إثمهم؟ لأنهم سيتبعونه على الكفر، فمعلوم بالضرورة أن المعاند الكافر مما يقل؛ لأنه يعلم أنه على الباطل مثل فرعون وإبليس ورءوس اليهود، لكن أكثرهم يظنون أنفسهم على الحق.
وقد وجد من الناس من يعتقد أن العذر بالجهل معناه: أننا نعذر أي شخص يظن نفسه على الحق ولا يدري وجه الصواب، بينما الحق في العذر بالجهل هو العذر لعدم البلاغ وليس العذر بأي نوع من أنواع الجهل؛ فالكافر الجاهل الذي قد بلغته الحجج ولم يفقهها ولم يتعلمها، أو أعرض عن الدين بالكلية فلم يتعلمه ولم يعمل به -كما يقول الشيخ محمد عبد الوهاب - ولم يدخل في الإسلام، أو بلغته دعوة الحق وأبى أن يدخل فيها، أو كان على شرك ولو ظن أنه يمتثل بالإسلام، وأعرض عن آيات الله بالكلية وظل على شركه الذي هو عليه، فهذا لا شك في كفره ولا يعذر.
فـ ابن قدامة يقول: إن كلام الجاحظ ردة عن الإسلام، وكفر بالله يقينًا.
يقول ابن قدامة في روضة الناظر: والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة، كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص:٢٧]، الله أخبر أن ظنهم الباطل لم ينزههم من النار، وقال: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [فصلت:٢٣]، وقال: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة:٧٨]، وقال: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ [المجادلة:١٨]، وقال: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف:٣٠]، وقال: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف:١٠٤ - ١٠٥].
قال: وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله ﷺ مما لا ينحصر في الكتاب والسنة.
انتهى من كتاب روضة الناظر.
يعني: أنه لا يلزم أن يكون معاندًا، بل قد يكون مجتهدًا بحث فيما يظنه الحق، لكن لأجل هواه، وإيثاره تقليد الآباء والأجداد، وعدم مخالفة الناس أو الملة التي أكثر الناس عليها آثر الباطل، وظن نفسه على الحق فهذا لا يعذر.
وقد ذكرنا من قبل أن أدلة صدق الرسول ﷺ كأدلة التوحيد سواء بسواء، أدلة كالماء والهواء يجدها كل من طلبها؛ فلا يتصور أن يكون المرء منصفًا باحثًا عن الحق بالفعل ثم لا يصل، وإن لم يصل فبسبب من قلبه ومن إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، كما قال تعالى: ﴿فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ﴾ [هود:١٠٩]، لا تظن أنهم يمكن أن يكونوا في مرية منه، أو هم منصفون في البحث عن الحق، وأن هذه هي نتيجة البحث المنصف، ليس هذا متصورًا أبدًا، إنما يقع ذلك بسبب الإعراض عن الحق بسبب إيثار الحياة الدنيا، وعدم الإنصاف في البحث عن الحق.
2 / 5
ثبوت الاختلاف لا يثبت تعدد الصواب
أما وقوع اختلاف التضاد بين المسلمين، وأن الحق واحد في قول أحد المجتهدين، ومن خالفه مخطئ في الأصول والفروع في العقائد والأعمال في الأمور العلمية والأمور العملية؛ فهو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ﵃، وعليه أئمة العلم.
يريد هنا إثبات وجود هذا الاختلاف، وأن الاختلاف في الأقوال المتضادة ليس كلها مما يسوغ الأخذ به، وهذا يهمنا في مسألة التلفيق بين المذاهب، يعني: هل التراث الإسلامي معناه: كل قول قيل أو وضع في كتاب من الكتب، بمعنى: أن المجتهدين اليوم اقتصر دورهم على فتح الكتب، واختيار المناسب لنا من تلك الأقوال المتضادة المتعارضة، وإن لم يجدوا في هذا المذهب يجدوا في هذا، على هذا ظنهم أن الاختلاف رحمة؛ لأن اختلاف التضاد واقع، وقول واحد هو الحق وما خالفه هو الباطل، هذا ينفي مسألة التلفيق، وأن الناس ليسوا في سعة.
نقول: الأصول والفروع والعقائد والأعمال هذه كلها مترادفات -وإن كان هذا الاصطلاح فيه نظر؛ إذ لا ينبغي أن تسمى الأصول بالعقائد، أو بالأمور العلمية، والفروع بالأمور العملية أو الأعمال.
الصحيح: أن الأصول هي ما بينه الرسول ﷺ من أصول الإيمان والإسلام والإحسان، فهذه كلها أصول، ومن الخطأ تأدبًا أن نسمي مسألة اعتقادية كمسألة هل الخضر نبي أو ولي؟ مسألة أصلية، ووجوب الصلوات الخمس نسميها مسألة فرعية.
وإن قلنا هذا الاصطلاح فلا مشاحة فيه، ولا بأس به، فقولنا: الأصول والفروع نحن نجري فيه معهم على اصطلاحهم، سواء في الأصول أو الفروع، سواء في الأمور الاعتقادية أو الأعمال، فالمجتهد المصيب واحد ومن خالفه مخطئ، وهذا عليه الكتاب والسنة والإجماع وأئمة الأمة، وإن اختلف عنهم في النقل، وستجد هذه المسألة مذكورة في كتب الأصول كلها في باب الاجتهاد، كما سنجد من العلماء من يقول: عندنا في المسألة قولان، والذي يتأمل الأقوال يجد أنه لا يوجد اختلاف في الحقيقة، وأن هناك إجماعًا بين أهل العلم في المسألة، ولكن يقصدون بالمصيب أنه قد أدى ما عليه، وأصاب فيما فعل، بمعنى أنه بذل جهده، لا أنه أصاب الحق الذي هو عند الله، أو أن الحق متعدد كالواجب المخير؛ فحتى وإن اختلف عنهم النقل إلا أن الصحيح من مذاهبهم وقوع هذا النوع، وهو الذي لا يشك فيه من نظر إلى أقوالهم ومناظراتهم، وتخطئتهم بأقوال مخالفيهم إما يقينًا وقطعًا فيما كان دليله قطعيًا، وإما ظنًا فيما كان دليله ظنيًا، ولا شك أننا نجزم بوجود نوعين من الأدلة القطعية والظنية، وبناءً عليها سنحكم على المخالف بأنه مبتدع، أو القول المخالف بدعة، أو أن المخالف قوله خطأ فقط، وهذه الأدلة أيضًا ذكرها ابن قدامة في الاستدلال لهذا المذهب: المصيب واحد ومن خالفه مخطئ.
قال تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء:٧٨ - ٧٩]، هذه الآية مهمة جدًا في إثبات وجود خلاف التضاد في المسائل الاجتهادية، وأن كل مجتهد مصيب وهو واحد، ومن خالفه مخطئ، ومع ذلك لا يذم من خالفه إذا كان قد أدى وسعه؛ لأن الله أثنى على داود وسليمان، وبين أنه فهمها سليمان في قصة معروفة: وهي أن أناسًا كان لهم زرع، وكان الآخرين غنم، فنفشت وسرحت الغنم بالليل وأكلت الزرع، فقضى داود ﵇ بينهم: بأن يأخذ أصحاب الزرع الغنم بديلًا عنه؛ لأن قيمة الغنم كانت تساوي قيمة الزرع، فخرجوا إلى سليمان ﵇، فقضى بأن يأخذ أصحاب الزرع الغنم حتى يصلح أصحابه ما أفسدته غنمهم فيأخذون من ألبانها طول تلك المدة إلى أن تصلح الأرض فتعاد إليهم ويعود الغنم إلى أصحابه، قال تعالى: «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ»، بحكم أنهما مختلفان.
قال: فلو استويا في إقامة الحكم لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى، والآية تدل على أن المجتهد الذي بذل وسعه في البحث عن الحق فأخطأه يرفع عنه الإثم، بل يثاب على اجتهاده؛ لأنه سبحانه مدح كلًا منهما وأثنى عليه بقوله: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء:٧٩].
قال النبي ﷺ: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)، رواه مسلم.
قال ابن قدامة: وهو حديث تلقته الأمة بالقبول، من رواية مسلم التي لم ينازع فيها، ومع أنه من خبر الواحد لكنه تلقي بالقبول من الأمة ولم ينكره أحد فهذا يفيد العلم القطعي بصحة نسبته إلى النبي ﷺ.
يقول: وهو صريح في أنه يحكم باجتهاده فيخطئ ويؤجر دون أجرًا المصيب.
إذًا: هناك مجتهد مصيب ومجتهد مخطئ، أما المصيب فإنه يأخذ أجران، وأما المخطئ فإنه يأخذ أجرًا واحدًا.
انتهى كلام ابن قدامة.
والحديث يرد على القاعدة؛ لأن الرسول ﵊ قسم المجتهدين إلى نوعين عند الاجتهاد؛ أحدهما مصيب والآخر مخطئ، وهذا صريح جدًا في انقسام الاجتهاد إلى خطأ وصواب.
2 / 6
القضاء بحكم نافذ لا يمنع من احتمال وقوع الخطأ فيه
قال النبي ﷺ: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار)، متفق عليه.
فالحكم هنا سيكون واحدًا، والحاكم سيحكم بالظاهر، على سبيل المثال: إذا أتى اثنان من الشهود يشهدان أن فلانًا قتل فلانًا عمدًا -والظاهر أنهم عدول- فإن القاضي سيحكم بالظاهر وهو القصاص، فاقتص أهل القتيل، ثم جاء الشهود وقالوا: نحن كنا مخطئين، أو تبين أنهم كذبة، ففي باطن الأمر أن هذا الأمر ليس بحق، وإن كان القاضي أصاب لأنه حكم بالشهود، فهو أصاب في الحكم وأخطأ في الفتوى، وخطؤه سببه الشهود الذين أخطئوا في ذلك.
فالرسول ﷺ يبين أن الحكم في الظاهر وإن كان موافقًا لظاهر الشرع لا يغير الأمر في الباطن، فيقول: (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقضي له بقطعة من النار)، فهو يبين أنه يحكم في الظاهر بأمر، ولعل باطن الأمر يكون خلاف الحق، وهو حكم به لوجود الشهود والأدلة، أو وجود اليمين، كمن قال: هذا الشيء ملكي، والثاني قال: بل هو لي، فقيل له: هات الشهود، فقال: لا يوجد عندي شهود، فقيل: احلف، فحلف، فالحاكم سيحكم بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فيكون الرجل أنكر وحلف يمينًا يستحق به ذلك الشيء، وهو بينه وبين الله كذاب، فالرسول ﵊ يبين لنا أن هذا لن يحل له الحرام، فهذا دليل على أن هناك خطأ وصوابًا في الفتوى كما في الحكم.
قال ابن قدامة: أما الإجماع: فإن الصحابة ﵃ اشتهر عنهم في وقائع لا تحصى إطلاق الخطأ على المجتهدين، من ذلك قول أبي بكر ﵁ في الكلالة: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان.
والكلالة: هو من مات ولا ولد له ولا والد، هذا تفسير أبو بكر لها، وهناك اختلاف: هل الكلالة من لا ولد له فقط، أو من لا ولد له ولا والد، وعامة العلماء يوافقون قول أبي بكر، وأما عمر ﵁ فكان مترددًا فيه، وظل يقضي بقضاء أبي بكر، وكان ينوي تغييره إلى أنه من لا ولد له فقط، بمعنى: أنه يمكن أن يرث الأخ مع الأولاد، مع أن الآية صريحة جدًا ويوجد إجماع على ذلك، والرسول ﷺ لما سأله عمر عن الكلالة عدة مرات قال: (تكفيك آية الصيف) وهي آخر سورة النساء، فـ أبو بكر ﵁ اجتهد في الكلالة ووافقه عامة العلماء على أن من ليس حوله أحد من عمود النسب لا من أصله ولا من فرعه، فإنه يرثه الكلالة وهم من حوله من الإخوة والأقارب الأخر: ﴿إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء:١٧٦]، أي: ولا والد، بدلالة أن الأخت لا ترث في وجود الأب ولا الإخوة لأم باتفاق العلماء، فهي فعلًا كافية في أن أقرب العصبة الأب، وبالتالي فلا يرث الإخوة في وجود الأب بالإجماع.
قال: وجه ذلك اجتهادًا منهم، ويقول: إن يكن صوابًا وإن يكن خطأ.
وعن ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق مثل ذلك، وهي المرأة التي توفي عنها زوجها ولم يكتب لها صداقًا ولم يدخل بها، فقال ابن مسعود: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، لها صداق من جهة لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، وعليها العدة، فقال معقل بن كنان: قضى رسول ﷺ في امرأة منا بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به، فما فرح ابن مسعود ﵁ بشيء مثل فرحه بهذا الحديث، فـ ابن مسعود قبل أن يقضي كان لا يعرف الحديث، وقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأ فمني، فكان عنده أن الاجتهاد يحتمل خطأ وصوابًا.
وقال عمر ﵁ في كتابه: اكتب هذا ما رآه عمر، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر، وقال في قضية قضاها: والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ؟ أي: لا يدري على وجه الجزم، لكنه اجتهد وبذل غاية وسعه، ولا يدري بعد ذلك على وجه الجزم أصاب هو أم أخطأ؟ وغلب على ظنه أن هذا هو الصواب.
ذكره الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه.
وقال علي لـ عمر في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ما في بطنها، ذلك أن عمر ﵁ أرسل لها في أمر، فأرعبت المرأة فأجهضت ما في بطنها، ويحتمل أنها أحدثت شيئًا فبعث إليها يستكشف الأمر فخافت، فاستشار عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان فقال عبد الرحمن: لا شيء عليك، إنما أنت مؤدب، وأنت بعثت لها لترى هل هي تستحق التعزير أم لا، فكونها خافت لا شيء عليك، فقال علي: إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطأ، وإن يكونا ما اجتهدا فقد غشاك، عليك الدية، فرجع عمر إلى رأيه، وألزم نفسه الدية لأنه أخاف هذه المرأة لما بعث لها بهذه الطريقة التي فيها نوع من التخويف، فـ عمر وعثمان وعبد الرحمن وعلي بن أبي طالب كلهم يقولون نفس الكلام، فلا يطلب إجماع أكثر من ذلك.
وقال علي في إحراق الخوارج -كذا قال ابن قدامة: ولعله يعني الرافضة الغلاة: لقد عثرت عثرة لا تنجبر سوف أريش بعدها أو أستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر والمشهور الصحيح عنه أنه حرق الرافضة الذين قالوا أنه هو الله، فقال: ويحكم أنا رجل مثلكم، فأصروا على ذلك، فتوعدهم أن يحرقهم بالنار، فأصروا على ذلك، فقالوا: الآن علمنا أنك ربنا؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، وهذا طبعًا كلام اليهودي عبد الله بن سبأ، وطلبه علي بن أبي طالب فما أدركه، لكنه أدرك أتباعه الذين هم أمثال العلويين حاليًا الذين يقولون: علي هو الله، فـ علي أدركهم في زمنه وحرقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس وكان قد فارق عليًا في ذلك الوقت وذهب إلى مكة، فقال: لو كنت مكانك لما أمرت بحرقهم؛ لأن النبي ﵌ قال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، ولأمرت بقتلهم لقول النبي ﷺ: (من بدل دينه فاقتلوه)، فقال علي ﵁ لما بلغه قول ابن عباس: ويح ابن عباس، لو أخبرني قبلها وقال: لقد عثرت عثرة لا تنجبر.
أي: عندما حرقتهم بالنار.
سوف أريش بعدها أو أستمر.
أي: سوف أتوقف بعدها أو أستمر.
وأجمع الرأي الشتيت المنتشر.
يعني: لن أعمل أي شيء حتى آخذ الآراء وأستشير، وهو أصلًا قال لـ ابن عباس: لقد عثرت على خطأ من الأخطاء، لكن أنا لما رأيت أمرًا فظيعًا منكرًا أججت ناري ودعوت قنبرًا -وهو غلامه- لكنني من شدة الأمر ذهلت عن عدم جواز التحريق بالنار.
وقال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد؟! يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أبا الأب أبًا، وهذا في مسألة توريث الجد مع الإخوة، وابن عباس ﵁ وأرضاه كان يرى رأي أبي بكر: أن الإخوة لا يرثون مع الجد؛ لأنه أب، والأب باتفاق لا يرث معه الإخوة شيئًا، أما عمر ﵁ وزيد بن ثابت فرأيا توريث الإخوة مع الجد، مع أنهم متفقون على أنه لو كان هناك ابن ابن مع الإخوة فإن الإخوة لا يرثون شيئًا، والحفيد يحوز المال كله، فالقياس يقتضي أن أبا الأب يلحق بالأب مثلما أن ابن الابن يلحق بالابن، فـ ابن عباس يقول: ألا يتقي الله زيد؟! فهذا دليل على الإنكار على من خالف القياس الجلي، مع أن هذه المسألة فيها خلاف سائغ، ولكن ابن عباس يرى أن المسألة فيها قياس جلي جدًا، ووافقه أبو حنيفة ﵀ على أن الجد هو الذي يحوز الميراث ولا يرث الإخوة شيئًا، والجمهور يقول بقول زيد وعمر بن الخطاب ﵄ أن الجد يرث مع الإخوة.
فهذه الآثار فيها الإنكار على من خالف الدليل الواضح، وسيستدل بها مرة ثانية على إثبات وجود الخلاف غير السائغ عند من وضح له الدليل وأصبح لديه قياس جلي ينكر على من خالفه ويراه قد أخطأ.
وقال ابن عباس: من شاء باهلته في العول، وكان لا يرى العول في المواريث، ومحله حين تزيد الأنصبة المفروضة على الواحد الصحيح، فيكون البسط أكثر من المقام؛ فجمهور الصحابة منهم زيد وغيره يرون أن يجعل البسط مقامًا، فيأخذ كل واحد نصيبًا أقل من نصيبه بالنسبة لمجموع الأنصبة.
أما ابن عباس فكان يرى أنه من كان يرث في كل حال يبدأ به، ولا يمتنع ميراثه كالابن والابنة والزوج والزوجة، وهذا قول مخالف لعامة العلماء، وكل العلماء هجروه، فـ ابن عباس يقول: من شاء باهلته عند الحجر -أي: أن يجعل لعنة الله على الكاذبين- أن هذا ليس من الشرع، مع أن الراجح والله أعلم أنه أخطأ في ذلك، والحمد لله لم تحصل مباهلة.
وسفيان أيضًا كان مستعدًا للمباهلة في مسألة رفع اليدين في التكبير في الصلاة عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه، فالذي عنده أن سبعة عشر صحابيًا يرويها عن النبي ﵊، وهو مستعد لمباهلة من يقول: لا ترفع اليدين.
وقالت عائشة: لمولاة زيد بن أرقم: إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى ا
2 / 7
أنواع الدلالات في النصوص
ذكرنا أن من أدلة وجود الاختلاف بين البشر قول الله ﷿: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران:١٠٥]، وقلنا: إننا سنأخذ من هذه الآية الضابط في بيان الاختلاف الذي ذمه الشرع، وهو ما يخالف البينات، والبينات هي إما نص من كتاب أو سنة صحيحة، ومعنى كلمة نص: ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، ولا نقصد بذلك ورود متن معين، فقد تكون هناك آية يختلف الناس في فهمها، وقد يكون هناك حديث صحيح يختلف الناس في فهمه، أو عدة أحاديث صحيحة يختلف الجمع فيما بينها، فيكون في الباب أو المسألة الواحدة عدة نصوص ليس واحد منها نصًا، بمعنى أنه ليس هناك دليل واحد قطعي الدلالة، وبعضه قد يكون ظني الثبوت أصلًا مثل الحديث المختلف في صحته، فالبعض يصححه والبعض يضعفه، وتكون دلالته دلالة قاطعة، وليس ثبوته ثبوتًا قطعيًا فيكون بمنزلة النص.
مثال ذلك: حديث عبادة بن الصامت في مسألة القراءة خلف الإمام في صلاة الجماعة: المسألة فيها عدة أدلة قرآنية، منها: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف:٢٠٤]، احتج به من يقول بعدم جواز القراءة خلف الإمام، وهناك حديث: (إذا قرأ الإمام فأنصتوا)، وحديث: (قراءة الإمام قراءة للمأموم)، وحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وحديث: (من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فلا صلاة له)، وهناك أحاديث كثيرة جدًا تدل كل منها على المطلوب دلالة ظاهر قابل لأن يؤول، أو عموم قابل لأن يخصص، وفي الباب حديث عبادة بن الصامت: (أن رسول الله ﷺ قال في صلاة الصبح لمن سمعه يقرأ خلفه: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: إنا لنفعل، قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)، فهذا دلالته دلالة نص في أن المأموم يقرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية؛ لأن هذه صلاة جهرية لا يصح فيها ما قاله الإمام أحمد: يقرأ في السرية ولا يقرأ في الجهرية؛ لأن حديث عبادة في صلاة الفجر، إذًا: لا يصح أن تحمل الحديث على شيء غير الذي ورد فيه، ثانيًا: لا يصلح أن نقول: هذا للمأموم؛ لأن أبا حنيفة يقول في حديث: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج خداج خداج) يقول: هذا للإمام والمنفرد، ولا يصح الاستدلال بهذه الرواية؛ لأن الخطاب فيها للمأمومين، والحديث دلالته دلالة نص، لكن ثبوته ليس ثبوت نص؛ لأنه ليس متفقًا على صحته، ولا متلقى بالقبول، ومن العلماء من يقبل رواية محمد بن إسحاق، ومنهم من يردها، ومنهم من يقول: صرح بالتحديث، ومنهم من يقول: هذه الرواية شاذة مخالفة للأدلة، ومنهم من يقول: هذا منسوخ، ومنهم من يقول: حديث أبي هريرة أقوى منه، من أجل هذا قلنا: هذه مسألة اجتهادية.
دلالة الكلام على المعنى لها أربع مراحل: دلالة نص، ودلالة ظاهر، ودلالة إجمال، ودلالة تأويل.
أي: أن درجة وضوح المعنى من اللفظ المتكلم به عند سماعه: إما دلالة لا تحتمل غيرها.
واللفظ يدل على هذا المعنى فقط ولا يدل على غيره، فهذه اسمها دلالة نص، وهذه المرادة في هذا الموضوع، كقوله في صيام في من لم يجد الهدي: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة:١٩٦]، فسبعة وثلاثة مؤكدة على أن تلك عشرة كاملة، لا تحتمل تسعة ولا أحد عشر ولا أي عدد آخر، فهذه دلالة قاطعة ونص على أنه يلزم سبعة وثلاثة.
أما دلالة ظاهر فهي محتملة تؤول، كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة:٢٨٢]، الظاهر من الأمر الوجوب، والأمر يستعمل في غير الوجوب، فيستعمل في الاستحباب، والإباحة، والتهديد، والتسوية وغير ذلك.
مثل: «اعملوا ما شئتم»، ﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ [التوبة:٦٤]، هذا أمر تهديد، ﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الطور:١٦]، هذا أمر للتسوية، ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ [المائدة:٢]، هذا أمر للإباحة، ونحن نقول: ظاهر الأمر الوجوب، ولكن يحتمل غيره، فدلالة الظاهر قابلة لتأويلها، إذا دل دليل من خارجها على أن هذا ليس المقصود، فيحمل على معنى آخر مرجوح لكنه قابل لأن يحتمل.
أي: أنه لا يقال: يجب كتابة الدين قطعًا للنص، مع أن الخلاف في هذا سائع؛ لأن الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة:٢٨٢]، فنقول: هذه دلالة ظاهر، وأنا معكم في أن ظاهر الآية هكذا، وأن الفريق الآخر هو الذي يحتاج إلى أن يأتي بدليل، ولكني أخالف في أن هذه دلالة قطعية، بل هي دلالة ظنية، وبالتالي فمن يخالف ليس مخالفًا للنص، وبالتالي لن أخرجه من الخلاف السائغ.
ولا يأتي أيضًا من يقول: الخلاف في مسألة الشرب قائمًا خلاف غير مقبول نهائيًا، بعدما ثبت عن الرسول ﷺ النهي عن الشرب قائمًا، لكن هذا النهي قابل لأن يكون نهي تنزيه وليس للتحريم، فدلالة النهي هنا ليست قاطعة على التحريم، إلا أن ينقلها إلى القطع إجماع أو نص آخر.
ولا يأتي آخر ويقول: أقيموا الصلاة أمر ظاهر الوجوب يحتمل الاستحباب بدلالة اللغة، أقول له: لو دلت اللغة فقط لصح قولك، لكن الأمر نقله من كونه ظاهرًا إلى كونه نصًا إجماع الأمة المتواتر نقلًا عن رسول الله ﷺ أنه أوجب الصلوات الخمس، وأن الذي يخالف في ذلك كافر، فمن يقول: صلاة الصبح سنة، والذي يقول: إن الظهر ليس أربع ركعات كافر وليس فقط مخطئ؛ لأن هذا متواتر بين المسلمين، وبالتالي نقول: إن الدلالة هنا دلالة ظاهر من جهة اللغة وتحتمل غير ذلك، لكنها صارت كدلالة النص بالإجماع المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة، وهناك كثير جدًا من المسائل رفعت فيها الدلالة من درجة الاحتمال إلى درجة القطع بسبب الإجماع؛ لأن البعض يقول: لا يمكن الوصول إلى الإجماع، ولا يقيد، ولا نحتاج إليه في الشريعة.
وهذا كلام خطير جدًا، مثال ذلك: لو قال قائل: إن طاعة الرسول ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، وأي شيء في السنة مستحب.
فنقول: هذا قول مجمع على بطلانه لقوله: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء:٥٩] وهو أمر بالوجوب.
فالإجماع هو الذي يمكن أن ينقل الدلالة من دلالة ظاهر إلى دلالة نص.
2 / 8