ولمّا تسلّم التتر قلعة حلب صلحًا على ما سيأتي ذكره في موضعه من هذا الكتاب فأخربوها أحرقوا الجامع المذكور مع أماكن أخر وذلك في تاسع ربيه الأوّل سنة ثمان وخمسين. ولمّا عادت التتر إلى حلب في المرّة الثانية وجدوا أهل حلب قد بنوا بالقلعة برجًا للحمام فأنكروا عليهم بناءه وأخربوا القلعة حتّى لم يُبقوا بها أثرًا وأحرقوا المقامَيْن حريقًا لا يمكن جبره وذلك في أحد الربيعَيْن من سنة تسع وخمسين وستّمائة.
ولمّا أُحرق المقام الّذي هو الجامع عمد سيف الدين أبو بكر بن إيلبا الشحنة بالقلعة المذكورة على الذخائر وشرف الدين أبو حامد بن النجيب الدمشقيّ الأصل الحلبيّ المولد إلى رأس يحيى بن زكريّاء عم فنقلاه من القلعة إلى المسجد الجامع بحلب فدفناه غربيّ المنبر وعُمل له مقصورة وهو يُزار.
وكان بهذه القلعة جرس كالتنّور العظيم معلّق على برج من أبراجها الّتي من غربيّها كانت الحرّاس تحرّكه ثلاث دفعات في الليل دفعة في أوّله الانقطاع الرجل عن السعي وأخرى في وسطه للبديل وأخرى في آخره للإعلام بالفجر وعُلّق هذا الجرس على القلعة في سنة ستّ وتسعين وأربعمائة والسبب في تعلقه ما حكاه منتجب الدين يحيى بن أبي طيء النجّار الحلبيّ في تأريخه أنّ الفرنج لمّا ملكوا أنطاكية في سنة إحدى وتسعين وأربعمائة طمعوا في بلاد حلب فخرجوا إليها وعاثوا في بلادها وملكوا معرّة النعمان وقتلوا من فيها فخافهم الملك رضوان بن تاج الدولة تُتُش لعجزه عن دفعهم عن البلاد ومنعهم فاضطُرّ إلى مصالحتهم فاقترحوا عليه أشياء كثيرةً من جملتها أن يحمل إليهم في كلّ سنه قطيعةً من مال وخيل وأن يتعلّق بقلعة حلب هذا الجرس ويضع صليبًا على منارة الجامع وقبّح عليه ذلك. فراجع الفرنج في أمر الصليب إلى أن أذنوا له في وضعه على الكنيسة العظمى التي بنتها هيلاني أمّ قسطنطين فلم يزل عليها إلى أن حاصرت الفرنج حلب ابن الخشّاب المذكور أربع كنائس وصيّرها مساجد من جملتها الكنيسة العظمى ورمى بالصليب.
وأمّا الجرس فإنّه لم يزل معلّقًا إلى أن ورد حلب الشيخ الصالح أبو عبد الله ابن حسّان المغربيّ فسمع حركة الجرس وهو مجتاز تحت القلعة فالتفت إلى من كان معه وقال: ما هذا الّذي قد سمعتُ من المنكر في بلدكم؟ هذا شعار الفرنج. فقيل له: هذه عادة البلدة من قديم الزمان. فازداد إنكاره وجعل أصبعَيْه في أذنَيْه وقعد إلى الأرض وقال: الله أكبر الله أكبر. وإذا بوجبة عظيمة قد وقعت في البلد فانجلت عن وقوع الجرس إلى الخندق وكسره وذلك في سنة سبع وثمانين وخمسمائة. فجُدّد بعد ذلك وعُلّق مرةً ثانيةً فانقطع لوقته وانكسر وبطل من ذلك اليوم.
قال كمال الدين أبو القاسم عمر المعروف بابن العديم في ترجمة هذا الرجل محمّد بن حسّان بن محمّد أبو عبد الله وأبو بكر المغربيّ الزاهد رجل فاضل مقرئ محدّث وليّ من أولياء الله تع: قدم حلب ونزل بدار الضيافة بالقرب من تحت القلعة وكان من الموسرين المتسوّلين ببلاد المغرب فترك ذلك جميعه وخرج على قدم التجريد وحجّ إلى بيت الله الحرام ثمّ قدم حلب ورحل منها إلى جبل لُبنان وساح فيه وقيل إنّه مات فيه ولم يُذكَر وقت وفاته ﵀.
الباب التاسع في
ذكر المزارات الّتي في باطن حلب وظاهرها
من ذلك مشهد بسوق الحدّادين يُعرَف بعليّ عم رُؤي في النوم يصلّي فيه مرارًا ويديم التردّد إليه وهو موضع يستجاب فيه الدعاء.
1 / 17