مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعه واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد، فإن هذا الكتاب العظيم الذي نقدمه اليوم في نشرة علمية جديدة ضمن مشروع «آثار الإمام ابن القيم الجوزية» من الكتب الأصول للإمام ابن القيم، وهو في مرتبة «زاد المعاد»، و«الصواعق المرسلة»، و«مدارج السالكين»، و«طريق الهجرتين»، و«إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان»، ونحوها. فهذه كلها منظومة علمية واحدة، غايتهاالدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنةفي العقائد والأعمال، وإصلاح ما أصاب حياة المسلمين العلمية والعملية من زيغ أو فساد على أيدي الفلاسفة والمتكلمين ومقلدي الفقهاء والمتصوفة المنحرفين. وذلك عنوان مهمة التجديد والإصلاح التي قام بها شيخ الإسلام ابن تيمية، وآزره فيها وسار على خطاه تلاميذه، ومن أبرزهم تلميذُه الإمام ابن القيم. وكتابنا هذا بما احتواه من مباحث الرأي والقياس والتقليد وحكمة التشريع وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان وسدّ الذرائع وأدب المفتي والمستفتي وما إلى ذلك=يُعَدُّ من كتب أصول الفقه، ولكنه يختلف عنها في ترتيبه ومنهجه وأسلوبه، بل في مادته الغزيرة من الاحتجاجات والردود في أبواب من الكتاب لا تلقاها مجموعة في كتاب آخر، ومسائل فقهية كثيرة جدًّا جاءت للتمثيل والتدليل، وخصّ بعضها بإطالة البحث والتفصيل. ثم الكتاب معرض آراء شيخ الإسلام وترجيحاته، وقد سماه المؤلف فيه في أكثر من مائة موضع، وبنى كثيرًا من المباحث على قواعده، وساق في أثنائه فصولًا طويلة من كلامه. فأصبح

المقدمة / 3

الكتاب بذلك كلِّه فريدًا في بابه، ومنهلا عذبًا لورّاده. ولم يبالغ السيد رشيد رضا إذ قال في وصفه: «لم يؤلِّف مثلَه أحد من المسلمين في حكمة التشريع ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى وما يتعلق بذلك، كبيان الرأي الصحيح والفاسد، والقياس الصحيح والفاسد، ومسائل الحيل، وغير ذلك من الفوائد التي لا يستغني عن معرفتها عالم من علماء الإسلام» (^١). وقد طبع الكتاب أول طبعة في دهلي (الهند) سنة ١٣١٣ - ١٣١٤ عن ثلاث نسخ خطية في مجلدين، ثم طبع في القاهرة سنة ١٣٢٥ في ثلاثة مجلدات على نفقة فخر التجار مقبل بن عبد الرحمن الذكير ﵀. وصدرت بعدهاعدّة طبعات أشهرها طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ﵀ سنة ١٣٧٤. ثم حقق الكتاب الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان، وصدرت نشرته سنة ١٤٢٣ في سبعة مجلدات عن دار ابن الجوزي بالدمام، وقد بذل جهدًا كبيرًا في إعداد هذه النشرة التي جمع فيهامقدمات الطبعات السابقة وقراءاتها وتعليقاتها، مع تصحيح أخطاء كثيرة من أخطائها. ولكن المحقق لم يوفَّق آنذاك للحصول على نسخ قديمة صحيحة، فاعتمد على نسخ متأخرة لا تصلح للاعتماد، ومن ثم لم يتمكن من إخراج نص الكتاب سليمًا من آفات التصحيف والتحريف. ويبدو للقارئ أحيانًا أن عناية المحقق بالتعليق والتخريج طغت على عنايته بتصحيح النص، فبقي المتن في مواطن كثيرة على خطئه مع وروده صحيحًا في نسخه الخطية أومصادرتخريجه. وبصرف النظر عما ذكرنا كانت خدمته للكتاب جيدة مشكورة، فجزاه الله خيرًا لقاء ما بذل واجتهد. _________ (^١) مجلة «المنار» المجلد ١٢ (١٩٠٩) ص ٧٨٦.

المقدمة / 4

أما هذه النشرة التي بين أيديكم، فأخرجناها عن سبع نسخ قديمة مكتوبة في القرن الثامن أو التاسع، وعُنينا حسب منهجنا بتحرير النص عناية بالغة، واستفدنا في خدمة الكتاب من جهود من سبقنا، ونرجو أن تكون هذه النشرة أصح وأقرب إلى ما وضعه المؤلف ﵀. ونأمل من العلماء والباحثين إذا وقعوا على زلل في قراءة النص أو التعليق عليه أن لا يُسْبِلوا عليه ذيل العفو، بل حقُّ الكتاب عليهم التنبيه والتصحيح، وحقُّهم علينا الشكر والتقدير. والحمد لله الذي وفّق وأعان على إنجاز هذه النشرة، وهو المسؤول أن يتقبلها بقبول حسن، وأن ينفع بها. وقد قدّمنا بين يدي النص دراسة للكتاب تشتمل على الفصول الآتية: - توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف - تحرير عنوان الكتاب - زمن التأليف - بناء الكتاب وموضوعاته - منهج المؤلف فيه - أهمية الكتاب وقيمته العلمية - موارد الكتاب - أثره في الكتب اللاحقة - مؤلفات ودراسات عن الكتاب - النسخ المعتمدة في هذه النشرة - الطبعات السابقة - منهجنا في هذه النشرة

المقدمة / 5

توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف كتابنا هذا من أشهر مؤلفات ابن القيم، ولم نر من دفع نسبته إليه أو شكّك فيها. وكيف يتطرق إليها الريب، وهي محفوفة بأدلة قاطعات وشواهد مؤكدات من داخل الكتاب وخارجه جميعًا؟ وإليك جملة منها: ١ - النسخ الخطية التي وصلت إلينا من الكتاب لم تختلف في اسم المؤلف، سواء ورد الاسم في صفحة عنوانها، أو في فاتحتها، أو خاتمتها. ٢ - الذين ذكروه في ثبت مؤلفات ابن القيم، بعضهم معدود من أصحابه وتلامذته، مثل صلاح الدين الصفدي الذي ذكره في كتابيه: «الوافي بالوفيات» (٢/ ٢٧١) و«أعيان العصر وأعوان النصر» (٤/ ٣٦٩)، ومثل شهاب الدين ابن رجب، وابنه زين الدين ابن رجب، ذكره أولهما في معجم شيوخه كما في «المنتقى» منه (ص ١٠١) والآخر في «ذيل طبقات الحنابلة» (٥/ ١٧٥). ومن أصحاب كتب التراجم الذين عدّوا الكتاب من مؤلفات ابن القيم غير تلامذته: الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة» (٣/ ٤٠٢)، والسيوطي في «بغية الوعاة» (١/ ٦٣) ومجير الدين العليمي في «المنهج الأحمد» (٥/ ٩٤) والداوودي في «طبقات المفسرين» (٢/ ٩٦) وابن العماد في «شذرات الذهب» (٨/ ٢٨٩). ٣ - أفاد من الكتاب علماء كثيرون من الحنابلة وغيرهم، وكلهم عزاه إلى ابن القيم، وسيأتي ذكر بعضهم في المبحث القادم ومبحث الصادرين عنه. ٤ - وقد أحال عليه ابن القيم نفسه في ثلاثة كتب من مؤلفاته، وهي «إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان» (١/ ٣٢)، و«التبيان في أيمان القرآن»

المقدمة / 7

(ص ٣٤٥)، و«الفوائد» (ص ١٠). أما «إغاثة اللهفان»، فذكر فيه قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٧ - ١٩]، ثم قال: «وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمَّناه من الحكم فى كتاب (المعالم) وغيره». والمقصود بكتاب المعالم كتابنا هذا كما سيأتي في المبحث القادم، والكلام على المثلين المذكورين وارد فيه (١/ ٣١٦ - ٣٢١). وأما كتاب «التبيان»، فجاء فيه قوله: «وقد بينا في كتابنا (المعالم) بطلان التحليل وغيره من الحيل الربوية بأسماء الرب وصفاته». وانظر هذا المبحث في كتابنا ه ذا (٣/ ٤٩١ - ٥٠٧، ٦٠٠ وما بعدها). وأما كتاب «الفوائد»، فافتتحه ابن القيم بقاعدة جليلة تكلم فيها على تفسير سورة ق والقرآن المجيد، فلما انتهى إلى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ [١١] قال: «أي مثل هذا الإخراج من الأرض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب خروجكم من الأرض بعدما غُيِّبتم فيها. وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا (المعالم)، وبينّا بعض ما فيها من الأسرار والعبر». وستجد كلامه على القياس المذكور في كتابنا هذا في (١/ ٣٠٥) وما بعدها. ٥ - كما أحال ابن القيم على هذا الكتاب في كتبه الأخرى، أشار فيه أيضًا إلى كتابين من مؤلفاته، وهما: كتاب «الفروسية»، و«بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال»، وذلك في قوله (٤/ ٤٣٥، ٤٣٦): «إذا أخرجَ المتسابقان في النضال معا جاز في أصح القولين،

المقدمة / 8