اعلام فکر اسلامی
أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث
اصناف
والسر لا يحسن نقله
وإلى هنا صفق الباشا والحاضرون، ثم عدنا للزجل المعتاد بما يطول ذكره، فإن الشيخ رمضان كتب من زجل هذا المجلس خمس كراريس، وكله محفوظ عندنا لم يضع منه شيء، وقد استمرت المناظرة ثلاث ساعات.» •••
ولقد سألت بعض من حضر هذا المجلس عما كتبه المترجم فأنكره، وأخبرني أنه تغالى فيما كتب، وذكر أناسا لم يكونوا حاضريه ، والله تعالى أعلم.
ثم اتصل المترجم بالتنونجي «بك» فجعله وكيلا على ضياعه، ثم لحق بالإسكندرية مسقط رأسه ومنبت غرسه، وكان منه ما سنقصه عليك.
تلك خلاصة ترجمته في أول أمره ومبتدأ خبره، وكان القطر المصري في أثناء ذلك في اضطراب، وهرج ومرج، من اختلال الأحوال، وفساد الحكام، واعتلاء الإفرنج على الأهلين، وقد سئم الناس حكم الخديو إسماعيل وتمنوا زوال دولته.
فلما وفد المترجم على الثغر رأى لفيفا من الشباب ألفوا جمعية «مصر الفتاة» يتآمرون فيها سرا خوفا من بطش الخديو، فعرف منهم البعض، واشتغل بالكتابة في صحف الأخبار، فأعجب الكتاب بمقالاته، واقتدوا به في تحسين الإنشاء، وكان سقيما منحطا في ذلك العهد، ثم سعى مع جمع من الأدباء، فألفوا جمعية سموها «الجمعية الخيرية الإسلامية» سنة 1296ه آخر سني إسماعيل في الحكم، وجعلوه مدير مدرستها، ثم عزل الخديو وتولى ابنه توفيق، ففرح الناس وظنوا انفراج الأزمة، وجد المترجم واجتهد في إنجاح مسعاه في الجمعية، حتى حمل الخديو على زيارة مدرستها، فزارها يوم امتحان تلاميذها، وجعلها تحت رعاية ولي عهده عباس، وفتحت لهم أبواب المدرسة البحرية ليدرسوا بها، وقررت الحكومة مائتين وخمسين دينارا في السنة مساعدة لهم.
وطفق المترجم يؤلف القلوب، ويحض الأهلين على الاتحاد بالمقالات والخطب، ينفثها قلمه ولسانه، وألف قصة سماها: «الوطن وطالع التوفيق»، وأخرى سماها: «العرب»، شرح فيهما ما كانت عليه حالة القطر وما طرأ عليه، ثم مثلهما هو وتلاميذه بأحد ملاعب الثغر بحضور الخديو، فكان لهما تأثير كبير في النفوس، واشتهر المترجم، وعلا كعبه، ولهج الناس بذكره.
ثم طرأ فساد على الجمعية نسبوه إليه فانفصل منها، وكان قد شرع في إنشاء صحيفة سماها: «التنكيت والتبكيت» مزج فيها الهزل بالجد، وظهر أول عدد منها في 8 رجب سنة 1298ه، وظهر في أثناء ذلك وميض الثورة العرابية من خلل الرماد، فوافقت هوى في نفس المترجم، وضمه قادتها إليهم، وشدوا أزرهم به، فملأ صحيفته بمحامدهم، ودعا إلى القيام بناصرهم، وخطب الخطب المهيجة، ونظم القصائد الحماسية، وندب الوطن ورثاه، وحض على الاجتماع والتكاتف ونبذ أضاليل الإفرنج، فأثرت قالته في النفوس وأشربتها القلوب.
وانتسب المترجم إلى الإمام الحسن السبط رضي الله عنه، وإن كان بعض من عرفوه ينكرونها، ثم أوقف صحيفته بعد أن ظهر منها ثمانية عشر عددا، آخرها تاريخه 23 ذي القعدة سنة 1298ه، وكانت أسبوعية تظهر يوم الأحد، وانتقل إلى القاهرة وهي جذوة من نار، وغير اسم صحيفته بأمر من عرابي كبير الثوار، فسماها: «الطائف» تيمنا باسم بلدة بالحجاز مشهورة، وتفاؤلا بأنها تطوف المسكونة كما جابتها جوائب «أحمد فارس»، واسترسل المترجم مع رجال الثورة حتى صار جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، ولقبوه بخطيب الحزب الوطني، وقام سراة القطر وأعيانه يعقدون المجتمعات ويولمون الولائم للعرابيين، ويدعون المترجم للخطابة، وكانت له بها المواقف المشهودة، والأيام المعدودة، حتى قامت الحرب بالإسكندرية بين الإنكليز والمصريين يوم الثلاثاء 25 شعبان 1299ه فسافر إليها مع جماعة من رؤساء الجند وبات بها ليلة، ولحق بعرابي وقد رجع إلى كفر الدوار، ثم انتقل معه إلى التل الكبير وهو ينشئ صحيفة «الطائف» بالمعسكر، فيضمنها أخبار الانتصار، ويحشوها بما فيه تهدئة للأفكار، حتى وقعت الوقعة الكبرى على المصريين بالتل الكبير، فجاء مع عرابي وعلي الروبي إلى القاهرة يوم الأربعاء 29 شوال من السنة المذكورة، واتفقوا على إرساله إلى الإسكندرية بكتاب يطلبون به مطلبا من الخديو. فسافر به يوم الخميس، ولما وصل إلى كفر الدوار بلغه القبض على زعماء الثورة ودخول الإنكليز القاهرة، فعاد إليها ليلا، وبقي في داره بجهة العشماوي إلى الصباح، وخرج مع والده وخادمه فركبوا عجلة وقصدوا بها بولاق، ورآه شاهين فؤاد المفتش بالمصرف العقاري وهو من مماليك القصر السابقين، فظنه غير مطلوب، ولولا ذلك لقبض عليه، وودعه أبوه عند وصوله إلى بولاق واختفى مع خادمه تسعة أعوام لا يهتدى لمكانه، حتى أعيا الحكومة أمره فجعلت ألف دينار لمن يرشد إليه. وبثت عليه العيون فلم يظفروا بطائل وأعيتهم الحيل، فحكم عليه بالنفي من القطر المصري مدة حياته، ويئس أصحابه من وجوده، وأشيع القبض عليه وخنقه أو موته حتف أنفه أو هربه إلى بلاد الإفرنج، ولا غرو إذا عد اختفاؤه من الأمور الغريبة فأمره غريب من أوله، وكان حين ودع أباه ببولاق قصد دار صديق له يدعى الشيخ مصطفى فأقام بها أياما، ثم غير زيه فلبس ثوبا من الصوف الأحمر (زعبوطا) واعتم بعمامة حمراء وسدل على عينيه منديلا، وأخفى شاربه، وأعفى لحيته، فتغيرت هيئته، ونزل مع خادمه في سفينة قاصدة «بنها» ومنها إلى «منية الغرقى» بقرب طلخا، وقصد الشيخ شحاتة القصبي من مشايخ الطريقة الصاوية كان أخذ عليه العهد، وكان مشهورا بالصلاح والتقوى، فلم يعرفه لتغير شكله، فجلس هنيهة حتى انصرف من في المجلس فعرفه حاله، وأقام عنده ثلاثا، ثم أشار عليه الشيخ بالانتقال معتذرا بكثرة الواردين، فتحول إلى دار أحد الدراويش الموثوق بهم فآواه شهرا، ثم قصد بلدة أخرى، وطوحت به الطوائح ولقي الأهوال.
وحدث أنه نزل مرة عند قوم فأخفوه في قاعة مظلمة يتوصل إليها من سرداب طويل شديد الظلمة، ترشح أرضها بالماء لانخفاضها وقربها من خليج مار بجانب تلك البلدة، وكان لا يتمكن من الكتابة والمطالعة إلا على مصباح صغير من زيت الحجر وهو الغاز أو الجاز كثير الدخان، فقاسى، الشدائد بهذا المكان تسعة أشهر، ولما خرج منه كاد لا يبصر الطريق لما غشي عينيه، وكان كلما حل أو ارتحل يغير اسمه وحليته، فتارة يبخر لحيته بالكبريت حتى تبيض ويخضبها بالحناء أخرى، وغير اسم خادمه حسين فسماه صالحا، وظنه الناس شيخا من الصلحاء، حتى لقي مرة بعض من يخشاه وحادثه فستره الله وشمله بعنايته حتى فارقه، ثم ألقت به يد الأقدار إلى بلدة «العتوة القبلية» في الغربية، فاختفى عند عمدتها الشيخ محمد الهمشري فأكرم مثواه، وأقام في داره ثلاث سنوات ونيفا، تزوج فيها وولدت له بنت وماتت ولم يشعر به أحد، وزوج خادمه حسينا بأخت زوجته، ثم مات في أثنائها رب الدار، وكان شهما ذا مروءة كبيرة، وله امرأة مثله شهامة ومروءة، فاستحضرت أكبر أولادها وأعلمته أن ضيفهم المختفي عندهم هو «عبد الله نديم» طريد الحكومة، وسألته: هل يطمع في الجعل ويسلمه، أو يكون كأبيه في حفظ الجار وحماية الذمار؟ فاهتز الولد لقولها وأبى إلا أن يقتدي بأبيه في الكرم، ولعمري إن ما آتته تلك الأسرة من مكارم الأخلاق وعلو الهمة لمما يندر مثله في هذا الزمن.
نامعلوم صفحہ