شكر وتقدير
تمهيد
الجزء الأول: تغلغل الأعداد في الخبرة البشرية
1 - الأعداد منسوجة في حاضرنا
2 - الأعداد منقوشة في ماضينا
3 - رحلة عددية حول العالم اليوم
4 - ما بعد مفردات الأعداد: أنواع أخرى من اللغة العددية
الجزء الثاني: عوالم بلا أعداد
5 - شعوب لا عددية معاصرة
6 - الكميات في عقول الأطفال الصغار
7 - الكميات في عقول الحيوانات
الجزء الثالث: الأعداد وتشكيل حياتنا
8 - اختراع الأعداد والحساب
9 - الأعداد والثقافة: نمط الإعاشة والرمزية
10 - أدوات تحويلية
ملاحظات
شكر وتقدير
تمهيد
الجزء الأول: تغلغل الأعداد في الخبرة البشرية
1 - الأعداد منسوجة في حاضرنا
2 - الأعداد منقوشة في ماضينا
3 - رحلة عددية حول العالم اليوم
4 - ما بعد مفردات الأعداد: أنواع أخرى من اللغة العددية
الجزء الثاني: عوالم بلا أعداد
5 - شعوب لا عددية معاصرة
6 - الكميات في عقول الأطفال الصغار
7 - الكميات في عقول الحيوانات
الجزء الثالث: الأعداد وتشكيل حياتنا
8 - اختراع الأعداد والحساب
9 - الأعداد والثقافة: نمط الإعاشة والرمزية
10 - أدوات تحويلية
ملاحظات
الأعداد وبناء الإنسان
الأعداد وبناء الإنسان
العد ومسار الحضارات الإنسانية
تأليف
كيليب إفريت
ترجمة
الزهراء سامي
مراجعة
هبة عبد العزيز غانم
إلى جيمي وجود، اللذين أثريا حياتي بطرق لا تحصى.
شكر وتقدير
لقد ساهمت الجائزة السخية التي منحتها مؤسسة «كارنيجي كوربوريشن أوف نيويورك» في إخراج هذا الكتاب إلى النور. أما البيانات والآراء الواردة فيه، فهي تعبر عني وحدي بالطبع.
إنني أكن الكثير من مشاعر الامتنان للإرشادات القيمة التي قدمها لي محرري، جف دين، في دار نشر هارفارد يونيفرسيتي برس، وأكن الكثير من مشاعر التقدير أيضا لمايكل فيشر الذي كان أول من رأى أن هذا العمل سيكون واعدا. وقد نال الكتاب فائدة عظيمة من التعليقات الوجيهة التي قدمها أربعة من المراجعين المرموقين؛ وأنا ممتن لكل واحد منهم لما بذلوه من وقتهم في قراءة المخطوطة الأولية. إن ما قدموه من تعليقات ونقد قد جعل الكتاب أفضل. وثمة عدد كبير من الباحثين اللامعين الذين ساهموا سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الأبحاث التي عرضها هذا الكتاب، والذين أتقدم لهم بجزيل الشكر. وإذا كنت أحد الأشخاص الذين يقومون بالأبحاث الرائعة التي يعتمد عليها هذا الكتاب، فشكرا لك على عملك.
لقد كتبت بعض أجزاء هذا الكتاب على متن سفينة «إم في إكسبلورر» في برنامج «سيمستر أت سي»، خلال الرحلات الطويلة في المحيط، والتي زاد من متعتها الأشخاص الذين التقيت بهم على تلك السفينة. وكتبت بعض الأجزاء أيضا في لاجوا دا كونسيساو، المحتجبة في منحدر تل من الفردوس. أما معظم أجزائه، فقد كتبت في جامعة ميامي، وهي مكان رائع للكتابة وإجراء الأبحاث. إنني أعمل هناك فقط لأنه قبل بضع سنوات، قامرت هيئة التدريس في قسم الأنثروبولوجيا على باحث صغير، كانوا قد قابلوه لأول مرة خلال توقف مؤقت في مطار ميامي الدولي. وأنا لا أزال ممتنا لهم على ذلك. ويجب الشكر أيضا لزملائي الآخرين في جامعة ميامي، والذين قد جعلوا تجربتي هناك تجربة رائعة. وقد شرفت أيضا بأن كان لي الكثير من الطلاب الرائعين في جامعة ميامي، والذين ناقشت معهم بعض الأفكار الواردة في هذا الكتاب.
لقد كان لوالدي كليهما بعض التأثير في هذا العمل بطريق مباشر وغير مباشر أيضا، وأرجو أن يكون ذلك قد اتضح في صفحات هذا الكتاب. إنني أشكرهما على ذلك وعلى جميع ما منحاني إياه، وهو ما أدرك أنني لا أستطيع أن أتذكر الجزء الأكبر منه. وسأظل ممتنا على الدوام لأختي الرائعتين وأسرتيهما المذهلتين، وإلى آل سكوتي أيضا. وأخيرا، لم يكن هذا الكتاب ليصبح ممكنا لولا زوجتي جيمي وابننا جود.
تمهيد
عن نجاح نوعنا البشري
البقاء على قيد الحياة ليس بالأمر السهل. وإذا كنت قد أقدمت من قبل على العيش في بيئة لا تخضع لنموذج المجتمع المعاصر، فالأرجح أنك قد أدركت هذه الحقيقة سريعا. إن الترحال بمفردك في إحدى الغابات الاستوائية مثلا، يطبع في ذهنك هذه الفكرة بعمق؛ فبخلاف الإرهاق الذي يسببه الهواء الخانق، والتعرق المصاحب له (أسلوب تكيفي ضعيف في الأماكن ذات الرطوبة الخانقة) إضافة إلى المتاعب الأخرى من البكتيريا والفيروسات والحشرات، والأنواع الأكبر حجما التي ربما تفترسك، سوف تجد أن مجرد الحصول على الماء والغذاء أمر شاق، أو محال تماما. وإذا أتيحت لك الفرصة في أن تتبع بعض السكان الأصليين الذين يقطنون الأدغال، وتسير خلفهم على الغطاء النباتي اللين الذي ينتشر في غابات الأمازون، فسوف تصبح واعيا تماما، إذا كنت تشبهني بأي حال من الأحوال، بمدى سرعة شعورك بالإنهاك من البيئة المحيطة، لولا معرفة هؤلاء الذين تتبعهم. إن جوليان كوبكه التي اشتهرت بنجاتها من تحطم طائرتها على بعد آلاف الأمتار فوق غابات بيرو عام 1971، قد أدهشت العالم حين نجت من الحادثة، وظلت وحدها على مدار تسعة أيام في الأدغال. ولأنها ابنة مراهقة لأبوين من علماء الأحياء كانا يعملان في الأمازون؛ فإن معرفتها بالنظام البيئي المحيط قد أنقذت حياتها، غير أنها لم تستطع الحصول على الغذاء خلال تجربتها القاسية، وكان من أنقذها في النهاية بعض الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمع محلي، ويقطنون بجوار أحد الأنهار.
إن معظم الأفراد الذين يكونون في وضعها، بمفردهم في إحدى الغابات، لا يتمكنون من النجاة، وينطبق الأمر نفسه على الذين يضلون طريقهم في غير ذلك من الأنظمة البيئية البدائية غير المألوفة. وتاريخ الملاحة في المحيطات يمتلئ بقصص المستكشفين الذين اضطروا إلى الاعتماد على الخبرة المحلية لمجتمعات السكان الأصليين، حين كانوا يرسون في بيئات طبيعية جديدة. أما «برامج الواقع» التي تعرض على التلفاز، والتي تقوم على أساس تصوير أفراد يعيشون في البرية دون مساعدة خارجية، فعادة ما يكون تنفيذها ممكنا لأن الناجي «المنعزل» الذي يجري تصويره مزود بالأدوات الأساسية، وهو يحصل على الدعم من فريق من المنتجين الذين أعدوه بطرق مختلفة للعيش في البيئات التي «سيترك فيها» مع طاقم الفيلم المزود بقدر كاف من المؤن. وبالرغم من أنه قد يكون أمرا مخزيا، فأنا أو أنت سنموت على الأرجح خلال أيام أو ربما أسابيع إن كنا أكثر حظا، إذا تركنا منعزلين في معظم الأنظمة البيئية الموجودة في العالم.
1
والأكثر غرابة من ذلك أن الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمعات السكان الأصليين، غالبا ما يواجهون صعوبات في بيئات يعرفونها جيدا، إذا تعرضوا مصادفة للعزلة؛ فضلال الطريق تحت مظلة الغابة قد يكون أقل خطرا نسبيا لسكان الغابات الاستوائية الأصليين على سبيل المثال، غير أنه يمكن أن يظل أمرا قاسيا. لقد سمعت عن بعض أفراد إحدى القبائل التي تعيش في الأمازون، وقد تعرضوا لخطر ضلال طريقهم في مكان غير بعيد عن قريتهم، ولم يتمكنوا من النجاة إلا بصعوبة بالغة، أو في بعض الحالات المؤسفة لاقوا حتفهم. ومثل هذه الحالات تؤكد لنا نقطة مهمة غالبا ما نهملها، وهي أن بقاء البشر على قيد الحياة هو أمر مرهون بالمعرفة المخزونة في مستودع الثقافة، والذي نصل إليه من خلال الوسائل اللغوية. إننا نعتمد في حياتنا اليومية على معارف لا نملكها نحن على وجه التحديد، وإنما يمكن لنا أن نستخلصها بسهولة من عقول الآخرين، وهي لم تتأت لهم إلا بصعوبة كبيرة، أو اكتسبوها مصادفة على مدار آلاف الأعوام في العديد من الحالات. فلتتأمل في بعض الأمثلة من ثقافتك الخاصة؛ إنك لم تضطر إلى اختراع السيارة، أو التدفئة الداخلية بالمنازل، أو الطريقة الأكثر كفاءة لتخلية صدور الدجاج من العظام، بل ورثت هذه التقنيات والسلوكيات؛ فلطالما اقتديت بالآخرين في أفعالك، وتعلمت منهم سلوكياتك، سواء بطريقة رسمية أو بطريقة غير رسمية، عن طريق اللغة. إن مجموع أنشطتنا اليومية، بما فيها تلك الأنشطة المتعلقة بالعمليات الأساسية، مثل تناول الطعام والنوم، تستند كليا إلى أفكار استقيناها من المحيطين بنا، الذين استقوها بدورهم من آخرين. وبالرغم من أن بعض الاحتياجات هي احتياجات حيوية محتومة، فإن ثقافتنا الأصلية هي التي تشكل الأسلوب الذي نتخذه في التعامل مع مثل هذه الاحتياجات. كل الاختراعات المادية والسلوكية التي تسهل حياتك، بداية من فرشاة الأسنان وحتى المصافحة بالأيدي، قد اخترعها إنسان آخر أو مجموعة أخرى من البشر. وأما الأفكار فإننا نرث منها أكثر بكثير مما نبدعه، وينطبق الأمر نفسه على أفراد ثقافات أخرى تختلف تماما عن ثقافتنا؛ فالصيادون في نيو غينيا لا يحتاجون إلى اختراع الأقواس والسهام حين تقتضي الحاجة، بل ورثوا هذه التقنية من خلال التدريس والمحاكاة. إن كل جيل في أي ثقافة يبني على معارف الأجيال السابقة، التي تكون قد اكتسبت في معظم الأحيان عن طريق الاكتشافات العرضية التي ربما قد تبعت أحداثا مؤلمة أو مهلكة؛ فالأقواس والسهام وغيرها من أدوات الصيد على سبيل المثال، لم تخترع في غمضة عين، بل تطورت على مدار القرون فيما راح الصيادون يدركون تدريجيا بعض المزايا التي تنقذ حياتهم، والتي تمتلكها بعض الأقواس والسهام دون غيرها؛ لأسباب معينة.
2
إن الأساليب التي نستخدمها للنجاة والتكيف، والتي تتحسن باستمرار، هي نتيجة «تأثير السقاطة الثقافي». يشير هذا المصطلح، الذي روجه اختصاصي علم النفس ودراسة الرئيسات من جامعة ديوك؛ مايكل توماسلو، إلى حقيقة أن البشر يتعاونون معا في الاحتفاظ بالمعرفة من جيل إلى الجيل التالي، مثل ترس السقاطة الذي يدور في اتجاه واحد ولا يمكن عكس اتجاه دورانه أبدا. وبعبارة أخرى، فإن نجاح نوعنا يعود بدرجة كبيرة إلى قدرة الأفراد على التعلم من السلوكيات النافعة التي توصل إليها أسلافهم أو معاصروهم في المجتمع، ومحاكاتها. إن ما يتميز به البشر، ليس أننا أذكياء فحسب، بل أننا لا نحتاج باستمرار إلى التوصل إلى حلول جديدة للمشكلات القديمة نفسها. إننا نعرف ما كان ناجحا في الماضي، وإن كنا لا نعرف دائما سبب نجاحه في الماضي؛ فكونك قادرا على إعادة تسخين شطيرة من البوريتو لا يعني أنك تعرف أي شيء عن كيفية تصميم جهاز الميكروويف أو الشبكة الكهربائية التي تمكنك من استخدامه.
3
إن أهمية الاكتساب التدريجي للمعرفة المخزونة في المجتمع والمتجسدة فيه ثقافيا، لكنها غير محصورة في عقل فرد واحد بعينه، تتبلور حين نرى حالات لثقافات قد اندثرت بأكملها تقريبا؛ لأن بعضا من معرفتها المخزونة قد تبدد بسبب موت أفراد قد كانوا عقدا أساسية في شبكة المعرفة الخاصة بالمجتمع؛ ففي حالة مجتمع الإسكيمو القطبي في نورث ويست جرينلاند، تضاءل عدد السكان في منتصف القرن التاسع عشر بعد وباء قتل عددا من كبار السن في المجتمع. وقد دفن هؤلاء المسنون ودفنت معهم أدواتهم وأسلحتهم؛ وفقا لتقاليد المجتمع، وتأثرت قدرة الإسكيمو على صنع هذه الأدوات والأسلحة، تأثرا سلبيا كبيرا. وقد أدى ضياع مثل هذه المعرفة وغيرها من المعارف، إلى عرقلة جهودهم في صيد الوعول والفقمات، وكذلك صيد أسماك المياه الباردة. ونتيجة لذلك، فإن عدد السكان لم يبدأ في التزايد إلا بعد قرابة أربعين عاما، وذلك عند تواصلهم مع مجموعة أخرى من الإسكيمو، مما سمح لهم باستعادة قاعدة المعرفة الخاصة بمجتمعهم البدائي. وعلى مدار التاريخ البشري، اندثرت ثقافات بأكملها بسبب عمليات تدهور مماثلة لخبرات أفراد هذه الثقافة المتعلقة بالنجاة، أو بسبب ضياع تقنيات مادية أساسية، لم يكن من الممكن نسخها بسهولة.
4
إن مثل هذه الحالات تنفي بصورة مباشرة ذلك المفهوم الرائج أو الأسطوري مثلما قد يسميه بذلك البعض، والذي يقول بأن البشر متفوقون لأنهم يتمتعون بذكاء فطري أكبر من ذكاء الأنواع الأخرى. والواقع أنها فكرة واهية لا يدعمها قدر كاف من الأدلة؛ فبالرغم من أننا أذكى من الأنواع الأخرى بالتأكيد، ولدينا بالفعل زيادة نسبية في حجم الدماغ (حجم الدماغ كبير مقارنة بحجم الجسم)؛ فقدراتنا الإدراكية الفطرية في بعض الجوانب، ليست متطورة بالقدر الذي كنا نظنه من قبل. إن العديد من سماتنا الفكرية المميزة، ليست متأصلة في جيناتنا، وإنما تعلمناها بطرق عديدة تستند إلى الثقافة. وبالرغم من أن الانتخاب الطبيعي قد أثمر بالتأكيد عن أدمغة بشرية مميزة، فالأمر المثير حقا بشأن نوعنا هو ما تمكنا من تحقيقه بهذه الأدمغة منذ بزوغ الثقافة. في هذا الكتاب، سأنضم إلى الكورال التصعيدي الذي يتكون من العلماء في مجال أصل الإنسان، وعلماء اللغة، وعلماء النفس، وغيرهم من العلماء الذين يؤكدون على هذه النقطة. حيث يؤكد هؤلاء العلماء أن الاختراعات القائمة على الثقافة، مثل اللغة، قد دشنت ثورة إدراكية وسلوكية في نوعنا. وأنا أقترح في هذا الكتاب أن مجموعة من الأدوات المفاهيمية تدعى «الأعداد»، وهي الكلمات وغيرها من الرموز التي تستخدم للإشارة إلى كميات محددة، هي مجموعة بارزة من الاختراعات المستندة إلى اللغة، والتي قد أسهمت في تميز نوعنا بطرق لم تكن تحظى بالتقدير الكافي. وكما سنرى، فالأعداد هي اختراعات بشرية غيرت البيئات التي نحيا فيها ونتطور، مثلها في ذلك مثل الطهي والأدوات الحجرية والعجلة. وبالرغم من أن العلماء في مجال أصل الإنسان وغيره من المجالات، طالما كانوا مولعين بالتركيز على مثل هذه الاختراعات ودورها في تغيير نص قصة البشرية، فإن دور الأعداد لم يحظ بالانتباه الكافي من قبل. والسبب الذي كان يشجع على عدم الاهتمام هو أمر بسيط للغاية: أننا لم نبدأ في إدراك حجم إسهام الأدوات التي تدعى «الأعداد» في إعادة تشكيل الخبرة البشرية، إلا الآن.
الجزء
تغلغل الأعداد في الخبرة البشرية
الفصل الأول
الأعداد منسوجة في حاضرنا
كم عمرك؟ منذ سن مبكرة، وإجابة هذا السؤال طوع بنانك بالمعنى الحرفي، والأرجح أنه لم يستغرق من تفكيرك سوى قدر ضئيل من الثانية لكي تتوصل إلى الإجابة. أيمكن فعلا أن يوجد سؤال أسهل من هذا؟ إن العديد من أوجه حياتك يتحدد بناء على عدد سنواتك؛ أيمكن لك قيادة سيارة بنفسك؟ حسنا، يتوقف ذلك على عدد السنوات التي عشتها. هل أنت راض عما تراه في المرآة؟ إن ذلك يتأثر على الأرجح بعمرك، بدرجة ما على الأقل، وبما تتوقع أن تراه في المرآة. أيجب عليك أن تعمل في وظيفة أكثر إشباعا لذاتك؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال دون معرفة عمرك. إن الإجابة عن هذه الأسئلة والعديد غيرها، والتي تمس صميم هويتك وخبراتك اليومية، لا يمكن معرفتها إلا بعد معرفة إجابة ذلك السؤال الأول البسيط. وهو سؤال عظيم الأهمية، ولا شك، بالنسبة إلى الأفراد الذين ينتمون إلى مصفوفتنا الثقافية.
بالرغم من ذلك، فنحن الذين نعزو أهمية كبيرة إلى أعمارنا، نجد أنه من الغريب أن يكون ذلك السؤال نفسه لا يعني أي شيء لأفراد بعض الثقافات الأخرى. وليس ذلك لأن أفراد هذه الثقافات يعجزون عن متابعة دوران الأرض حول الشمس، بل لأنهم لا يملكون الأدوات التي تمكنهم من تحديد كميات هذه الدورات بدقة. على سبيل المثال، لا تمتلك قبيلة موندوروكو من سكان الأمازون الأصليين أي كلمات محددة للأعداد فيما بعد العدد «اثنين». وفي حالة نظرائهم من قبيلة بيراها الأمازونية، فليس لديهم أي كلمات على الإطلاق للتعبير عن الأعداد، ولا حتى عن العدد «واحد»، فكيف يمكن إذن لمتحدثي هذه اللغات الإجابة عن سؤال «كم عمرك؟» وماذا أيضا عن غيره من الأسئلة القائمة على الأعداد، والتي تتناول جوانب أساسية للحياة بالنسبة إلى معظم سكان العالم؟ فلنتأمل بعض الأمثلة الأخرى: ما راتبك؟ وكم طولك؟ وكم وزنك؟ في عالم بلا أعداد، تصبح هذه الأسئلة عديمة الجدوى؛ إذ لا يمكن سؤالها ولا الإجابة عنها. لا يمكن صياغة هذه الأسئلة ولا إجاباتها المحتملة في الثقافات اللاعددية، ليس بالدرجة الأدنى من الدقة على الأقل. وعلى مدار الجزء الأكبر من تاريخ نوعنا البشري، كانت جميع الثقافات البشرية ثقافات لا عددية. إن الأعداد: التمثيل اللفظي والرمزي للكميات، قد غيرت أحوال البشر تغييرا جذريا. وفي هذا الكتاب، سوف أستكشف مدى هذا التحول، والذي لم يحدث إلا مؤخرا، وهو أمر لافت للنظر. سوف أركز كذلك على قدرة الأعداد المنطوقة على إحداث التغيير، لكنني سأتناول أيضا دور الأعداد المكتوبة. ومن أجل وضوح المصطلحات، فإنني أشير إلى الأعداد المنطوقة باسم «الأعداد،» وأشير إلى الأعداد المكتوبة باسم «الأرقام». وعند الإشارة إلى الكميات المجردة التي تصفها الأعداد، فإنني أستخدم الرموز مثل 1 و2 و3 و4 وما إلى ذلك.
خلال العقد الأخير، أجرى علماء الآثار وعلماء اللغة وعلماء النفس وغيرهم من العلماء، قدرا هائلا من الأبحاث عن الأعداد والأرقام، ومن تلك الأبحاث تبدأ كتابة قصة جديدة للأعداد، وهي القصة التي نرويها في هذا الكتاب. وباختصار، تسير القصة على هذا النحو: بالرغم مما كنا نعتقد من قبل، فإن الأعداد ليست مجرد مفاهيم تتولد لدى الأفراد بصورة تلقائية وفطرية. وبالرغم من أن الكميات ومجموعات العناصر يمكن أن توجد مستقلة، بعيدا عن خبرتنا العقلية، فالأعداد ابتكار من العقل البشري، واختراع معرفي قد غير كيفية إدراكنا للكميات وتمييزها إلى الأبد. وربما يكون هذا المفهوم مناقضا للبديهة بالنسبة إلى العديد منا، نحن الذين قد عشنا حيواتنا بأكملها في وجود الأعداد، وقد اقتنعت بها خبرتنا العقلية منذ الطفولة. بالرغم من ذلك، فالأعداد تشبه اختراعا رمزيا آخر مهما لنوعنا البشري ومرتبطا به، وهو اللغة، في أنها ابتكار يختلف باختلاف الثقافة. غير أن الأعداد تختلف عن اللغة في أنها لا توجد لدى بعض الجماعات السكانية في العالم؛ إنها ابتكار يترك أثرا لا يمحى بشأن الطريقة التي يفسر بها معظم الأفراد، وليس جميعهم، خبراتهم اليومية. وهذا التأثير الذي لا يمحى، يكمن في صميم القصة التي يرويها هذا الكتاب؛ فسوف نستكشف فيه كيف كانت الأعداد، وهي أحد الابتكارات الأساسية على مدار تاريخ نوعنا البشري، بمثابة حجر صوان قد أضاء التاريخ البشري.
تتضمن القصة العديد من الأجزاء، وفي جزء لاحق من هذا الفصل، سأوضح الطريقة التي يحاول بها الكتاب أن يخطو من جزء إلى آخر، على طريق متماسك يؤدي إلى استنتاج لم يتشكل إلا حديثا. وقبل أن نتحدث عن تلك الأجزاء، يجب أن أوضح ما أعنيه حين أقول إن الأعداد قد غيرت الخبرة البشرية. ربما تكون الطريقة الأفضل لفعل ذلك هي التعمق في دراسة كيفية إدراكنا لمرور الوقت. لقد أشرت إلى أنك لا تستطيع بالطبع، بدون الأعداد، أن تسمي عدد رحلات الأرض حول الشمس منذ مولدك، لكنك قد تعارض قائلا: إنه ربما لا يزال بإمكانك أن تكون فكرة عن عدد سنوات عمرك؛ فيمكن أن تعرف مثلا أنك قد ولدت قبل أختك وبعد أخيك؛ ومن ثم تستطيع أن تعرف أنك أكبر من الأولى وأصغر من الأخير، ويمكن أن تدرك تغير الفصول، وتدرك أنك قد عشت في دورات فصول سابقة؛ ومن ثم يمكنك أن تعرف على الأقل أنك تبلغ من العمر العديد من السنوات، وربما تعرف أنك قد عشت عددا أكبر من السنوات أو أصغر، مقارنة بمعاصريك. بالرغم من ذلك، فسوف نرى في تناولنا للشعوب اللاعددية في الفصل الخامس، أن الوعي بالعمر بهذه الطريقة يكون مبهما إذا لم يستعن المرء بالأعداد. ويتضح دور الأعداد بصورة أكبر في إدراكنا للزمن، لكن ذلك يتضح بصورة أكبر حين نفكر في مرور الوقت عند أكثر مستوى أساسي له، بخلاف طريقتنا في عد السنوات .
يتطلب هذا التفكير استطرادا موجزا عن كيفية فهمنا العام للوقت. ومفهوم الوقت من المفاهيم التي يصعب فهمها إلى حد ما؛ إذ إنه مفهوم مجرد تماما. ما معنى إدراك الوقت أو الشعور به؟ حسنا، يتبين أن ذلك يتوقف على الأشخاص الذين تسألهم والثقافة التي ينتمون إليها، أو اللغة التي يتحدثون بها. لقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن إدراك الوقت يتباين بطرق عدة لدى بعض الشعوب. وفيما يلي، سأتناول قدرا من هذا التباين الثقافي، وسأقترح بعدها أن الأعداد قد أدت دورا عظيما للغاية في تشكيل خبرتنا عن الوقت، التي تختلف باختلاف الثقافة.
نتحدث كثيرا عن «مرور الوقت» أو «المرور بالوقت»، لقد تحدثت عن ذلك بالفعل في الفقرات السابقة، وأشك في أنك قد وجدت أن مثل هذه الصياغة غريبة. ونحن نتحدث أيضا عن مرور الوقت «ببطء» أو «بسرعة»، غير أن كل هذه التعبيرات مجازية بالطبع؛ فالوقت لا يتحرك فعلا، ولا نحن نمر به. لقد أثبت علماء الإدراك منذ فترة طويلة، أن البشر يتسمون بنزعتهم الطاغية لاستخدام الأشياء المادية، كالأغراض التي تتحرك في المكان لوصف الجوانب المجردة من حياتنا، مثل الوقت، وصفا مجازيا. ومن ثم يمكننا أن نتحدث عن «حركة» الوقت، أو نتحدث على العكس من ذلك، عن «المرور» بوقت صعب أو «رؤية» وقت صعب «أمامنا» أو عن عدم قدرتنا على الرجوع إلى «الوراء» للماضي، أو عن اختيار «المسار» المهني المناسب، أو عن مواجهة خيار صعب في «طريق» حياتنا وما إلى ذلك. إن متحدثي اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات، يستخدمون عددا هائلا من التعبيرات التي تدل على التأويلات المكانية للزمان، وتجسدها. وأبرز هذه التعبيرات التوجيهية المجازية، هو ذلك الذي يسود الأمثلة التي ذكرناها للتو، والذي يتمثل فيه المستقبل أمامنا، بينما يمر بنا الوقت. بالرغم من ذلك، يتضح لنا أن بعضا من متحدثي اللغات الأخرى لا يرون الوقت بهذه الطريقة؛ فبالنسبة إلى متحدثي اللغة الأيمرية والعديد غيرها من اللغات الأخرى، لا يكمن المستقبل أمام المتحدث، بل خلفه، أما الماضي فهو يقع مجازيا أمام المتحدث. ويتجلى هذا الاتجاه في العديد من التعبيرات المختلفة عن الوقت، وكذلك في إشارات اليد التي يستخدمها الفصحاء في اللغة الأيمرية، حين يتحدثون عن أحداث الماضي والمستقبل. (ويمكننا القول بأن مثل هذه الاستعارة الاتجاهية، ترتبط بالخبرة البشرية بصورة أكثر مباشرة؛ إذ إننا نستطيع بالفعل أن «نرى» ما حدث في ماضينا.) ولهذا، فإن بعض البشر يرون «حركة» الوقت بطريقة تبدو متناقضة تماما مع الطريقة التي نصفه بها ونراه.
1
يتضح هذا الأساس المكاني المرن للأفكار المتعلقة بالوقت بصورة أكبر حين نفكر في طريقة أخرى يمكننا تصوير الوقت مجازيا من خلالها، وهي تصويره متحركا من اليسار إلى اليمين على خط يمكن قياسه. في ثقافتنا وغيرها من الثقافات، يوجد عدد هائل من الطرق التي يصور بها الوقت على مثل هذا النحو، ومنها التقويمات وشريط التقدم على «نتفليكس» و«يوتيوب»، والخطوط الزمنية في كتب التاريخ، وما إلى ذلك. وتقترح بعض الأدلة التجريبية القوية، أن مثل هذه الممارسات الرمزية الافتراضية، تؤثر على كيفية إدراكنا للوقت؛ فعلى سبيل المثال، حين تقدم إلى بعض الأمريكيين، مجموعة من الصور تصور أحداثا في مراحل مختلفة (صور لثمرة موز تقشر وتؤكل مثلا)، ثم يطلب منهم أن يقوموا بترتيب الصور في الاتجاه المناسب من البداية إلى النهاية، فإنهم يرتبونها عادة من اليسار إلى اليمين، حيث تكون الصور التي تمثل المراحل المبكرة أقرب إلى الجانب الأيسر من أجسادهم. أما حين يطلب من أفراد ينتمون إلى ثقافات أخرى أداء المهمة نفسها، يتغير الترتيب. في وقت قريب، اكتشفت عالمة اللغويات أليس جابي وعالمة النفس ليرا بوروديتسكي في ثقافة الثايور، التي تقع في شبه جزيرة كيب يورك، أن الأفراد لا يرتبون الصور من اليسار إلى اليمين، ولا من اليمين إلى اليسار (وهو نمط يظهر في بعض الثقافات). بدلا من ذلك، يرتبونها وفقا لمسار الشمس، حيث توضع الصور التي تدل على المراحل المبكرة باتجاه الشرق، والمتأخرة باتجاه الغرب، بصرف النظر عن الاتجاه الذي يقابله الشخص الذي يرتب الصور.
2
إن مثل هذه الاكتشافات تعكس أمرا مهما؛ وهو أن كيفية تفكيرنا في الوقت تعود بصورة كبيرة إلى الممارسة اللغوية والثقافية. وهنا تظهر الأعداد في القصة التي تروي الطريقة التي نفهم بها مثل هذا الجانب الأساسي من حياتنا؛ فمن الواضح أن الأعداد تمس طريقة تفكيرنا بشأن حركة «الوقت»، وسواء أكنا نرى أن الوقت يمر بنا، أم كنا نرى أنه يتحرك على خط زمني أمامنا، فإن هذه «الحركة» يمكن تقسيمها وعدها. فلتفكر مرة أخرى في أشرطة التقدم التي نراها في مقاطع الفيديو المتوفرة على الإنترنت، وكيف أن الأعداد (التي تدل على الدقائق والثواني) تتتبع الأيقونة التي تمثل اللحظة التي تعرض في مقطع الفيديو. والواقع أن الأعداد متغلغلة في التمثيلات المكانية الرمزية للوقت، مثل التقويمات التي تسير من اليسار إلى اليمين والخطوط الزمنية. ويمكننا القول بأن هذا التصور العقلي للوقت، بهذه الطريقة المرتكزة على الأعداد، يحكم حياتنا.
ما الوقت الآن؟ بالنسبة إلي فالوقت الآن، بينما أكتب هذه الكلمات على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، هو 10:46 صباحا. ولأننا في ذلك الوقت من اليوم، فأنا في غرفة مكتبي أجلس عليه، ولست في المنزل أو أي مكان آخر. لكن ما الذي يعنيه ذلك الوقت فعلا؟ حسنا، إنه يعني أنه قد مرت عشر ساعات وست وأربعون دقيقة منذ منتصف الليل، لكن ذلك مجرد إعادة صياغة مطنبة لا حاجة لها؛ ما الساعات؟ وما الدقائق؟ الواقع أنها لا توجد بمعزل عن خبرتنا العقلية والعددية؛ إنها ببساطة وسيلة عشوائية لوصف وجودنا بصورة كمية، ووسيلة لتقسيم هذ المرور المجازي للوقت إلى وحدات منفصلة. إنها تدل على أن البشر قد اختاروا في مرحلة ما أن يحددوا كميات الوقت، وأن يعدوا لحظات التجربة. ربما يكون الوقت واقعا يوجد بمعزل عن خبرتنا، لكن الساعات والدقائق والثواني لا توجد إلا في عقولنا، بصفتها وسيلة للانخراط في العالم. ووسيلة الانخراط هذه قد تولدت هي نفسها عن تقاليد ثقافية ولغوية محددة؛ إن وحدات الوقت من الساعات والدقائق والثواني هي نفسها بقايا نظام عددي قديم، وما هذه الوحدات حقا إلا آثار لغوية من حضارات منقرضة.
فلنتأمل في تقسيم كل دورة من دورات الأرض كل يوم إلى 24 ساعة. لم يقسم كل يوم بهذه الطريقة؟ ما من سبب فلكي لهذا التقسيم، فعلى أي حال، يمكننا نظريا أن نقسم اليوم إلى أي عدد نشاء من الساعات. غير أن النظام الذي نستخدمه لضبط الوقت، يدين بوجوده بصورة كبيرة إلى تقليد قد بدأه قدماء المصريين، الذين اخترعوا الساعات الشمسية قبل أكثر من 3000 عام. لقد صممت هذه الساعات الشمسية لتقسيم ضوء النهار إلى اثني عشر جزءا متساويا. وقد جاء نظام التقسيم إلى اثني عشر جزءا نتيجة لاختيار اتخذه المصريون بتقسيم ضوء النهار وفقا لطريقة تلائم ثقافتهم، وذلك من خلال قياس الظل على الساعات الشمسية. أتاح هذا الاختيار وجود عشر وحدات يمكن تقسيمها بدءا من شروق الشمس حتى غروبها، وهو اختيار طبيعي إذ كان قدماء المصريين يستخدمون نظاما عشريا للأعداد كالذي نستخدمه الآن. غير أن مبتكري الساعات الشمسية قد أضافوا وحدتين: إحداهما للفجر والأخرى للغسق، وهما الفترتان اللتان لا تكونان مظلمتين، لكن الشمس لا تظهر فيهما في الأفق. وذلك القرار البسيط الذي اتخذه المصريون بتقسيم ضوء النهار بهذه الطريقة، قد أنتج وحدات الوقت التي تستند إلى العدد 12، فأصبح للأيام طابع اثنا عشري. وكما سنرى في الفصل الثالث، توجد العديد من الأساسات المختلفة في الأنظمة العددية المنطوقة في العالم، لكن النظام الاثني عشري غير منتشر على الإطلاق (وهو مربك بعض الشيء للعديد من الأفراد الذين يستخدمون الأنظمة العشرية على سبيل المثال). بالرغم من ذلك، فبسبب الاختيار الذي اتخذه القائمون على ضبط الوقت من قدماء المصريين، فإن لغتنا وتفكيرنا عن الوقت، يستندان بدرجة كبيرة إلى نظام هو أشبه ما يكون بالنظام الاثني عشري. وقد أصبح هذا النظام مترسخا في حياتنا بشدة في الوقت الحالي، وهو يفرض منظورا محددا على أيامنا. ويعود السبب في تقسيم الليلة إلى اثنتي عشرة ساعة إلى قدماء المصريين أيضا، وكذلك يعود إليهم السبب في تقسيم دورة الليل والنهار التي تتكون من 24 ساعة، والتي نعرفها جميعا الآن، وإن كان ذلك بصورة أقل مباشرة. كان علماء الفلك من الإغريق في العصر الهلنستي، هم الذين قننوا النظام الأخير بصورة أكثر نظامية، بالرغم من ذلك، لم يحظ تقسيم الساعات بدقة إلى وحدات متساوية المدة بالتقدير والاستحسان، إلى أن تم اختراع آلات دقيقة لضبط الوقت. (لم تخترع ساعة البندول، وهي اختراع أساسي لضبط الوقت، حتى منتصف القرن السابع عشر.) ومن ثم، فإن وجود الساعات هو حادثة تاريخية في نهاية المطاف؛ فلو كانت الساعات الشمسية التي ابتكرها قدماء المصريين قد قسمت ضوء النهار إلى عشر وحدات بدلا من اثنتي عشرة وحدة، لأصبح لدينا الآن عشر وحدات في اليوم والليلة على التوالي، بدلا من اثنتي عشرة وحدة، ولأصبحت دورة الأرض مقسمة إلى عشرين «ساعة».
3
وفي حقيقة الأمر، استخدم نظام ضبط الوقت العشري في فرنسا بعد الثورة مباشرة، غير أنه لم يصمد بسبب الترسخ الثقافي للساعات والدقائق. يبدو أن الإطاحة بالملكية وضرب عنق عدد كبير من المواطنين، أسهل على شعب من إعادة توجيه تفكيره وفقا لوحدات جديدة للوقت.
الدقائق والثواني هي أيضا نتيجة قرارات ثقافية ولغوية عارضة، قد اتخذت قبل وقت طويل. ويعزى وجود هذه الوحدات إلى النظام الستيني (على أساس العدد 60) الذي استخدمه البابليون والسومريون من قبلهم. ويبدو أن هاتين الثقافتين هما أول من استخدم هذا الأساس للحسابات الفلكية؛ وذلك لأسباب لا تزال غامضة. حيث يعتقد البعض أن النظام الستيني قد اكتسب شهرة في بلاد الرافدين؛ لأنه يقبل القسمة على الأعداد من 1 إلى 6، وكذلك على 10 و12 و15 و20 و30. ويعتقد آخرون أن مثل ذلك النظام الستيني قد ظهر على الأرجح لأن البشر لديهم خمس أصابع في اليد، ويمكنهم استخدامها في عد المفاصل الاثني عشر الموجودة في أصابع اليد الأخرى، فيما دون الإبهام (و5 × 12 = 60). وبصرف النظر عن هذا، فإن الأنظمة الستينية ليست منتشرة بالقدر الكبير؛ فهي لم تتطور سوى مرات قليلة على مدار تاريخ اللغات في العالم، لكن الطبيعة الستينية لنظام العد البابلي هي السبب في أن الدقائق والثواني تستغرق المدة التي تستغرقها؛ لأن تلك هي وحدات الوقت التي تتوصل إليها حين تقسم الساعات والدقائق من بعدها بهذا الترتيب على ستين. ويمكن للبشر الآن أن يعتمدوا على قياسات مستقلة لتعريف الثواني، مثل المدة التي يستغرقها عدد محدد سلفا من ترددات الطاقة في ذرة سيزيوم، وهذا التعريف هو المقياس في الساعة الذرية. غير أن الاختيار لم يقع على مثل هذا المقياس إلا لأن قيمته تساوي قيمة الثانية التقليدية تقريبا، وهي ليست سوى منتج لنظام عددي قديم، قد جاء بطريقة فعالة للدلالة على الوقت، لكنها قد تكون غير عملية.
خلاصة القول، أن فهمنا للوقت يتأثر بالربط المجازي بين الوقت والمكان. لكن الأهم أن منظور الوقت المستند إلى المكان، يقاس بطرق تعتمد كليا على وجود الأعداد. وعلى وجه أكثر تحديدا يعتمد هذا القياس الكمي على خصائص أنظمة عددية كانت تستخدم قبل ذلك في أماكن مثل بابل القديمة. إن طريقة تفكيرنا في الوقت: على هيئة وحدات منفصلة يمكن قياسها من الساعات والدقائق والثواني، تعود إلى سمات من اللغات والثقافات المندثرة، وهي سمات لا تزال آثارها حاضرة في حياتنا المعاصرة. وهذه الآثار توجهنا باستمرار بشأن كيفية تنظيم خبرتنا اليومية؛ ومن ثم فإن الأرقام القديمة ذات الخصائص الغريبة لا تزال تشكل الطريقة التي نختبر بها الوقت، ذلك الجانب المجرد والأساسي من الحياة. إن حياتنا، رغم كل شيء، تحكمها الساعات والدقائق والثواني، غير أن الوقت لا يحدث فعلا في هذه الوحدات المنفصلة، أو غيرها؛ فتجزئة الوقت إلى وحدات يمكن قياسها ما هي، في حقيقة الأمر، سوى اختراع من العقل البشري.
4
إن مناقشة الدور الذي تؤديه الأعداد في تشكيل إدراكنا للوقت، توضح لنا ما للأعداد والاختلافات بين الأنظمة العددية من تأثير فعال في الجانب الإدراكي والسلوكي في حيواتنا. بالرغم من ذلك، فسوف نرى على مدار هذا الكتاب أن اختراع الأعداد قد أثر في حياتنا، وفي قصة البشرية بصفة عامة، بالعديد من الطرق الأخرى التي لا تقل عن ذلك عمقا وأهمية. وقبل أن نتحدث عن هذه الطرق، يجدر بنا أن نعرض خلفية عن نوعنا البشري، وهي أساسية في قصة الأعداد التي يرويها هذا الكتاب، ووثيقة الصلة بها.
الإنسان العاقل: ذلك النوع الحديث
تفيدنا قدرتنا على قياس الوقت عند مناقشة الأصول الحديثة لنوع «الإنسان العاقل». فالأعداد تساعدنا في تصوير مدى حداثة نوعنا؛ فعمر الكون 13,7 مليارا من الأعوام، وعمر الأرض 4,5 مليارات عام، وعمر حقيقيات النوى 3 مليارات عام تقريبا. أما ظهور الرئيسات فقد حدث قبل 65 مليون عام تقريبا. ويشير سجل الحفريات إلى أن أشباه البشر، ومنهم أسلاف البشر، لم يعيشوا إلا لقرابة عشر ذلك الوقت. ويدور قدر كبير من الجدل بشأن تاريخ ظهورنا نحن - البشر المعاصرين - لكننا قد ظهرنا منذ 100000 عام على الأقل. وإذا قبلنا بهذا الرقم الأخير فهذا يعني أننا لم نوجد إلا لعام واحد مقابل كل 130000 عام من عمر الكون. وتلك من السمات التي غالبا ما نغفل عنها بشأن البشر، وهي أننا صغار للغاية. وبالرغم من ذلك فعلى حداثتنا في السن، قد شكلنا بطرق عدة هذا الكوكب الذي لم نعش عليه إلا لفترة صغيرة للغاية من تاريخ وجوده، في بضعة آلاف من الأعوام الماضية فحسب. وسوف نرى أن الأعداد تمثل جزءا كبيرا من كيفية حدوث ذلك، والسبب في حدوثه.
5
توضح البيانات المستفيضة أن نوع «الإنسان العاقل» وسلفه، قد تطور في أفريقيا، وقد بدأت العناصر الأساسية لخصائصنا الجسدية الحالية، تتشكل هناك؛ كالسير على قدمين الذي ظهر بوضوح لأول مرة في الأسترالوبيثسينات، التي ظهرت آثار أقدامها التي تعود إلى 3,7 مليون عام في الرماد البركاني في لايتولي، بتنزانيا. وكذلك ظهرت الأدمغة الأكبر حجما في بعض الأنواع مثل نوع «الإنسان المنتصب» (منذ 18 مليون عام تقريبا)، ونوع «إنسان هايدلبيرج» (منذ ما يزيد عن نصف مليون عام)، وهو النوع الذي تمكن من استكشاف قارات بخلاف أفريقيا، غير أن سجلاته المادية لا تدل على حدوث أي قفزة إدراكية إلى الأمام، مثلما هي الحال في نوع «الإنسان العاقل». وهذه النقطة الأخيرة تشير إلى أمر غاية في الأهمية، وهي أن أسلاف البشر كانوا يتمتعون بدماغ كبير نسبيا، وإن كان لا يزال أصغر من دماغنا، قبل أن نظهر على المشهد بفترة طويلة. وبالرغم من هذه الأدمغة الكبيرة، فإن سلوك أقرب الأسلاف إلينا لم يكن لافتا للنظر عند مقارنته بسلوك غيره من القردة العليا. لم يكن يحمل سوى قدر ضئيل من التشابه مع سلوك البشر المعاصرين، وكذلك سلوك «إنسان النياندرتال»، وهو النوع الشقيق لنوعنا، الذي عاش في أوروبا قبل نصف مليون عام تقريبا، إلى أن انقرض على نحو متسارع نتيجة وصولنا على تلك القارة فيما يبدو.
6
إذن، فيمكننا أن نصف نشوء نوعنا بأنه تغيير جذري حديث، ومن المؤكد أن سلالتنا قد ظلت تتطور على مدار الملايين من الأعوام؛ مما جعلنا على ما نحن عليه اليوم من الناحية الفسيولوجية، غير أن أسلافنا قد عاشوا في معظم هذا الوقت حياة قاسية وقصيرة، وقد كانوا في معظم الأحوال فرائس لغيرهم من الأنواع الأفريقية الأكبر حجما. إننا لم ننجح دائما في التغلب على الأنواع الأخرى في المنافسة بالدرجة التي ننجح بها الآن. وقد تحدثت مؤخرا مع زميل في مجال علم الإنسان، وهو أيضا عالم في الحفريات والآثار، يدرس حفريات العديد من أنواع أشباه البشر في أفريقيا. وقد ذكر أن واحدة من أبرز السمات في هذه الحفريات هي ما تدل عليه من عنف؛ فالعديد منها يحتوي على تمزقات وكسور عظمية، وكثيرا ما تحمل آثار أسنان المفترسات أو نابشات الفضلات، وكثيرا ما توجد هذه الحفريات في مخابئ المفترسات كالأسود، ومعظمها لأطفال وشباب. ومن المحزن أن هذه الأدلة تشير إلى أن العديد من أسلافنا قد عاشوا حياة صعبة وقصيرة، وكانوا يواجهون فيها صعوبة في التنافس مع الكائنات المفترسة المحيطة بهم.
ويمكننا القول بأن قدرا كبيرا من هذه الصعوبة التي كانوا يواجهونها قد جاء نتيجة للجمود الواضح في قدراتهم الإدراكية، ويتضح هذا الجمود في الاختراعات المادية التدريجية التي تظهر في سجل الحفريات على مدار العديد من ملايين السنين؛ فلننظر إلى الفأس اليدوية الحجرية، التي يشير إليها العلماء في مجال علم الإنسان باسم الفأس الأشولية، والتي ابتكرها نوع «الإنسان الماهر» قبل ما يقرب من 1,75 مليون عام. فهذه الفأس المحمولة التي تتميز بفائدتها العملية البارزة، قد كانت أداة مهمة للغاية لأسلافنا، غير أنها بسيطة للغاية مقارنة بالقوس والسهم. وقد اعتمد أشباه البشر عليها وحدها تقريبا على مدار 15 مليون عام. فمع السير على الأقدام، والأدمغة الكبيرة نسبيا، والأدوات البسيطة، يبدو أن أسلافنا قد كانوا على منصة الانطلاق إلى الحداثة، منذ مئات الآلاف من السنوات، غير أن هذا الانطلاق قد فشل إلى أن جاء ما أشعل جذوته حديثا.
بعد المعارك التي كان يخوضها أسلافنا من أجل البقاء في العصر الحجري القديم، اتخذت الأمور منحنى حادا إلى الأفضل. (استمر العصر الحجري القديم من نحو 2,5 مليون عام، إلى نحو 10000 عام مضت.) وفي مرحلة ما خلال مائتي ألف عام ماضية، قبل مائة ألف عام على الأرجح وفقا للسجل الأثري، حدث ما يبدو أنه تغير جذري في تفكير أسلافنا. ويتضح هذا التغير الإدراكي في الأدوات العظمية المعقدة المصقولة، والتي اكتشفت في كهف بلومبوس في جنوب أفريقيا على سبيل المثال، إضافة إلى غيرها من الأدوات التي اكتشفت في ذلك الكهف وغيره من الكهوف، وهو ما سنتناوله بقدر أكبر من التفصيل في الفصل العاشر. وبعد اختراع هذه الأدوات بفترة قصيرة، بدأ البشر في مغادرة أفريقيا بهمة. وتوضح التحليلات الجينية للبشر الذين يعيشون في العصر الحالي أن الشعوب الحديثة غير الأفريقية، هي أحفاد مجموعة صغيرة من نوع «الإنسان العاقل» الذين قد أخذتهم هجرتهم من أفريقيا على الأرجح عبر البحر الأحمر عند مضيق باب المندب.
7
ما حدث بعد ذلك كان سابقة من نوعه؛ كما كان غير متوقع على الإطلاق، ذلك أن النوع البشري كان يواجه صعوبة كبيرة، ويواجه تهديدا حقيقيا للغاية بالانقراض. وبالرغم من أن بعض أنواع الرئيسات الأخرى قد غادرت أفريقيا مصادفة، لينتهوا بعد ذلك بصورة أساسية في إقليم حيوي استوائي آخر، فقد بدأ أسلافنا عملية الاستكشاف الإرادي والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم. وعلى مدار فترة التجوال في أنحاء العالم، التي استمرت لعشرات الآلاف من السنوات، إلى أن وصل البشر إلى حافة أمريكا الجنوبية قبل ما يقرب من 14000 عام، تمكنا في النهاية من التأقلم مع جميع البيئات الموجودة في العالم تقريبا. لقد تفوقنا في المنافسة مع بعض الأنواع الأخرى في بيئات قاسية مثل التندرا السيبرية، وأدغال تسمانيا، وصحراء أتاكاما، ومعظم البيئات البيولوجية التي تقع فيما بينها. والسجل الأثري يوضح تقدمنا، وباختصار، فقد تكيف البشر على التكيف. وهذا التكيف المستحدث كان سيصبح محالا بدون اللغة والثقافة، وهما السمتان الأبرز لنوعنا.
8
لا تزال أصول نشأة اللغة والثقافة محل جدال كبير، ووفقا لأعمال العديد من العلماء في مجال علم الإنسان، فإن الثورة اللغوية والثقافية لدى البشر قد نتجت بصورة كبيرة عن اعتمادهم على التعاون بدرجة أكبر. وقد كان لهذا الاعتماد جانبان: الجانب الأول هو أن البشر كانوا مجبرين على التعاون للتفوق في المنافسة مع الأنواع الأخرى، وأما الجانب الثاني فهو أن بعض المجموعات المحددة من البشر قد اعتمدت على شكل أكثر تقدما من التعاون، عند التنافس مع مجموعات أخرى من البشر. ويدعم هذا التفسير حقيقة أن البشر ينزعون إلى تحري التعاون مع غيرهم من أفراد النوع البشري، بينما لا يبدو أن مهارة اللغة متأصلة في شفرتهم الوراثية على وجه التحديد. إن أطفال البشر الذين يفتقرون إلى بعض الوظائف الإدراكية الأعلى التي تتمتع بها بعض الأنواع الأخرى من القردة العليا، يتميزون بملاحظتهم الدقيقة لأنشطة التعاون المحتملة مع أفراد آخرين. يبدو لنا إذن أن تأصل التعاون في البنية الأساسية البشرية قد كان، على الأقل، مؤشرا مهما على التحول من أنظمة التواصل البدائية القائمة على الإشارات، التي كانت تستخدمها القردة، إلى أنظمة التواصل الأقوى القائمة على الحديث، والتي استخدمها البشر. وبعبارة أخرى، فإن ما يجعلنا كائنات لغوية هو ليس أننا مزودون فطريا بمجموعة مهارات لغوية محددة، بل أننا قادرون على التعاون، وأننا ننظم وفقا لمبادئ جماعية مهاراتنا الإدراكية، التي يتمتع بالعديد منها أنواع أخرى من القردة الأقل ترابطا. يبدو أن هذا التحرك نحو التعاون كان له دور محوري في مسيرة حياتنا الإدراكية؛ إذ نتج عنه ذلك التحول في نظام التواصل، الذي أسهم في أن يجعلنا بشرا على وجه التحديد. لم يكن لوجود اللغة أن يصبح ممكنا دون تركيزنا على التعاون، وما يتصل به من الانتباه الذي بدأنا في توجيهه لفهم أفكار الآخرين ونواياهم. وأيا كانت أصولها، فلا شك بأن اللغة قد أعادت تشكيل خبرتنا البشرية، ومكنتنا من التفوق قبل مغادرة أفريقيا وبعدها.
9
إن اللغة تشكل طريقة تفكيرنا، وهي تسهل أيضا بعض أنواع عمليات التفكير غير اللغوية. والفائدة الأكبر من ذلك، هي أنها تتيح لنا أشكالا جديدة من التعاون، وتتيح للبشر أن ينقلوا ما توصلوا إليه من حلول للتحديات البيئية إلى بقية أفراد جيلهم والأجيال التالية كذلك. فالكلمات التي هي قنوات الأفكار، أدوات إدراكية تتيح للأفراد تسجيل حلولهم لتلك المجموعة الكبيرة والمتنوعة من المشكلات الحديثة التي تواجههم حين يدخلون بيئات جديدة، والإفصاح عنها. لقد أتاح اختراع اللغة للبشر أن يتوصلوا إلى الأفكار التي تدور في عقول غيرهم من البشر، وأن ينقلوها بكل سهولة، دون أن يضطروا إلى إنتاج أفكار جديدة باستمرار. وقد أتيحت الفرصة لوجود تأثير ترس السقاطة الثقافي العابر للأجيال، الذي ذكرته في الافتتاحية. إننا نظل قادرين على التكيف جيدا على بيئاتنا الحالية، حتى في البيئات الحضرية في العالم الحديث، بفضل الأفكار التي نقلت إلينا من عقول الآخرين منذ طفولتنا، عن طريق اللغة؛ فاللغة وغيرها من الممارسات الثقافية الرمزية تتيح لنا تخزين الأفكار والوصول إليها بسهولة، ومنها الأفكار التي تمكننا من النجاة بأنفسنا وبثقافتنا.
10
رغم أن قصة ظهور اللغة قد ضاعت مع مرور الزمن، أو ربما ظلت عالقة في غبش السجل الأثري بعيدة المنال، فما من خلاف على أهميتها، مثلما أوضحنا هنا؛ فمن الجلي أن الكلمات وغيرها من التمثيلات الرمزية، كانت بمثابة أدوات ناجعة، وربما هي أعظم أدوات قد امتلكناها على الإطلاق. غير أنه لا تزال هناك مجموعة متفرعة من هذه المجموعة من الأدوات اللفظية، وهي الأدوات الإدراكية المتمثلة في الأعداد، والتي أدت دورا مميزا للغاية في تشكيل الإنسانية منذ هجرتها من أفريقيا، بل حتى قبل الهجرة من أفريقيا على الأرجح. وقد مكنتنا هذه المجموعة الفرعية من الأدوات اللفظية، من رؤية الكميات واستخدامها بطرق جديدة. وكما ناقشنا بالفعل، فقد مكنتنا هذه الأدوات المحددة التي نتحدث عنها، من إدراك الوقت بطرق جديدة كذلك. وعلاوة على ذلك يقترح هذا الكتاب أيضا أن هذه الأدوات العددية قد أدت إلى بدء تطور الزراعة والكتابة، ثم أدت بطريقة غير مباشرة إلى تطور جميع التقنيات التي انبثقت عن هاتين الظاهرتين الأخيرتين. إن هذه الأدوات قد غيرت خبرتنا الإدراكية والسلوكية إلى الأبد.
الكميات في الطبيعة، والأعداد في عقولنا
في كثير من الأحيان تكون وظيفة الكلمات هي تسمية الأشياء أو الأفكار الموجودة مسبقا؛ فكلمة «باندا» مثلا تسمي نوعا محددا من الثدييات، وهذا النوع موجود بالفعل، بصرف النظر عن وجود الاسم، غير أن الكلمات تشير أحيانا إلى مفاهيم لا توجد إلا بوجود الكلمات المعنية. فلنتأمل ذلك في ضوء الألوان؛ إننا نتفاعل دائما مع الجزء المرئي من طيف الضوء، وهو جزء ضئيل من نطاق الأمواج الكهرومغناطيسية، وهذا الطيف المرئي من الضوء مستمر دون أي فواصل مادية محددة؛ ولذا فما من نقطة محددة على طيف الضوء تفصل بين الأخضر والأزرق بدقة. ولهذا السبب تتخلى العديد من اللغات عن استخدام مصطلحات مثل «أخضر» «وأزرق»، وتستخدم بدلا من ذلك كلمة للفئة اللونية «أخضرق». بالرغم من ذلك، فإن متحدثي بعض اللغات كالإنجليزية يشيرون إلى هذا التباين اللوني على الدوام، ومن ثم يؤسسون فرقا أوضح بين «الأخضر» «والأزرق»؛ فهم يستخدمون الكلمات للتواصل بشأن أجزاء من طيف الضوء يمكن التمييز بينها على وجه التقريب، غير أنها تفتقر إلى وجود حدود واضحة. وبعض متحدثي اللغات الأخرى، يقسمون طيف الضوء بطرق مختلفة؛ فمتحدثو لغة البيرينمو في نيو غينيا على سبيل المثال يستخدمون المصطلح «وول» والمصطلح «نر»، اللذين يميزان بين جزأين من طيف الضوء، يشار إليهما في الإنجليزية بمصطلح واحد هو «الأخضر». وهذه الاختلافات فيما بين اللغات، تؤثر في كيفية إدراك المتحدثين بها للألوان وتذكرهم لها، تأثيرا طفيفا لكنه أكيد. ومعنى هذا باختصار أن مصطلحات الألوان ليست مجرد أسماء لمفاهيم موجودة مسبقا عن الألوان، ويتشاركها جميع البشر، بل هي تبعث إلى الوجود أيضا مفاهيم أكثر تحديدا للألوان.
11
مثلما أن مصطلحات الألوان تحدد أجزاء معينة من الطيف الضوئي وتجسدها، فإن الكلمات وغيرها من رموز الأعداد تولد في حياتنا الذهنية أنواعا معينة من الكميات؛ إذ يتضح أن البشر لا «يرون» الفروق بين معظم الكميات بدون الأعداد. وفي غياب الأعداد لن نختلف في رؤيتنا لكميات الأشياء التي نراها في البيئات الطبيعية عن غيرنا من الأنواع العديدة. فلولا قدرتنا على ابتكار الأعداد واستخدامها، ما امتلكنا الأدوات اللازمة للإبحار تجاه هدف واتجاه محدد، في بحر الكميات المحيط بنا.
قد يبدو الطرح القائل بأن الأعداد اختراع بشري، أمرا غريبا؛ فبالرغم من كل شيء قد يقول البعض: إن وجود بعض الأعداد المتوقعة في الطبيعة، مثل ثمانية (أرجل الأخطبوط) وأربعة (الفصول) وتسعة وعشرين (أيام الدورة القمرية) وما إلى ذلك، كان سيظل قائما بصرف النظر عن وجود البشر على الإطلاق من عدمه. بالرغم من ذلك، فحقيقة الأمر على وجه الدقة هو أن هذه «الكميات» تحدث في الطبيعة بانتظام وحسب، ويمكننا القول إن الكميات والتناظر بين الكميات، يوجد منفصلا عن الخبرة الذهنية البشرية، فسوف تظل أرجل الأخطبوط على الهيئة التي توجد بها في مجموعات منتظمة، حتى وإن لم نكن قادرين على إدراك هذا الانتظام. أما «الأعداد» فهي الكلمات والتمثيلات الرمزية الأخرى التي نستخدمها للتمييز بين الكميات.
12
ومثلما أن مصطلحات الألوان تخلق بينها حدودا ذهنية أوضح على الأجزاء المتجاورة على طيف الضوء المرئي، فإن الأعداد تخلق حدودا إدراكية بين الكميات، وقد تعكس هذه الحدود فرقا حقيقيا بين الكميات في العالم المادي، غير أن العقل البشري لا يتمكن عادة من إدراك هذه الفروق بدون الأعداد.
غالبا ما كانت كلمات الأعداد التي تمثل الكميات، ترى على أنها تسميات ملائمة لأفكار يزود بها البشر فطريا، أو يتعلمونها تلقائيا خلال مراحل نموهم الحيوي. وعلى العكس من ذلك، تشير الأعمال الحديثة إلى أن الأعداد ليست مجرد تسميات فحسب؛ فكما ذكرت عالمة اللغة واختصاصية الأعداد هايكا فيسا ملحوظتها الثاقبة: «تمدنا اللغة بأمثلة على الأعداد، هي الكلمات التي يمكن أن نستخدمها مثلما نستخدم الأعداد، لا كمحض أسماء نستخدمها للإشارة للأعداد والتفكير بشأنها.»
13
إن معظم الكميات المحددة لا توجد في عقولنا في غياب الأعداد. ربما يكون هذا الزعم مفاجئا للبعض، غير أنه مدعوم بالعديد من الأدلة التجريبية، أما الزعم بأن الأعداد هي محض أسماء لأفكار موجودة مسبقا، فهو زعم لا تؤيده أدلة كافية؛ لقد اتضح أن البشر، كالحيوانات الأخرى، لا يستطيعون دوما أن يميزوا بين الكميات المحددة فيما يتجاوز الثلاثة بدون وجود الأعداد. أما فيما يتجاوز الثلاثة، فلا يمكننا سوى تقدير كمية الأشياء التي يستقبلها إدراكنا، إذا لم نكن نعرف الأعداد. ويؤيد هذا الاستنتاج دراسات تجريبية حديثة أجراها العديد من الباحثين (بمن فيهم أنا) على الأفراد الذين لا يعرفون أي أعداد، وتؤيده أيضا الأبحاث التي أجريت على الأطفال الرضع وغيرهم من الأطفال الذين لم يتعلموا الأعداد بعد. سوف نناقش هذه النتائج بالتفصيل في الجزء الثاني، ومثلما سنرى فإننا لا يمكننا تفكيك المعوقات الفطرية التي تمنعنا من تمييز الكميات إلا من خلال أدوات الأعداد.
بالرغم من ذلك، علينا أن نقر بأن هذا التفسير يطرح لنا مفارقة، وهي: إذا كان البشر لا يستطيعون أن يفكروا في الكميات بدقة إلا من خلال الأعداد، فكيف توصلوا إلى اختراع الأعداد في المقام الأول؟ والنقطة الأولى التي سنوضحها في الإجابة عن ذلك السؤال هي أن هذه المفارقة تنطبق على جميع الاختراعات البشرية، في بعض الجوانب على الأقل. فلكي يحدث أي اختراع، لا بد للبشر أولا أن يدركوا مفهوما لا يدركونه عادة وبتلقائية. إن الاختراعات ليست متأصلة في شفرتنا الوراثية، بل نصنعها من سلسلة من الأفكار التي ندركها، وغالبا ما تكون أفكارا بسيطة. إننا لم نفطر على التفكير في أشياء كنقاط الارتكاز أو المسامير اللولبية أو العجلات أو المطارق أو غيرها من الأدوات الميكانيكية الأساسية، غير أننا قد طورنا جميع هذه الأدوات عبر مجموعة كبيرة مختلفة من الأفكار. فلنتأمل العجلة على سبيل المثال، هذه الأداة البسيطة العملية؛ إننا نجد أنه يكاد يكون من المستحيل «ألا» يخترع البشر هذه الأداة ، نظرا إلى وعينا بدحرجة الأشياء الدائرية في بيئاتنا الطبيعية. بالرغم من ذلك، فالعجلة ومحور الدوران من الاختراعات الحديثة نسبيا، والتي لم توجد في العديد من الثقافات السابقة (ومنها بعض المجتمعات الكبيرة مثل الإنكا)؛ ولهذا، بالرغم من بساطتها وسهولة إدراك مفهومها، لا يمتلك البشر مفهوما «فطريا» للعجلة. وبالمثل فإن أداة لفظية كالكلمة «سبعة»، تبدو أمرا مسلما به للغاية حين نعرفها، وبالرغم من ذلك فإن بعض الأفراد لا يعرفون الكمية المحددة التي تشير إليها. ومثلما أنهم قد يكونون لا يعرفون العجلات، لكنهم يفهمون فائدتها بسرعة حين يرون عجلة فعلية، فإنهم لا يتعلمون مفهوم وجود سبعة أشياء بالتحديد إلا حين يتعلمون الكلمة التي تمثل ذلك المفهوم؛ ولهذا السبب البسيط فإن مفردات الأعداد لا تيسر العمليات الحسابية المعقدة فحسب، بل تيسر أيضا مجرد التفريق بين الكميات التي تزيد عن ثلاثة، وتمييزها. (وسنناقش الأدلة التجريبية على هذا الاستنتاج في الجزء الثاني.)
بالرغم من ذلك، فربما قد لاحظت أنني لم أحل المفارقة تماما، وإذا أعدنا صياغتها بطريقة مختلفة يمكننا أن نطرح السؤال التالي: كيف تمكن أفراد لا يمتلكون أعدادا من إدراك أن مثل هذه الكلمات يمكن أن تعبر عن الكميات، إذا كانت الأعداد ضرورية لإدراك الكميات المحددة؟ يمكنك أن تعتبر ما يلي بمثابة تعهد على ذكر تفسير أكثر تفصيلا في الجزء الثالث من هذا الكتاب: فلتتخيل أن بعض الأفراد من نوعنا قد أدركوا في نقاط زمنية مختلفة، أنه يمكن أن يمتد معنى كلمة موجودة بالفعل، ليمثل كمية محددة أكبر من ثلاثة. (فأدركوا مثلا أن كلمة «يد» يمكن أن تشير إلى العدد خمسة، وليس الطرف المادي فحسب.) إن هذه الفكرة البسيطة هي صميم اختراع الأعداد، غير أن أفراد نوعنا لا يولدون ومثل هذه الفكرة متأصلة فيهم، مثلما أننا لم نولد وفكرة وجود العجلات متأصلة فينا، أو فكرة أن السفن المصنوعة من الصلب يمكن أن تطفو، أو فكرة أن الطائرات المصنوعة من الألومنيوم يمكن أن تطير. بالرغم من ذلك، فحين اكتشف مخترعو الأعداد أنه يمكن استخدام الكلمات للتمييز بين الكميات، مثل التمييز بين خمسة وستة، مكنهم ذلك من تأسيس طريقة جديدة للتفكير بشأن الكميات، وقد بدأ آخرون في استخدامها. ومن خلال ذلك الاستخدام انتشرت الأعداد.
مثلما سأوضح بقدر أكبر من التفصيل في الفصل الثامن، فإن حقيقة أن بعض البشر تمكنوا من اختراع الأعداد، يعود بشكل كبير إلى عوامل تتعلق بالتشريح. إن الفكرة البسيطة التي تتمثل في وجود كميات كبيرة محددة، وفي إمكانية تسميتها، قد تولدت بصفة عامة عن حقيقة وجود كميات تتكرر بانتظام أمام أعيننا تماما. إننا نمتلك خمسة أصابع في كل يد، وتقدم لنا الحياة دائما مجموعات متطابقة تتكون من خمسة عناصر لم نزود مسبقا بالقدرات الإدراكية اللازمة لتمييزها، مثلنا في ذلك مثل الحيوانات الأخرى. غير أن البشر قد تمكنوا مصادفة من إدراك هذا التناظر، ويبدو هذا التناظر واضحا للغاية، غير أن مجرد إدراك هذا التناظر البيولوجي، لا يؤدي بالضرورة إلى اختراع الأعداد؛ فمن الممكن ألا يتم تمييز الكميات، وحتى الأصابع الخمسة في كل يد، إلا بطريقة عابرة. بالرغم من ذلك، عند معرفة كلمة مثل «خمسة» ثم استخدامها بشكل مثمر لوصف كمية الأصابع في كل يد، فإن ذلك يؤدي إلى اختراع الأعداد. وهذا المسار التشريحي العام الذي يفسر اختراع الأعداد، يدعمه الكثير من البيانات اللغوية، مثل تكرار التشابه بين كلمة «خمسة» وكلمة «يد» في لغات العالم. (سنوضح هذه النقطة بالتفصيل في الفصل الثالث.)
إن اختراع الأعداد الذي تم في أوقات مختلفة على مدار التاريخ البشري، لم ييسر تفكيرنا بشأن الكميات فحسب، بل مكنتنا الأعداد من أن نكون قادرين دائما على التمييز بين الكميات التي تزيد عن ثلاثة، بدقة وبصورة منتظمة. وسوف نوضح هذه الفرضية بشكل أفضل على مدار هذا الكتاب، أما في الوقت الحالي فإنني آمل أن أكون قد حددت بوضوح أكبر ما أعنيه حين أقول إن الأعداد أدوات إدراكية ثورية قد اخترعها البشر. ويقترح هذا الكتاب أن اختراع الأعداد وانتشار استخدامها على نطاق واسع، قد أدى إلى إعادة توجيه البشر إدراكيا وسلوكيا. فربما كانت الأعداد هي الأداة الوحيدة الأكثر تأثيرا في مجموعة الأدوات اللغوية التي أتاحت التحول الحديث لنوعنا، والذي ناقشناه في جزء سابق. إضافة إلى ذلك، فقد مكنتنا من جميع أنواع الاختراعات الأحدث منها، والتي سنناقشها لاحقا في هذا الكتاب، أو سهلتها لنا على الأقل. وبدون هذه الأدوات الإدراكية، لم تكن الثورة الزراعية لتحدث على الأرجح، ولم تكن الثورة الصناعية لتحدث بالتأكيد.
إلى أين سيأخذنا هذا الكتاب؟
يقدم هذا الكتاب توليفة من الأدلة المستقاة من مجال علم الإنسان، والأدلة اللغوية والنفسية، وهو يأخذ في الاعتبار بيانات من الجماعات البشرية وكذلك الحيوانات. وجميع هذه البيانات تؤدي بإصرار إلى الاستنتاج البسيط الذي تنبأنا به بالفعل، وهو أن الأعداد قد كانت بمثابة دعامات إدراكية وسلوكية أساسية، فأسهمت في تأسيس الصرح الأكبر للحداثة.
في القدر المتبقي من الجزء الأول، سوف نبحث في مدى تغلغل الأعداد في الخبرة البشرية، وسوف نركز على التمثيلات الرمزية للكميات في السجلات الأثرية والمكتوبة (الفصل الثاني)، وفي الحديث كذلك، وسوف نستطلع كلمات الأعداد (الفصل الثالث) وغيرها من الإشارات اللغوية إلى الكميات، في اللغات حول العالم. وتقترح البيانات التي سترد في هذه الفصول أن الأعداد مكون أساسي في جميع لغات العالم تقريبا، وكذلك جميع الأنظمة الرمزية غير اللفظية القديمة. إضافة إلى ذلك، فإن جميع النتائج التي فحصناها، تؤكد أهمية التشريح البشري وعلم الأعصاب في اختراع الأعداد واستخدامها.
وفي الفصل الثاني سنتناول الدور الذي قامت به الأعداد في تاريخ البشرية، وذلك من خلال تفصيل ما يرتبط بهذا الموضوع من نتائج جمعت من بالغين لا يعرفون الأعداد (الفصل الخامس). وسوف نفحص أيضا الإدراك العددي لدى الأطفال الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد (الفصل السادس)، وكذلك المهارات العددية لدى الأنواع الأخرى، التي يرتبط العديد منها بنوعنا ارتباطا وثيقا (الفصل السابع). وسيركز هذا الفحص على الدراسات الحديثة التي أجراها علماء الإنسان وعلماء اللغة في أماكن بعيدة في معظم الأحوال، وكذلك الدراسات المستندة إلى المختبرات، التي أجراها الباحثون في فروع أخرى من مجال العلوم الإدراكية.
وفي الجزء الثالث من هذا الكتاب ، سوف نرى كيف أن الأعداد قد شكلت معظم الثقافات المعاصرة، وسوف نتناول الكيفية التي اخترعت بها الأعداد والعمليات الحسابية الأساسية على الأرجح (الفصل الثامن). وأنا أقترح أيضا أن اللغة العددية قد أسهمت في تغيير أنماط إعاشة البشر (الفصل التاسع). وسوف نرى كيف أن الأعداد قد أتاحت ازدهار بعض التقنيات المادية والسلوكية الأخرى، وهي تقنيات قد أدت إلى أحداث مهمة في التاريخ البشري الحديث. وأخيرا ينتهي الكتاب بتناول بعض الطرق المحورية التي قد غيرت بها الأعداد الثقافات البشرية من الناحية الاجتماعية والروحية، وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة على الأقل (الفصل العاشر).
الفصل الثاني
الأعداد منقوشة في ماضينا
فوق أرض الغابة، وفي صميم قلب غابات الأمازون البرازيلية، بالقرب من مدينة مونتي أليجري العتيقة، توجد مجموعة من الرسومات على كهف بجانب أحد التلال وبعض الجدران البارزة. وهذه الرسومات التي أبدعها فنان من السكان الأصليين قبل أكثر من 10000 عام، ووثقتها بعناية شديدة عالمة الآثار آنا روزفلت، قد أسهمت في تغيير فهمنا لتاريخ ما قبل الاستعمار في الأمريكتين. في إحدى اللوحات، نجد مجموعة من علامات
x
المرسومة في ترتيب شبكي. ووظيفة هذه الرسمة، التي هي أشبه بالمخطط منها بالعمل الفني، ليست معروفة على وجه اليقين، لكن الأرجح أن هذه العلامات تشير إلى كميات: للأيام، أو للبدور أو غيرها من أنواع الدورات الثمينة التي ضاعت بمرور الزمن، تدل هذه الرسمة على توجه أكبر. على مدار العقود العديدة الماضية، اكتشف علماء الآثار العديد من قطع الأدلة التي تشير إلى أن القدماء كانوا يولون اهتماما للكميات، وقد كانوا يمثلون هذه الكميات في بعدين؛ فلم يكونوا يمثلونها على هيئة كتابة رمزية مكتملة الملامح، بل بالعلامات المرسومة على جدران الكهوف، والعلامات المنقوشة على الخشب والعظام. وعلامات العصي تلك هي علامات رمزية من حيث إنها ترمز إلى شيء آخر، لكنها لا تمثل الكميات بطريقة رمزية مجردة تماما كالأرقام الفعلية المكتوبة؛ فالرقم سبعة، على سبيل المثال، يشير إلى مجموعة تتكون من سبعة عناصر، بغض النظر عن نوع هذه العناصر. يمكن تسمية هذه العلامات البدائية «أرقام ما قبل التاريخ»؛ فهي مؤشرات شبه رمزية على الأرقام الحديثة المكتوبة. فلتتأمل الرقم 3 في الأرقام الرومانية
III
إنه أكثر شبها بتمثيل ثلاثة عناصر بطريقة العد بالعصا فحسب. حتى الأرقام التي نستخدمها، والتي تعود إلى أصل هندي، تحمل آثارا واضحة على نظام العد بالعصا؛ فالرقم 1 مثلا، يمثل بعلامة عصا واحدة.
1
على بعد 5000 كيلومتر من مونتي أليجري، في ليتل سولت سبرينج بفلوريدا، اكتشف طلاب علم الآثار من جامعة ميامي في وقت قريب جزءا كبيرا من قرن أحد غزلان الرنة، يعود تاريخه هو أيضا إلى ما يقرب من عشرة آلاف عام قبل الآن. تظهر صورة حديثة لهذا القرن في الشكل
2-1 ، وكما توضح الصورة، توجد مجموعة من الخطوط المنقوشة على جانب القرن، وهي خطوط منتظمة للغاية، ويبلغ طول كل منها خمسة ملليمترات تقريبا. إضافة إلى ذلك، فالمسافة بين الخطوط متسقة بدرجة كبيرة، مما يوحي بأن هذه العلامات قد نقشت عن قصد وبشكل منهجي. وبجوار هذه العلامات توجد نقوش صغيرة، يتوازى كل منها مع الخطوط الأكبر. وتوحي هذه الخطوط الثانوية الصغيرة بأن العظمة كانت تستخدم لمتابعة تقدم شيء ما. (في الشكل
2-1 ، تظهر النقوش الثانوية إلى اليسار قليلا من الخطوط الأساسية على القرن.) لقد غفل الكثيرون عن أهمية قطعة قرن الوعل؛ فهي لم توصف إلا مؤخرا في دورية متخصصة في مجال علم الإنسان، دون الإشارة إلى ما يترتب عليها من نتائج أعم. بالرغم من ذلك، فعلى العكس من رسمة مونتي أليجري، يمكن لنا أن نطرح فرضية تتسم بدرجة كبيرة من المنطقية، بشأن وظيفة العلامات الموجودة على القرن. إن هذه العلامات توحي بالفعل بأن هذه القطعة من القرن هي أقدم أداة معروفة في العالم الجديد، استخدمت لأهداف تتعلق بالتقويم، وتوجد العديد من الأدلة التي تؤيد هذا الاستنتاج.
2
شكل 2-1: قرن غزال الرنة المكتشف في ليتل سولت سبرينج بفلوريدا، مع يد زميل لتوضيح الحجم. الصورة الفوتوغرافية من التقاط المؤلف.
إن المياه في ليتل ووتر سبرينج فقيرة بالأكسجين (فهي تفتقر إلى الأكسجين المذاب) فيما يزيد عن عمق 5 أمتار تحت السطح. والقطعة المعنية، وهي جزء مستو من قرن، ويبلغ طولها 8 سنتيمترات تقريبا وتزن ما يقرب من خمسين جراما، قد اكتشفت على عمق 8 أمتار. لقد كانت محاطة بالماء الفقير بالأكسجين منذ أن قطعت قبل 10000 عام تقريبا، والآثار لا تتلف في الماء الفقير بالأكسجين بالدرجة التي تتلف بها في الماء المعتاد؛ إذن فالقرن محفوظ بعناية شديدة؛ ولهذا يمكننا أن نثق بأن عدد العلامات الموجودة على جانبه هو نفسه العدد الذي نقشه ذلك الفنان قبل كل هذه الأعوام. إضافة إلى ذلك، فقد اكتشف القرن مغروسا في الأرض بجوار حافة جرف تحت الماء، ولم يكن هذا الجرف مغمورا تحت المياه في العصر الجليدي الذي صنعت فيه هذه الأداة، حين كانت مستويات المياه المحيطة بفلوريدا أقل انخفاضا مما هي عليه الآن بدرجة كبيرة. وقد كانت القمة المنحدرة لهذا الجرف تستخدم بمثابة موقع صيد في ذلك العصر؛ فقد اكتشفت هناك العديد من بقايا الحيوانات والأسلحة، وذلك على يد عالمي الآثار البحرية بجامعة ميامي؛ جون جيفورد، وستيف كوسكي، وطلابهما. وقد قام هذا الفريق البحثي بوصف هذه البقايا والأسلحة المعنية وأرخها بدقة، واكتشف أنها تعود إلى العصر ذاته الذي ينتمي إليه القرن المنقوش. ونظرا لأن قرن غزال الرنة قد اكتشف في هذا الموقع، فمن المنطقي أن نفترض أن العظمة كانت تستخدم لغرض متعلق بالصيد. ولدينا دليل آخر مهم يدعم هذا الاستنتاج الأخير، وهو أن قطعة القرن قد نقش بها تسعة وعشرون خطا أساسيا، ولدينا الآن جزء مكشوط، حيث كان به أحد هذه الخطوط كما يدل على ذلك وجود نقش أصغر بجوار ذلك الجزء المكشوط. وأحد هذه الخطوط الموجودة في المنتصف أقل انتظاما؛ ولهذا فقد يكون ثمانية وعشرون خطا فقط هي التي نقشت عن قصد، غير أن هذا الاحتمال الأخير يبدو غير مؤكد؛ إذ إن المسافة بين العلامات متساوية، كما يتضح في الشكل
2-1 .
ولأنه من الواضح أن ليتل سولت سبرينج كانت تستخدم بمثابة موقع صيد في العصر الحجري، فمن المحتمل أن تكون العلامات الموجودة على القرن تمثل الأيام أو الليالي. فأطوار القمر تؤثر في ممارسات الصيد نظرا إلى بعض العوامل مثل تغير سلوك بعض الحيوانات في طور البدر، وتأثير ضوء القمر على حدة رؤية الصيادين؛ ومن ثم فالأرجح أن المصفوفة المنقوشة على القرن، التي تتكون من تسعة وعشرين خطا، تمثل عدد الأيام في الشهر القمري، الذي يمتد على مدار 29 يوما ونصف اليوم في المتوسط. ويدعم هذا التأويل التقويمي دليل موجود على القرن، لكنه أقل وضوحا؛ وهو أنه لا يوجد نقش صغير بجوار أحد السطور الطرفية في سجل العلامات (السطر الطرفي السفلي في الشكل
2-1 ). ويوحي لنا ذلك بأنه لم يكن ثمة حاجة إلى نقش علامة أصغر بجوار العلامة الأكبر، أي إن تسجيل العلامة الأخيرة لم يكن ضروريا على ما يبدو. وذلك هو ما كان سيحدث بالتأكيد إذا كان أحد الصيادين يتابع تقدم دورة القمر؛ فلن يكون هناك حاجة إلى تسجيل حدوث البدر/الهلال، في الليلة الفعلية المعنية، وسيكون الصياد مدركا تماما أن البدر أو الهلال قد حل. وبالنظر إلى هذه العوامل، وكذلك اكتشاف الأداة في موقع مرتبط بالصيد؛ فإن الاستنتاج الأرجح والجدير بالملاحظة بشأن قطعة القرن، هو أن الصيادين كانوا يستخدمونها أداة لعد الأيام/الليالي في الشهر، ثم عدها من جديد. ومعنى هذا أن البشر قبل ما يزيد على 10000 آلاف عام، وفي مكان غير بعيد عن ميامي التي نعرفها في الوقت الحاضر، كانوا يستخدمون العلامات الخطية لمتابعة تقدم الكميات. وقد كانت أرقام ما قبل التاريخ تتمثل في علامات العصي المنقوشة على جزء من قرن غزال قد قطع إلى حجم مناسب حتى يمكن حمله بسهولة في قبضة اليد. لقد كان ذلك بصفة أساسية تقويم الجيب في العصر الحجري، وقد حفظ مصادفة في مياه فقيرة بالأكسجين. (ومن المفترض أن العديد غيره لم يحفظ.)
بالرغم من أن «التقويم» المصنوع من قرن الغزال، والمكتشف في ليتل سولت سبرينج، قد يمثل أحد أوضح الأمثلة على الآلات الحجرية التي استخدمت لمتابعة دورة القمر، فمن المؤكد أن البشر الذين استخدموه لم يكونوا هم البشر الوحيدين في العصر الحجري الذين استخدموا نقش علامات العصي على العظام لمتابعة الكميات؛ ففي كهف جروت دي تاي في جنوب فرنسا على سبيل المثال، اكتشفت لوحة عظمية صغيرة منقوشة، ويعود تاريخها أيضا إلى العصر الحجري الحديث. ويظهر على سطح عظمة الضلع مئات الخطوط المنقوشة، وتوضح بعض التحليلات أن هذه الخطوط كانت تستخدم لأغراض تتعلق بالتقويم. ومن الأدوات الأخرى التي اكتشفت في فرنسا، لوحة أبري بلانشارد، وهي عظمة يعود تاريخها إلى 28 ألف عام، وتظهر عليها نقوش دائرية وبيضاوية تمثل على الأرجح أطوار القمر وحركته. إضافة إلى ذلك، يبدو أن البشر في أوروبا في العصر الحجري الحديث، كانوا يستخدمون نظام عصي أقل تعقيدا، لتمثيل الكميات، وذلك يشبه كثيرا استخدام بشر العصر الحجري العلوي القديم الذين كانوا يعيشون فيما نعرفه اليوم بفلوريدا. ويؤيد هذا الاستنتاج نموذج لنظام عصي بسيط، قد اكتشف أيضا في فرنسا، وهو عظمة أبري سيليه أفيان التي تقترب في العمر من أداة أبري بلانشارد. تحتوي عظمة أبري سيليه على علامات خطية، تفصل بينها مسافة منتظمة بدرجة كبيرة، مثل قرن ليتل سولت سبرينج. ولا يوجد بجوار العلامات نقوش أصغر، كالتي تتضح في قطعة ليتل سولت سبرينج، وهي لا تمثل الكمية 29 أو أي كمية أخرى يمكن فهم أسباب تمثيلها بعلامات العصي. بالرغم من ذلك، فإن أحد التحليلات الحديثة يوضح أن عظمة أبري سيليه، لا تختلف عن أداة جروت دي تاي وأداة أبري بلانشارد؛ فهي تقدم دليلا على أن مخترعها، أو مخترعيها، قد عمدوا إلى تمثيل المفاهيم العددية بطريقة مادية.
3
يبدو لنا إذن أن البشر في أوروبا وأمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية، كانوا يمثلون الكميات في بعدين منذ آلاف السنوات. ونحن لا نعلم على وجه اليقين ما إذا كانت أرقام ما قبل التاريخ تستخدم مع مفردات الأعداد أم لا، لكن بالنظر إلى الدور الذي تؤديه مفردات الأعداد في تيسير عملية التفكير الرياضي وتمييز الكميات المتكررة (انظر الفصل الخامس)، فإن هذه الأدوات تدل بالفعل على أن مخترعيها كانوا يستخدمون اللغة العددية. إننا لا نعرف بصورة واضحة طول المدة التي كان البشر يستخدمون فيها أرقام ما قبل التاريخ المنقوشة والمرسومة، لكنهم كانوا يستخدمونها على الأرجح على مدار عشرات الآلاف من الأعوام. في هذا الفصل وفي الفصلين الثالث والرابع، سوف أوضح استنتاجا بسيطا يتضح في البيانات الأثرية العالمية واللغوية كذلك، وهو أن البشر كانوا منشغلين دائما بتمثيل الكميات. إن مصطلحات الكميات تؤدي دورا طاغيا وشاملا تقريبا، في لغات البشر المعاصرة، مما يدل على دورها البارز في تاريخ الكلمة المنطوقة. وبالمثل، فإن تركيز البشر على الأعداد يبرز في السجل الأثري وفي تاريخ أنظمة الكتابة؛ فالأعداد منقوشة بالفعل على سجلنا التاريخي.
مثلما هي الحال في جميع النقاشات عن تطور الأنظمة الرمزية البشرية، فإن تركيزنا يتحول بالضرورة إلى أفريقيا. وبصورة أكثر تحديدا، يسترعي انتباهنا إقليم صغير في الكونغو، وهو الإقليم الذي كان عالم الجيولوجيا البلجيكي، جون دي هينزيلين، قد اكتشف فيه في العام 1960 قصبة ساق أحد حيوانات البابون يبلغ طولها 15 سنتيمترا، ويوجد عليها بعض النقوش. وبعد تأريخ هذه العظمة، التي سميت بعظمة إيشانجو، على اسم المكان الذي اكتشفت فيه في بحيرة إدوارد، اتضح أنها تبلغ من العمر عشرين ألف عام على الأقل. وعلى جوانب العظمة التي يقترب شكلها من الأسطوانة، يوجد ثلاثة أعمدة من الخطوط التي تظهر فيها علامات مجمعة في مجموعات. ومنذ اكتشاف هذه العظمة يدور جدل حاد بشأن دلالة هذه المجموعات؛ فقد اقترح البعض أن المجموعات تشير إلى استخدام النظام العددي الاثني عشري (الأساس 12) أو الوعي بالأعداد الأولية، أو النظام العشري. غزيرة هي الفرضيات؛ لأننا لا نعرف الغرض الذي استخدمت العظمة لأجله بالتحديد، غير أننا نعرف بالتأكيد أن الخطوط التي تمتد على جوانب العظمة، متوازية تقريبا مع مثيلاتها من الخطوط الموجودة في الأعمدة الأخرى. (وتختلف الخطوط في الاتجاه اختلافا طفيفا، وهي تختلف أيضا بعض الشيء في الطول.) والأهم من ذلك أن الكميات التي تظهر في مجموعات العلامات ليست عشوائية؛ فالعمود الأول يتضمن العدد التالي من الخطوط، بالترتيب من الأعلى إلى الأسفل: 3، 6، 4، 8، 10، 5، 5، 7 (المجموع = 48). ويتضمن العمود الثاني مجموعات تتكون بالترتيب من 11 و21 و19 و9 (المجموع = 60). وكالعمود الثاني، يتضمن العمود الثالث أيضا 60 خطا، لكنها ترد في مجموعات تتكون من 11 و13 و17 و19. وجميع الأعداد في هذا العمود الأخير هي أعداد أولية، وتلك مصادفة على الأرجح، لكن ما يبدو مصادفة أقل هو تساوي المجموع الكلي للعلامات في العمودين؛ فهو يبلغ ستين في كلا العمودين. إضافة إلى ذلك، لدينا احتمال واضح بأن العمود الأول يشير إلى نمط من أنماط المضاعفة، نظرا إلى وجود مجموعات متجاورة هي عبارة عن 3 / 6، و4 / 8، و5 / 10 على التوالي.
4
ربما تكون الفرضيات المتنوعة الجذابة بشأن العلامات الموجودة على الجوانب، هي السبب في أننا عادة ما نغفل بشأن عظمة إيشانجو حقيقة بسيطة لكنها هامة، وهي أن أحد طرفي العظمة تبرز منه قطعة حادة من معدن المرو، وهي سن مدببة ملحقة بها، من الواضح أنها كانت تستخدم في النقش. يبدو أن عظمة إيشانجو كانت تستخدم بمثابة قلم رصاص في العصر الحجري؛ لقد أمسك شخص ما بهذه العظمة بين أصابعه ذات مرة، واستخدمها للنقش على أشياء أخرى؛ عظام على الأرجح. والاستنتاج البارز هنا هو أن جوانب العظمة ربما كانت تستخدم بمثابة جدول مرجعي عددي للشخص الذي يحملها، بينما يقوم هو بدوره بتسجيل كمية من العناصر أو الأحداث، بشكل تفصيلي، على جانب عظمة أخرى أو قطعة خشب، أي إن هذه العظمة كانت تستخدم لهدف فعلي ونظري في الوقت ذاته. إنها تبدو كمسطرة للعصر الحجري؛ فالكميات ممثلة على جوانبها لتيسير عملية مضاعفة هذه الكميات وغيرها بدقة. إن هذه العظمة تشير إلى أن بعض سكان أفريقيا كانوا يجرون عمليات المضاعفة على أرقام ما قبل التاريخ، منذ عشرين ألف عام على الأقل.
وبعض العظام الأفريقية الأخرى التي تظهر على جوانبها خطوط منقوشة، يعود تاريخها إلى أبعد من ذلك، وينطبق الأمر نفسه على بعض العظام المكتشفة في أوروبا، مثل عظمة الذئب التي يبلغ عمرها 33 ألف عام، والتي تحتوي على خمس وخمسين علامة على أحد جوانبها، وقد اكتشفت في جمهورية التشيك، غير أن وظائف معظم هذه المنقوشات القديمة للغاية قد ضاعت للأبد على الأرجح. بالرغم من ذلك، يبدو لنا أن إحدى العظام الأفريقية، وهي أقدم كثيرا من عظمة إيشانجو؛ إذ يقدر عمرها باستخدام وسائل التأريخ بالكربون المشع بحوالي 43000 عام أو 44000، كانت تستخدم لأهداف تتعلق بالرياضيات، اكتشفت هذه العظمة في سلسلة جبال ليبومبو التي تمتد على الحدود بين جنوب أفريقيا وسوازيلاند، وتوجد أيضا على جوانبها خطوط منقوشة. عظمة ليبومبو هي قصبة ساق إحدى حيوانات البابون، وهي شبيهة في الحجم بعظمة إيشانجو، لكنها كانت تستخدم لوظيفة أقل تعقيدا، أو أوضح على الأقل؛ فهي تحتوي على تسعة وعشرين خطا منقوشا على أحد جوانبها، ومن ثم فقد كانت تستخدم على الأرجح لتتبع دورة القمر، مثل قرن الغزال المكتشف في ليتل سولت سبرينج. وبالرغم من أن هذا التفسير ليس مؤكدا؛ إذ إن العظمة مكسورة من كلا الطرفين، وهي ليست مقطوعة بانتظام كقرن ليتل سولت سبرينج، فهو تفسير منطقي في ضوء ما سبق ذكره من أهمية دورة القمر بالنسبة إلى الجماعات البشرية، وكذلك في ضوء حقيقة أن بعض الشعوب الأفريقية المعاصرة تستخدم تقويمات العصي المشابهة لها.
5
ما يتضح لنا من كل هذه العظام التي يتضمنها السجل الأثري، هو أن البشر كانوا يسجلون الكميات بطريقة مادية، باستخدام أرقام ما قبل التاريخ منذ عشرات الآلاف من الأعوام. فلطالما كنا مهتمين بتسجيل الكميات ومتابعتها، سواء أكانت دورة القمر التي تتكون من 29 يوما، أو غيرها من فئات الكميات التي تحدث في الطبيعة. ويتضح هذا الاهتمام الذي تمسكنا به طويلا، على مستوى العالم؛ إذ ظهر لدى الشعوب التي أتت لتقيم في فلوريدا، والأمازون، وجنوب فرنسا، وفي وسط أفريقيا وجنوبها، ومن المؤكد أن العديد من المواقع الأخرى لا تزال بها أدوات مدفونة.
القليل فقط من التقنيات التي ابتكرها البشر، كان لها هذا القدر من التأثير الذي حققته أنظمة العصي الأساسية. وقد أدت أنظمة العصي الأكثر تعقيدا دورا أكثر أهمية في أوروبا وغيرها من الأماكن في الألفية الماضية، ولا تزال بعض أنظمة العصي الأساسية تستخدم حتى الآن. ومن الأمثلة المتعددة على هذه الأنظمة، سوف نلقي نظرة على نظام العصي الذي تستخدمه قبيلة جاراوارا، وهم مجموعة من السكان الأصليين يبلغ عددهم مائة فرد، ويعيشون تحت ظل غابات الأمازون الكثيفة في الجنوب الغربي، وهم يعيشون بصفة أساسية على الصيد والتقاط الثمار. لا يزال هؤلاء الأشخاص بارعين في استخدام أساليب البقاء التقليدية، والعديد منهم أيضا على بعض الدراية بالحياة المتمدنة في البرازيل. وقبل خمسة أعوام فقط، كنا نعتقد أن هؤلاء الأفراد يفتقرون إلى وجود أعداد خاصة بهم من أي نوع. بالرغم من ذلك، فكما سنرى في الفصل الثالث، اتضح أن الجاراوارا كانوا يستخدمون نظاما شفهيا للأعداد على مدار قرون عديدة، وكانوا يستخدمون أيضا نظام العد بعلامات العصي، وقد كان هذا النظام منقوشا على الخشب لا على العظام. ويوضح الشكل
2-2
أحد أمثلة هذا النظام، حيث تظهر صورة غصن شجرة صغير عار، قد حفر فيه ببراعة أحد رجال الجاراوارا سلسلة من الشقوق، وهذه الشقوق المثلثة المحفورة في الغصن ترد في مجموعات منتظمة؛ فهي ترد في مجموعات تتكون من 1 و2 و3 و4 و5 و10 نقوش منفصلة. وقد شرح لي الفنان الذي حفر هذه الشقوق استخدامها التقليدي: عند الإشارة إلى الكميات، كعدد الأيام التي من المتوقع أن يقضيها أحد رجال الجاراوارا في السفر على سبيل المثال، سيشير الرجل إلى المجموعة المناسبة من الشقوق؛ فإذا كان يتوقع أن يسافر لمدة أسبوع مثلا، فيمكنه أن يشير إلى مجموعة تتكون من خمسة شقوق، وأخرى تتكون من شقين. وهذا التمثيل للكميات مفيد للغاية، غير أننا سنرى في الفصل الخامس أن بعض الثقافات التي تعيش في منطقة الأمازون لا تستخدم أي تمثيلات مشابهة للكميات، سواء أكانت حسية أو لفظية أو بصرية؛ فهي ثقافات لا عددية. أما الجاراوارا، فقد اعتادوا على استخدام نظام عصي محمول، لا يختلف كثيرا عن ذلك الذي استخدمه صيادو فلوريدا في ليتل سولت سبرينج، قبل 10000 عام. ونظرا لأنهم استخدموا الخشب لا العظام لتسجيل نظامهم، وكذلك مع مراعاة استهلاك غابات الأمازون لمعظم الأدوات التي صنعها البشر ؛ فإن نظام العصي الذي يستخدمه الجاراوارا لم يكن ليبقى حاضرا في السجل الأثري لفترة طويلة. بالرغم من ذلك، فنظرا لوجود رسومات قديمة تشبه نظام العصي في مونتي أليجري، فالأرجح أن سكان الأمازون، كانوا هم أيضا يتحرون الدقة في الكميات منذ آلاف الأعوام. ولا شك أن العديد من التقنيات المثيرة للاهتمام، والتي كانت تستخدم لتصوير الكميات بصريا، مثل ذلك النظام الذي يستخدمه الجاراوارا، قد ضاعت بمرور الزمن نتيجة للتحلل المادي، وليس ذلك في الأمازون فقط، بل في جميع أنحاء العالم.
6
شكل 2-2: نظام العصي التقليدي لدى الجاراوارا. الصورة من التقاط المؤلف.
على بعد مئات الكيلومترات باتجاه الجنوب الغربي للقرى القليلة والصغيرة التي تسكنها قبيلة جاراوارا، حيث حافة إقليم الأمازون، اكتشف مؤخرا نوع مختلف تماما من النقوش، وهي نقوش تتفق مع الاستخدام القديم للأعداد، على يد مجموعة غير معروفة من البشر، غير أن هذه النقوش ليست على الخشب ولا على العظام، بل على الأرض. إنها مجموعة كبيرة من رسوم «الجيوجليف» الضخمة¬¬، وهي عبارة عن خنادق خطية محفورة في الأرض، ويبلغ عمقها من مترين إلى ثلاثة أمتار. عند رؤيتها من الأعلى، فإن هذه الرسوم تمثل أشكالا هندسية منتظمة، كالدوائر والأشكال رباعية الأضلاع. وبعضها مربعات منتظمة تماما بأضلاع متساوية يصل طولها إلى 250 مترا. والأمر الغريب أن بعض هذه الرسوم يعود تاريخه إلى أكثر من 2000 عام. لقد ظلت مغطاة بالغابات الكثيفة على مدار قرون طويلة، إلى أن سمحت إزالة الغابات باكتشافها مصادفة، من طائرة صغيرة. وبالرغم من أن قصة المعماريين الذين صمموا هذه الرسوم لا تزال غامضة نظرا لقدمها، فمن الجلي أن هؤلاء الأشخاص قد اعتمدوا على التطابق الرياضي المعتاد لابتكار هذه الرسوم.
7
لقد أنتجت رسوم «الجيوجليف» هذه في وقت حديث نسبيا، مقارنة ببعض ما ذكرناه من الأرقام الرياضية الأكثر وضوحا، والتي تنتمي إلى مرحلة ما قبل التاريخ. غير أن هذه الرسوم تمثيل واضح لأحد الموضوعات الشائعة في علم الآثار، وهو أن آثار انشغال البشر الدائم بالأعداد، كثيرا ما تتضح في السجلات المادية. وينطبق ذلك على أشهر أنواع بقايا العصر الحجري القديم، وهي رسومات الكهوف، كما يتضح ذلك في الموقع الموجود بالقرب من مونتي أليجري. وبالرغم من صعوبة معرفة وظائف رسومات الكهوف، فإن بعض توجهات فن العصر الحجري القديم تتجلى في الجدران الداخلية في بعض الكهوف. وبالرغم من استحالة معرفة المعنى الذي تنطوي عليه هذه الرسومات على وجه التحديد، فغالبا ما يمكننا معرفة أعمارها بدقة. ففي الأماكن التي استخدم فيها الفنانون الأصليون الطلاء المعدني مثل المغرة لرسم أعمالهم، يمكننا تأريخ هذه اللوحات بشكل غير مباشر، وذلك من خلال استخدام الأدوات ذات الأساس العضوي، التي توجد بالقرب من العمل الفني. أما الرسومات الفحمية، فإنها تسمح بتأريخها بالكربون المشع بشكل مباشر من خلال تأريخ الطلاء المستخدم في الرسم.
إن الجمع بين التأريخ والتأويل يوضح بعض ما تتضمنه رسومات الكهوف الأوروبية من عناصر أساسية متكررة قديمة للغاية، وغالبا ما نجد في هذه الرسومات ظهورا للحيوانات؛ فللثيران البرية وغيرها من أنواع الأبقار، دور بارز للغاية، إضافة إلى الثور الأمريكي والخيول وغيرها من الثدييات الكبيرة. ويتكرر في هذه الرسومات أيضا ظهور عنصر آخر، وهو اليد البشرية؛ إذ تظهر في أقدم الرسومات الأوروبية، كالرسومات الموجودة في كهف إل كاستيلو في إسبانيا (عمرها 40000 عام تقريبا)، وفي كهف شوفيه (32000 عام تقريبا)، وكهف لاسكو بجنوب فرنسا (17000 عام تقريبا). وربما يكون لشكل اليد في هذه الكهوف وظيفة عد من نوع ما، غير أن ذلك تخمين فحسب. أما رسومات الأيدي المطبوعة في كهفي كوسكار وجارجاس في فرنسا، التي يعود تاريخها إلى 27000 عام تقريبا، فقد كان لها على الأرجح وظيفة عددية؛ فالرسومات المطبوعة في هذين الكهفين تصور أياد يسرى تمتد أصابعها من 1 إلى 5، وفي جميع الرسومات، يظهر الإبهام مرفوعا وكأنه يعبر عن العدد الأول في تسلسل العد. وقد ذكر عالم الآثار كارينلي أوفرمان، والذي أجرى أبحاثا رائعة عن التمثيلات العددية في السجل البشري المادي، أن رسومات الأيدي المعنية في هذين الكهفين تعبر عن أسلوب العد من الإبهام (1) إلى الإصبع الصغيرة (5). (ومعنى هذا أن الإبهام بمفردها مرفوعة تمثل العدد 1، وحين تكون الأصابع كلها مرفوعة، بما فيها الإصبع الصغيرة؛ فإن ذلك يمثل الكمية 5.) وإذا قبلنا بتلك الافتراضات فإنها تشير إلى أن ما دون ذلك من تمثيلات الأيدي البشرية في العصر الحجري القديم، ربما كانت تستخدم هي الأخرى لتمثيل الكميات.
8
إن ما يلفت النظر تحديدا في سياق ما نطرحه الآن، هو أن اليد البشرية وأصابعها عنصر أساسي يتكرر في جميع رسومات الكهوف على مستوى العالم، لا الكهوف الأوروبية فحسب. وبالفعل، فإن بعضا من أقدم الرسومات المعروفة في العالم، في كهف سولاويسي بإندونيسيا، مزخرفة برسومات ملونة للأيدي، تظهر فيها كل إصبع بوضوح. يبلغ عمر رسومات كهف سولاويسي ما يقرب من 40000 عام، وكغيرها من العديد من الرسومات الموجودة في الكهوف الأخرى، قد صنعت من خلال وضع الصبغة على يد ثم وضع اليد على الجدار. وفي السياق نفسه، فإننا نجد بعض رسومات الطباعة بالأيدي في كهف فيرن في أستراليا، ويعود تاريخ هذه الرسومات إلى ما يقرب من 12000 عام. وحتى في أمريكا الجنوبية، يظهر عنصر اليد بدرجة كبيرة في الأشكال الفنية التي يبلغ عمرها 10000 عام تقريبا، والموجودة في كهف «كويفا دي لاس مانوس» أي «كهف الأيدي» - وهو اسم على مسمى - الذي يوجد في منطقة بتاجونيا بالأرجنتين. ويضم هذا الكهف عشرات الصور الملونة للأيدي، وهي تظهر في الشكل
2-3 .
9
شكل 2-3: رسومات الأيدي المطبوعة في كهف كويفا دي لاس مانوس، بالأرجنتين. ويكيميديا كومونز (
CC BY-SA 3.0 ).
لقد أدى تصوير الأيدي والأصابع دورا بارزا يتضح في جميع قارات العالم، في تطور الفن والرموز ثنائية الأبعاد. وبناء على هذا التوزيع العالمي لرسومات الأيدي، فمن المحتمل أن يكون البشر قد مارسوا رسم الأيدي قبل مغادرة أفريقيا. ويحمل هذا التفسير لتصوير الأيدي قدرا لا بأس به من التخمين، وربما يكون قد حدث لظروف فحسب. بالرغم من ذلك، ففي بعض الحالات على الأقل، يوضح التحليل التفصيلي وجود وظيفة عددية لرسومات الأيدي المطبوعة. ونظرا لأهمية الأيدي في التمثيل اللغوي للأعداد، الذي سنناقشه بالتفصيل في الفصل الثالث، ونظرا إلى الوظيفة العددية الواضحة لبعض الأدوات القديمة الأخرى، كعظمة إيشانجو ، فليس من المستبعد أن تكون لبعض هذه التمثيلات الفنية للأيدي وظائف أساسية تتعلق بالكميات؛ فرسومات الأيدي الموجودة في كهفي كوسكار وجارجاس تعبر عن العد بصفة خاصة. وحتى إذا نحينا هذه الافتراضات المنطقية جانبا، فسوف ندرك على الأقل أن رسومات الكهوف تمتلئ بالأدلة التي توضح تركيز البشر على أيديهم؛ فنحن قوم مشغولون بأيدينا. ومثلما سنرى في مناقشتنا عن الإدراك لدى الأطفال في الفصل السادس، فإن تطور التفكير العددي لدى الأطفال يرتبط ارتباطا وثيقا بهذا التركيز على اليد؛ فحتى ونحن لا نزال في الرحم، نبدأ بالانتباه إلى أيدينا. وعادة ما تتضمن محاولاتنا الأولى لتمثيل الكميات استخدام الأصابع، وكذلك فإن العد على الأصابع هو ممارسة منتشرة في جميع ثقافات العالم.
أيا كان ما يشير إليه كثرة ظهور الأيدي في رسومات الكهوف، بشأن تاريخ الأعداد، فالواضح أن العديد من إبداعات مختلف فناني العصر الحجري القديم، التي انتشرت في مناطق جغرافية مختلفة، وعلى مدار عشرات آلاف الأعوام، تصور الكميات. فللنقوش والرسومات القديمة تفسير عددي في معظم الحالات، وقد أدى تمثيل الكميات بالعصي دورا متكررا في عرض أفكار الإنسان على عظام الحيوانات والخشب والأرض وجدران الكهوف.
لم يؤدي تمثيل الكميات مثل هذا الدور البارز في مثل هذه الأعمال الإبداعية القديمة؟ أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال ذات شقين على الأقل؛ أولهما هو سهولة تمثيل الكميات في صورة ثنائية البعد، مقارنة بغير ذلك من جوانب الخبرة البشرية كالوقت (الذي يبدو أنه كان يمثل بطريقة غير مباشرة في أعمال العصر الحجري القديم من خلال علامات العصي التي تمثل الدورات السماوية)، أو الانفعالات أو بعض المواقع الفعلية المحددة كذلك، والتي تستلزم درجة أكبر من التعقيد الفني؛ كي يتم التعبير عنها بدقة من خلال الرسم. وعلى العكس من ذلك، فالخطوط البسيطة وغيرها من العلامات يمكنها تمثيل الوحدات أو الكميات بطريقة سهلة ومباشرة، غير أن ذلك يثير التساؤل عن السبب في أن علامات العصي تعبر عن غيرها من الأشياء بسهولة شديدة وبطريقة مجردة، دون أن تصورها فعليا. وربما تكمن إجابة هذا السؤال في أيدينا، وإن كان ذلك بصورة جزئية على الأقل، وهي تتمثل في التشابه بين العلامات الخطية البسيطة وأصابعنا التي تشبه الخطوط. يمكننا أن نقول بطريقة ما: إن الأصابع هي خطوط تشريحية ثلاثية الأبعاد؛ فليس من المفاجئ إذن أن نجد الأفراد في العديد من الثقافات حول العالم، وليس الأفراد في جميع الثقافات بالتأكيد، قد استخدموا الخطوط لتمثيل الكميات، مثلما يستخدمون الأصابع للغرض نفسه. ومعنى هذا أن الانتقال من أنظمة العد على الأصابع إلى أنظمة العد بعلامات العصي، يستلزم قفزة إدراكية أبسط مما يستلزمه اختراع أنواع أخرى محتملة للتمثيلات البصرية للأفكار. فمن الناحية العملية، تستند أنظمة العد بالعصي إلى طريقة مباشرة لتمثيل الأفكار على مساحة ثنائية البعد، وذلك مقارنة بالعناصر والأفكار التي تزيد صعوبة تمثيلها بأسلوب فني، وما من مدخل تشريحي يسهم في تمثيلها تمثيلا بسيطا.
وأما الشق الثاني، وربما يكون الأهم، فهو أن علامات العصي الرقمية المنقوشة، وكذلك الرسومات التي تعبر عن ممارسات العد على الأصابع، وإن كان ذلك على نحو افتراضي بصورة أكبر، قد انتشرت بصورة أكبر في السجل الأثري بسبب فائدتها لمبتكريها. إن الوسائل التمثيلية لترميز الكميات ذات فائدة عظيمة؛ فمن السهل جدا أن نرى على سبيل المثال بعض المزايا المحتملة لإعداد جدول بالعدد الدقيق لرجال إحدى القبائل التي ينتظر شن غارة عليها، أو تسجيل العدد الدقيق للحيوانات المفترسة الموجودة بالقرب من المرء. ومن السهل أيضا أن ندرك بعض المزايا المحتملة لتتبع وحدات دورة القمر، وبالرغم من أن البشر يستطيعون العيش والنجاح بالطبع دون تتبع مثل هذه الكميات، فإن مزايا القيام بذلك تساعد في تفسير السبب في أن جميع ثقافات العالم تقريبا تستخدم الأعداد. ويمكن لهذه المزايا أن تحسن من معدلات البقاء على قيد الحياة، سواء في الحرب أو الصيد. إن وظيفة أرقام ما قبل التاريخ، تتجاوز العوامل الروحية والاجتماعية والبلاغية. إنها قد تكون ضرورية، في بعض الحالات على الأقل؛ لمجرد البقاء على قيد الحياة.
ليس من العجيب إذن أن نجد أن أرقام ما قبل التاريخ قد أدت مثل هذا الدور البارز في هذا التمثيل المجرد الذي ابتكره البشر خلال العصر الحجري القديم. ولم يقتصر دورها البارز في هذه التمثيلات ثنائية البعد للأفكار، على العصر الحجري، وإنما تجلى أيضا بعد ذلك بآلاف السنين، حين تحول البشر إلى تمثيلات رمزية أكثر تعقيدا للأفكار؛ ففي فجر الكتابة، احتل دور البطولة الذي تقوم به الأعداد مركز الصدارة مرة أخرى.
الأعداد في مرحلة نشأة الكتابة
الساحة الكبرى للمتحف البريطاني في وسط لندن، محمية بمظلة من الزجاج والصلب، وتعمل هذه المظلة الشفافة بمثابة مصفاة للضوء؛ فهي ترشح سماء لندن الرمادية، وتلقي بضوء سماوي أبيض على مجموعة المصنوعات البشرية الهائلة التي تقطن تحتها. وهي مجموعة منقطعة النظير من نواح عديدة، نظرا إلى الطريقة التي جمعت بها الإمبراطورية البريطانية هذه الكنوز من جميع أنحاء العالم (أو ربما الوصف الأنسب أنها استولت عليها، في بعض الحالات على الأقل). ومن هذه الكنوز حجر رشيد، الذي يحيط به دوما حشد من السياح هم أشبه بالمصورين المتطفلين، وهو يقع إلى اليسار في اتجاه القاعة الجنوبية الغربية المجاورة للساحة الكبرى. أما في الطابق الأعلى للقاعة، فيقبع غرض آخر أصغر وأبسط، ومهمل بعض الشيء، لكنه قد يمدنا برؤى أعظم عن تطور الكتابة البشرية. على جدار عادي غير مزخرف، وفي معرض بسيط لتاريخ الكتابة البشرية، يعلق لوح من الجص يبلغ عمره 5300 عام (أكبر من حجر رشيد بثلاثة آلاف عام). لا يزيد طول هذا اللوح على بضعة سنتيمترات في كل جانب، ويضم خطوطا ونقطا نقشت في الجص، قبل كل هذه الأعوام. ونحن نعرف الآن أن هذه النقط والخطوط تمثل كميات، كميات حبوب على الأرجح، أو ربما سلعة أخرى كانت تستخدم في المعاملات الاقتصادية، وهي نظامية بدرجة أكبر من العلامات التي تظهر في سجل العصر الحجري القديم؛ فهي ليست مجرد علامات عصي تعبر عن الكميات، بل تمثل طريقة قياسية للتواصل في بعدين. إنها أول رموز كتابية فعلية نعرف عنها؛ فكل خط وكل نقطة يعبر عن كمية محددة مجردة. وبعبارة أخرى، فالعلامات الموجودة على لوح الجص هي أرقام فعلية.
من بين ضباب الممارسات الرمزية المنتشرة حول العالم، ظهرت الكتابة الفعلية في بلاد الرافدين في الوقت الذي شكل فيه هذا اللوح. وهذا اللوح المعروض في لندن الآن، هو مثال على التحول الذي بدأه الكتاب في بلاد الرافدين، وهو التحول من استخدام الطرق البسيطة في تصوير الكميات إلى الكتابة مكتملة الأركان. إن علماء الكتابات الأثرية وغيرهم من العلماء، عادة ما يفرقون بين الكتابة التي توفر ترميزا كاملا للغة معينة، وبين الكتابة الأولية، وهي صورة أقدم من الممارسة الرمزية (غير أنها أقل قدما من أرقام ما قبل التاريخ المستخدمة في سياقات العصر الحجري القديم)، وهي لا تصور سوى مجموعة محددة من المعاني المحتملة. واتخاذ قرار محدد بشأن ما إذا كان أحد النصوص القديمة ينتمي إلى فئة الكتابة الأولية أم الكتابة الفعلية، ليس بالأمر السهل، والواقع أن هذه المصطلحات تعتم العملية التدريجية التي تطورت الكتابة من خلالها.
وإذا نحينا الاختيارات الاصطلاحية جانبا، نجد أنه من المتفق عليه عامة أن أول تطور شامل للكتابة، قد حدث في منطقة الهلال الخصيب، وتحديدا في بلاد الرافدين على يد السومريين. غير أنها ليست اختراعا خاصا بمنطقة الشرق الأوسط فحسب؛ فقد تطورت أيضا بصورة مستقلة في الصين وأمريكا الوسطى. ومن هذه الأقاليم، انتشرت الكتابة وتطورت وفقا للاحتياجات اللغوية والاجتماعية والاقتصادية المحلية. واليوم توجد العشرات من أنظمة الكتابة، مثل ذلك النظام الذي أستخدمه الآن للتعبير عن أفكاري إليك. بالرغم من ذلك، يمكننا أن نتتبع أصل جميع هذه الأنظمة الكتابية العديدة ونردها إلى واحد من ثلاثة أساليب أساسية للكتابة، وذلك بطرق فعلية ومثبتة تاريخيا. وسيكون تركيزنا هنا على نشأة أقدم أنظمة الكتابة الفعلية، الذي تطور في بلاد الرافدين. (وفي الفصل التاسع، سنناقش باختصار، أصول بعض أنظمة الكتابة الأخرى.) لقد ولدت الكتابة البشرية لأول مرة في هذه المنطقة، وتوضح قصة الميلاد هذه الدور الأساسي الذي أدته الأرقام في بداية تطور الكتابة.
10
بطريقة ما، ليس هناك ما يدهش في تلك الجاذبية التي طالما اتسمت بها الرموز العددية؛ إذ إن الطلاقة في مثل هذه الرموز قد أدت، ولا تزال تؤدي، دورا اجتماعيا اقتصاديا في حياة الناس. فالعديد من هذه الرموز الكتابية التي تعبر عن الكميات، والتي حفظت جيدا، هي عملات معدنية أو أدوات تشبهها، ترمز لقيم مالية محددة. ومع مراعاة النسب المحدودة لمعرفة القراءة والكتابة على مدار معظم تاريخ وجود الكتابة البشرية، فالعملات المعدنية وغيرها من أنواع العملات المرتبطة بكميات محددة، قد ظلت على مدار فترة طويلة (ولا تزال في بعض مناطق العالم) هي الرموز الوحيدة التي يستطيع الناس تفسيرها. وحتى بعد تطورها المستقل في أوراسيا والأمريكتين، ظلت الكتابة الفعلية على مدار ألف عام، مهارة متخصصة، يمارسها ويعلمها للآخرين مجموعة محددة من الأفراد في عدد قليل من المجتمعات. فدروس الكتابة في نهاية المطاف، هي ترف اقتصادي قد نتج بصورة غير مباشرة عن الزراعة التي أتاحت وجود مثل هذه المهنة المتخصصة. وقد أدت الوظيفة الاقتصادية للأعداد دورا واضحا في تطور نقوش الكتابة في مجتمع بلاد الرافدين الزراعي، وقد أدى هذا الدور في النهاية إلى تشكيل لوح الجص الذي يوجد فوق الساحة الكبرى في المتحف، فلنتناول سريعا إحدى النظريات التي تفسر كيفية حدوث ذلك.
من المحتمل أنه قبل فترة تقدر بثمانية آلاف عام، كان البشر في بلاد الرافدين يتقايضون كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية والحيوانات فيما بينهم. وقد سهل المقايضة في المنطقة إدراكهم لإمكانية تمثيل الكميات بصورة رمزية، ونقلها عبر مسافات بعيدة. إن إحدى الوسائل الأساسية التي تطورت في هذه المنطقة، قد تبدو الآن عتيقة، غير أنها كانت ثورية ولا شك في ذلك الوقت، وهي أوعية متينة من الفخار مملوءة بعملات رمزية، كانت بمثابة العقد. فإذا افترضنا مثلا أن أحد ملاك الأراضي قد وافق على أن يدفع لمالك أرض آخر مقدارا محددا من الأغنام؛ فيمكن تسجيل هذا الاتفاق في كرة من الطين، فتوضع العملات الرمزية التي تمثل الكمية المحددة من الأغنام في الطين الذي يوضع بعد ذلك في أفران حتى يصبح صلبا؛ ومن ثم فقد كانت كرة الفخار بمثابة سجل يمكن نقله وكسره بعد ذلك حين الوفاء بالعقد. ولتيسير عملية التسجيل؛ كان من الممكن الإشارة إلى عدد العملات الموجودة داخل الإناء الفخاري ، على الجانب الخارجي منه. ومع الوقت، اخترعت رموز خارجية محددة لتمثيل أنواع البضائع التي تتكرر كثيرا في المعاملات. وكان يمكن بعد ذلك مضاهاة هذه الرموز الخارجية مع عدد العملات الرمزية الموجودة داخل الإناء. ومما لا شك فيه أن نظام المضاهاة هذا قد سرع وتيرة التعاملات الاقتصادية في هذا الزمن السابق على العملات النقدية الفعلية.
إننا لا نعرف على وجه التحديد طول المدة التي استمر خلالها هذا النظام الكمي الثلاثي الأبعاد لتمثيل السلع، في بلاد الرافدين. وعلى أي حال، فقد بدأ السومريون في نهاية المطاف في التخلي عن العملات الرمزية الداخلية تماما، وتحول النظام تدريجيا من نظام ثلاثي الأبعاد إلى نظام ثنائي الأبعاد (غير أنه من المحتمل أن يكون النظام الثلاثي الأبعاد قد استمر في بعض الأماكن). ومعنى هذا أنه بدلا من ترميز كميات السلع التجارية بعملات حقيقية داخل الأواني الفخارية، كانت الكميات تمثل ببساطة على ألواح طينية صغيرة جاءت لتحل محل تلك الأواني. وبالفعل، كانت تلك الأواني والعملات الموجودة بداخلها زائدة عن الحاجة. فكل ما كان ضروريا لحفظ العقود، هو طريقة منهجية لتسجيل السلع والكميات الموجودة على الفخار. ومن المرجح أن تكون الكتابة المسمارية، وهي أول كتابة اخترعها البشر، قد ولدت تدريجيا من هذه الفكرة. فمع مرور الوقت، امتد استخدام هذا النظام لترميز الكميات والبضائع ليشمل أغراضا أخرى. وتطورت رموز جديدة للسلع وغيرها من الأفكار، مرة تلو الأخرى، من خلال أجيال جديدة من النقوش الكتابية. وأصبحت وسائل تسجيل هذه الرموز المصورة على الطين منظمة، وذلك باستخدام الخوص أو القصب لنقش الرموز بعناية، وبطريقة تتيح فهمها بسهولة، ثم جاء تمثيل قواعد اللغة بعد ذلك، إلى أن أصبح من الممكن في النهاية تمثيل جميع الجمل بالكتابة. وبينما نحن نتحدث بكل يسر عن «اختراع» الكتابة، فقد تطورت بالفعل على مدار آلاف الأعوام. بالرغم من ذلك، فمن الواضح أنه في بداية هذا التطور الطويل في بلاد الرافدين، كان تمثيل الكميات موجودا بالفعل، وقد كان ذلك في الواقع هو صميم الكتابة المبكرة.
ثمة شيء يدعى «مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة» هو الذي يسرع التطور التدريجي لأنظمة الكتابة، مما يؤدي إلى السرعة في استخدام الرموز المستندة إلى الأصوات، بدلا من الرموز المعبرة عن أفكار ومفاهيم، كالرموز المستخدمة في الأشكال الأولى من الكتابة السومرية. ويشير مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة إلى استخدام الرمز نفسه في تمثيل لفظتين متجانستين صوتيا. فلتتأمل مثلا هذا المثال الخيالي البسيط: تخيل لو أن الكتابة الإنجليزية كانت تمثل بالرموز أو الصور المعبرة عن الأفكار، بحيث يمثل الرمز الواحد فكرة أو مفهوما أساسيا، لا صوتا. وتخيل أيضا أن مفهوم «العين» أو بالإنجليزية
Eye
يمثل من خلال هذا الشكل الذي يتمثل في قوسين بينهما علامة النجمة ( ⋆ )، ويمكننا القول إن هذا الرمز يمثل العين الفعلية بطريقة أيقونية ولكن مجردة إلى حد ما. لكن لنقل مثلا: إنه لا يوجد رمز للضمير «أنا» الذي يعبر عنه في الإنجليزية بكلمة
I
في هذا النظام لكتابة الإنجليزية، ويمكننا أن نتخيل السبب في ذلك؛ إذ إنه ما من طريقة مادية سهلة لتمثيل ذلك المفهوم، فالمقصود بالضمير «أنا» يتغير وفقا للمتحدث. بالرغم من ذلك، فإذا كنت كالعديد من الكتاب في التاريخ، فسوف تدرك أنه يمكن استخدام « ⋆ » للتعبير عن مفهوم «العين» والضمير «أنا» في الوقت ذاته إذا كان لهما الصوت نفسه. ويشار لهذه الفكرة باسم «مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة» وهي تمثل خطوة كبيرة تجاه تطور أنظمة الكتابة الصوتية الأكثر تجريدا، التي تستخدم عددا أقل من الرموز. ونظرا لوضعها القديم في أنظمة الكتابة، فقد تأثرت الأرقام نفسها بهذا المبدأ على الأرجح؛ فكانت رموزا تمثل الألفاظ المتجانسة صوتيا معها. والواقع أن بعض أشكال الكتابة الحديثة في الرسائل النصية مثلا تؤيد هذا الاحتمال؛ فقد يستخدم البعض هذا التجانس الصوتي فيكتبون مثلا أنهم:
2 good 4 you
وفي هذه الحالة يرمز «2» إلى
too (وهما متجانسان صوتيا في الإنجليزية ومختلفان في المعنى)، ويرمز «4» إلى
for ، (وهما أيضا متجانسان صوتيا ومختلفان في المعنى)، وتستخدم هذه الطريقة لسهولتها في كتابة الرسائل النصية والتعبير عن المعنى بطريقة أسهل وأسرع. بالرغم من ذلك ، يمكننا بسهولة أن نتخيل واحدا من السيناريوهات تمثل فيه بعض المفاهيم المجردة مثل
too
وكذلك
for
من خلال الأعداد؛ لا بغرض السهولة، وإنما لأن الصور الكتابية لمثل هذه المفاهيم غير الملموسة لم توجد بعد.
11
لقد كان مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة عاملا محفزا ولا شك في تطور أنظمة الكتابة القائمة على المقاطع وأنظمة الكتابة القائمة على الحروف، لكن علينا أن نتذكر أن مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة يعتمد على وجود رموز سابقة عليه تعبر عن الأشياء الأقل تجريدا، كالسلع والكميات. وأكثر ما يسترعي الملاحظة في سياق مناقشتنا، هو أن نزعة الإنسان للتعبير عن الكميات باستخدام الرموز قد كانت قديمة وتأسيسية؛ فوضعت الأساس لتطورات تالية، مثل مبدأ استخدام الرموز في تمثيل أصوات اللغة، الذي أدى في نهاية المطاف إلى تأسيس أنظمة الكتابة التي تشبه أبجديتنا.
أحد أشكال الكتابة التي تطورت بعد ذلك في بلاد الرافدين، هي كتابة تكتب بالرموز الرياضية؛ فقد طور السومريون، والبابليون من بعدهم، وهم آخر قاطني منطقة بلاد الرافدين، رموزا رياضية واضحة مكتوبة. فقبل 3600 عام تقريبا، كان البابليون يستخدمون الجبر والهندسة بالفعل، وكانوا قادرين على حل المعادلات التربيعية، وكانوا قد اكتشفوا قيمة ثابت الدائرة
π
بالفعل (بدرجة تقريبية على الأقل)؛ ومن ثم يبدو أن تمثيل الكميات قد أشعل شرارة تطور الكتابة السومرية، وهو ما نتج عنه في نهاية الأمر، القدرة على تمثيل الكميات بصورة أوضح.
12
موجز القول أن أقدم أنظمة الكتابة ينبع - ولو جزئيا على الأقل - من الفائدة الجوهرية لتمثيل الكميات، ومن سهولتها النسبية في تمثيل المفاهيم الرقمية بصورة مجردة. وكما رأينا من قبل، فإن هذه السهولة تنعكس أيضا في الممارسات التمثيلية الأقدم والأقل انتظاما، التي كان يستخدمها البشر في العصر الحجري القديم. فمن العصر الحجري إلى العصر الزراعي، لدينا خيط براق من الأعداد يلتف حول السجل الرمزي البشري.
الأنماط في الأرقام القديمة
بينما كان السومريون هم أول من استخدم الأرقام بصورتها المكتملة، فقد تطورت الأعداد المكتوبة في أماكن أخرى كذلك. والواقع أن الأرقام قد ظهرت في مراحل مختلفة في التاريخ على مستوى العالم؛ إذ إن لدينا ما لا يقل عن مائة نظام مسجل لتدوين الأعداد، غير أن الغالبية العظمى من هذه الأنظمة قد تطورت عن أنظمة أخرى، أو طورت على الأقل، مع الوعي بأن شعوبا أخرى قد دونت الأرقام بالفعل. إن العديد من هذه الأنظمة العددية المعنية قد أصبحت الآن بائدة، غير أن الأمثلة المتبقية منها تتيح لنا فهم كيفية عملها.
حين ندرس الأنظمة العددية الحالية والبائدة، تتشكل لدينا فكرة واضحة بشأن وجود أنماط مشتركة في الطريقة التي يستخدمها البشر في كتابة الأعداد. فلنلق نظرة على هذه الأنماط من خلال دراسة بعض الأنظمة العددية التي أدت دورا بارزا في الحضارات الإنسانية. وأفضل نقطة نبدأ منها هي دراسة الأرقام في نظام الترقيم الغربي. والواقع أن هذا النظام معدل من نظام الترقيم العربي، الذي هو معدل بدوره من أحد الأنظمة التي تطورت في الهند.
13
فما كيفية عمل نظام الترقيم الغربي؟ لا يوجد سوى عشرة رموز في نظام الترقيم الذي نستخدمه: 0، 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9. وقد تبدو هذه الملاحظة واضحة للغاية؛ فهي عشرة رموز فقط بالطبع. وقد يكون من الصعب أن نتخيل أنظمة عددية أخرى تتكون من أكثر من عشرة رموز أو أقل من ذلك، غير أنه ليس من الضروري أن تكون أنظمة الترقيم عشرية، بل يمكن أن تتكون من أي عدد من الرموز. فأحد الأنظمة التي استخدمها اليونانيون القدماء، هو نظامهم العددي الأبجدي، الذي كان يتكون من نحو أربعة وعشرين حرفا، تمثل قيما مختلفة. وتذكر أيضا أننا نجمع بين هذه الرموز العشرة، لنكون منها أرقاما أكبر، مثل مائتين واثنين وعشرين 222. فلتتأمل القواعد اللازمة لكي تفهم هذا الرقم. فأنت تعرف مثلا أن أرقام 2 المتتالية لا تعني مجرد الجمع، أي إن 222 لا يعني 6، أو 2 + 2 + 2. هذه الأرقام المتتالية تدل على المضاعفة، لكن هذا الرقم لا يعبر عن حاصل ضرب 2 في ثلاثة، وهو لا يرمز أيضا إلى الكمية 8، أو 2 × 2 × 2، وإنما تشير «الخانات» أو الأماكن في نظامنا العددي إلى مضاعفة ضمنية بأسس العدد عشرة؛ لذا فإن 222 تشير إلى 2 × 10
2
زائد 2 × 10
1
زائد 2 × 10
0 ، أي 200 زائد 20 زائد 2. وبعبارة أخرى، فإنك حين تقرأ الأرقام المكتوبة وفقا لنظام الترقيم الغربي، فأنت تضيف على الدوام حاصل ضرب الأعداد التي ضربت في إحدى قيم الأس عشرة؛ ومن ثم فإن 2456346 تعني بالنسبة إليك: (2 × 10
6 ) + (4 × 10
5 ) + (5 × 10
4 ) + (6 × 10
3 ) + (3 × 10
2 ) + (4 × 10
1 ) + (6 × 10
0 ). ثمة تعقيد أصيل في هذه الأرقام غالبا ما نغفل عنه بسبب اعتيادنا عليه، ولأن تصنيف الكميات إلى عشرات يبدو أمرا طبيعيا للغاية. وبالرغم من انتشار الأنظمة العشرية في الأنظمة العددية على مستوى العالم، وفي الأعداد المنطوقة على مستوى العالم كذلك، فإننا لم نزود في شفرتنا الوراثية بمهارة تصنيف الأعداد إلى مجموعات عشرية؛ فتعلم نظامنا العددي يتطلب مجهودا كبيرا، ويشهد على ذلك مقدار الوقت الذي يستغرقه الأطفال الصغار في تعلم قواعد كتابة الأعداد الكبيرة وقراءتها. إضافة إلى ذلك، فالقواعد العددية تتغير بتغير الثقافة، وثمة قدر كبير من الاختلاف بين الأنظمة العددية التي تطورت في مناطق مختلفة، والعديد من أنواع هذه الأنظمة العددية لا يقوم على أساس تصنيف الكميات إلى عشرات. ولكي أوضح هذه النقطة؛ سنقوم بجولة مختصرة في حضارة المايا القديمة.
تحت أوراق الأشجار الكثيفة في الغابات الاستوائية، وتحت الضباب في بعض الأحيان، ظلت مدينة بالينكي الحجرية مدثرة بالطبيعة على مدار قرون، قبل «اكتشافها» على يد الأوروبيين في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، وذلك بعد أن دمر غزاة الكونكيستدور قدرا كبيرا من التراث الثقافي لأمريكا الوسطى. وهذه السلسلة من الأطلال المتخفية في خط القمم المنحدر المحيط بالأراضي المرتفعة في تشياباس، قد بهرت المستكشفين منذ ذلك الحين. في مدينة بالينكي، صنع الأوروبيون في أواخر القرن الثامن عشر بعض الرسومات المبكرة للرموز الهيروغليفية لحضارة المايا، وهناك أيضا، قد التقطت بعض الصور الفوتوغرافية المبكرة لهذه الرموز، في أواخر القرن التاسع عشر. وبالرغم من أن أهل المايا قد أنتجوا مخطوطات غير عددية (كتب قابلة للطي تصنع أوراقها من لحاء الشجر، وبها كتابات ملونة)، فإن معظمها كان طعاما للمحارق التي أقامها أفراد الرهبان الإسبان، مثل الراهب السيئ السمعة فراي دييجو دي لاندا؛ كان دي لاندا يسعى إلى إجبار السكان الأصليين لأمريكا الوسطى على التحول عن دينهم؛ ولهذا فقد أباد القدر الكبير من الثقافة المادية الرمزية التي أنتجها هؤلاء السكان الأصليون، وأباد معها معظم أمثلة كتابة المايا الكلاسيكية. لقد أمر بإحراق النصوص التي أنتجها السكان الأصليون بعد أن عرف أن بعض أهل المايا ما زالوا يمارسون نظامهم العقائدي التقليدي. ونتيجة لجهوده، وجهود آخرين من بعده؛ لم يحفظ من هذه النصوص أو المخطوطات سوى عدد قليل، وأخيرا وصل ثلاثة منها إلى بعض الرفوف الأوروبية، في باريس ومدريد ودريسدن. لقد أسهمت النقوش الغامضة الموجودة على الأحجار في أطلال بعض المدن، مثل بالينكي وتيكال وكوبان وغيرها من مواقع المايا، في تعزيز الانبهار بكتابة المايا. ما الذي تعنيه هذه الرموز الغريبة المنقوشة على الحجر، التي تصور حيوانات وبشرا مزخرفي الثياب، والعديد من أنواع الرموز الأخرى؟ أكانت طبيعة هذه الرموز لغوية، أم أنها كانت فنية في الأساس؟ لقد ظل الباحثون يخوضون نقاشات محتدمة بشأن إجابة هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المرتبطة بالموضوع على مدار عقود؛ وذلك في أثناء فك رموز النص المكتوب بلغة المايا تدريجيا على مدار القرنين الماضيين.
غير أن أول اكتشاف مهم في عملية فك الرموز، قد جرى على يد شخص قد درس بعض أجزاء مخطوطات المايا التي أعيد إنتاجها في مكتبة دريسدن. ففي عام 1832، وضع قسطنطين صمويل رافينيسك، وهو رجل فرنسي غريب الأطوار يهتم بهوايات متعددة، تحليلا لأنماط هذه المخطوطة. وقد كانت هذه الأنماط التي حللها موجودة أيضا في النقوش الحجرية التي أذهلت مستكشفي مدينة بالينكي وغيرها من مدن المايا. وما لاحظه رافينيسك هو أنه بين جميع هذه النقوش والكتابات، ووسط هذا البحر من الصور التي لا يبدو أنه قد يمكن فك رموزها، توجد سلسلة متكررة من النقاط والخطوط، التي كانت أقل رمزية من الرموز المجاورة لها. فما الذي قد تعنيه هذه النقاط والخطوط؟ لاحظ رافينيسك أنه لم يكن يوجد أبدا في أي صف أكثر من أربع نقاط، فمعظم الصفوف كانت تحتوي على نقطة واحدة أو اثنتين أو ثلاث نقاط أو أربع. إضافة إلى ذلك، فقد لاحظ أن النقاط كانت توضع في معظم الأوقات بجوار خطوط، فخمن أن النقاط تعبر عن وحدات مفردة، وقد كان محقا في ذلك؛ فالنقطة الواحدة تمثل عنصرا واحدا والنقطتان تمثلان عنصرين ... وهكذا. واستنتج أن الخط يمثل خمسة عناصر، وذلك يشبه الطريقة التي تكتب بها خطا مائلا على أربع علامات عند تمثيل خمسة عناصر بنظام العد بالعصي على قطعة من الورق. وقد غيرت هذه الملاحظة فهمنا لرموز المايا، وكانت هي الخطوة الأولى نحو فك رموز كتابة المايا. ثم أتت إحدى الخطوات التالية الأساسية التي تضمنت أرقام المايا، وأوضحت أن النظام العددي لهذه الثقافة معقد إلى حد ما.
بعد عقود من اكتشاف رافينيسك، قدم باحث ألماني يدعى إرنست فورستمان، تحليلات للأرقام المصورة في مخطوطة دريسدن. ومن بين الرؤى التي قدمت في العديد من الأعمال التي نشرت في الفترة ما بين 1880 إلى 1900، قد لاحظ أن أرقام المايا الموجودة في المخطوطة كثيرا ما كانت تمثل كميات كبيرة تتوافق مع ظواهر فلكية، مثل دورة كوكب الزهرة. لقد ظل العمل الذي قام به فورستمان صامدا أمام ما تلاه من فحص دقيق ودراسة عميقة للكتابات، ولعب دورا أساسيا في فك رموز المايا في القرن العشرين. لقد قدم فورستمان وصفا مفصلا للعناصر الأساسية للتقويمات الأساسية التي كان يستخدمها شعب المايا، وكذلك وضح الرياضيات المعقدة التي كانوا يمارسونها.
14
بالرغم من أن النظام العددي للمايا، الذي ساعد فورستمان في فك رموزه، ليس نظاما عشريا، فإنه يتشارك بعض التشابهات التركيبية مع الأنظمة العددية كالنظام الغربي. فكيف كتب أهل المايا الأرقام؟ لقد استخدموا رمزا للدلالة على الصفر، وهو على الأرجح أقدم رقم يستخدم للتعبير عن الصفر في العالم. استخدم رمز الصفر لحفظ القيمة المكانية، أي مثلما يستخدم في نظام الترقيم الغربي. وبدلا من التوجه الأفقي لنظامنا، الذي نحرك فيه الأرقام بمقدار خانة إلى اليسار للدلالة على مضاعفة هذا الرقم في أس عشرة الذي يليه، كانت أرقام المايا تمثل رأسيا لتمثيل ما حدث من تغيرات للأسس. (بالرغم من ذلك ، يمكن تدوير أعداد المايا أفقيا في النصوص، وهو أمر محير بعض الشيء.) غير أن فورستمان قد لاحظ أن النظام العددي للمايا يقوم على أساس العشرين لا العشرة، أي إنه نظام عشريني لا عشري. في الشكل
2-4 ، كتبت رقمين من أرقام المايا؛ لكي أقدم نبذة عن كيفية عمل النظام الترقيمي للمايا. على اليسار، نجد تمثيلا للعدد 437، وتساعدنا الخطوط المكونة من نقاط على توضيح الطبيعة الرأسية لأرقام المايا، من خلال الفصل بين خانات الأسس الضمنية، غير أن كتابة المايا لم تكن تحتوي على هذه الخطوط، وإنما أضفتها من أجل التوضيح (ومن أجل التوضيح أيضا؛ بالغت في المسافات بين الخانات). في العدد الموضح على اليسار، نرى أن المجموعة السفلى من الخطوط والنقاط، تتضمن ثلاثة خطوط ونقطتين، وهي تمثل 17. ويمكننا أن نتخيل ذلك على أنه 5 + 5 + 5 + 2. وفي المجموعة الوسطى من الرمز، لا نجد سوى نقطة واحدة، وهي تمثل 1 مضروبا في الأساس الذي يرفع له الأس الأول. ونظرا إلى أن نظام المايا العددي هو نظام عشريني؛ فهذا يعني أن النقطة تمثل 20 أو 1 × 20
1 . أما النقطة العليا، فهي تمثل 1 مضروبا في الأساس، ومرفوعا إلى الأس 2 أو 1 × 20
2 . ومعنى هذا أن النقطة العليا تمثل 400، وتمثل النقطة الوسطى 20، أما المجموعة السفلى من الخطوط والنقاط، فهي تمثل 17. ومعا، فإن هذه الرموز تمثل 400 + 20 + 17 أو 437. لقد كانت أرقام المايا تتضمن الضرب والإضافة كأرقام النظام الغربي، لكن الأساس مختلف.
شكل 2-4: نموذج لأرقام المايا. لاحظ أنه في الأرقام التقويمية يمكن لبعض النقاط أن تمثل 360 لا 400. وقد سهل هذا النظام العشريني تتبع السنوات.
في الجزء الموضح على اليمين في الشكل
2-4 ، نقدم تمثيلا للرقم 1080. وفي هذه الحالة، فإننا نجد في الجزء السفلي من الرقم تنويعة من الشكل البيضاوي الذي يرمز إلى الصفر في أرقام المايا. أما المجموعة الوسطى من الخطوط والنقاط فهي تمثل 14 (أي 5 + 5 + 4)، غير أن الأساس العشريني الذي يستخدمه النظام الترقيمي للمايا، يشير إلى أن هذه الكمية المتمثلة في الرقم 14 مضروبة في الرقم 20، مما ينتج لنا 280. وتحتوي المجموعة العليا من العدد على نقطتين، وهما تمثلان الكمية 2 × 20
2 ، نظرا إلى موقعيهما؛ ولهذا فإن النقطتين العلييين تمثلان 2 × 400 (800)، وتمثل الخطوط والنقاط السفلى 14 × 20 (280)، أما الرمز السفلي فهو يمثل 0 × 1 (0)، مما ينتج لنا المجموع 1080.
15
ربما تبدو أرقام المايا غير عملية؛ لأنها لا تتبع الأساس العشري. بالرغم من ذلك، فكما ذكرت سابقا، ليس البشر مفطورين على التفكير في العناصر على هيئة مجموعات من عشرة، كل ما في الأمر أن معظمنا يمارس المجموعات العشرية جيدا بسبب اللغة (اللغات) التي نتحدث بها، وأنظمة الترقيم التي نعرفها. لقد كان نظام أرقام المايا عمليا، واستمر على مدار أجيال كثيرة، وعلاوة على ذلك فهو يسبق نظام الترقيم الغربي بالعديد من القرون. فلو أن سكان المايا قد وجدوا أن نظامهم الترقيمي غير عملي، لما كانوا قد استخدموه لهذه المدة الطويلة.
بالرغم من غرابة طريقة كتابة المايا للأرقام، فعلينا أن نلاحظ أنها تتشارك الكثير مع نظام الأرقام الذي نستخدمه؛ فهي تعتمد بشدة على استخدام مفهوم الخانات، مثلما نستخدم الصفر لحفظ «القيمة المكانية». وبالرغم من أن النظام العددي للمايا يرتب خانات الأعداد ترتيبا رأسيا، بينما يرتبها نظامنا ترتيبا أفقيا، فإن الخانات في كلا النظامين تعبر عن مضاعفة الرقم الموضح في أساس وأس ضمنيين، وهذا الأساس في نظامنا هو العدد عشرة، أما في نظام المايا، فهو العدد عشرون. غير أن استخدام هذين الأساسين، لم يحدث بصفة عشوائية، بل إن الدور الهيكلي للعدد خمسة والعدد عشرين في أرقام المايا، والعدد عشرة في أرقامنا، يوضح كيف أن الجسم البشري كان هو الأساس لكلا نظامي الترقيم. فليس من المصادفة أن البشر يمتلكون خمسة أصابع في كل يد، وعشرة أصابع في كلتا اليدين، وعشرين إصبعا في اليدين والقدمين، وأن هذه الكميات تؤدي مثل هذا الدور المهم في أرقام المايا، ونظام الترقيم الغربي، وهي أيضا تؤدي دورا مهما في أنواع أخرى من أنظمة الترقيم، التي تطورت بشكل مستقل.
16
لنتناول نظام الكويبو الذي كانت تستخدمه إمبراطورية الإنكا. لقد كانت أرقام الكويبو ثلاثية الأبعاد، تتكون من عقد تربط في الحبال بعناية، وتصنع هذه الحبال من خيوط القطن أو غير ذلك من المواد مثل فراء حيوانات الألبكة أو اللاما. وقد كانت هذه الخيوط تجدل مع خيوط أخرى؛ فتكون مصفوفة بها ما يقرب من ألف من الفتائل التي توصل بحبل أساسي أكثر سمكا منها. وكل فتيل من هذه الفتائل يمثل عددا منفصلا، أما العقد الموجودة في هذه الفتائل، فهي تمثل الأرقام، وقد كان يستخدمها محاسبو الإنكا لتسجيل الضرائب والبضائع على سبيل المثال، وكذلك لإجراء الإحصاءات. لقد كان هذا النظام فريدا في تكوينه ومادته، غير أن التكوين الرمزي لأرقام الإنكا، يشبه النظام العددي الغربي في واقع الأمر. فالنظام العددي للكويبو، يقوم هو أيضا على أساس إضافة مجموعات مضاعفة من العدد عشرة (أي إنه نظام عشري)، وهو يستخدم أيضا وسائل للتعبير عن العناصر الصفرية. يشير عدد العقد الموجودة على فتيل معين، إلى مضاعفات العشرة، وتستخدم فراغات قصيرة بين العقد للفصل بين خانات الرقم، وفراغات طويلة للتعبير عن الصفر. فلتتخيل على سبيل المثال هذه السلسلة من العقد على أحد الحبال: عقدة واحدة في الأسفل (1)، وتتبعها فجوة صغيرة على الحبل لا تحتوي على أي عقد، ثم ثلاث عقد متجاورة (30)، ثم عقدتين متجاورتين (200)، ثم فجوة قصيرة، ثم فجوة واحدة في أعلى الحبل (1000)، وذلك بالقرب من تقاطعه مع الحبل الأساسي؛ حبل الكويبو الأكثر سمكا. يمثل هذا الحبل إذن، 1 + (3 × 10
1 ) + (2 × 10
2 ) + (1 × 10
3 ) أو 1231. ولتتخيل أيضا حبلا يبدأ بعقدة واحدة في الأسفل (1) وتتبعها فجوة طويلة من الحبل دون عقد (0)، ثم ثلاث عقد (300)، ثم فجوة صغيرة تتبعها عقدتان في أعلى الحبل (2000). إن هذا التسلسل من العقد يمثل 1 + (0 × 10
1 ) + (3 × 10
2 ) + (2 × 10
3 ) أو 2301. وموجز القول أنه بالرغم من الاختلافات المادية الواضحة بين أرقام الكويبو وأرقام النظام الغربي، فإن أرقام الكويبو ليست مختلفة تماما عن أرقام النظام الغربي؛ إذ إنها كانت تستخدم الأساس العشري، وكذلك استخدمت شكلا من أشكال الصفر. ويتضح هذا التشابه التركيبي فيما يقرب من 600 نموذج لنظام الكويبو، وهي النماذج الموجودة في المتاحف والمجموعات الخاصة.
17
معظم أنواع الأرقام التي تطورت على مدار الألفيات القليلة الماضية، وفي مناطق مختلفة من العالم، تتشارك في بعض التشابهات التركيبية الواضحة. ويعود بعض هذا التشابك إلى حقيقة أن الأرقام لم تظهر مستقلة إلا في عدد قليل من الأماكن. بالرغم من ذلك لا يمكن تفسير جميع هذه التشابهات على أنها ناجمة عن تأثير الثقافات والإمبراطوريات المحيطة، وإلا لكان لنظام ترقيمي، كنظام الأرقام الرومانية، تأثير أكبر على أنظمة الترقيم الحالية. غير أن هذا النظام، الذي كان يفتقر إلى مفهوم الصفر لحفظ القيمة المكانية، وكثيرا ما كان يتطلب كتابة سلاسل طويلة من الرموز للدلالة على كميات صغيرة (على سبيل المثال،
XXXVIII
يساوي 38)، لم يعد يستخدم إلا في سياقات محددة. لقد مهد الطريق لنظام يستخدم رمزا للتعبير عن الصفر، وخانات تعكس مجموعات من العدد عشرة.
تختلف أنواع الأرقام في بعض النواحي التي لن نتطرق إليها هنا، غير أن الاختلاف في قيمة الأسس محدد بدرجة كبيرة في أنظمة الترقيم التي لا ترتبط ببعضها، الحالية منها والقديمة. وتعود هذه المحدودية إلى حقيقة بسيطة، وهي أن أنواع أنظمة الترقيم الأساسية في العالم، سواء أكانت أنظمة عشرية اخترعت في الصين، وتطورت في شرق آسيا، أو تلك الأنظمة التي بدأ استخدامها في الهند أو وسط أمريكا أو الأنديز، تجمع بينها نزعة مشتركة. إنها تتخذ جميعا العدد عشرة أو أحد مضاعفات العدد خمسة أساسا لها. والحافز التشريحي لهذه النزعة واضح، وهو أن الكميات التي نراها بصورة منتظمة في أجسامنا أساسية للغاية في كيفية بنائنا للأعداد. وتنطبق هذه الحقيقة على الأرقام المكتوبة والأعداد المنطوقة كذلك، ومثلما سنرى في الفصل الثالث، فإن أصابع اليدين، وأصابع القدمين بدرجة أقل منها، كان لها تأثير كبير للغاية في تشكيل الأرقام على مدار آلاف الأعوام.
خاتمة
إننا لم نستعرض تاريخ نظم الأعداد التي ابتكرها البشر بصورة شاملة في هذا الفصل، وإن مثل هذا الأمر ليتطلب كتبا بأكملها. فنحن لم نناقش مثلا أنظمة المعداد الصيني، التي كانت ولا تزال تستخدم في مختلف الأماكن، مثل روما القديمة واليابان المعاصرة؛ لتسهيل التفكير في الأعداد ، لكنني يجب أن أذكر أن نظام المعداد الصيني المنتشر حول العالم، يتأسس هو أيضا على مجموعات تتكون من العدد خمسة والعدد عشرة.
18
بالرغم من ذلك، فإن الاستعراض الحالي لنظم الأعداد قد أكد على بعض النقاط الأساسية بشأن الممارسات الرمزية القديمة؛ ففي البداية قد وضح أن جدولة الكميات تظهر في العديد من أدوات العصر الحجري القديم حول العالم، وهو ما يدل على أن أرقام ما قبل التاريخ، قد كانت من أولى الرموز غير اللفظية (أو أشباه الرموز الأقل تجريدا). وفي معظم الأحيان، صورت أشكال الفن في العصر الحجري القديم أصابع الأيدي البشرية، وكانت تصورها أحيانا بطرق تدل على استخدامها في ممارسات العد القديمة. إضافة إلى ذلك يبدو أن سهولة تصوير الكميات وما يعود به ذلك من نفع، قد جعل من علامات العصي وغيرها من أرقام ما قبل التاريخ أمرا محوريا لأول تمثيل ثنائي البعد للأفكار.
ومع تطور الجدولة المنهجية للكميات الأكبر، عمد البشر إلى تصنيف الكميات إلى مجموعات أصغر يمكن التعامل معها حرفيا بشكل مادي. وفي نهاية المطاف طور البشر أنظمة ترقيم تقوم على أساس مجموعة محددة من العناصر التي نجدها بصورة منتظمة في الطبيعة، وهي أصابع اليد. لقد كان التركيز على الأيدي مهما للغاية لتطور الأرقام، مثلما كان بالقدر نفسه من الأهمية لرسم الأيدي على الكهوف في العصر الحجري. لقد كانت عقولنا في حاجة إلى أجسامنا، أو إلى أيدينا وأصابعنا تحديدا، من أجل معرفة الكميات. ويدعم هذا الاستنتاج أدلة من الأعداد المنطوقة، وهو ما سنذكره بقدر أكبر من التفصيل في الفصل الثالث، أما في هذا الفصل فقد رأينا أن أنواعا مختلفة من الأرقام المكتوبة تعزز هذا الاستنتاج. وقد رأينا أيضا أن الأرقام كانت موجودة في فجر الكتابة، والأرجح أنها كانت مهمة للغاية لتطور الكلمة المكتوبة.
الفصل الثالث
رحلة عددية حول العالم اليوم
إن المختصين بدراسة علم الإنسان، سواء أكانوا من علماء الآثار أم من علماء اللغة أم من غيرهم من العلماء، يجتازون الثقافات ماديا وزمنيا؛ لكي يتعرفوا على الحياة التي يعيشها البشر، والحياة التي عاشوها. ويعتمد الهدف الأسمى لمشروعنا، وهو أن نتوصل إلى فهم أعمق لما يعنيه كون المرء أحد أفراد نوع «الإنسان العاقل»، على هذه الدراسة العابرة للثقافات. في الوضع المثالي، ما الإنسان سوى إسفنجة تمتص المعرفة من التفاعلات المباشرة مع الثقافات المعاصرة الأخرى، أو التفاعلات غير المباشرة مثل دراسة بقايا الثقافات البائدة. وهذه التفاعلات والتبادلات ليست دائما مستوية بشكل أو بآخر؛ فعادة ما يكون ما نأخذه أعلى قيمة مما نتركه، بصرف النظر عن نوع المقابل الذي ندفعه.
مما يدعو إلى الامتنان أننا نحظى بالفرصة أحيانا في أن نشارك مظاهر ثقافاتنا التي تمثل قيمة لمن نتعلم منهم؛ ففي يوم خانق قبل بضعة مواسم مطيرة في إقليم الأمازون سنحت لي هذه الفرصة. كنت ألعب كرة القدم الأمريكية مع مجموعة من البرازيليين الذين يقطنون بالقرب من أحد الأنهار، ولاحظت انضمام لاعبين من السكان الأصليين، وقد كانا قصيري القامة، لكنهما يتمتعان بالسرعة والقوة الشديدتين. وبعد المباراة (التي لم يكن من قبيل المصادفة أنهما قد أحرزا فيها معا القدر الأكبر من الأهداف) بدأت معهما محادثة بذلك القدر المحدود الذي يعرفانه من اللغة البرتغالية. اكتشفت أنهما ينتميان إلى ثقافة الجاراوارا (التي ذكرتها في الفصل الأول)، وهي مجموعة من السكان الأصليين يبلغ عدد أفرادها مائة فرد تقريبا. وقد أصبحت متحمسا على الفور إلى أن أتعلم من هذين الرجلين؛ إذ إنهما يتحدثان واحدة من اللغات القليلة التي كان يزعم أنها لا تتضمن أي كلمات للأعداد. وسرعان ما اكتشفت أنهما أيضا كانا متحمسين إلى أن يكتسبا مني شيئا، وهو معرفة كيفية ركوب الدراجة النارية التي شاهداني وأنا أصل بها. على مدار الأسابيع العديدة التالية، تبادلنا هذه المكونات من ثقافاتنا الأصلية بعضنا مع بعض: تعلمت أنا عن لغتهما، وتعلما هما كيفية ركوب دراجة نارية للطرق الوعرة. خلال هذا الوقت الذي قضيته معهما، ومع بعض أصدقائهما وأفراد عائلتيهما (والذين كانوا مثلهما في رحلة قصيرة بعيدا عن حياة القرية)، أدركت أمرين أساسيين: أولهما أنه على العكس من المزاعم السابقة، يمتلك هؤلاء الأفراد نظاما عدديا أصليا مذهلا، وأما الأمر الثاني فهو أنهما بارعان وجسوران في تعلم كيفية ركوب الدراجة النارية.
يعيش أفراد الجاراوارا في قريتين أساسيتين تقعان بالقرب من نهر بوروس، وهو أحد الروافد الرئيسة لنهر الأمازون. وهم يتحدثون واحدة من مجموعة من اللغات المترابطة الموجودة في هذا الإقليم، وهي تنحدر عن لغة بائدة تسمى «أراوا الأولية» وقد كانت تستخدم على الأرجح قبل ما يزيد عن 1000 عام. ونحن نعرف الآن أن جميع هذه اللغات المترابطة تتضمن بضع كلمات أساسية تعبر عن الأعداد، وهي تتشابه مع بعضها. فعلى سبيل المثال الكلمة التي تعبر عن العدد «اثنين» متشابهة في جميع لغات الأراوا، مما يشير إلى أن هذه الكلمات تنتمي إلى الفئة التي يشير إليها علماء اللغة باسم «الكلمات ذات الأصل الاشتقاقي المشترك»، وهي كلمات تشتق من الكلمة نفسها في لغة سالفة، فهي لم تستعر من لغة أخرى في وقت أحدث، وهي تساعد علماء اللغة على إعادة بناء الكلمات البائدة التي تنحدر منها. وفي حالة لغة أراوا الأولية فإننا نثق الآن أن الكلمة التي تشير إلى العدد «اثنين» كانت « ⋆
باما». (في علم اللغة، تشير علامة النجمة إلى كلمة أعيد بناؤها وكانت توجد في لغة سالفة.) وفي معظم عائلات اللغات في العالم، يمكننا إعادة بناء الكلمات القديمة التي تشير إلى الأعداد مثل « ⋆
باما»؛ إذ إن الغالبية العظمى من لغات العالم الحالية تتضمن كلمات تعبر عن الكميات المحددة. حتى اللغات الأسترالية، التي تفتقر عادة إلى وجود مخزون كبير من مفردات الأعداد، تتضمن كلمات تعبر عن بعض الكميات. كل ذلك يوضح أن الأعداد المنطوقة هي اختراع بشري قديم للغاية، وتشترك فيه جميع لغات العالم الحالية، إضافة إلى اللغات السالفة التي كانت تستخدم قبل فترة طويلة. في هذا الفصل سوف نستعرض بعض الاكتشافات الأساسية التي تتضح في أعداد العالم المنطوقة، والتي أشير إليها ببساطة باسم الأعداد. (تمييزا لها عن «الأرقام» وهو المصطلح الذي أستخدمه للدلالة على الأعداد المكتوبة.)
1
يتضح أن الكلمة التي تعبر عن العدد «اثنين» في لغة الجاراوارا هي «فاما»، ومن الواضح أنها تشبه كلمة « ⋆
باما» التي استخدمها متحدثو لغة أراوا الأولية. وخلال المقابلات التي أجريتها مع معارفي من الجاراوارا، اتضح لي أن نظامهم العددي الأصلي، يتضمن العديد من الأعداد إلى جانب «فاما». في مقابلاتي الفردية معهم، طلبت منهم أن يخبروني بكلمة من لغتهم تصف عدد مجموعة من الأغراض قد وضعتها أمامهم على طاولة، وتطابقت إجابات البالغين السبعة الذين تطوعوا لمساعدتي. إضافة إلى ذلك، حين طلبت منهم بعد ذلك ترجمة بعض مفردات الأعداد البرتغالية إلى لغتهم، تطابقت إجاباتهم أيضا. ونتيجة لهذه الجلسات؛ استنتجت أن الجاراوارا لديهم نظام أصلي للأعداد، على عكس المزاعم السابقة. ومثلما هي الحال في العديد من لغات العالم، فالكلمات الأصلية التي تعبر عن الأعداد، قد استبدلت بها في لغة الجاراوارا كلمات الأعداد الأكثر نفعا، التي تنتمي إلى القوة الاقتصادية المهيمنة التي يضطر الأفراد إلى التفاعل معها. (راجع مناقشة الأنظمة العددية المعرضة للخطر في الفصل التاسع.) وبالرغم من استخدامهم للأعداد البرتغالية التي تستخدم في البرازيل، فإن من قابلتهم من أفراد الجاراوارا البالغين، تمكنوا من تذكر أعدادهم الأصلية التقليدية.
2
ونوضح فيما يلي بعض مفردات الأعداد في لغة الجاراوارا (الكلمات المكتوبة بين قوسين هي كلمات اختيارية):
الكلمة بلغة الجاراوارا
الكمية
ohari
1
fama
2
fama oharimake
3
famafama
4 (yehe) kahari
5 (yehe) kahari famamake
7 (yehe) kafama
10 (yehe) kafama ohari
11 (yehe) kafama kafama
20
يمثل النظام العددي للجاراوارا مدخلا مفيدا لما سنقوم به من استعراض الأعداد في لغات العالم المنطوقة؛ إذ إن الأنماط الواضحة في الأنظمة تشير إلى وجود قواسم مشتركة بين معظم اللغات في العالم. وعلى وجه التحديد تظهر أسس أعداد الجاراوارا في العديد من الأنظمة العددية في العالم. والأساس هو كلمة تتكرر في الأعداد المنطوقة بلغة معينة، بصورة واضحة في معظم الأحيان، أو بصورة مستترة في بعضها، وهو وحدة بناء لأعداد أخرى.
3 (ومثلما رأينا في الفصل الثاني، يمكن استخدام هذا المصطلح أيضا للإشارة إلى القيمة التي ترفع إلى قوة أسية محددة في نظام الأعداد المكتوبة). فلنلق نظرة سريعة على أسس أعداد الجاراوارا. في البداية، نلاحظ تكرار الكلمة
fama
في الأعداد كلها؛ فالعدد «اثنان» يعني
fama «وأربعة» هو
famafama ؛ أي إنه صيغة مضاعفة من الكلمة «اثنين». وينطبق الأمر نفسه على الكلمة التي تعبر عن العدد «عشرة»، وهي (
yehe )
kafama
أي «مع (يدين)» ونجد أن الكلمة التي ترمز إلى يد
yehe
فيها مستترة لا ظاهرة؛ ومن ثم يمكننا أن نستنتج أن الجاراوارا يستخدمون ما يعرف باسم الأساس الثنائي (الأساس 2)، أي إن العدد «اثنين» يستخدم بصفته وحدة بناء لبعض الأعداد الأكبر على الأقل، بالرغم من ذلك فهو ليس الأساس الوحيد الذي يتضح لنا. بداية من العدد «خمسة» نلاحظ أن
yehe
مستخدمة في جميع الأعداد المتبقية، ولو بشكل ضمني على الأقل. إن أفضل ترجمة ممكنة للكلمة التي تشير إلى العدد «خمسة» هي «مع يد» ويظهر هذا الأساس الخماسي (الأساس 5) على مدار النظام العددي. وأفضل ترجمة للكلمة التي تعبر عن العدد «سبعة» هي «يد مع زوجين» أما الكلمة التي تعبر عن العدد «عشرة» فترجمتها «مع يدين» وتستخدم هذه الكلمة أساسا لبقية الأعداد مثل «أحد عشر» و«عشرين».
من الواضح أن نظام أعداد الجاراوارا يستخدم أساسات متكررة لا أسماء أصلية لكل كمية بعينها، وهو يشبه في ذلك معظم أنظمة الأعداد المنطوقة، وهو يشبهها أيضا في أن العدد خمسة له مكانة مميزة بصفته أساسا متكررا. إضافة إلى ذلك، نجد أن العدد عشرة يتكرر، مع أنه هو نفسه يقوم على أساس العدد خمسة. عادة ما تكون أنظمة الأعداد المنطوقة في العالم عشرية - أي أنها تعتمد على الأساس عشرة. غير أن الأنظمة الخماسية كثيرة أيضا، مثلما هي الحال في نظام الجاراوارا. وأحيانا تكون عشرينية أيضا، أي إنها تعتمد على أساس العدد عشرين. وأخيرا فإننا نجد الأساس الثنائي الذي يستخدمه نظام الجاراوارا في بعض اللغات الأخرى في العالم. موجز القول إن هذا النظام العددي المكتشف حديثا يعكس بعض خصائص الأنظمة العددية الأخرى التي تتضمنها لغات العالم؛ إذ تستخدم بعض الكلمات المحددة وحدات للبناء في الأعداد المنطوقة، وعادة ما تشير هذه الأساسات إلى كميات مثل 5 و10 و20، وكذلك 2 في بعض الأحيان. بعبارة أخرى، تعكس الأعداد نزعتنا الكبيرة إلى تفسير الكميات من خلال الوحدات المفردة في طبيعتنا البيولوجية ، أو أصابعنا بصفة أساسية.
ولنتناول مثالا آخر من إقليم الأمازون، وهو من لغة قبيلة كاريتيانا، التي كانت موضوعا لبعض أبحاثي. إن هذه اللغة لا ترتبط على الإطلاق بلغة الجاراوارا. ومثلما هي الحال في معظم أنظمة الأعداد بالعالم، فإن المصطلحات التي تعبر عن الكميات الصغيرة في هذه اللغة، لا يمكن تحليلها بدون وجود أساسات مميزة، مثل الأساس الثنائي «فاما» في لغة الجاراوارا. وفي القائمة التالية سأوضح حفنة من الأمثلة على مفردات الأعداد في لغة الكاريتيانا (من الصعب تجاهل الأيدي عند الحديث عن الكميات، حتى في الإنجليزية).
المصطلح بلغة الكاريتيانا
الكمية
myhint
1
sypom
2
myjyp
3
otadnamyn
4 («يدنا»)
yj-pyt
5 («نأخذ واحدا ويدنا الأخرى»)
myhint yj-py ota oot
6 («نأخذ إصبعا واحدا من أصابع القدم»)
myhint yj-piopy oot
11
إن الأنماط التي نراها في هذه القائمة توضح مجددا وجود قواسم مشتركة بين كلمات الأعداد في العالم؛ فمن الواضح أن الكلمة التي تعبر عن العدد «خمسة» ترتبط بالكلمة التي تشير إلى «اليد» وهي تستخدم أيضا بصفتها أساسا للأعداد الأكبر مثل «ستة». إضافة إلى أساسها الخماسي فإن أعداد الكاريتيانا تعكس وجود الأساس العشري الأكثر انتشارا في لغات العالم. فلنلق نظرة على أفضل ترجمة ممكنة للكلمة التي تشير إلى العدد «أحد عشر»، وهي «نأخذ إصبعا واحدا من أصابع القدم.» إن هذه الكلمة تستند ضمنيا إلى العدد 10؛ إذ إنه لا يلزم سوى إصبع قدم واحدة للإشارة إلى العدد 11. وينطبق الأمر نفسه على غير ذلك من الأعداد الأكبر في لغة الكاريتيانا، التي تستند هي أيضا إلى الأساس العشري.
والواقع أن الغالبية العظمى من أنظمة الأعداد في العالم، وفي لغاته التي يقترب عددها من 7000 لغة، تعكس وجود النظام العشري، بشكل أو بآخر؛ إذ إن الأعداد الكبيرة عادة ما تبنى على العدد 10، أما الكميات الأقل، فغالبا ما تستند إلى النظام الخماسي (مثلما هي الحال في أعداد الجاراوارا والكاريتيانا)، أو تكون أعدادا لا يمكن تحليلها (مثل أعداد الكاريتيانا الصغيرة). وقد أدركنا لبعض الوقت هذا الدافع الذي ينبع منه تركيز مخترعي الأعداد من البشر على الأساس الخماسي والعشري، هو أن البشر في جميع أنحاء العالم، يميلون إلى الاعتماد على أيديهم عند تشكيل كلمات للأعداد؛ إذ إن أصابعنا تسمح لنا بتمثيل المفاهيم العددية في العالم المادي بصورة بسيطة. وهذا التجسيد الذي يتم من خلال العد على الأصابع والممارسات المرتبطة به، يتجسد مرة أخرى في العالم اللفظي، من خلال استخدام كنايات المصطلحات البيولوجية مثل «يد» «وإصبع» «وإصبع قدم» في تسمية الكميات.
في العديد من اللغات تمثل الأعداد الكبيرة بمصطلحات أشبه بعبارات تتضمن أصولا مادية واضحة، مثل العدد 11 في لغة الكاريتيانا، «نأخذ إصبعا واحدا من أصابع القدم.» وأحد المبادئ التي تقوم عليها نظرية اللغة الحديثة هو أن المصطلحات التي تستخدم كثيرا، تختزل صوتيا، أي إن الكلمات الشائعة تصبح أقصر بمرور الوقت؛ فالكلمات المركبة والمصطلحات التي كانت تطول إلى عبارات في بداية تشكيلها، تصبح أقصر؛ ولهذا السبب، وغيره من الأسباب، فإن الكلمات التي يكثر استخدامها، تكون مصادرها التاريخية أقل وضوحا في أغلب الأحوال. ومعنى هذا أن المصادر التاريخية الواضحة لبعض الأعداد في لغات مثل الكاريتيانا والجاراوارا، تدل على قلة استخدامها. وعلى العكس من ذلك ففي معظم اللغات التي تؤدي الأعداد فيها دورا أكثر بروزا، وتستخدم بدرجة أكبر، حتى الأعداد الكبيرة فيها، لا تكون أصولها الاشتقاقية واضحة بهذا القدر. (لعلك تتذكر أن أعداد الجاراوارا لا تستخدم إلا فيما ندر، حتى إن البعض قد افترضوا أنها ليست موجودة على الإطلاق.) في الإنجليزية على سبيل المثال، لا تدل الأعداد الكبيرة على أي إشارة واضحة للأصابع أو الأيدي أو أصابع القدم أو الأقدام.
4
إنها لا تتضمن أي إشارة «واضحة»، لكننا قد نجد بعض الإشارات الأقل وضوحا. نظرا إلى أن كلمات الأعداد الإنجليزية، بصرف النظر عن طريقة كتابتها، عشرية تماما، فلنتأمل كلمة
thirteen
وكلمة
fourteen
وغيرهما من الكلمات التي تنتهي بالمقطع
teen . إن هذه الكلمات تشير إلى أن الكميات مضافة إلى عشرة
ten ؛ فكلمة
thir+teen
هي 13، وكلمة
four+teen
هي 14، وهكذا. وحتى الأعداد الأكبر من العشرات هي أعداد عشرية أيضا، لكن مفهوم العدد 10 فيها قد اتخذ الشكل
ty
في هذه الكلمات، بدلا من الشكل
teen . إضافة إلى ذلك فإن هذه الأعداد الكبيرة تقوم على أساس الضرب لا الجمع. ومع ذلك فإن الأعداد التالية:
twenty
و
thirty
و
forty
و
fifty
و
sixty
و
seventy
و
eighty
و
ninety
من الواضح أنها تعكس بعض المسائل الحسابية البسيطة التي ترتكز على الكمية 10: 2 × 10 و3 × 10 و4 × 10 وهكذا. وهذا التركيز على الأساس العشري ينبع من الجذور البيولوجية نفسها، التي نجدها في لغة الكاريتيانا. إن البشر يعدون على أصابعهم، وعلى أصابع أقدامهم في بعض الأحيان، وحين يسمون الكميات، فإنهم يختارون أسماءها بناء على تمييز تلك الكميات من خلال الأصابع البشرية.
وينتشر هذا النمط في لغات العالم. لنتناول مثالا آخر من لغة أوروبية أخرى تستخدم الأساس العشري، وهي اللغة البرتغالية؛ فبالرغم من انتمائها إلى عائلة اللغات الهندية الأوروبية الكبيرة، فهي لغة من أصل لاتيني؛ ولهذا فهي ليست وثيقة الصلة بالإنجليزية، التي تنتمي إلى فرع اللغات الجرمانية في شجرة اللغات الهندية الأوروبية. في بعض الحالات نجد أن كلمات الأعداد في اللغتين تكون متشابهة، وفي حالات أخرى لا تكون كذلك. وبصرف النظر عن التفاوت في المصطلحات، نجد أن طبيعة اللغة البرتغالية في توجهها العشري واضحة للغاية:
المصطلح باللغة البرتغالية
الكمية
Um
1
Dois
2
Tres
3
Quatro
4
Cinco
5
Seis
6
Sete
7
Oito
8
Nove
9
Dez
10
Onze
11
Doze
12
Treze
13
Quatroze
14
Quinze
15
Dezesseis
16
Dezessete
17
Dezoito
18
Dezenove
19
Vinte, vinte um, vinte dois, ...
20, 21, 22, ...
مرة أخرى نرى أن صيغ كلمات الأعداد من 1 إلى 10 تبدو اعتباطية، لكن بداية من العدد 11، نبدأ في رؤية درجة من الانتظام؛ فعند العدد «أحد عشر» يبدأ العد من جديد؛ لذا فإن العدد السابق يكون هو الأساس. في الأعداد من 11 إلى 15، يمكننا أن نلاحظ وجود تشابه خفي بينها وبين الأعداد من 1 إلى 5، إضافة إلى المقطع
ze
الذي يبدو بمفرده بلا معنى، لكن من الواضح أنه يعكس التقليد القديم المتمثل في إضافة العدد 10 إلى الأعداد من 1 إلى 5. وينطبق الأمر نفسه على الأعداد من 16 إلى 19؛ إذ نرى مرة أخرى أنها تشبه الأعداد من 6 إلى 9، مع دمجها مع العدد 10. وفي هذه الحالة نجد أن الدمج أكثر وضوحا؛ إذ إن
e
هي أداة العطف «و» في اللغة البرتغالية الحديثة؛ ومن ثم فإن 16 هي حرفيا «عشرة وستة». وفي الأعداد الأكبر من ذلك، فإن النظام يولد مرة أخرى من مضاعفات العدد عشرة، وبهذا يصبح العدد 21 مثلا
vinte um
أو «واحد وعشرون». وينطبق الأمر نفسه على 31 و41 وما إلى ذلك. وباختصار فإن الأعداد البرتغالية عشرية بالطبع.
5
يجدر بنا أن نؤكد على أن السبب في الطبيعة العشرية التي تتسم بها هذه الأنظمة العددية لا يعود إلى الملاءمة الرياضية فحسب، كما يفترض في بعض الأحيان؛ فالأساسات العشرية تظهر في العديد من المجتمعات التي لم تتطور فيها الرياضيات، مثل الكاريتيانا، وأما في اللغات الأوروبية، فإن ظهورها يسبق ظهور الأعداد المكتوبة والممارسات الرياضية الحديثة بألف عام. ويتضح هذا النظام العددي الذي أعيد بناؤه من اللغة الهندية الأوروبية الأولية، وهي اللغة التي تمثل سلفا للإنجليزية والبرتغالية و400 لغة أخرى ذات صلة.
6
كانت اللغة الهندية الأوروبية الأولية مستخدمة قبل ما يقرب من 6000 عام في محيط البحر الأسود. (وما زال المختصون يخوضون نقاشات حامية بشأن المكان الذي كانت تستخدم فيه تحديدا، إما في سهول ما يعرف اليوم بأوكرانيا أو في الأناضول.) ومن خلال مجموعة من الأحداث، تمكن متحدثو اللغة الهندية الأوروبية الأولية واللغات المشتقة منها من التأثير في العالم بشكل منقطع النظير، وقد أصبح نصف عدد السكان في العالم اليوم يتحدثون شكلا من أشكال اللغة الهندية الأوروبية. وسنوضح فيما يلي بعض الأعداد المعاد بناؤها من هذه اللغة الأصلية المؤثرة. ولتتذكر أن علامة النجمة تشير إلى الأعداد المعاد بناؤها. ومعنى هذا أننا لا نملك أي نصوص مكتوبة أو تأكيدات تاريخية لهذه الكلمات، لكن بناء على التشابهات بين اللغات الحديثة التي تنحدر من اللغة الهندية الأوروبية، يمكننا أن نثق بدرجة كبيرة في أن مصطلحات الأعداد المستخدمة في تلك اللغة قد كانت على هذا الشكل الذي نقدمه.
7
المصطلح بالهندية الأوروبية الأولية
الكمية
Hoi(H)nos ⋆
1
duoh ⋆
2
treies ⋆
3
kwetuor ⋆
4
penkwe ⋆
5 (s)uéks ⋆
6
séptm ⋆
7
hekteh ⋆
8 (h)néun ⋆
9
dékmt ⋆
10
duidkmti ⋆
20
trihdkomth ⋆
30
kweturdkomth ⋆
40
penkwedkomth ⋆
50
ueksdkomth ⋆
60
septmdkomth ⋆
70
hekthdkomth ⋆
80
hneundkomth ⋆
90
dkmtom ⋆
100
وتتجلى الطبيعة العشرية للأعداد الهندية الأوروبية الأولية، بصرف النظر عن التفاوتات الطفيفة، في الأعداد البديلة التي أعيد بناؤها؛ فالأعداد من 11 إلى 19، التي لا تظهر في القائمة الموجودة بالأعلى، تتخذ الصيغة «عشرة» و«س» حيث «س» هو أي عدد من 1 إلى 9. أما الأعداد بداية من 20 وما فوقها، فهي أيضا تعكس نمط الأساس العشري بوضوح؛ إذ تتضمن هذه الأعداد شكلا من أشكال المقطع الصوتي
dkmt
ويعزى ذلك إلى الكلمة القديمة التي تعبر عن العدد 10، وهي
dékmt ⋆ . بالرغم من ذلك فهي تقوم على أساس الضرب لا الجمع، مثلما رأينا في اللغة الإنجليزية والبرتغالية؛ فالعدد 20 على سبيل المثال هو
duidkmti ⋆ ، أو «عشرتان» (تقريبا)، والعدد 30 هو
trihdkomth ⋆
أو «ثلاث عشرات» ... وهكذا.
تتضح المكانة القديمة للأساسات العشرية في الأعداد المنطوقة في بعض عائلات اللغات الأساسية الأخرى في العالم. وسوف نتناول ثلاثا من هذه اللغات، وهي: اللغات الصينية التبتية واللغات النيجيرية الكونغولية واللغات الأسترونيزية. مثلما هي الحال في اللغات الهندية الأوروبية، يوجد ما يزيد على 400 لغة من اللغات الصينية التبتية التي تستخدم اليوم، ويزيد عدد المتحدثين بها على مليار نسمة؛ إذ إن هذه اللغات تتضمن لغة الماندرين واللغة الكنتونية. ونظرا إلى أن الحديث عن الأعداد في اللغات الصينية التبتية البدائية سيستلزم توضيحا متخصصا للخصائص الصوتية لتلك اللغة، فإننا سنتحدث عن الأعداد في اللغة الأكثر استخداما من عائلة هذه اللغات في العصر الحالي، وهي لغة الماندرين. وكالأعداد في اللغات الهندية الأوروبية، فإن الأعداد من 1 إلى 10 في لغة الماندرين، لا يمكن فك رموزها؛ فما من وحدات متكررة تستخدم في بناء الأعداد الصغيرة. إن الكلمة التي تعبر عن العدد 10 في لغة الماندرين هي
shí
وجميع الكلمات التي تعبر عن الأعداد من 11 إلى 19، تتضمن هذه الكلمة، إضافة إلى عدد آخر يستخدم لتمثيل العدد الأصغر من العشرة؛ فالكلمة التي تعبر عن العدد 11 على سبيل المثال هي
shíyī
أو «عشرة واحد» والكلمة التي تعبر عن العدد 17 هي
shíqī
أو «عشرة سبعة». وحتى الأعداد الأكبر تبنى أيضا على الأساس العشري، وتعكس تجميع الكميات وفقا لعشرة عناصر، غير أنه في الأعداد من 20 إلى 99، يأتي الرقم الأصغر قبل الأساس العشري؛ فالعدد 70 على سبيل المثال هو،
qīshí
أي «عشر سبعات»، وذلك على العكس من طريقة الترتيب في العدد 17. وينطبق الأمر نفسه على غير ذلك من مضاعفات العشرة. وباختصار فإن أعداد الماندرين تبنى على الأساس العشري، وهو أكثر وضوحا فيها من الأعداد الإنجليزية.
اللغات النيجيرية الكونغولية، هي أيضا من عائلات اللغات الأساسية في العالم. وفيما يتعلق بعدد اللغات فهي عائلة اللغات الأكبر على مستوى العالم؛ إذ تتضمن 1500 لغة، وفقا لدراسة حديثة. ومن أكثر اللغات استخداما في هذه العائلة اللغة السواحلية، وهي تنتمي إلى فرع البانتو الذي يستخدم على نطاق واسع في شرق أفريقيا. في الأمثلة التالية يتضح الأساس العشري في الأعداد السواحلية، الذي يدل على الاستراتيجيات العشرية التي تنتشر في جميع لغات العائلة النيجيرية الكونغولية. وتوضح الأمثلة أن الكميات من 11 إلى 13 على سبيل المثال، تمثل بإضافة المصطلحات التي تعبر عن الأعداد الأصغر، مثل
tatu
أي «ثلاثة» إلى الكلمة التي تعبر عن العدد «عشرة» وهي
kumi .
المصطلح باللغة السواحيلية
الكمية
moja
1
mbili
2
tatu
3
kumi na moja
11
kumi na mbili
12
kumi na tatu
13
أما عائلة اللغات الأسترونيزية، فهي تتوزع على نطاق جغرافي متسع للغاية؛ فهي تتضمن 1200 لغة تتوزع في أماكن يبتعد أحدها عن الآخر، مثل مدغشقر وجنوب شرق آسيا وهاواي. وهي تنتشر أيضا في بعض جزر المحيط الهادي؛ بسبب التوسع البحري لمتحدثي اللغات الأسترونيزية البدائية، على مدار ما يقرب من 2000 عام. ويبدو أن اللغات الأسترونيزية الأولية كانت تستخدم النظام العشري، الذي تتسم باستخدامه معظم اللغات الأسترونيزية. وينطبق ذلك على سبيل المثال في الفرع البولينزي من هذه العائلة، الذي اتضح أنه يستخدم نظاما عشريا منذ فترة طويلة.
8
ومما يثير الاهتمام أيضا أن بعض اللغات الأسترونيزية تبدي بعض الدلائل على استخدامها للنظام الخماسي أيضا. وكالأساس العشري، فإن هذا النمط الخماسي يرتبط بدوافع تشريحية لا يمكن إنكارها، ولا سيما أن الكلمة التي تعبر عن العدد 5 في اللغات الأسترونيزية الأولية، هي الكلمة نفسها التي تستخدم للتعبير عن «اليد» وهي:
lima ⋆ .
9
لقد وضحت لنا رحلتنا العددية حتى الآن، أن كبرى عائلات اللغات في العالم، ومنها عائلة اللغات الهندية الأوروبية والصينية التبتية والنيجيرية الكونغولية والأسترونيزية، هي كعائلات اللغات الصغيرة في إقليم الأمازون وغيرها من الأماكن، تعكس التأثير المتغلغل للنظام العشري. ومن الجلي أن هذا التأثير يعود إلى آلاف الأعوام في الماضي؛ فمنذ فترة طويلة توصلت الثقافات البشرية، كل على حدة، إلى أن الأعداد تقسم تلقائيا إلى مجموعات تتكون الواحدة منها من عشرة عناصر أو خمسة. ومثلما رأينا في مناقشتنا بشأن الأرقام المكتوبة ، فإن هذه العادة الإدراكية تعزى إلى طبيعتنا البيولوجية. غالبا ما تشتق الكلمات التي تعبر عن الأعداد من الكلمات التي تعبر عن الأيدي. وحتى حين لا يكون ذلك صحيحا، فإن الأساسات العشرية في معظم الأنظمة العددية (وكذلك العشرينية والخماسية بدرجة أقل) تعكس الأساس التشريحي لمفردات الأعداد. وفي دراسة حديثة قد أجريت على 196 لغة تنتمي إلى مختلف العائلات اللغوية والمناطق الجغرافية، اكتشف عالم اللغويات المرموق برنارد كومري أن 125 من هذه اللغات تستخدم أساسا عشريا خالصا للكميات التي تزيد عن العشرة. وقد اكتشف أيضا أن الأنظمة العشرية/العشرينية الهجينة، والأنظمة العشرينية الخالصة، تنتشر بدرجة كبيرة؛ فقد وجد 22 لغة تمثل الحالة الأولى، و20 لغة تمثل الحالة الثانية.
10
ينتشر الأساس العشريني على نطاق كبير إلى حد ما في بعض المناطق مثل أمريكا الوسطى والقوقاز وغرب وسط أفريقيا، لكن هذه الأنماط العشرينية تظهر بدرجة أقل في بعض اللغات الأوروبية. فهي تظهر على وجه التحديد في اللغة الفرنسية، ونجد أن تركيب بعض الأعداد الكبيرة يعكس نمط الأساس 20؛ فالكلمة التي تعبر عن العدد 99 على سبيل المثال هي «أربع عشرينات وتسعة وعشرة» (4 × 20 + 10 + 9)، وقد بنيت باستخدام الأساسين: العشري والعشريني. وحتى اللغة الإنجليزية تحمل في القليل من الأحيان بعض آثار النظام العشريني. لنلق نظرة على مقدمة الخطاب الشهير الذي ألقاه أبراهام لينكولن في جيتيسبيرج (قبل أربعة عشرينات وسبعة من الأعوام) التي يشير فيها إلى استقلال الولايات المتحدة قبل خطابه بسبعة وثمانين عاما. إن وجود كلمة في اللغة الإنجليزية تعني «مجموعة مكونة من عشرين عنصرا» وهي كلمة
score ، بالرغم من ندرة استخدامها، يعكس التصنيف اللغوي للكميات باستخدام الأساس العشريني.
في بعض الحالات، قد يظهر في اللغة الواحدة الأساس الخماسي وكذلك العشري والعشريني أيضا؛ ففي لغة المامفو، وهي لغة تتبع عائلة لغات وسط السودان المستخدمة في أفريقيا، نجد أن الأصول الاشتقاقية لمفردات الأعداد من 1 إلى 5 مبهمة، أي إن مصادر مفردات الأعداد الصغيرة غامضة كما هي الحال في معظم الأحوال. وعلى العكس من ذلك، فمفردات الأعداد من 6 إلى 9، تستند إلى الأساس الخماسي. فأفضل ترجمة ممكنة للكلمة التي تعبر عن العدد 6
elí qodè relí
هي «اليد تأخذ واحدا.» أما عبارة
qarú qodè relí
التي ترمز إلى العدد 11، فأفضل ترجمة لها هي «القدم تستحوذ على واحد.» وعلى العكس من ذلك، فالمفردات التي تعبر عن الكميات التي تزيد عن 20، فهي تتشكل بناء على العبارة العددية
múdo ng-burú relí
ومعناها «شخص كامل». إن لغات كلغة المامفو تقدم أدلة في غاية الوضوح على أن الأنظمة العددية تؤسس في العادة بناء على وحدات ترمز إلى أصابع اليد الواحدة واليدين والشخص بأكمله، والتي يفهم منها أن الشخص بأكمله يشير إلى جميع أصابع يديه وقدميه.
11
بالرغم من شيوع هذه الأساسات في لغات العالم، فيجب التأكيد على حقيقة أن الأساس العشري على وجه التحديد يؤدي دورا بارزا في الأعداد. ومن الواضح أن السبب في هذا الدور البارز الذي يؤديه النظام العشري، يعود إلى الطبيعة البيولوجية لجسم الإنسان، وليس إلى ميل فطري لتصنيف الأغراض إلى مجموعات من 10، أو إلى فاعلية ذلك كما يفترض في بعض الأحيان. ومن الواضح أيضا أن السبب في غلبة الأساس العشري مقارنة بالأساس العشريني، يعود إلى طبيعتنا البيولوجية؛ فأصابع يدينا أكثر وضوحا وأسهل في الوصول إليها من أصابع قدمينا. إنها تقع في مجال بصرنا، وهي أسهل في استخدامها والتعامل معها؛ فهي وسيلة أكثر تلقائية لعد الأشياء. واستخدامها في أنماط العد يسهم في التشجيع على تسمية مصطلحات الأعداد. وربما يكون السبب في اعتماد البشر بصورة أكبر على أنظمة الأساس العشري لا أنظمة الأساس الخماسي؛ أقل وضوحا، غير أنه يمكن تفسيرها هي أيضا من خلال بعض الحقائق التشريحية البسيطة، ومنها أن الأصابع متماثلة في اليدين تقريبا، لكن ثمة فرقا واضحا بين أصابع اليدين وأصابع القدمين. وينطبق ذلك على موقعها من الجسم، وكذلك مظهرها المادي. ومثلما يقول عالم اللغويات برند هين: «نظرا لأن الاختلاف الإدراكي الحسي بين اليدين والقدمين أكبر مما هو عليه بين اليد واليد الأخرى، فإن العدد «10» يشكل أساسا أكثر بروزا من العدد «5».»
12
مثلما يتضح في بعض الأمثلة التي تناولناها، نجد أن المصطلحات التي تعبر عن كميات تزيد عن الخمسة، غالبا ما تتمثل في عبارات؛ ففي لغة الكاريتيانا على سبيل المثال، نجد أن الكمية 6 تمثل بالعبارة العددية «نأخذ واحدا ويدنا الأخرى.» وغالبا ما تتحول هذه العبارات إلى تعبيرات مفرداتية مع الوقت (أي إنها تصبح كلمات أقصر وتصبح معانيها أقل وضوحا)، وهذا هو ما حدث مع الأعداد الإنجليزية، غير أنه في بعض اللغات تظل هذه العبارات العددية واضحة، وتتكون من تعبيرات الضرب أو الجمع؛ فمثلما رأينا في حالة لغة الماندرين، فإن الكلمات التي ترمز إلى الأعداد من 11 إلى 19 تعبيرات تستخدم الجمع، أي إنها تتكون من العدد 10 زائد «س»، أما الكلمات التي ترمز إلى الأعداد 20 و30 و40 وما إلى ذلك، فهي تعبيرات تستخدم الضرب؛ إذ تتخذ الصيغة «س» مضروبة في 10. ومعظم الأنظمة العددية تستند ضمنيا إلى الجمع والضرب لبناء أعداد كبيرة من الأعداد الصغيرة، مثلما هي الحال في لغة الماندرين. وفي أحيان أقل كثيرا، يستخدم الطرح حتى في الأنظمة التي تستند إلى المجموعات العشرية. ففي حالة لغة الأينو الأصلية في اليابان، نجد أن الكلمة التي تعبر عن العدد 9 هي
shine-pesan
ومعناها «ناقص واحد» ونجد أن الأعداد من 6 إلى 8، تستند إلى الطرح أيضا. بالرغم من ذلك، فلم يكن الطرح أبدا هو القاعدة الأساسية المستخدمة في تكوين الأعداد في لغة ما. وفي التسلسل الهرمي الذي يتضح في الأنظمة العددية في العالم، نجد أن الجمع يؤدي دورا أبرز من الضرب الذي يؤدي دورا أبرز من الطرح. وتستخدم القسمة أيضا، غير أن ذلك في حالات نادرة للغاية.
13
ومع دور الصدارة الذي يحتله الجمع في تكوين مفردات الأعداد، يتضح لنا أمر آخر مرتبط به في العديد من الأعداد التي نعبر عنها بعبارات في لغات العالم، وهو أن مفهوم الجمع يشار إليه من خلال الاستخدام الشائع لكلمات مثل «يأخذ» أو «يستحوذ»؛ فمثلما رأينا في لغة الكاريتيانا، تترجم الكلمة التي تعبر عن العدد 11 إلى «نأخذ إصبعا واحدا من أصابع القدم.» وفي لغة المامفو تترجم الكلمة نفسها إلى «تستحوذ القدم على واحد.» وإضافة إلى الكلمات على غرار «يأخذ» «ويستحوذ»، فمن الطرق الأخرى المنتشرة لإضافة الأعداد الصغيرة من أجل تشكيل مفردات الأعداد الأكبر منها، استخدام كلمات أو مقاطع تعني «مع»، وهو ما ينطبق على لغة الجاراوارا، التي نجد فيها أن البادئة
ka
تستخدم في تعبير
yehe kafama
الذي يترجم حرفيا إلى «مع يدين» أو «عشرة».
ويتضح تكوين مفردات الأعداد بالاعتماد على أعضاء الجسم، في بعض التوجهات الأضعف في لغات العالم؛ فعلى سبيل المثال، نجد أن الكلمات التي تعبر عن فعل العد غالبا ما تشتق تاريخيا من الكلمات التي تعبر عن الأصابع أو عن ثنيها. (تتضح العلاقة الأخيرة بين الكلمات التي تعبر عن العد والكلمات التي تعبر عن ثني الأصابع، في لغات الفرع الشمالي من عائلة اللغات الأثاباسكانية الأمريكية على سبيل المثال، وفي لغة الزولو.)
يمكننا أيضا أن نورد بعض التعميمات الأخرى عن الأشكال المعتادة التي ترد فيها الأعداد، بعيدا عن ارتباطها بأعضاء الجسم. فنحن لم نناقش مثلا الأعداد الكبيرة للغاية مثل «الآلاف» «والملايين» التي تعكس هي أيضا في نهاية المطاف أساسا عشريا؛ إذ إنها تتكون من العدد 10 مرفوعا إلى قيمة أسية معينة، حتى وإن كانت مصادرها الاشتقاقية مختلفة، مقارنة بالأعداد الأصغر منها. وتختلف هذه الأعداد الكبيرة عن الأعداد الصغيرة أيضا في أنها تعامل عادة على أنها أسماء بخلاف الأعداد الصغيرة التي تعامل عادة على أنها صفات. فعلى سبيل المثال يمكنني أن أقول بالعربية (والإنجليزية أيضا): «مئات» من الناس، أو «آلاف» من الناس، ولا يمكنني أن أقول إنه كان ثمة «سبعات» من الناس أو «ثمانيات» من الناس. إضافة إلى ذلك، فإن هذه الأعداد الكبيرة نادرة نسبيا في الحديث الفعلي، وهي أقل انتشارا في لغات العالم كذلك. فبينما تتضمن معظم لغات العالم تقريبا نظاما من الأعداد الأساسية،
14
فإنها لا تتضمن عادة كلمات تعبر عن الكميات التي تزيد عن 100 أو 200، أو غير ذلك من مضاعفات 10 و20. والواقع كما سنرى في القسم التالي، أن سقف المصطلحات الدقيقة الأصلية التي تعبر عن الأعداد في العديد من اللغات في أستراليا والأمازون وغيرها من الأماكن أقل من عشرة.
من هذا الاستعراض المختصر يمكننا أن نتوصل إلى بعض الاستنتاجات العامة عن الأعداد في الحديث؛ أولا: أنها تنتشر في جميع لغات العالم تقريبا؛ فبالرغم من أننا لم نستكشف سوى جزء صغير من الأمثلة الممكنة من تلك اللغات، فإن هذه الأمثلة توضح أن مفردات الأعداد الأساسية هي عامل مشترك بين العديد من اللغات غير المترابطة التي تتوزع على مناطق جغرافية بعيدة عن بعضها البعض. وثانيا: أن هذه المناقشة قد وضحت أن مفردات الأعداد في اللغات غير المترابطة غالبا ما تعكس تشابهات صارخة؛ إذ إن معظم اللغات توظف نموذجا بيولوجيا يستند إلى أعضاء الجسد، يتضح في أساسات أعدادها. ثالثا: أن الأدلة اللغوية توضح أن النموذج القائم على أعضاء الجسد لم يشجع على ابتكار الأعداد على مستوى العالم فحسب، بل هو يمتد أيضا إلى أبعد ما تأخذنا إليه البيانات اللغوية في التاريخ؛ إنه يتضح في إعادة بناء اللغات السالفة مثل اللغة الصينية التبتية الأولية، واللغة النيجيرية الكونغولية الأولية، واللغة الأسترونوزية الأولية، واللغة الهندية الأوروبية الأولية، وهي اللغات التي أصبحت اللغات المشتقة منها هي الأفضل تمثيلا في العالم اليوم.
إن أجسامنا تؤدي دورا بارزا في أنماط تفكيرنا، وفي كيفية فهمنا للعالم حولنا. ويتضح هذا التأثير الجسدي على التفكير في الكثير من الأبحاث الحالية في علم الإدراك، بشأن كيفية تشكيل جسدنا لعملياتنا الإدراكية، وهو ما يعرف باسم الإدراك التجسيدي. والتفكير الكمي الأساسي مثال ممتاز على الإدراك التجسيدي؛ إذ إننا نفهم الكميات من خلال أجسادنا. (وسوف نشرح هذه النقطة بقدر أكبر من التفصيل في الفصل الثامن.) ومثلما رأينا في الفصل الأول، يبدو أن البشر قد واجهوا صعوبة في فهم مرور الوقت بدون استخدام أجسادهم وكذلك الحيز المحيط بها، بصفتها أساسا مجازيا راسخا للتفكير بشأن الوقت. وبطريقة مشابهة، فإن استعراضنا لمفردات الأعداد الأساسية في العالم، يدل على أن الطريقة الأولية التي نستخدمها في فهم الكميات المجردة، هي من خلال أصابع يدينا وقدمينا، لكنها أصابع يدينا هي التي نستخدمها بصفة أساسية.
قد يبدو كل ذلك واضحا للغاية من بعض الجوانب؛ فبالرغم من كل شيء قد استخدمنا جميعا أصابعنا في العد في صغرنا، ولا نزال نفعل ذلك في بعض الأحيان. غير أننا كثيرا ما نقلل من أهمية الأساس المادي للأعداد، لا سيما على ما أعتقد في ضوء وجود نموذج أجزاء الجسم في جميع الأعداد المنطوقة بالعالم. إن هذا الانتشار في كل مكان يدل على أن مفردات الأعداد هي ابتكار قد انبثق نتيجة الارتباط بين أصابعنا وبين الكميات التي يمكن أن تستخدم في تمثيلها (وسوف نناقش هذه النقطة بالمزيد من التفصيل في الفصل الثامن). وبدلا من ذلك يمكننا أن نرى أن الأعداد مفاهيم مستقلة، ربما تكون متأصلة في العقل البشري، وما نستخدم أصابعنا إلا لتسمية هذه المفاهيم. ومثلما سنرى في الفصل الخامس، فإنه من الصعب لهذا الرأي أن يصمد في وجه الأدلة التجريبية بشأن وجود شعوب لا تعرف الأعداد. غير أنه يجدر بنا أن نشير هنا إلى أن طبيعة مفردات الأعداد، التي نجد أنها تستند إلى الأصابع في لغات العالم، يجب أن تستوقف هؤلاء الذين يعتقدون أن الأعداد مفاهيم متأصلة تنتظر التسمية فحسب. فمن المؤكد أنه إن كانت الحال كذلك لما اعتمدنا في معظم الأحيان على أصابعنا لتسميتها، ولوجدنا في لغات العالم جميع أنواع الأساسات المختلفة التي ما كانت لتدل على الاستخدام التاريخي للأصابع. إن الأدلة المتعلقة بمختلف اللغات وحدها تؤيد الرؤية القائلة بأن الأعداد أدوات مفاهيمية، لا مجرد أسماء اخترعناها بعد أن فهمنا الكميات من خلال أصابعنا.
15
إن اختراع الأعداد ممكن للعقل البشري، لكنه قد أصبح ممكنا من خلال الأصابع؛ إذ تقترح البيانات اللغوية، القديمة منها والحالية، أن الأعداد قد ظهرت في الثقافات المختلفة بصورة مستقلة، وفي مناسبات غير محددة، عن طريق إدراك البشر أن بإمكانهم استخدام الأيدي لتسمية الكميات مثل 5 و10. يمكن استخدام الأصابع للإشارة إلى الكميات، وقد اكتشف العديد من الأشخاص فائدة ذلك، غير أن الأصابع محدودة من الناحية الرمزية، ولا تمثل وسيلة مجردة تماما للتعبير عن الكميات. أما الكلمات فهي أدواتنا الملائمة للترميز المجرد، ولحسن الحظ أنه يمكن استخدامها للإشارة إلى الكميات، غير أنها لا تستخدم عادة إلا بعد أن يؤسس الأفراد بين أصابعهم والكميات تطابقا متجسدا ملموسا بدرجة أكبر. إن اختراعنا للأعداد متأصل في أجسادنا، ثم في أصابعنا التي مكنتنا من اشتقاق رموز مجردة تماما للتعبير عن الكميات، وهي مفردات الأعداد. وهذه الرموز المجردة يمكن أن تنتقل إلى الجماعات البشرية وفيما بينها ويتعلمونها بسهولة، وقد أصبحت تلبي مجموعة كبيرة من الاحتياجات؛ فهي أدوات لفظية ومفاهيمية حقة.
دوافع أخرى لتصنيف الكميات في مجموعات
بالرغم من الانتشار الواسع على مستوى العالم للأنظمة العددية التي تعتمد ضمنيا أو صراحة على الأصابع البشرية، يمكن أن تتأسس الأعداد أيضا على عوامل أخرى. علاوة على الأنظمة الخماسية والعشرية، توجد الأنظمة الثنائية أيضا؛ ففي حالة الجاراوارا على سبيل المثال، رأينا قدرا من تأثير النظام الثنائي في الأعداد الصغيرة، وفي نظام الأعداد التقليدي الذي كان يستخدم ذات يوم في جزيرة مانجريفا، نجد أنه كان يستخدم نظام ثنائي أكثر تعقيدا، كما سنرى في الفصل التاسع. وإضافة إلى النظام الثنائي أو الأعداد التي تستند إلى الأساس 2 والتي توجد في بعض الثقافات، نجد أن أساسات أخرى تتضح في بعض الثقافات، ومنها الأساس الثلاثي (الأساس 3) والرباعي (الأساس 4) والسداسي (الأساس 6) والثماني (الأساس 8) والتساعي (الأساس 9). وعلاوة على ذلك، فإن بعض الثقافات تستخدم الأساس الاثني عشري (الأساس 12)، أو كانت تستخدمه، وكان غيرها يستخدم الأساس الستيني (الأساس 60). وكما أشرنا في الفصل الأول، فإن استخدام النظام الستيني على يد السومريين أولا، ثم البابليين من بعدهم، هو السبب في أننا لا نزال نقسم الساعات إلى دقائق، والدقائق إلى ثوان.
ومن المثير للاهتمام أن الأساس الثماني والاثني عشري والستيني، قد يكون منبثقا من الأيدي البشرية كذلك، وإن كان ذلك بطرق أقل وضوحا مما هي عليه في المجموعات الخماسية والعشرية. فبالرغم من أن البشر يمتلكون عشرة أصابع في اليدين، فليست كل الطرق المعروفة للعد على الأصابع تستند إلى المطابقة بين الأصابع والكميات؛ فثمة طرق أخرى لتمثيل الكميات من خلال ترتيبات مختلفة لليدين. وهذه الترتيبات البديلة، وإن كانت أقل وضوحا، هي السبب بصورة جزئية في وجود اختلاف فيما بين الثقافات بشأن الكيفية التي يعد بها الناس على أصابعهم. ومن الأمثلة الغريبة على ذلك أحد الأنظمة الهندية التي يستخدمها التجار في العد على أصابعهم . وفي هذا النظام تمثل أصابع إحدى اليدين الوحدات المفردة، أما أصابع اليد الأخرى فتمثل مضاعفات الخمسة؛ ومن ثم فإن إصبعين على يد زائد ثلاثة أصابع على اليد الأخرى تمثل الكمية 17 (2 × 1 + 3 × 5) وليس 5.
الفراغات الموجودة بين الأصابع يسهل عدها أيضا، والواقع أن عدد الفراغات في اليدين قد يكون هو السبب في ظهور الأساس الثماني (العدد 8) النادر. أو فلنتأمل الأساس 12، أو النمط الاثني عشري؛ حيث يوجد اثنا عشر خطا متجاورا على أصابع اليد الواحدة فيما عدا الإبهام (خط في كل عقلة)، ويمكن استخدام هذه الخطوط بمثابة علامات بارزة للإشارة إلى الكميات، من خلال عدها بإصبع من اليد الأخرى. (انظر الشكل
3-1 ) إضافة إلى ذلك، بخلاف هذا الأساس الحيوي الذي قد يكون هو السبب في ظهور استراتيجية العد بالأساس 12، يجدر بنا الإشارة إلى أن 12 × 5 = 60. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الأيدي البشرية تمثل دافعا واضحا محتملا لظهور استراتيجية الأساس 12، واستراتيجية الأساس 5 كليهما، فإن ظهور نظام الأساس الستيني في بلاد الرافدين قديما، يغدو أقل غرابة. وليس ذلك لكي نزعم بشكل مؤكد أن استراتيجية الأساس 60 قائمة على الأيدي، غير أن ذلك أمر محتمل بالتأكيد، ومن غير المرجح أن يكون استخدام أساس يقبل القسمة على 5 و10 و12 مجرد مصادفة.
16
إنني لا أرغب في الاستفاضة في تفاصيل جميع هذه الأساسات العددية الأقل انتشارا، غير أنه من الضروري أن أشير إلى وجودها كيلا أقدم انطباعا بأنه ثمة آلية جوهرية أو غيرها من العوامل، تلزم البشر بفهم الكميات عن طريق أصابعهم بالطريقة نفسها. إضافة إلى ذلك يمكننا أن نستخدم عناصر مختلفة من بيئاتنا لفهم الكميات، وهو ما يحدث بالفعل، وغالبا ما تكون هذه العناصر سمات أخرى من طبيعتنا البيولوجية؛ فربما يعود السبب في نشأة الأنظمة الثنائية بصفة جزئية، إلى حقيقة أن السمات البيولوجية للبشر في معظم الحالات، تتمثل في أزواج . ومن الأمثلة المحددة على ذلك رأسنا الذي يحتوي على عينين وأذنين وفتحتي أنف وخدين. وثمة أدلة ضعيفة من بعض اللغات على أن الكلمة التي تعبر عن العدد «اثنين» تشتق من إحدى هذه الكلمات؛ ففي لغة الكاريتيانا على سبيل المثال، نجد أن الكلمة التي تعبر عن «اثنين» هي
sypo
والكلمة التي تعبر عن «العين» هي
sypom . (وليس من الواضح لنا ما إذا كان ذلك مجرد مصادفة أم لا.)
شكل 3-1: تستند معظم الأنظمة العددية في العالم إلى كمية الأصابع في اليد البشرية، غير أن سمات أخرى في أيدينا قد تؤثر في الأنظمة العددية؛ فالفراغات الأربعة الموضحة بالخطوط البيضاء، والمفاصل الاثنا عشر المتجاورة، والموضحة بالخطوط السوداء المنقطة، تسهم في تشكيل الأعداد، وإن كان ذلك بدرجة أقل انتشارا. الصورة من التقاط المؤلف.
وثمة أنواع أخرى من استراتيجيات العد التي تستند إلى أجزاء الجسم، وقد تكون غريبة في بعض الأحيان. ففي مقاطعة سيبيك الغربية في نيو غينيا، توجد لغة تدعى أوكسابمين، التي كانت تستخدم من قبل استراتيجية عد تتضمن 27 عددا يتطابق كل منها مع أعضاء الجسد بالترتيب، بما في ذلك الأصابع والعينان والكتفان. تبدأ النقاط المعدودة في الجسم بيد واحدة، وتستمر إلى ذراع واحدة، صعودا إلى الرأس ثم نزولا إلى الذراع الأخرى. وقد سجلت أنظمة مشابهة في مناطق أخرى في نيو غينيا، ومنها ذلك النظام المستخدم بين شعب اليوبنو. ففي لغتهم ترتبط مفردات الأعداد بأصابع اليدين وأصابع القدمين مع نقاط أخرى من الجسم، ويصل مجموعها إلى 33 كلمة. ونظرا إلى أنها لا تؤدي إلى تشكيل أساسات عددية منتظمة في الحديث، فلن نناقش مثل هذه الأنظمة العددية هنا بأكثر من ذلك. بالرغم من ذلك، يجدر بنا الإشارة إلى وجودها؛ إذ إنها تدل على وجود طريقة أخرى يحفز بها تركيب الجسم البشري على تصميم استراتيجيات العد.
17
لقد شاهدنا بعض الأمثلة على وجود أساسات عددية نادرة، مثل الأنظمة الرباعية (الأساس 4) في لغات قبائل السالينان التي تعيش في كاليفورنيا، أو الأنظمة السداسية (الأساس 6)، التي توجد في جنوب نيو غينيا. وقد حظيت الأنظمة السداسية بقدر جيد من انتباه الباحثين في اللغات، وقد نتج عن هذا الانتباه أنهم قد زعموا أن السبب في استخدام الأساس السداسي للأعداد في بعض لغات نيو غينيا، يعود إلى أحد مظاهر الثقافة الإقليمية ، وهو نبات البطاطا الذي يؤدي دورا أساسيا في اقتصاد هذه الجماعات الأصلية التي تعيش في هذا الجزء من العالم، ونمط حياتها. فمن المذهل أن الترتيبات التي تستخدم في تجميع محصول البطاطا وتخزينه، والتي تكون عادة على هيئة ستة في ستة، قد شجعت ظهور أنظمة الأعداد السداسية المستخدمة في هذه المنطقة. وهذه الاستراتيجية المستخدمة في عد شيء محدد، قد أصبحت أكثر تجريدا في وقت ما بعد ذلك، وامتد استخدامها إلى مجالات أخرى، حتى أصبح من الممكن عد الأشياء كلها باستخدام نظام الأساس السداسي.
18
وقد تأثرت بعض أنواع الأعداد الأخرى باستراتيجيات العد المرتبطة بأشياء خارج الجسم، أشياء تؤدي دورا مهما في ثقافات متحدثي اللغة. فالعديد من اللغات في ميلانيزيا وبولينزيا تستخدم، أو كانت تستخدم من قبل، أنظمة عددية تختلف وفقا لنوع الشيء المراد عده. ففي لغة الفيجي القديمة الفصحى على سبيل المثال، نجد أن الكلمة التي تشير إلى العدد 100 هي «بولا» عند عد الزوارق، لكنها «كورو» عند عد جوز الهند. وبالرغم من أن أساس الأعداد كان لا يزال متأثرا بالنظام العشري، فإن تخصيص العدد بناء على الشيء المعدود كان واضحا. أما الأعداد البولينزية فسوف نتناولها بالمزيد من التفصيل في الفصل التاسع، الذي سنرى فيه أنها توفر بعض المزايا الإدراكية.
من المثير للاهتمام أن بعض الأنظمة العددية النادرة تعكس تأثير ظواهر ثقافية أكثر تعقيدا؛ فقد اكتشف عالم اللغويات في جامعة تكساس بيشنس إبس أن بعض اللغات في شمال غرب الأمازون، تستخدم علاقات القرابة أساسا لأعدادها. وينطبق ذلك الأمر على لغة «دو» ولغة «هاب» وهما لغتان قريبتان من اللغات المستخدمة في المنطقة. يستخدم متحدثو اللغة الأولى أصابعهم مع الكلمات عند العد من 4 إلى 10، حيث تشير الأصابع إلى كمية الأشياء المراد عدها، أما الكلمات فتستخدم لتوضيح ما إذا كانت الكمية فردية أو زوجية. فإذا كانت الكمية زوجية، استخدم المتحدثون الكلمة: «لها أخ.» وإذا كانت فردية استخدموا: «ليس لها أخ.» وينطبق الأمر نفسه في لغة «الهاب»؛ فأفضل ترجمة ممكنة للكلمة التي تعبر عن 3 هي «دون إخوة »، وأفضل ترجمة للكلمة التي تعبر عن أربعة هي «مع إخوة مرافقة». ويبدو أن هذا النظام العددي «الأخوي» ينبع من طريقة تبادل الإخوة في الزواج، التي يتبعها هذا الجزء من أمريكا الجنوبية. ومثل النظام العددي السداسي المستند إلى البطاطا، والمستخدم في نيو غينيا، فإن هذه الأعداد القائمة على العلاقات، توضح أن حقيقة استخدام أجزاء الجسم في بناء الأعداد في معظم الحالات، لا تعني أن ذلك هو ما ينبغي أن يكون الأمر عليه. ومثلما هي الحال في بعض المظاهر الأخرى للغة، فكل ما يمكننا القول به هو وجود أنماط شائعة بين الأنظمة العددية في العالم، لكنها ليست أنماطا عالمية.
19
الأنظمة المحدودة للأعداد المنطوقة
نظرا لأن الأعداد من 4 إلى 10 في لغة «الدو» تستلزم استخدام الأصابع مع الإشارة إلى «الإخوة» فهي ليست أعدادا لفظية بالمعنى الأدق؛ إذ لا تتضمن لغة «الدو» أعدادا مفرداتية فعلية إلا للأعداد من 1 إلى 3. ومثل لغة «الدو»، فإن الأعداد في بعض اللغات الأخرى محدودة النطاق؛ فبعض هذه اللغات يستخدم أنظمة عددية عديمة الأساس. وفي دراسة حديثة عن الأنظمة العددية المحدودة، اكتشف أن أكثر من اثنتي عشرة لغة في العالم لا تستخدم هذه الأساسات على الإطلاق، وأن العديد من اللغات لا يتضمن كلمات تعبر عن الكميات الدقيقة فيما هو أكبر من 2، أو أكبر من 1 في بعض الحالات. ولا شك في أن هذه الحالات تمثل جزءا صغيرا للغاية من اللغات في العالم، فالغالبية العظمى تستخدم أساسات عددية تعكس نموذج أعضاء الجسم. علاوة على ذلك، فإن معظم الحالات المتطرفة المعنية تنحصر جغرافيا في نطاق منطقة الأمازون. وأيضا فإنه يصعب القول بكل ثقة: إن الأساسات لم تستخدم أبدا في بعض هذه اللغات التي من المفترض أنها عديمة الأساسات؛ ففي بعض الحالات قد تهمل الأعداد الأصلية نظرا إلى تبني نظام عددي جديد أكثر فاعلية. (ولعلك تتذكر مناقشتنا عن الجاراوارا.) في بعض الثقافات قد يخفق المتحدثون الأصغر سنا في اكتساب نظام الأعداد الأصلي القديم، وقد يعطي انقراض هذا النظام انطباعا خاطئا بعدم وجود مثل ذلك النظام الأصلي على الإطلاق. بالرغم من ذلك فحتى في ضوء العامل الاجتماعي اللغوي يمكننا الوثوق بأن الأعداد في بعض اللغات هي أعداد محدودة ليس لها أساسات. ففي حالة لغتين من منطقة الأمازون، وهما لغة «زيليكسانا» ولغة «بيراها»، زعم البعض أنهما لا تستخدمان أي مفردات محددة من أي نوع تعبر عن الأعداد. وسوف نتناول حالة لغة «بيراها»، التي ألم بها بعض الشيء، ببعض التفصيل في الفصل الخامس. أما في حالة لغة «زيليكسانا» الأقل وضوحا، فقد أشارت بعض التقارير إلى أن الأعداد الثلاثة في اللغة ترمز بشكل تقريبي إلى «واحد أو بضع» و«اثنين أو بضع» و«ثلاثة أو أكثر».
20
إن بعض الأنظمة العددية المحدودة في منطقة الأمازون تتيح الإشارة بدقة إلى شيء واحد أو اثنين، لكنها لا تسمح إلا بالإشارة غير الدقيقة إلى الكميات الكبيرة. وينطبق ذلك على لغة «المندوروكو» التي حظيت بقدر كبير من الاهتمام في الأبحاث النفسية اللغوية الحديثة. (راجع الفصل الخامس.) ويشتهر عن معظم اللغات في أستراليا أن أنظمتها العددية محدودة، وقد زعم علماء اللغويات قبل ذلك أن معظم اللغات الأسترالية تفتقر إلى وجود مصطلحات دقيقة للإشارة إلى الكميات الأكبر من 2. بالرغم من ذلك، يبدو أن هذا الزعم مبالغ فيه، والواقع أن العديد من لغات هذه القارة تستخدم أساليب أصلية لوصف مختلف الكميات بدقة، وفي بعض الأحيان يمكن دمج مفردات الأعداد التي ترمز إلى الكميات الصغيرة في هذه اللغات، واستخدامها في التعبير عن الكميات الكبيرة من خلال استخدام خاصية الجمع، أو حتى خاصية الضرب في الأساسات. ومثلما أشارت الدراسة الموسعة التي أجراها عالما اللغويات كلير بويرن وجيسون زينتز، على اللغات الأسترالية، فإن معظم أنظمتها العددية غالبا ما تكون محدودة بالفعل. بالرغم من ذلك، فلا يمكن وصفها بالتأكيد على أنها أنظمة «واحد واثنين والعديد» مثلما كنا نظن قبل ذلك؛ فغالبا ما تكون أكثر فعالية من الأنظمة العددية التي كانت تستخدمها الجماعات الأمازونية التي تعتمد على الصيد والتقاط الثمار. فاللغات الأسترالية التي تضمنتها الدراسة، والتي يقترب عددها من المائتين، تحتوي جميعها على كلمات تعبر عن العددين 1 و2، غير أن العدد الأكبر في ثلاثة أرباع هذه اللغات تقريبا هو 3 أو 4. ومع ذلك فإن العديد من هذه اللغات تستخدم الكلمة التي ترمز إلى العدد «اثنين» أساسا لأعداد أخرى. والعديد من هذه اللغات يستخدم الكلمة التي تعبر عن العدد «خمسة» أساسا لتكوين أعداد أخرى، وفي ثمان من هذه اللغات نجد أن أكبر عدد تستخدمه هو العدد «عشرة» (بينما لا توجد أي لغة أخرى تشير على سبيل المثال إلى 7 أو 8 أو 9 أو 11، بأكبر عدد فيها). إذن، فحتى في أستراليا توجد بعض الإشارات المتناثرة التي تدل على الدور الأساسي للأصابع في استراتيجيات تكوين الأعداد. ثمة دلالة خاصة لهذا الأمر نظرا إلى العزلة النسبية التي اختبرتها هذه الشعوب على تلك القارة منذ استيطانهم لها قبل 40000 عام. فمثلما هي الحال في مناطق أخرى من العالم، فإن بعض جماعات السكان الأسترالية قد ابتكرت، بصورة مستقلة، نموذج أعداد يعتمد على أعضاء الجسم لتمثيل الكميات لغويا.
21
خاتمة
بالرغم من أن معظم الباحثين في اللغات كانوا يعتقدون قبل ذلك أن الاختلافات اللغوية سطحية إلى حد ما، وهي تخفي السمات العالمية الأعمق التي تشترك فيها جميع اللغات، فقد أصبح عدد كبير منهم يعتقد الآن أن الاختلاف في اللغات البشرية الموجودة عميق للغاية، حتى إنه لا يمكن تقديم مسوغات تجريبية تدعم القول بوجود سمات عالمية بارزة تشترك فيها جميع اللغات.
22
وفي رحلتنا القصيرة إلى الأعداد المنطوقة في العالم، رأينا أنه لا يمكننا أن نجد أي سمات عامة في هذا الصدد، مما يناقض التوقعات القديمة المتمثلة في وجود مفردات محددة للأعداد في جميع اللغات. علاوة على ذلك، فقد رأينا أن اللغات تختلف في كيفية تأسيس أنظمتها العددية؛ فبعض هذه الأنظمة محدود النطاق بعض الشيء، وبعضها كنظامنا الذي قد يكون لا نهائيا . وقد رأينا أيضا أن اللغات الأصلية تتضمن في بعض الأحيان أعدادا أكثر مما توحي به الانطباعات الأولية، مثلما هي الحال في لغات أستراليا أو الجاراوارا على سبيل المثال. إن التوثيق اللغوي المتأني يوفر لنا صورة أدق للأعداد في العالم.
بالرغم من ذلك، تتراكب فوق هذه الصورة المتبلورة لتنوع الأعداد أنماط واضحة، تتجلى في الأعداد المنطوقة بالعالم. وهي أنماط بسيطة تتمثل في أن مفردات الأعداد غالبا ما تشتق من المفردات التي تعبر عن الأيدي، وهي توضح عادة تقسيم الكميات إلى خمسات أو عشرات أو عشرينات، أو بعض التوليفات الأخرى منها. وهذه الحقائق البسيطة التي تتجلى في اللغات القديمة والمعاصرة في جميع القارات الآهلة بالسكان، تشير إلى أن أساسات الأعداد هي تمثيلات لفظية لبعض المفاهيم التي تتضح لنا بصورة أفضل من خلال تجسيد الكميات. وقد أصبح هذا التجسيد ممكنا بفضل مجموعات العناصر التي نشهدها في الطبيعة باستمرار، والتي تكمن على أطراف أصابعنا حرفيا في انتظار من يستوعبها. (وسنتناول كيفية حدوث هذا «الاستيعاب» على وجه أكثر تحديدا، في الفصل الثامن.) إن أصابعنا المتمايزة والمتناظرة، قد مكنتنا من تجسيد المفاهيم المجردة التي لا يمكن إدراكها بشكل كامل، مما سهل عملية انتقال تمثيل الكميات إلى أفواهنا، ومن ثم إلى عقول الآخرين.
23
الفصل الرابع
ما بعد مفردات الأعداد: أنواع أخرى
من اللغة العددية
إن الأعداد تحكم جملنا، حتى الكلمات التي أكتبها الآن وأعبر بها عن هذه الأفكار، لا يمكن إنتاجها بالإنجليزية وفهمها إلا من خلال الإشارة المستمرة إلى كمية العناصر، أو المفاهيم التي تتحدث الجملة عنها. فلأعد إلى الوراء وأعد عليك تلك الجملة، مع توضيح أجزائها التي تشير إلى كميات: حتى الكلمات التي أكتبها الآن وأعبر بها عن هذه الأفكار، لا يمكن إنتاجها بالإنجليزية وفهمها، إلا من خلال الإشارة المستمرة إلى كمية العناصر أو المفاهيم التي تتحدث الجملة عنها. ثمة ما لا يقل عن أحد عشر موضعا في هذه الجملة وحدها اقتضت فيها قواعد اللغة أن أميز كمية «الأشياء» التي أتحدث عنها. وليست هذه الجملة بمثال غريب في هذا الصدد، وليست اللغة الإنجليزية بغريبة في إشارتها إلى الكميات؛ فالعديد من اللغات تتطلب باستمرار وجود إشارات نحوية إلى الكميات التي تتحدث عنها جملها أو إلى كمية الأشخاص المشتركين في أحد التفاعلات (مثل «أنا» أو «نحن»). وفي هذا الفصل آمل أن أقدم لك نبذة عن مدى أهمية هذه الاختلافات العددية في لغات العالم. سوف نرى أن العدد النحوي هو أمر شائع للغاية، وأنه يعكس أيضا نقطة مهمة بشأن طبيعتنا البيولوجية، غير أنه يختلف عن كلمات الأعداد في أنه يخبرنا عن طبيعتنا البيولوجية العصبية لا عن أيدينا.
تبدأ هذه المناقشة بمقدمة عامة عن العدد النحوي، وذلك قبل أن نطرح بعض الاستنتاجات الأساسية بشأن الطبيعة البيولوجية العصبية للبشر، والتي يبدو أنها تحفز استخدام الأنماط التي تظهر في المقدمة، ولو كان ذلك بشكل جزئي على الأقل. وبصفة أساسية، فإن هذا الاستعراض يمثل رحلة نمر فيها بالأعداد التي لا توجد كلمات عددية تعبر عنها (كالتي تناولناها في الفصل الثالث)، ولا هي أعداد مكتوبة.
العدد في الأسماء
إن المكان الذي سنبدأ منه هذه الرحلة هو العدد الاسمي. والعدد الاسمي هو ما يشير إلى تصريفات الاسم، التي تدل على كمية العناصر التي يشير إليها الاسم. ولدينا في اللغة الإنجليزية كلمات يتغير شكلها بدرجة كبيرة بناء على عددها النحوي؛ فإذا كنت أشير إلى شخص واحد أقول:
person
أي «شخص» وإذا كنت أشير إلى أكثر من شخص أقول:
persons
أي «أشخاص» والإشارة العددية هنا تقريبية في الحالة الأخيرة؛ فنحن لا نعرف إلا أن الإشارة إلى أكثر من شخص واحد، لكننا لا نعرف العدد بدقة أكبر من ذلك. ولدينا أيضا بعض الأسماء غير المنتظمة مثل
tooth
أي «سن» التي تجمع على
teeth
أي «أسنان»، وكذلك
mouse
أي «فأر»، وجمعها
mice
أي «فئران»، وكذلك
criterion
أي «معيار»، وجمعها
criteria
أي «معايير»، وغيرها من الأسماء التي تزعج متعلمي اللغة الإنجليزية. وربما ما يسبب لهم قدرا أكبر من الإزعاج هي الصيغ الأخرى التي تعرف باسم الجموع «الصفرية»، وهي كلمات لا يتغير شكلها، سواء أكانت تشير إلى مفرد أو أكثر من ذلك، ومنها
deer
التي تعني «غزال أو غزلان»، وكذلك
sheep
التي تعني «خروف أو خراف». ولدينا أيضا بعض صيغ الجموع الأخرى غير المنتظمة، التي تبدو أقل غرابة، مثل:
children
أي «أطفال»، وأيضا
men
أي «رجال»، وكذلك
oxen
أي «ثيران»، لكن هذه الكلمات التي تنتهي باللاحقة
en ، ليست هي الصيغة القياسية للجمع، ويختلف مصدرها التاريخي عن الصيغ الأكثر انتشارا من العدد الاسمي في اللغة الإنجليزية. والصيغة الأكثر انتشارا هي مجرد إضافة صوت إلى آخر الكلمة، وهو يشير إلى وجود أكثر من عنصر من هذا الاسم، ويختلف هذا الصوت بدرجة طفيفة، لكنه يمثل عادة بالحرف
s . لنلق نظرة على هذه الأزواج الثلاثة التالية من الكلمات، التي تدل فيها الكلمة الثانية على وجود أكثر من عنصر من خلال لاحقة الجمع المنتظمة:
جدول 4-1
الجمع
المفرد
قطط
cats
قطة
cat
عربات
cars
عربة
car
منازل
houses
منزل
house
في كل من هذه الحالات تشير اللاحقة
s
إلى أن المقصود هو وجود أكثر من
house
أو
cat
أو
car . في اللغة الإنجليزية يفهم من الكلمات التي لا تحتوي على أي لاحقة أنها تعبر عن مفرد، ويفهم من الكلمات التي تحتوي على اللاحقة
s
أنها تعبر عن جمع. وأنت تعي هذه الحقيقة منذ أن بدأت في تعلم اللغة، غير أن الأمر ليس بهذه البساطة حتى في الحالات المعتادة التي تضاف فيها اللاحقة
s
إلى الكلمة. وإذا لم يكن السبب واضحا، فراجع الجدول
4-1
مرة أخرى مع التركيز على النطق، وسوف تدرك أن اللاحقة المستخدمة للدلالة على صيغة الجمع ليست واحدة في الكلمات الثلاث؛ ففي الكلمة
cats [تنطق كاتس] نجد أن اللاحقة
s
هي ما يدعوه علماء اللغة صوت «مهموس»، أي إن أحبالك الصوتية لا تهتز بينما تنطقه، أما في الكلمة
cars
نجد أن الصوت «جهري»، وتعطي اللاحقة
s
صوت طنين إذا أمسكت عليه [تنطق كارز]؛ لأن أحبالك الصوتية تهتز. وفي كلمة
houses
نجد أن اللاحقة
s
جهرية أيضا، لكنها مسبوقة بحرف متحرك؛ لذا فهي تنطق «إز». وعلى أي حال، فبالرغم من هذا الاختلاف في الصوت فإننا نجد وحدة أساسية في صيغة الجمع المنتظم في اللغة الإنجليزية، مثلما تدل على ذلك حقيقة أنه يكتب بالحرف
s
في الحالات الثلاث.
وكما هي الحال في اللغة الإنجليزية، فإن العديد من اللغات الأخرى تستخدم إضافة اللاحقات أو البادئات إلى الأسماء للدلالة على كمية العناصر المقصودة بالحديث. وفي معظم هذه اللغات، تضاف اللاحقة أو البادئة إلى الاسم للدلالة على صيغة الجمع (أي إن الاسم يعبر عن وجود أكثر من عنصر منه). فلنتأمل هذه المرادفات البرتغالية لأزواج الكلمات الواردة في الجدول
4-1 :
جدول 4-2
الجمع
المفرد
gatos
gato
carros
carro
casas
casa
في اللغة البرتغالية أيضا تستخدم اللاحقة
s
للدلالة على صيغة الجمع، لكن ذلك لا يعني أن العدد النحوي يصاغ بالطريقة نفسها في اللغتين؛ فأولا: ليس لاختلافات النطق، التي رأيناها في تشكيل صيغة الجمع بالإنجليزية، وجود في اللغة البرتغالية. وثانيا: فإن الكلمات المجاورة للأسماء البرتغالية تتغير هي أيضا وفقا لحالتها من الإفراد أو الجمع؛ فإذا أردت أن أقول
my house
على سبيل المثال، فيجب أن أقول
minhas casas
أي إن ضمير الملكية يصرف هو أيضا في صيغة الجمع. وبالمثل، فإذا أردت أن أقول
the house
أو
the houses
فإن أداة التعريف
the
لا تتغير في كلتا الحالتين، أما في البرتغالية فنقول
a casa
في المفرد، ونقول
as casas
في الجمع؛ فتتغير الأداة وفقا للكمية التي يعبر عنها الاسم الذي يليها.
وعلى أي حال، فإن التشابه مع لغة أوروبية أخرى قد يعطي انطباعا غير صحيح بأن لاحقة الجمع
s
تستخدم في العديد من اللغات أو معظمها، لكن مع ازياد معرفة علماء اللغويات باللغات غير الأوروبية في جميع أنحاء العالم على مدار العقود القليلة الماضية، فقد اكتشفوا أن العدد النحوي يمكن أن يختلف بدرجة كبيرة. وقد اتضح بصورة أكبر أنه يوجد العديد من اللغات التي لا تتغير فيها الأسماء وفقا لتغير كمية العناصر التي تشير إليها. فلنلق نظرة على ترجمة الكلمات التالية:
cat ،
cats ،
house ،
houses
بلغة الكاريتيانا:
جدول 4-3
الجمع
المفرد
ombaky
ombaky
cats
cat
ambi
ambi
houses
house
نلاحظ أن الكلمة
ombaky (
cat
التي عادة ما تعني «النمر المرقط») والكلمة
ambi (house)
لا يتغيران بصرف النظر عن عدد القطط أو المنازل المشار إليها. وينطبق الأمر نفسه على جميع الأسماء في لغة الكاريتيانا؛ إذ إن هذه اللغة تفتقر إلى وجود العدد الاسمي (فيما عدا الاستثناء التقني المتمثل في الضمير «نحن»).
في دراسة شاملة للغاية أجريت على 1066 لغة، اكتشف عالم اللغويات ماثيو دراير مؤخرا أن 98 لغة منها تشبه الكاريتيانا في افتقارها إلى وجود وسيلة نحوية لتمييز الأسماء التي تدل على صيغة الجمع؛ ومن ثم فليس من النادر جدا أن نجد لغات لا تستطيع فيها تحديد ما إذا كان الاسم مفردا أم جمعا. وقد يبدو أمرا غريبا بالنسبة إلى متحدثي اللغات الأوروبية كالإنجليزية، والتي يعد تحديد ما إذا كان الاسم مفردا أو جمعا مهارة أساسية للفصاحة، أن يكون عشر لغات العالم تقريبا لا تستلزم ذلك من المتحدثين بها. غير أن الأمر اللافت للنظر بالنسبة إلي هو أن الغالبية العظمى من لغات العالم، حوالي 90 بالمائة منها، تتضمن وسائل نحوية يستخدمها المتحدثون بها للدلالة عما إذا كانوا يتحدثون عن شيء واحد أو أكثر. وهذه النزعة القوية، التي تتجلى في لغات توجد في مختلف أنحاء العالم ولا يرتبط بعضها ببعض على الإطلاق، تشير إلى أن التمييز بين «المفرد/غير المفرد» هو أمر مهم لنا للغاية في التواصل. ونحن نسلم بصحة هذه الحقيقة، بيد أنه ليس من الواضح بداهة السبب في الإشارة المتكررة لهذا التمييز في حديثنا. ولكي نعرف السبب في تكرار هذا التمييز في حديثنا بهذه الدرجة؛ فقد يكون من المفيد أن ندرس فئات أخرى من العدد النحوي، وهي التي توجد في أنحاء مختلفة من العالم.
1
بدلا من مجرد فصل الأسماء التي تمثل عنصرا واحدا عن تلك التي تمثل أكثر من عنصر، فإن بعض أنظمة الأعداد النحوية تتضمن فئة أخرى يشير إليها علماء اللغة باسم «المثنى». وتستخدم هذه الفئة عند الحديث عن عنصرين بالتحديد. في اللغة العربية على سبيل المثال، تستخدم اللاحقة «ان» للدلالة على المثنى، وثمة لاحقة أخرى للدلالة على الجمع. وبينما قد يبدو ذلك غريبا لمتحدثي اللغة الإنجليزية، فمن المثير للاهتمام أن نشير إلى أن اللغة الهندية الأوروبية الأولية، التي انحدرت منها اللغة الإنجليزية، كانت تستخدم المثنى على ما يبدو. والدليل على هذا أن اليونانية القديمة والسنسكريتية وغيرها من اللغات التي انقرضت الآن، لكنها من نسل اللغة الهندية الأوروبية الأولية، كانت تستخدم فئة المثنى من قبل؛ ففي اليونانية القديمة على سبيل المثال، كانت
o hippos
تشير إلى
the horse
أي الحصان، أما
to hippo
فتشير إلى
the two horses
أي الحصانين، وتستخدم
hoi hip-poi
للإشارة إلى
the horses
أي الأحصنة.
2
والواقع أن اللغة الإنجليزية القديمة كانت تستخدم هي الأخرى فئة المثنى، وما تزال لهذه الفئة آثار خافتة في الإنجليزية المعاصرة. وبالرغم من أن اللاحقات الإنجليزية لا تغير الصيغة بناء على ما إذا كانت الإشارة إلى عنصرين فقط أو أكثر من ذلك، فإننا نستخدم كلمات أخرى لتوضيح ذلك الفرق. فحين أقول
either of them [أي منهما] بدلا من
any of them [أي منهم] فأنت تفهم أنني أتحدث عن شخصين، وكذلك إذا قلت
both of them [كلاهما] بدلا من
all of them [كلهم] فأنت تفهم أيضا أنني أتحدث عن شخصين فقط؛ ومن ثم فبخلاف مفردات العد مثل «اثنين» «وثلاثة» يمكن للإنجليزية أن تعبر عن الفرق بين الإشارة إلى عنصر واحد أو عنصرين أو أكثر من ذلك. بالرغم من ذلك، ففي لغات كالعربية، تستخدم صيغة المثنى بتواتر وانتظام أكثر من ذلك بكثير، وهي تتضح في اللاحقات التي تتبع بها الأسماء. ومن اللغات الحديثة الأخرى التي تستخدم اللواحق للإشارة إلى المثنى، اللغة السلوفينية.
بعض اللغات الأصلية في القارة الأسترالية تستخدم علامة نحوية للمثنى. لنلق نظرة على الأمثلة التالية من لغة ديربال، وهي لغة مستخدمة في شبه جزيرة كيب يورك:
جدول 4-4
Bayi Burbula miyandanyu «ضحكت بربلا»
جدول 4-5
Bayi Burbula-gara miyandanyu «ضحكت بربلا وشخص آخر»
جدول 4-6
Bayi Burbula-mangan miyandanyu «ضحكت بربلا وأشخاص آخرون» * *
Robert Dixon,
The Dyirbal Language of North Queensland (New York: Cambridge University Press, 1972), 51.
توضح هذه الأمثلة أن اللاحقة
gara
تستخدم عند الإشارة إلى شخصين، أما اللاحقة
mangan
فهي تستخدم عند الحديث عن أكثر من شخصين. غير أن اللاحقة
gara
هي علامة مثنى ملحقة، فهي تستخدم لكي تعني في هذه الحالة «بربلا وشخص آخر» وليس «اثنين من بربلا» وهي تلحق بالأسماء الشخصية على عكس علامة الجمع في الإنجليزية. وبعض اللغات الأسترالية الأخرى تستخدم علامات للمثنى تشير إلى الحديث عن اثنين بالتحديد من الاسم المعني، على نحو أكثر مباشرة. وفي لغة كايارديلد، تؤدي اللاحقة
yarrngka
تلك الوظيفة؛ فكلمة «أخت» على سبيل المثال هي
kularrin
أما إذا قال أحدهم :
kularrinjiyarrngka
يكون المقصود بها «أختان».
3
في اللغات التي تستخدم المثنى، غالبا ما توجد صيغة المثنى في الضمائر، أو حتى تقتصر عليها. (ولعلك تتذكر من دروس النحو أن الضمائر هي بدائل عن أسماء أخرى، وهي تستخدم بصفة أساسية للإشارة إلى الأشخاص الذين يتحدثون أو إلى الأشخاص الذين يجري الحديث عنهم.) فلنلق نظرة على الضمائر التالية من اللغة الصوربية العليا، وهي إحدى اللغات المستخدمة في إقليم صغير في ألمانيا الشرقية:
جدول 4-7
ty
ja «أنت» «أنا»
جدول 4-8
wój
mój «أنتما الاثنان» «نحن الاثنان»
جدول 4-9
wy
my «أنتم جميعا» * «نحن» *
Greville Corbett,
Number (Cambridge: Cambridge University Press, 2000), 20.
يستخدم الضميران الواردان في الجدول
4-7
للإشارة إلى المفرد، فيشير الأول منهما إلى المتكلم والثاني إلى المخاطب. ويستخدم الضميران الواردان في الجدول
4-9
للإشارة إلى الجمع، فالأول منهما يشير إلى المتكلم ويشير الثاني إلى المخاطب. أما الضمائر الواردة في الجدول
4-8
فلا يمكن ترجمتها إلى الإنجليزية دون استخدام الكلمة «اثنين»، بالرغم من عدم الحاجة إلى استخدام كلمة عددية في اللغة الصوربية؛ وذلك لأن الضميرين في الجدول
4-8
يعكسان صيغة المثنى. وعلى الرغم من أن صيغة المثنى أقل شيوعا من صيغة الجمع، فمن الواضح أنها توجد بالفعل في اللغات المعاصرة، وقد كانت توجد أيضا في لغات قديمة.
تستخدم بعض اللغات ما يسميه علماء اللغويات باسم التصريفات «الثلاثية»، وهي تستخدم عند الإشارة إلى ثلاثة عناصر بالتحديد. بالرغم من ذلك، يبدو أن فئة التصريفات الثلاثية تنحصر في مجموعة صغيرة من لغات العالم، في بعض اللغات الأسترونيزية على وجه التحديد. فلنتأمل الأمثلة التالية من لغة مولوكو:
جدول 4-10
na’a
aridu
hima
Duma
نملك
نحن الثلاثة
الذي
المنزل «المنزل الذي نملكه نحن الثلاثة» * *
Wyn Laidig and Carol Laidig, “Larike
Moluccan Language,”
Oceanic Linguistics
29 (1990): 87-109, 92.
إن كلمة
aridu
في هذه الجملة، تشير إلى ثلاثة أشخاص بالتحديد؛ لذا فهي ضمير ثلاثي.
مع ذلك، تنتهي قائمة فئات الأعداد الاسمية الدقيقة عند هذا الحد؛ فلسنا نعرف على سبيل المثال أمثلة واضحة على وجود العدد النحوي «الرباعي» في أي من لغات العالم.
4
والفئة الأساسية الوحيدة التي لم أذكرها بعد من فئات العدد النحوي، هي فئة «جمع القلة»، وهي فئة غير شائعة أيضا لكنها تستخدم في بعض اللغات الأسترونيزية للإشارة بصورة غير دقيقة إلى عدد قليل من المعنيين بالحديث. يستخدم جمع القلة، على سبيل المثال، متحدثو لغة البوما الفيجية، الذين يعيشون في قرية يقطنها ستون فردا تقريبا. فإذا كان المتحدث يتحدث مع بضعة أشخاص أو حتى ما يزيد على اثني عشر فردا، فإنه يستخدم ضمير جمع القلة للمخاطب، وهو
dou ، أما إذا كان يتحدث مع القرية بأكملها، فسوف يستخدم ضمير الجمع للمخاطب
omunuu .
5
إضافة إلى التنوع في وظيفتها، فإن فئات العدد النحوي يمكن أن تختلف بدرجة كبيرة في شكلها. فمثلما رأينا في الجدول
4-1
والجدول
4-2
والجدول
4-6 ، فإن شكل لاحقة الجمع مختلف في لغة ديربال عما هو عليه في الإنجليزية أو البرتغالية على سبيل المثال. بالرغم من ذلك، فعلينا أن نلاحظ أن صيغة الجمع تمثل بلاحقة في اللغات الثلاث؛ إذ إن علامة الجمع تأتي في نهاية الاسم. والحق أن ذلك ليس بالأمر العرضي؛ فاستخدام اللواحق هو الصيغة الأكثر انتشارا على الإطلاق من العدد الاسمي في لغات العالم. واستخدام البادئات ليس نادرا أيضا مع ذلك، فهو يرد في أكثر من 10 بالمائة من اللغات التي يبلغ عددها 1066، والتي وردت في الدراسة سالفة الذكر التي أجريت على معظم لغات العالم بشأن العدد النحوي. وفيما يلي سنورد مثالا على العدد الاسمي باستخدام البادئات وهو من اللغة السواحلية:
جدول 4-11
me-no
ji-no «أسنان» * «سن» *
Thomas
Describing Morphosyntax (Cambridge: Cambridge University Press, 1997), 109.
قد يتخذ العدد الاسمي صيغا أكثر غرابة بخلاف العلامات التي تلحق ببداية الاسم أو نهايته. وفي بعض الحالات الغريبة فإن قواعد النحو تقضي بإلحاق علامة الجمع في منتصف الكلمة، وذلك من خلال عملية تدعى باسم «الدمج الوسطي» فلنلق نظرة على زوجي الكلمات التالي من لغة توالي إيفوجاو، وهي من اللغات الأصلية في الفلبين:
جدول 4-12
binabai
babai «نساء» * «امرأة» *
Describing Morphosyntax , 98.
نلاحظ أن العلامة الوسطية
in
تضاف في منتصف كلمة
babai
لكي تصبح جمعا.
ومن الطرق الغريبة التي تستخدم أيضا في جمع الأسماء في بعض اللغات، هي ما يطلق عليه علماء اللغويات مصطلح «المضاعفة». وفي المضاعفة يعمد إلى تكرار مقطع واحد أو أكثر من مقاطع الكلمة؛ للدلالة على أن هذا الاسم المحدد يشير إلى أكثر من عنصر واحد . وتستخدم لغة توالي إيفوجاو المضاعفة أيضا، كما هو الحال في المثال التالي، الذي نجد فيه أن المقطع الأول يكرر للدلالة على الجمع:
جدول 4-13
tatagu
tagu «أشخاص» * «شخص» *
Describing Morphosyntax.
ولا تتوقف قائمة الحيل التي تستخدمها القواعد اللغوية لتحويل الأسماء المفردة إلى صيغة الجمع عند ذلك الحد؛ ففي حالة «التعويض»، على سبيل المثال، تستخدم كلمة مختلفة تماما للتعبير عن صيغة الجمع من الاسم المفرد؛ ففي اللغة العربية المعاصرة نجد الاسم المفرد «امرأة» وجمعه «نساء». وفي لغة الإندو المستخدمة في كينيا، نجد أن الكلمة التي تشير إلى «ماعز» هي
aráan
أما الجمع «معز» فتشير إليه الكلمة
no . والجموع التي تصاغ باستخدام التعويض هي من الجموع التي يصعب تعلمها؛ إذ لا بد من حفظ صيغة المفرد والجمع. وبعض أنظمة العدد النحوي الأخرى أكثر صعوبة في تعلمها؛ فاللغة اللاتينية والروسية وبعض اللغات الأخرى، تستخدم لاحقات عددية مختلفة تماما، وفقا لحالة الاسم في الجملة، أي ما إذا كان فاعلا أو مفعولا به.
ويمكننا أن نستخلص بعض الاستنتاجات من هذا الاستعراض الموجز للعدد النحوي في الأسماء في لغات العالم؛ فمثلما رأينا في الفقرات السابقة، يمكن لشكل العدد الاسمي أن يختلف بدرجة كبيرة، وهو يظهر في معظم اللغات من خلال اللواحق، غير أننا نجد أنه ينعكس في البادئات في بعض اللغات، أو ينعكس من خلال بعض الأشكال الأكثر غرابة، مثل المضاعفة في عدد قليل من اللغات. وقد لاحظنا أيضا أن بعض اللغات مثل الكاريتيانا، لا تستخدم العدد الاسمي على الإطلاق. وبالرغم من وجود أنواع عديدة من العدد الاسمي، فإن لغات العالم تعكس توجهات واضحة فيما يتعلق بوظيفة هذه الظاهرة النحوية؛ فمعظم اللغات تتضمن فئة للمفرد وفئة للجمع، وبعضها يتضمن فئة للمفرد وأخرى للمثنى وأخرى للجمع، وأخيرا، تتضمن قلة من اللغات تصريفات ثلاثية. بالرغم من ذلك، فما من لغة في العالم تستخدم وسيلة نحوية للإشارة إلى وجود 4 عناصر من الاسم أو 5 أو 6 أو غيرها من الكميات الكبيرة، وتلك نقطة أساسية، فلا بد لها من استخدام كلمات الأعداد للإشارة إلى تلك الكميات. من الواضح إذن أن لغات العالم تميل إلى التمييز بين الكميات 1 و2 و3، على وجه التحديد، بينما تميل إلى التمييز بين جميع الكميات الأخرى بشكل تقريبي. ومثلما سنرى فيما يلي، فمن المرجح أن يكون هناك أساس بيولوجي عصبي لمثل هذه النزعة.
6
العدد في أنواع أخرى من الكلمات
بالرغم من أن العدد النحوي يتضح عادة في الأسماء؛ إذ إنه يشير في العادة إلى عدد الأشخاص أو غيرها من العناصر التي يجري الحديث عنها، يمكن للغات أن تغير أجزاء أخرى من الجملة وفقا للكميات التي تجري مناقشتها؛ ففي العادة، تقتضي اللغات تغييرا في شكل الفعل بناء على عدد العناصر التي تمثل فاعل الجملة، وهذا النمط مألوف لمتحدثي الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية. فلنلق نظرة على الزوجين التاليين من الجمل:
جدول 4-14
The cars are fast
The car is fast «السيارات سريعة» «السيارة سريعة»
جدول 4-15
They run slowly
He runs slowly «هم يجرون ببطء» «هو يجري ببطء»
في الزوجين الأولين، نرى أن فعل الكينونة في الإنجليزية يتغير من صيغته
is
إلى
are
بناء على ما إذا كان الفاعل في صيغة المفرد أو الجمع. وفي الزوجين الآخرين من الجمل، نرى أن الفعل تضاف إليه اللاحقة
s
حين يكون الفاعل في صيغة المفرد، ولا تضاف إليه أي لاحقة حين يكون الفاعل في صيغة الجمع. وفي هذا المثال أيضا، توضح لنا اللاحقة معلومات عن زمن حدوث الجري. (لا تستخدم الصيغة
he runs
إلا في المضارع.) وحقيقة الأمر أن لواحق الأفعال غالبا ما تخلط بين العدد النحوي وفئة أخرى، كالزمن مثلا؛ فأحيانا تكون اللغات فوضوية.
لنلق نظرة على هذين الزوجين من الجمل أيضا، واللذين يوضحان العدد النحوي من خلال الاتفاق بين الفاعل والفعل، وهما من اللغة البرتغالية:
جدول 4-16
Eles foram ontem
Ele foi ontem «هم ذهبوا بالأمس» «هو ذهب بالأمس»
جدول 4-17
As mulheres jogaram futebol
Marta jogou futebol «النساء لعبن كرة القدم» «مارتا لعبت كرة القدم»
تتغير صيغة الفعل
foi («ذهب») إلى
foram
في الجدول
4-16
وفقا لعدد الأشخاص الذين ذهبوا في اليوم السابق. وفي الجدول
4-17 ، تتغير اللاحقة المضافة إلى الفعل
jogou
وفقا لعدد الأشخاص الذين يلعبون، وما إذا كان شخص واحد هو الذي يلعب أم أكثر. إن الجمل في الجداول من (
4-14
إلى
4-17 ) تعكس استراتيجية عادة ما تستخدمها لغات العالم، وهي تتمثل في تغيير الفعل حين يكون فاعل الجملة في صيغة الجمع. وفي بعض اللغات نجد تعديلا على هذه الاستراتيجية، ونجد أن الفعل فيها يوافق المفعول لا الفاعل. ونجد ذلك في اللغة الأوروبية المنعزلة «البشكنشية» ونحن ندعوها «منعزلة» لأنها لا ترتبط بغيرها من اللغات المعروفة:
جدول 4-18
di-tut
Irakurri
luburuak
Nik
الزمن الماضي لصيغة الجمع للغائب
يقرأ
الكتب
أنا «أنا قد قرأت الكتب» * *
Jon Ortiz de Urbina,
Basque (Providence, RI: Foris, 1989). Technically the verb agrees in number with the 'absolutive’ noun, not the object, but this distinction is not important to our discussion.
في هذا المثال، نجد أن الفعل المساعد
tut (والذي يمثل صيغة الماضي)، مسبوق بالبادئة
di
التي تشير إلى أكثر من كتاب واحد قد جرت قراءته.
لقد بدأنا ندرك بالفعل أن العدد النحوي ينتشر في الكثير من لغات العالم، لكنه يتخذ العديد من الأشكال المختلفة. فيمكن الإشارة إليه ببساطة من خلال إضافة لاحقة جمع إلى الاسم، أو من خلال استخدام ضمير المثنى الذي يشير إلى شخصين، أو بإضافة بادئة إلى الفعل تتفق مع عدد الاسم الموجود في مكان ما بالجملة، أو من خلال غير ذلك من التغيرات التي تطرأ على الأسماء والأفعال.
ولا يتوقف الأمر في اللغات عند هذا الحد؛ فلنتأمل أدوات التنكير في اللغة الإنجليزية [
a/an ]. يمكننا أن نقول:
a car
أو
a computer
غير أنه لا يمكننا أن نقول:
a cars
أو
a computers . بالرغم من أن أداة التنكير
a
ليست كلمة عددية، فهي تمدنا ولا شك بمعلومات عن الكمية. والعديد من اللغات الأخرى تتشارك هذه السمة أيضا، ويستخدم المتحدثون بها أدوات مختلفة وفقا للكميات التي يشار إليها في الجملة. ففي الألمانية على سبيل المثال، يمكننا أن نقول:
das Auto
أي «السيارة»، غير أنه يتحتم علينا أن نغير أداة التعريف
das
إلى
die
عند استخدام الاسم في صيغة الجمع
Autos . ولنتأمل أيضا استخدام أدوات الإشارة في اللغة الإنجليزية مثل
this
أو
that
وهما يوضحان الكيان المحدد الذي يجري الحديث عنه، مع الإشارة إلى مدى قرب هذا الكيان من المتحدث. فيمكنني أن أقول مثلا:
this pen here [أي «هذا القلم هنا»] أو
that pen over there [أي «ذلك القلم هناك»]. بالرغم من ذلك، فإذا كنت أتحدث عن أكثر من قلم واحد هنا أو هناك، فسوف أحتاج إلى تغيير اسم الإشارة الذي أستخدمه، وأستخدم بدلا منه
these pens here [أي «هذه الأقلام هنا»] أو
those pens over there [أي «تلك الأقلام هناك»].
تستخدم بعض اللغات كلمات تتشابه في معناها ووظيفتها مع أسماء الإشارة، وهي ما يدعوه علماء اللغويات باسم «المصنفات». والمصنفات هي كلمات أو أجزاء من الكلمات تصنف الأسماء التي تليها، وهي لا تصنف الأسماء وفقا للمسافة مثل أسماء الإشارة، بل وفقا لكونها عاقلا أم غير عاقل، أو وفقا لوظيفة ما يشير إليه الاسم. ومن المثير للاهتمام أن المصنفات غالبا ما تضاف إلى مفردات الأعداد عند عد بعض الأشياء. فلندرس الأمثلة التالية من لغة الياجوا، وهي لغة أصلية مستخدمة في شمال غرب إقليم الأمازون:
جدول 4-19
Varturu
tï-kï ï
امرأة (متزوجة)
مصنف للعدد واحد «امرأة واحدة متزوجة»
جدول 4-20
Vaada
tïn-see
بيضة
مصنف للعدد واحد «بيضة واحدة» * *
Describing Morphosyntax,
108.
تختلف اللاحقة المصنفة المضافة إلى العدد «واحد» بناء على ما إذا كنا نتحدث عن شخص أو بيضة. وتستخدم العديد من اللغات مصنفات تظهر في أثناء العد، ومنها اثنتان من أكثر اللغات انتشارا في العالم؛ لغة الماندرين، واللغة اليابانية. وفي بعض لغات المايا تصنف الأسماء إلى عشرات الفئات التي تتضح عند العد؛ فتستخدم اللغة الإنجليزية بعض ملامح نظام المصنفات. عند استخدام الأسماء المفردة المعبرة عن الجمع مثل «رمل» و«تراب» و«طين» لا بد لنا من تصنيف أشكالها؛ فلا يمكننا أن نقول مثلا: «ثلاثون طينة» أو «ثلاثون ترابة» أو «ثلاثون رملة». ولكي يمكننا أن نستخدم مثل هذه العبارات بما يتناسب مع قواعد اللغة، فسوف نحتاج إلى أن نضيف كلمات مثل «كتل من الطين» أو «أكوام من التراب» أو «حبات من الرمل» مع الاحتفاظ بالاسم في صيغة المفرد. أما الأسماء «المعدودة»، مثل «سيارات وأقلام رصاص وكتب»، فهي لا تتطلب مثل هذه المساعدة؛ فعبارة «ثلاثون سيارة» مفهومة ومنطقية تماما، أما «ثلاثون من كتل السيارات» فهي ليست كذلك.
من الجلي أن القواعد اللغوية تستخدم طرقا عديدة للتمييز بين كميات العنصر المشار إليه في الحديث. بالرغم من ذلك، فعلينا أن نلاحظ أن هذه الطرق جميعها، بما فيها الظواهر النحوية على مثال الاتفاق بين العدد والفعل وأدوات التنكير للمفرد ، مخصصة لتقسيم كميات صغيرة، لا سيما الكمية 1 ثم 2 و3 بدرجة أقل من الكميات الأخرى. إن العدد النحوي تقريبي فحسب، خاصة حين يتعلق الأمر بالكميات الأكبر. وتتضح هذه النزعة إلى التقريب أيضا في المفردات الفعلية للأعداد، التي تعبر عن الكميات. لقد ركزنا في الفصل الثالث على الكلمات التي تعبر عن كميات محددة، غير أنه يجدر بنا أن نشير هنا إلى أن اللغات تستخدم كلمات مشابهة للأعداد، لكنها غير دقيقة تماما. ففي اللغة الإنجليزية مثلا نجد كلمات مثل:
a few
أي بضعة، ونجد
a couple
أي قليل، ونجد
many
أي كثير، وكذلك
several
أي عدة، وما إلى ذلك من الكلمات. والأرجح أن مثل هذه المصطلحات توجد في جميع اللغات؛ ولهذا فسوف تكون الأمثلة عليها كثيرة للغاية. ففي لغة المايا اليوكاتية على سبيل المثال، نجد كلمات مثل
yá’ab’
التي تعني «العديد» أو «الكثير».
7
وربما يكون الأمر الغريب هو أن بعض اللغات تعتمد كليا أو في الغالبية العظمى من الحالات على مثل هذه الكلمات العددية التقريبية عند وصف الكميات، وسوف نلقي نظرة على تلك اللغات في الفصل الخامس حين نناقش الشعوب اللاعددية.
يمكن استخدام بعض المفردات العددية غير الدقيقة للإشارة إلى الحديث عن أكثر من واحد من نوع محدد من العنصر المعني. فإذا كنت أتحدث مثلا عن مجموعة من الحيوانات ذات الحوافر، يمكنني أن أستخدم كلمة
herd [أي «قطيع»]، وإذا كنت أتحدث عن مجموعة كبيرة العدد أيضا من الحيوانات السابحة، يمكنني أن أقول مثلا:
school of fish [أي «سرب» من الأسماك] أو
pod of dolphins [أي «سرب» من الدلافين]. وتوجد العشرات من مثل هذه الكلمات التي تطلق على مجموعات الحيوانات في اللغة الإنجليزية، ومنها كلمة
gaggle
والتي تشير إلى مجموعة من الإوز إن لم تكن تطير، فإذا كانت تطير أصبح المصطلح الأنسب لها هو
skien
هذا على الأقل إن كنت من المدققين. أما إن كنت أتحدث عن مجموعة من البط، لا الإوز، فسوف أستخدم مصطلح
flock . والحق أن العديد من متحدثي الإنجليزية لا يدركون الفرق بين هذه المصطلحات، وهو أمر مفهوم نظرا لفائدتها المحدودة، غير أن هذه الفروق موجودة على أي حال، وهي تشير إلى وجود طريقة أخرى تستخدمها اللغات لتأكيد الفرق بين ما هو واحد وما هو أكثر من واحد.
وتظهر هذه الفروق أيضا في الاختلافات الغريبة بين الأفعال؛ فإذا كنت أشاهد مثلا فيلا واحدا يتحرك بسرعة، يمكنني أن أستخدم الفعل
run [أي يجري]، أما إذا كان هناك مجموعة كبيرة من الأفيال تتحرك بالطريقة نفسها، فقد أستخدم الفعل
stampede
في وصف حركتها [بمعنى تندفع]. وهذا التغيير في الفعل يعود إلى تغير عدد الأفيال وليس إلى عدد المرات التي جرى فيها فيل معين. والأمر المثير أن بعض اللغات تستخدم مثل هذه الاختلافات بين الأفعال للإشارة إلى عدد المرات التي وقع فيها حدث معين، وليس إلى عدد العناصر التي يتضمنها الحدث. تتضح هذه الظاهرة، التي تعرف باسم «تكرار الفعل»، في لغة الهوسا التشادية المستخدمة في الساحل الأفريقي؛ ففي هذه اللغة على سبيل المثال، نجد أن الفعل
aikee
معناه «يرسل» وكذلك الفعل
a’’aikee
يؤدي المعنى ذاته، غير أن البادئة
a’’
في النسخة الثانية من الفعل تعني أن شيئا ما كان يرسل مرارا وتكرارا؛ ومن ثم فإن الفعل يتغير وفقا لعدد مرات وقوع فعل الإرسال، لا وفقا لعدد الأشخاص الذين يرسلون أو يرسل إليهم، ولا عدد الأغراض التي ترسل.
وتتضمن لغة الكاريتيانا الأمازونية أفعالا خاصة تشير معانيها إلى اشتراك العديد من العناصر في الحدث، وذلك مفاجئ بعض الشيء؛ فمثلما ذكرت سابقا في هذا الفصل، لا تستخدم لغة الكاريتيانا العدد الاسمي (فيما عدا الاختلافات بين الضمائر). وما تستخدمه هذه اللغة هو بضعة أفعال تنطوي على معنى الجمع. فعلى سبيل المثال الفعل
ymbykyt
الذي يعني أن «العديد من الأشخاص يصلون» والفعل
piit
الذي يعني «يأخذ مجموعة من الأشياء»، ويستخدم هذا الفعل بصرف النظر عن عدد الأشخاص الذين يقومون بفعل الأخذ. وتستخدم بعض الأفعال «الدالة على الجمع» عند وصف أفعال مثل «الجري» «والذهاب» «والطيران». وفي دراسة موجزة أجريتها على أربعة وعشرين فردا من متحدثي لغة الكاريتيانا، توصلت إلى أدلة تؤكد أن استخدام الأفعال الدالة على الجمع يؤثر في طريقة تفكير المتحدثين في أفعال محددة ، مقارنة بمتحدثي لغات أخرى كالإنجليزية، التي لا تستخدم مثل هذه التنويعات.
8
غالبا ما ينظر إلى العدد النحوي بوصفه تمييزا بسيطا بين الأسماء في صيغة المفرد والأسماء في صيغة الجمع. وقد رأينا أن الأمر أكثر من ذلك؛ فالعدد النحوي يوجد في كل لغات العالم تقريبا، غير أنه وحش يتمتع بالقدرة على تغيير شكله. فنجده في العديد من اللغات يتخذ شكل اللواحق التي تشير إلى الاختلافات بين الكميات. لكن في بعض الأحيان لا تكون هذه الاختلافات بسيطة كالاختلاف بين «واحد» في مقابل «الكثير»؛ فقد تقسم هذه الاختلافات خط الأعداد بطرق أكثر تحديدا، ربما في صورة «واحد» في مقابل «اثنين» في مقابل «الكثير». علاوة على ذلك، فقد رأينا أن العدد النحوي لا يظهر في الأسماء فقط، فالأفعال أيضا يمكن أن تدل على كمية ما يشار إليه في الحديث، أو تشير إلى كمية الأفعال التي يصفها الحديث. ولدينا أيضا بعض الكلمات الأخرى، كأدوات التنكير والمصنفات، التي تعكس نزعة البشر إلى الإشارة إلى الكميات، حتى وإن كانت هذه الكميات تبدو غير وثيقة الصلة على الإطلاق بمحادثة معينة. واللغات لا تعكس هذه النزعة لدى البشر فحسب، بل إنها تعزز من تركيزنا على الأعداد؛ إذ هي تقتضي الإشارة إلى الكميات على الدوام.
وبالرغم من الطبيعة المتنوعة التي يتسم بها العدد النحوي، فقد رأينا أيضا نزعات قوية جدا في قواعد اللغات في العالم فيما يتعلق بهذه الظاهرة؛ أولا: تتضمن الغالبية العظمى من لغات العالم ظاهرة العدد النحوي؛ فهو أحد أكثر السمات انتشارا في القواعد اللغوية على مستوى العالم، التي يزداد إدراكنا لتنوعها الكبير. ثانيا، وهو ما لا يقل أهمية عن النقطة الأولى على الإطلاق: فبالرغم من أن استراتيجيات العدد النحوي تتخذ أشكالا متفاوتة في لغات العالم، فإن وظيفتها تظل متشابهة بدرجة كبيرة. فقبل كل شيء، تميل القواعد اللغوية إلى تقسيم الكميات إلى واحدة من فئتين: 1 أو كل شيء فيما عدا 1. وفي الحالات التي تلجأ فيها القواعد اللغوية إلى فئات أكثر دقة، فإنها تظل محددة بشكل كبير؛ فالقواعد اللغوية تشير إلى ثلاث كميات محددة، وهي 1 و2 و3، وهذا على أكثر تقدير، فما من لغة تستخدم اللواحق على سبيل المثال، لتشير تحديدا إلى 5 أو 10، بالرغم من انتشار النمط الخماسي والنمط العشري في الأعداد على مستوى العالم. ونظرا إلى نطاق المعاني الضمنية التي تشير إليها جميع أنواع البادئات واللواحق في لغات العالم، فإن نطاق الكميات المحدد، الذي يشير إليه العدد النحوي، بارز بدرجة كبيرة. وكل ذلك يطرح أمامنا سؤالا واضحا: ما السبب في أن القواعد اللغوية لدى البشر تركز كل هذا التركيز على الكميات، غير أنه تركيز ضبابي فحسب، ما لم تكن هذه الكميات هي 1 أو 2 أو 3؟ إننا حين نتحرى الدقة عند الإشارة إلى كميات أكبر من 3، نحتاج إلى استخدام مفردات الأعداد بدلا من العدد النحوي. فيبدو الأمر كما لو أن تمييز الكميات الكبيرة بدقة ليس بالأمر الذي نفعله بتلقائية، على العكس من تمييز الكميات 1 و2 و3. ولكي نفهم السبب في أننا نستطيع التمييز بين كميات معينة بدرجة أكبر من التلقائية؛ نحتاج إلى أن نوجه النظر إلى الأداة الدماغية التي نستخدمها لفهم الكميات.
الأساس البيولوجي العصبي للعدد النحوي
الثلم داخل الفص الجداري هو أحد الوديان العديدة الموجودة في الدماغ البشري. وهو يمتد أفقيا في الفص الجداري، بداية من الجزء المركزي في القشرة باتجاه المؤخرة. والثلم داخل الفصل الجداري هو أحد منابع التفكير العددي، وهي نقطة سنعرضها بقدر أكبر من التفصيل في الفصل الثامن. ومن الأمور الغريبة بشأن التفكير العددي الذي يحدث فيه، هو أن جزءا منه فطري من ناحية التطور البيولوجي للفرد، وكذلك من ناحية تطور النوع على حد سواء. ومعنى هذا أن جزءا من هذا التفكير يحدث في مرحلة مبكرة من تطورنا (التطور البيولوجي للفرد) وهو يبدو أيضا قديما في نوعنا والأنواع المرتبطة به (تطور النوع). فالبشر وغيرهم من الأنواع القريبة منهم مهيئون للتفكير العددي بدرجة ما. «بدرجة ما»، وهذه «الدرجة» من النقاط الأساسية التي نركز عليها في هذا الكتاب: إن الأدوات العددية التي تمنحنا إياها أدمغتنا بمعزل عن الثقافة ، كليلة للغاية، غير أنها موجودة بالتأكيد. ويبدو أن إحدى السمات المميزة للمعالجة العددية الأصلية التي تحدث في الثلم داخل الفص الجداري، وهو أمر تتحكم فيه طبيعتنا البيولوجية العصبية الفطرية لا الأعراف الثقافية، تحفز أنماط القواعد اللغوية التي وضحناها في الأقسام السابقة. فمن الواضح أن البشر مهيئون فطريا للتمييز بين الكميات الصغيرة، لا سيما 1 و2 و3، وبينها وبين الكميات الكبيرة؛ فتمييز الكمية 1 مثلا عن أي كمية أخرى، هو أمر فطري لدينا.
لقد أوضح عدد كبير من الأبحاث في علم النفس الإدراكي والعلوم العصبية وغيرها من المجالات المتعلقة بالموضوع، أن البشر يستطيعون أن يميزوا الكميات الصغيرة من الأشياء بسرعة، وذلك قبل أن يتلقوا أي تدريب في الرياضيات. (سنشرح هذه النقطة بمزيد من الوضوح في مناقشتنا للإدراك لدى الأطفال في الفصل السادس.) وهذه القدرة على تتبع الأشياء قد أصبحت ممكنة من خلال سمات بيولوجية عصبية أساسية كالثلم داخل الفص الجداري، وهي تمكننا من التمييز بين المجموعات التي تتكون من 1 أو 2 أو 3 من العناصر، بسرعة ودقة. بالرغم من ذلك، فحين يتعلق الأمر بالكميات الكبيرة، فإن آلياتنا العصبية الفطرية لا تمدنا إلا بوسائل ضبابية للتفريق بين الكميات. فلننظر إلى هذا المثال الدرامي بصفته توضيحا لمدى فاعلية قدرتنا الطبيعية على تمييز الكميات الصغيرة. فلنقل مثلا: إنك تسير في أحد أزقة مدينة نيويورك، وقد رأيت مجموعة صغيرة من المجرمين مجهولي الهوية يراقبون شخصا قد هاجموه للتو. فإن كان المهاجمون ثلاثة أو أقل، ولم يكن لديك إلا ثانية أو أقل لكي تعالج المشهد بصريا، فسوف تتمكن من تمييز عدد المجرمين الموجودين. وإذا استجوبك ضباط الشرطة فيما بعد فسوف تتمكن من إخبارهم بثقة بعدد المجرمين الذين رأيتهم، هذا على افتراض أنه كان يمكن تمييزهم بصريا. وفي المقابل، لنقل مثلا: إنك كنت تسير في الزقاق نفسه لكنك قد رأيت ستة مجرمين يهاجمون شخصا ما، فهل كنت ستتمكن من أن تقول بدقة وثقة كم كان عدد المهاجمين إن لم يكن لديك سوى جزء من الثانية لتعالج الأمر قبل أن يبتعدوا (أو تبتعد أنت)؟ كلا، فحين يطلب من الأشخاص أن يحددوا عددا معينا من العناصر بسرعة، مثل مجموعة من الأفراد الذين يمكن التمييز بينهم بصريا؛ فهم لا يستطيعون إلا قول العدد التقريبي إن كان هذا العدد يتجاوز 3.
حين يتعلق الأمر بالكميات التي تزيد عن 3، فإننا نكون أفضل في تمييز المجموعات التي تختلف عن بعضها اختلافا ملحوظا؛ ومن ثم إذا سألك ضابط الشرطة عما إذا كان عدد المهاجمين 6 أو 7، فقد تجيب بإجابة خاطئة؛ لأن الفرق بين 6 و7 ليس فرقا ملحوظا. لكن إذا تصادف أن ضابط الشرطة يعرف أنها إما إن تكون عصابة من 6 أفراد أو عصابة من 12 فردا، وأعطاك الاختيار بين 6 و12، فسوف تجيب إجابة صحيحة؛ لأن 12 أكبر من 6 بنسبة 100 بالمائة. بالرغم من ذلك، فلكي نكون دقيقين بشأن إدراك الكميات مثل 6، نحتاج إلى عد العناصر المعنية. فتقرير الشرطة المستند إلى شهادتك العيان سيكون دقيقا إلى حد ما في السيناريو الأول الذي طرحناه لما حدث في الزقاق، أما شهادتك الثانية فسوف تكون مبهمة؛ ربما شاهدت ستة مهاجمين بالفعل، لكن عند التفكير في الأمر مرة أخرى، ربما كانوا خمسة أو سبعة، أو ربما - فقط ربما - كانوا ثمانية. إذا لم تتسن لك فرصة عدهم، وتستخدم هذه الرموز اللفظية للكميات، والتي نسميها مفردات الأعداد، فلن تكون روايتك جديرة بالثقة؛ فالآليات الوراثية المتأصلة في الثلم داخل الفص الجداري وغيرها من المناطق الموجودة في القشرة الدماغية، لا تستطيع سوى تمييز الكميات الصغيرة، مثلما تشير إلى ذلك الدراسات التجريبية ودراسات تصوير الدماغ.
قد تبدو هذه النقطة واضحة بطريقة ما، فتمييز الكميات الصغيرة أسهل بالتأكيد، لكن ما نفترضه هنا بناء على دراسات موسعة قد أجراها العديد من الباحثين، هو ليس ذلك فحسب؛ فالبشر ليسوا أفضل قليلا فحسب في تمييز الكميات الصغيرة، ولا يقتصر الأمر على أن تشوشنا الرياضي يزداد تدريجيا وفقا لزيادة العناصر التي يستقبلها إدراكنا، بل توجد فجوة واضحة بين كيفية تفكيرنا في الكميات 1 و2 و3، مقارنة بجميع الكميات الأخرى. وبعبارة أخرى، نحن مهيئون فطريا للتفكير في هذه الكميات بدقة ، مع التفكير بشأن جميع الكميات الأخرى بشكل تقريبي. ومثلما يشير عالم النفس المرموق ستانيسلاس ديهان، فإننا نمتلك «حاسة عددية» وهو ما يساعدنا على تمييز بعض الكميات بدقة. إن أدمغتنا على وجه التحديد، ولا سيما الثلم داخل الفص الجداري الموجود في أدمغتنا، بها حاستان عدديتان؛ حاسة عددية دقيقة، وحاسة عددية تقريبية. وفي حقيقة الأمر، فإن الحاسة العددية الأولى هي القدرة على متابعة الأشياء، والتي يشار إليها عادة باسم نظام «التفرد المتوازي» ولهذا فهي تسمح لنا بأكثر من مجرد التفكير الكمي. غير أن إحدى خصائصها هي أنها تمكننا من تمييز المجموعات التي تتكون من كميات صغيرة بدقة، مثل مجموعة تتكون من 1 أو 2 أو 3 من المهاجمين. ولذلك السبب فسوف أشير إليها باسم «الحاسة العددية الدقيقة»، وهو مصطلح يسهل تذكره؛ إذ يقابل مصطلح «الحاسة العددية التقريبية». وتمكننا الحاسة الأخيرة من تقدير الكميات الكبيرة، كالمجموعات التي تتكون من 5 إلى 7 من المهاجمين. وهاتان الحاستان، اللتان سنناقشهما بمزيد من التفصيل في الفصول التالية، هما وحدتا البناء للقدرة على التسويغ المنطقي الكمي، التي يتميز بها نوعنا، لكنهما لا تفسران التفكير الرياضي بأكمله بالتأكيد.
9
ومن الواضح أن هذه الخلفية بشأن طبيعتنا البيولوجية العصبية الأساسية، تلقي ضوءا جديدا على ما كنا نتناوله من مناقشة بشأن العدد النحوي؛ أولا: من المحتمل أن تكون الطبيعة البيولوجية العصبية العددية المتأصلة في نوعنا، تعزز إحدى النتائج الأساسية التي توصلنا لها من دراستنا الاستقصائية، وهي أن العدد النحوي منتشر في كل مكان. إنه يوجد في الغالبية العظمى من اللغات، وعادة ما يكون له آثار بارزة في كيفية تكوين الأفراد للجمل والكلمات المفردة، في اللغات التي يوجد فيها، ويمكن أن يظهر في الأسماء والأفعال والأدوات والمصنفات وغيرها من أنواع الكلمات. ثانيا: حين يشير العدد النحوي إلى كميات محددة، فإنها تكون محددة للغاية؛ فهو يميز بين 1 وبين الكميات الأخرى، ويمكن استخدامه أيضا للإشارة إلى الكمية 2 و3، على وجه التحديد. ثالثا: غالبا ما يشير العدد النحوي إلى الكميات الكبيرة، لكن ذلك دائما ما يكون على نحو تقريبي.
لقد رأينا في الفصل الثالث أن معظم الأنظمة العددية تحفزها الطبيعة البيولوجية البشرية. وفي الغالبية العظمى من اللغات، تبدي الأعداد ارتباطا تاريخيا واضحا مع الأصابع والأيدي. وتوضح لنا النتائج التي يتناولها هذا الفصل أن العدد النحوي أيضا له سمات مشتركة عبر لغات العالم، غير أننا لا نعزو السبب في وجود هذه السمات المشتركة إلى صفات الأطراف البشرية، بل يبدو أنها تنبع من سمات الدماغ البشري. إن قواعدنا اللغوية تشير إلى المفاهيم العددية التي يصفيها دماغنا أو الثلم داخل الفص الجداري على وجه التحديد، بصورة فطرية وبسهولة، وليس ذلك من قبيل المصادفة.
إذا كان ما اقترحناه من العوامل التي تحفز وجود مفردات الأعداد والعدد النحوي دقيقا، فقد نتوقع أن مفردات الأعداد التي تعبر عن الكميات الصغيرة للغاية سوف تكون مختلفة بطريقة ما عند مقارنتها بمفردات الأعداد التي تعبر عن الأعداد الكبيرة. وهذا التوقع يلقى دعما من الأدلة اللغوية؛ فمفردات الأعداد التي تعبر عن كميات مثل 1 و2 و3، غالبا ما يكون لها مصادر قد ضاعت مع مرور الزمن، وأصول تختلف بوضوح عن أصول الأعداد الكبيرة في اللغة نفسها. فعلى العكس من الأعداد التي تعبر عن كميات مثل 5 و10، فإن البشر عادة لا يسمون الكميات الأصغر على أسماء أعضاء الجسم. (بالرغم من ذلك، فمثلما هي الحال مع الأحكام العامة بشأن اللغات البشرية، توجد بعض الاستثناءات النادرة.) ونحن لا نحتاج إلى ذلك؛ إذ يمكننا أن ندرك مثل هذه الكميات من خلال أدمغتنا، دون الحاجة إلى وسيط مادي ليساعدنا على إدراكها. إننا لا نحتاج إلى الإشارة إلى الكميات المتطابقة الموجودة في العالم الخارجي لأدمغتنا، لاختراع كلمات للكميات 1 و2 و3.
وتختلف الأعداد الصغيرة عن الكبيرة بطريقة أخرى مهمة أيضا، وهي تدعم الاقتراح القائل بأن الأعداد الصغيرة تتأسس مباشرة على مفاهيمنا الفطرية. ومثلما أشار الباحثون كعالم النفس الذي سبق ذكره، ستانيسلاس ديهان، فإن الأعداد الصغيرة تستخدم أكثر من غيرها بدرجة كبيرة. وبالفعل، فإن الأعداد 1 و2 و3، توجد في اللغات المكتوبة بأكثر من ضعف المقدار الذي توجد به جميع الأعداد الأخرى. ويعود جزء كبير من السبب في مثل هذا التواتر إلى سهولة إدراك هذه الأعداد بدقة وسرعة. فليس الأمر على سبيل المثال أن الطبيعة تقدم لنا الأشياء في مجموعات تتكون من 1 أو 2 أو 3 بتواتر أكبر، ليس إلى الحد الذي يتضح في اللغة على الأقل. علاوة على ذلك، فإن تواتر ورود الأعداد المكتوبة والمنطوقة في جميع اللغات، التي درس فيها تواتر ورود الأعداد، لا يتراجع بانتظام مع زيادة العدد، وإنما نجد انخفاضا حادا في معدل ورود العدد 4 مقارنة بالعدد 3. ثم إننا نجد في الإنجليزية وغيرها من اللغات العشرية، أن أعدادا مثل 10 و20، ترد بتواتر كبير للغاية، هو أكبر كثيرا من تواتر الأعداد الكبيرة الأخرى. ويشير ذلك إلى أن التواتر الكبير لبعض الأعداد في الحديث والكتابة لا يعود إلى أن بعض الكميات أكثر انتشارا في العالم من حولنا فحسب، وإنما ترد بعض الأعداد بتواتر أكبر لأن أدمغتنا وأجسادنا قادرة على تصفيتها بسهولة أكبر.
10
إن السهولة التي يعالج بها البشر الكميات الصغيرة، تنعكس في الأنماط التي وصفناها فيما يتعلق بالعدد النحوي. وهي تنعكس أيضا في وتيرة استخدام الأعداد الصغيرة، وفي الأصول غير الواضحة لها، ويجب أن نذكر أيضا الأعداد الترتيبية. والأعداد الترتيبية هي التي توضح موضع عنصر ما أو حدث ما في الترتيب؛ فيمكنني أن أقول مثلا بالإنجليزية:
Germany is the third country to win the World Cup a fourth time . وهي تعني «ألمانيا هي الدولة الثالثة في الفوز بكأس العالم للمرة الرابعة.» وبكتابة هذه الجملة التي توضح مثالا على الأعداد الترتيبية، أكون قد وضحت طريقة أخرى تستخدمها اللغات في تمييز الكميات 1 و2 و3 عن غيرها. فلنلق نظرة على قائمة الأعداد الترتيبية في الإنجليزية:
first, second, third, fourth, fifth, sixth, seventh, eighth, ninth, tenth, eleventh, twelfth
إلخ ... [الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، السادس، السابع، الثامن، التاسع، العاشر، الحادي عشر، الثاني عشر، ... إلخ] تلاحظ أن أول ثلاث كلمات في هذه المجموعة لها نهايات غير منتظمة، أما بقية الأعداد الترتيبية بأكملها فهي تنتهي بالنهاية نفسها «-
th »؛ ومن ثم فإننا نرى من جديد أن الأعداد التي ترتبط بكميات أصغر لها وضع لغوي خاص، مما يعكس بطريقة غير مباشرة وضعها المميز في أدمغتنا.
والآن سنضرب مثالا أخيرا على اختلاف طريقة التعامل مع الأعداد الصغيرة في اللغات البشرية، وهو الأعداد الرومانية. لقد تطورت هذه الأعداد من أحد أنظمة العد بالعصي، وهو يقوم على أساس العلامات الخطية. في الأعداد الرومانية نجد أن الكميات الصغيرة تمثل بالخطوط فحسب، مثل:
I (1) و
II (2) و
III (3)، أما الكميات الكبيرة فقد كانت تعامل بطريقة مختلفة؛ فعلى العكس من مجموعة تتكون من ثلاثة خطوط، ستكون المجموعات الأكبر صعبة التناول من الناحية الإدراكية: يمكننا أن نميز
VI
بسهولة أكبر من تمييز
IIIIII ؛ إن المجموعة الأخيرة من الخطوط يصعب عدها على وجه الدقة مقارنة بمجموعة الخطوط المتمثلة في
I
أو
II
أو
III ، والتي يمكن التعرف عليها بصريا بسرعة دون عدها. وتتضح سهولة تمييز الكميات من 1 إلى 3، بصورة أكبر في تمثيل 4 في الأعداد الرومانية:
IV . إن الأعداد الصغيرة، لا سيما 1 و2 و3، تعامل بطريقة مختلفة وبشكل أكثر مباشرة، مقارنة بجميع الكميات الأخرى.
11
إن الرموز البسيطة التي تمثل الكميات الصغيرة في الأعداد الرومانية، هي مجرد مثال آخر على الأنماط التي نلاحظها في العالم بأسره في أنظمة العدد النحوي وفي الكلمات التي تمثل الكميات الصغيرة. إن الفسيولوجيا العصبية البشرية تمكننا من التفكير في الكميات الصغيرة والتحدث عنها بصورة فطرية. والتفسيرات البديلة للأنماط المعنية، معضلة بعض الشيء؛ فما من دليل مقنع على أن الكميات الصغيرة مثلا، هي أكثر انتشارا في البيئات الطبيعية للبشر، غير أننا نملك دليلا على أن حاستنا العددية الفطرية تجعلنا أفضل في تمييز الكميات الصغيرة.
عند البحث في لغات العالم، يتولد لدى المرء انطباع بأن العدد النحوي غزير التنوع. وهذا الانطباع ليس بخاطئ تماما؛ فالعدد النحوي يأتي في أشكال متنوعة، غير أن التفحص الأدق يوضح بعض السمات المشتركة في الوظائف التي يؤديها العدد النحوي. والأرجح أن السبب في وجود هذه السمات المشتركة هو طبيعتنا البيولوجية العصبية الأساسية، وذلك مثلما أن الأنماط الشائعة في مفردات الأعداد في لغات العالم، توجد بسبب الحقائق الأساسية بشأن طبيعتنا البيولوجية.
خاتمة
كان ابني، الذي لم يبلغ من العمر عامين بعد، جالسا في المقعد الخلفي في سيارتنا بينما كنا متوجهين بها إلى جسر «ريكنباكر كوزواي» - جسر يربط جزيرة فيرجينيا كي بمدينة «ميامي» قاسما مياه خليج بيسكاين الفيروزية. وبينما اعتلت سيارتنا الجسر، نظر ابني إلى يمينه من النافذة محدقا في الخليج الذي يمتد إلى المحيط على الأفق، وصاح:
water ! [ماء] ثم أدار رأسه إلى اليسار، مركزا في ذلك الوقت على جزء الخليج الذي يمتد إلى ساحل المدينة. ومأخوذا بوجود ما يبدو على أنه جزء منفصل من المياه، صاح متعجبا:
Two waters ! [اثنان مياه] اثنان مياه، ولم لا؟ بالنسبة إلى طفل لم يفهم بعد الفرق بين الأسماء المعدودة والأسماء المعبرة عن الجمع، فإن ذلك التعبير مفهوم تماما، غير أن ذلك التعبير المفعم بالحيوية الذي أصدره ابني، كاشف بصورة أعمق. فمنذ سن مبكرة للغاية، وغالبا ما يكون ذلك قبل سن العامين، يدرك متحدثو اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأخرى أنه يجب عليهم جمع الأسماء إذا كانت هذه الأسماء تشير إلى أكثر من شيء واحد. ومن الواضح أن الأطفال يستطيعون تعلم هذا الفرق منذ سن مبكرة. إن اللغات تعطي قدرا كبيرا من الأهمية للعدد النحوي، وهي أهمية تتعامل معها أدمغتنا ببراعة لأنها مهيأة فطريا لذلك. ومن المرجح أن يكون هذا الاستعداد الفطري هو الذي يشجع الانتشار العالمي للعدد النحوي.
إن وجود العدد النحوي في الغالبية العظمى من اللغات هو أمر في غاية الأهمية، لا سيما مع وعينا بتنوع اللغات التي يتحدث بها البشر. في العقود الأخيرة الماضية، حين وصل علماء اللغويات إلى الزوايا البعيدة في العالم وقاموا بتوثيق لغات لا ترتبط ببعضها، عرفنا أن اللغات قد تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا. وقد أصبح علماء اللغويات يعتقدون الآن أن تنوع اللغات هو السمة الأبرز في التواصل الإنساني؛ فبعض اللغات لا تستخدم الأزمان، وبعضها لا تميز بين لونين كالأحمر والأصفر، وبعضها لا يستخدم فاعل الجملة بطريقة واضحة، وبعض اللغات لا يستخدم سوى عدد قليل للغاية قد لا يتجاوز العشرة من الأصوات ذات المعنى، بينما قد تستخدم لغات أخرى ما يصل إلى المائة، وغير ذلك الكثير . إن اللغات تتنوع وتختلف بدرجة كبيرة، وقد أصبح بعض الباحثين في اللغات يعتقدون الآن أن هذا التنوع يعكس بدرجة صغيرة، قدرة اللغات على التكيف مع البيئات المختلفة تدريجيا. (ويقترح بحثي الخاص الذي أجريته مع بعض الزملاء أن بعض سمات الأنظمة الصوتية اللغوية تتطور بطرق تتأثر تأثرا طفيفا بالعوامل البيئية كالقحط الشديد.)
12
بالرغم من ذلك التنوع والقدرة على التكيف البارزين، فإننا نجد بعض الميول القوية التي تظهر في لغات العالم فيما يتعلق بكيفية معاملتها للكميات. وقد رأينا في هذا الفصل أن العدد النحوي يوجد في الغالبية العظمى من لغات العالم؛ فالقواعد اللغوية مهووسة بالأعداد، وغالبا ما يتركز هوسها هذا على تمييز الكميات الصغيرة الدقيقة عن الكميات الكبيرة التقريبية. ومن هذه الناحية، فإن العدد النحوي يعكس وظيفيا بنيتنا الدماغية، التي تأتي مجهزة مسبقا لتكون قادرة على التمييز الدقيق بين الكميات الصغيرة فقط.
بالرغم من الطبيعة المشتركة للعدد النحوي، تبقى الحقيقة أن بعض اللغات لا تستخدمه، وذلك مثل ما ذكرته في الفصل الثالث عن أن مفردات الأعداد لا توجد في كل اللغات. في الفصل الخامس، سنقلب النظر في قضية محورية في مسعانا لفهم دور الأعداد في قصة البشرية: ما الذي يحدث حين لا يستخدم البشر العدد النحوي أو مفردات الأعداد أو غيرها من التمثيلات الرمزية للكميات؟ بعد ذلك، سنلقي نظرة على بعض العوالم التي لا توجد بها أعداد.
الجزء
عوالم بلا أعداد
الفصل الخامس
شعوب لا عددية معاصرة
في بعض الأحيان وأنا طفل صغير، كنت أستيقظ في الأدغال على الأصوات المتنافرة لأشخاص يروون أحلامهم لبعضهم البعض: أحاديث فردية يعقبها دفقات من تعليقات تتسم بالحماسة. والأشخاص المعنيون هم مجموعة تعرف باسم «بيراها»، وهي جماعة مذهلة (بالنسبة إلي على أي حال)، ويعرف عنهم أنهم يستيقظون ويتحدثون إلى أقرب جيرانهم في أي ساعة من ساعات الليل. وفي بعض الأحيان، تزعج هذه الممارسة بعض الأغراب الذي يحاولون جاهدين أن يناموا. بالرغم من ذلك، فبالنسبة إلى ولد صغير مثلما كنت، فإن هذه الأصوات التي يتردد صداها في كوخ أسرتي الكبير، خففت من مخاوفي الليلية المرتبطة بالأدغال، وهدأت من روعي حتى وإن لم أفهم إلا قليلا مما يقولون. فعلى أي حال، كانت هذه الأصوات تدل على أن أهل القرية كانوا مطمئنين وغير منشغلين بما كان يقلقني. لقد بدت أصواتهم في هذا الليل السحيق خالية من أسباب القلق التي كانت تبقيني مستيقظا في سكون في أرجوحتي الشبكية حين كانت تقلقني بعض ضوضاء الغابة غير المفهومة. وحين كنت أستيقظ على صوت رواة الأحلام، عادة ما كان النوم يتسلل إلي ثانية بعد وقت قصير.
كان طريق الوصول إلى قرية «بيراها» التي كانت تعيش فيها أسرتي عبارة عن رحلة متعرجة عبر روافد الأمازون، أو رحلة لمدة ساعة بطائرة سيسنا ذات المحرك الواحد، وكانت هذه الرحلة تنتهي بالطيار وهو يستقر بعجلات الطائرة على مدرج هبوط ضيق من العشب، كان قبل اقتراب الطائرة مختفيا في خضم ذلك البحر من الأشجار. وقد ظلت قرية بيراها منعزلة حتى اليوم، فلم تتغير ثقافتها بدرجة كبيرة منذ طفولتي، بل منذ بداية تواصلهم مع أهل البرازيل قبل ما يزيد على القرنين. إنهم ما زالوا يعيشون في تجمعات صغيرة حول النهر، في بيوت متواضعة للغاية كانوا يتخلون عنها في بعض الأحيان فينامون على ألواح من الخشب على شواطئ النهر البيضاء التي تظهر في موسم الجفاف. وهم ما زالوا يستيقظون في منتصف الليل، ويبدو أنهم يكونون في وسط محادثة إذ يتشاركون الخبرات من أحلامهم.
لقد قضيت أنا ووالداي وأختاي الأكبر مني سنا، شهورا عديدة من طفولتي مع هذه المجموعة الصغيرة التي تعيش على جمع والتقاط الثمار في قلب إقليم الأمازون. وهذه الجماعة مميزة لأسباب عديدة، وبخلاف مخاوف الليل العابرة، فإن ذكريات طفولتي عنهم لطيفة وتكاد أن تكون شاعرية. لقد أخذنا والداي لنقضي بعض الوقت معهم، وكان ذلك جزءا من عملهما في ذلك الوقت؛ إذ كانا مترجمين إنجيليين للإنجيل. بالرغم من ذلك، فلم يكن الإنجيل هو الشيء الخارجي الوحيد الذي أحضرته أسرتنا إلى ذلك المكان، بل أحضرنا بعض الأغراض الخارجية الأخرى التي قد يقول البعض عنها إنها تلقى اعتراضا أقل من أهل «بيراها» ويفضلونها بدرجة أكبر، ومنها الأدوية الغربية التي أنقذت حياة العديد من الأطفال. لقد كان إحضار أغراض أجنبية أقل نجاحا في العادة؛ فعلى سبيل المثال، كانت معظم منتجات الطعام الخارجية تثير حيرة أهل بيراها، مثلما كانت عادتهم في أكل بعضهم القمل من رءوس بعض تثير حيرتي أنا وأختي. لقد سألنا أحد رجال «بيراها» ذات مرة عن السبب في حاجتنا إلى أن نوزع مادة تشبه الدم، وهي التي نطلق عليها اسم «الكاتشب»، على طعامنا. وكذلك حين كنا نأكل السلاطة ذات مرة، أشار رجل آخر إلى بعض المشاهدين الآخرين من أهل بيراها بأننا نأكل أوراق النباتات بطريقة غريبة. ومن الفئات الأخرى للواردات التي لم تنجح مع أهل بيراها الرموز الغربية بجميع أنواعها، ومنها الحروف الأبجدية؛ فعلى العكس من معظم مجموعات السكان الأصليين، بدا أهل بيراها غير مهتمين بكتابة لغتهم. ومن بين الواردات المرفوضة أيضا الأعداد، والتي رفضتها الجماعة تماما.
1
في الكثير من هذه الليالي التي قضيناها في القرية، وقبل أن نذهب إلى النوم في الأرجوحات الشبكية، كان والداي يعطيان دروس الحساب لأهل بيراها، وقد زادوا من مستويات مشاركة أهل القرية في هذه الدروس من خلال تقديم أحد أنواع الواردات الجيدة المطلوبة في نظرهم: الفشار. وعلى الوهج الجاذب للحشرات، المنبعث من مصابيح الغاز الموزعة في كوخ أسرتنا، والذي يطل على عناصر الطبيعة الممتدة على طول نهر مايسي الأسود، حاولا تعليم هذه الجماعة الحساب بلغتهم الأصلية. وقد اتضح أن هذه المحاولات لم تنجح لمجموعة متنوعة من الأسباب؛ ولعل السبب الأبرز منها هو أن لغة البيراها تفتقر إلى وجود أي أعداد محددة؛ فحين تتبنى إحدى الثقافات نظاما عدديا لثقافة أخرى، فإن أفراد هذه الثقافة المتبناة يكونون على وعي بالمقصود بمفردات الأعداد على أقل تقدير، أما في حالة البيراها فقد كانت الأعداد غريبة تماما. ولا ينطبق ذلك على مفردات الأعداد البرتغالية التي كان والداي يحاولان تدريسها فحسب، بل على وجود مفردات دقيقة للأعداد، والأهم من ذلك أنه كان ينطبق على تمييز معظم الكميات المحددة التي تشير إليها.
حين كنت ولدا صغيرا كانت الصعوبة التي يواجهها البالغون من أهل بيراها حين يحاولون تعلم الأعداد، تحيرني كثيرا. وبدرجة كبيرة، كان ذلك الأمر محيرا لي؛ لأنه كان واضحا حتى لوعيي الصغير أن هؤلاء ليسوا أفرادا يعانون من صعوبة ما في التعلم؛ فما من خلل وراثي واضح بين هؤلاء الأفراد يفسر الصعوبة التي كانوا يواجهونها حين ذاك، وما زالوا يواجهونها، حين يتعلق الأمر بتعلم الأعداد. علاوة على ذلك، فإن أفراد البيراها الذين نشئوا في ثقافة خارجية لا يواجهون مثل هذه الصعوبة. وبالفعل، فقد كنت أتعجب من البراعة الإدراكية لهؤلاء الأفراد في العديد من الجوانب الأخرى. ولا شك بأن جزءا من هذا التعجب كان يعزى إلى حداثة سني، لكن التجربة التي حفزته لم تكن بالهينة؛ فقد كنت (مثل أختي) ألعب مع أطفال البيراها، وأتبعهم في الغابات، وقد كنت أضل طريقي بالفعل دونهم في بعض الأحيان. كنت أشاهدهم وهم يصطادون السمك أفضل مني، ويميزون موارد الفاكهة بطرق لم أستطع أن أفعلها. وبصفة عامة، فقد كنت أشعر أنهم لا يبارون في العديد من المهارات الذهنية التي كانت في غاية الأهمية في بيئتهم. بالرغم من ذلك، ففي درس الحساب العابر الذي يقام على ضوء المصابيح، كنت أنا الأفضل من بينهم، أفضل حتى من الكبار.
إن هؤلاء الأشخاص ليسوا هم الوحيدين الذين تقف بعض الحواجز اللغوية والثقافية بينهم وبين اكتسابهم لمبادئ الحساب. وبالفعل توجد جماعة على بعد مئات الكيلومترات باتجاه الشرق، قد واجهت صعوبات مماثلة؛ قبيلة موندوروكو، وقد كانت قبيلة كبيرة محاربة في السابق، تعيش في أعلى نهر تاباجوس، وهو رافد رئيس لنهر الأمازون. بدأت هذه القبيلة في العمل باستخراج المطاط خلال أواخر القرن التاسع عشر، والبعض لا يزالون يقومون بذلك حتى الآن. ومع العمل الجاد تمكنوا من استخراج كمية كبيرة من المطاط، لا سيما في أوج ازدهار المطاط الأمازوني في الجزء الأول من القرن الماضي. بالرغم من ذلك، فقد كانوا مثلما يشير المؤرخ جون هيمينج: «لا يتمتعون بمهارات التجارة إلى درجة محزنة، وقد كان من السهل خداعهم؛ إذ إنهم لم يكونوا يفهمون قواعد الحساب. لقد باع لهم تجار «ريجاتو» (قارب نهري) بعض البضائع بأربعة أضعاف الربح، وقد كان من هذه البضائع رم الكاشاسا وبعض الأدوية عديمة الفائدة، والتي تباع دون وصفة من الطبيب. لقد بخسوهم بالطبع ثمن المطاط.»
2
لقد رأينا في الفصلين الثالث والرابع أن اللغات تختلف اختلافا كبيرا في كيفية ترميزها للمفاهيم العددية؛ فبعض اللغات تستخدم أنظمة عددية تتيح لها توليد عدد لا نهائي من مصطلحات الكميات، غير أن العديد من اللغات تستخدم أنظمة أقل فاعلية. ولا شك بأن لغة الموندوروكو ولغة البيراها تصنفان في هذه الفئة الأخيرة، وربما تمثل لغة البيراها بالتحديد الحالة الأكثر تشددا؛ فهي لغة منطوقة لا تتضمن أي مصطلحات محددة للأعداد، ولا حتى للعدد «واحد»، وليس ذلك بزعم منقول بالرواية فحسب. إن أول من لفت اهتمام المجتمع البحثي إلى الطبيعة اللاعددية للغة، هو والدي دانييل إيفريت، الذي تخلى عن عمله التبشيري، وأصبح باحثا.
3
وقد نتج عن تعليقاته على هذا الأمر العديد من التجارب التي أجراها العديد من علماء النفس وغيرهم ليختبروا ما إذا كانت اللغة لا عددية بالفعل أم لا. فلنتناول على سبيل المثال إحدى التجارب التي قام بها الأخصائيون اللغويون النفسيون قبل عشر سنوات تقريبا. في هذه التجربة عرض على أفراد البيراها مجموعة من الأشياء؛ كرات من الخيط، ثم طلب منهم أن يذكروا اسم الكمية التي تمثلها المجموعة. واستخدم الأفراد الأربعة عشر المشاركون في هذه التجربة كلمة
hói
للإشارة إلى شيء واحد، وأفضل ترجمة ممكنة لهذه الكلمة هي «حجم أو مقدار صغير»، وهو المصطلح الذي يعبر عن أقل كمية في اللغة. والمصطلح التالي الذي يعبر عن أقل كمية هو
hoí
الذي لا يختلف عن
hói
إلا في نغمة الحرف المتحرك، وهذا الاختلاف في النغمة يغير معنى الكلمة تقريبا إلى «قليل أو بضعة». بالرغم من ذلك، فعلينا أن نشير إلى أن معنى
hói
يمتد إلى معنى
hoí
وهو ما اتضح من النتائج التجريبية للدراسة المعنية. لقد اكتشف الباحثون أنه بخلاف الحالات التي طلب فيها من المشاركين الأربعة عشر أن يذكروا المصطلح الذي يعبر عن كمية كرة واحدة من الخيط، ظهرت بعض الاختلافات حين طلب منهم تسمية كميات أكبر، وقد استخدمت الكلمة
hoí
في معظم الحالات، لكن الأمر الغريب أن بعض المتحدثين قد استخدموا كلمة
hói (مما يوضح أن الكلمة الأخيرة لا تعبر عن العدد «واحد» فحسب). وبالنسبة إلى العدد ثلاثة، جاءت النتائج مختلطة أيضا. والواقع أنه مع زيادة الكمية قل استخدام
hoí
لكن الانتقال من استخدام
hói
إلى
hoí
ثم من
hoí
إلى
baágiso (وهي الكلمة التي تعني تقريبا «الكثير» وتعني حرفيا «نجمع معا») كان تدريجيا. وعلى العكس من ذلك، فإن متحدثي اللغة الإنجليزية الذين يؤدون هذه المهمة لا يستخدمون سوى كلمة
one
للدلالة على شيء واحد، ويستخدمون
two
للدلالة على شيئين، ويستخدمون
three
للدلالة على ثلاثة أشياء ... وهكذا.
4
إنها نتيجة مهمة؛ إذ تدعمها دراسات تجريبية أخرى، وهي تشير إلى أن الكلمات الثلاث الشبيهة بالأعداد في لغة البيراها ليست في واقع الأمر أعدادا دقيقة؛ فهذه المصطلحات تستخدم بمعنى تقريبي فحسب، مثلما نستخدم
a few [بضعة] أو
a couple of [زوجان من] في الإنجليزية. وعلى العكس من متحدثي الإنجليزية، فإن متحدثي البيراها لا يمتلكون بدائل دقيقة مثل
three
أو
two . إن لغة البيراها لغة لا عددية، إنها حتى تفتقر إلى اختلافات العدد النحوي التي ناقشناها في الفصل الرابع؛ إنها سمة مذهلة في لغة البيراها وثقافتها بصورة أعم: لقد اختاروا ألا يستخدموا الأعداد الدقيقة في خبرتهم اليومية، وبالرغم من أن قبيلة الموندوروكو تستخدم الأعداد، فهم يستخدمون معظمها بطرق غير دقيقة كذلك. ففي دراسة مهمة نشرت في مجلة «ساينس» عام 2004، وضح فريق من علماء الإدراك أن معظم مفردات الأعداد التي تستخدمها تلك اللغة، هي أيضا لها معان غير محددة.
5
إن السبب في المعوقات الثقافية لاستخدام الأعداد الدقيقة بين هذه الجماعات، لا يزال محلا للجدل، لكن صلابة هذه المعوقات غير اعتيادية؛ فعادة ما تنتشر الأنظمة العددية بين الثقافات، لا سيما بعد التواصل لفترة طويلة مع أفراد من خارج الثقافة، مثلما حدث مع هذه الجماعات من السكان الأصليين. وبعبارة أخرى، حين تواجه الثقافات مجموعات أخرى تستخدم عددا أكبر من الكلمات التي تعبر عن الكميات، فإنها عادة ما تستعير بعض هذه الكلمات أو كلها، أو حتى المفاهيم التي تعبر عنها هذه الكلمات على الأقل. وهذه الاستعارة أمر مفهوم؛ لأن الأعداد مفيدة جدا. ونظرا إلى هذه النزعة التي نلاحظها كثيرا، فقد يكون من المفاجئ أن بعض الثقافات لم تتبن الأنظمة العددية الشاملة التي تستخدمها الجماعات التي التقت بها، بغض النظر عما قد تواجهه من صعوبة في استخدام هذه الأنظمة في حالاتهم الخاصة. بالرغم من ذلك، فقد ظلت البيراها والموندوروكو وبعض من الثقافات الأخرى ثقافات لا عددية، أو ثقافات لا عددية إلى حد كبير. (غير أن بعض الإشارات تشير الآن إلى تغير ذلك الوضع في كلتا الحالتين.) ومثلما سنرى لاحقا فإن هذا الاختيار له آثار متغلغلة.
البحث عن إجابات في الغابة
في دراسة حظيت بذيوع كبير، ونشرت أيضا في مجلة «ساينس» عام 2004، وضح أحد متخصصي علم النفس من جامعة بيتسبرج من خلال التجربة، أن غياب مفردات الأعداد من ثقافة البيراها، له آثار عميقة على قدرات أفرادها على التمييز بين الكميات. وقد أجرى عالم النفس بيتر جوردون سلسلة من المهام التجريبية على مدار صيفين زار فيهما قرية البيراها، وكان ذلك بمساعدة والدي. وقد أثبتت نتيجة هذه المهام، بطريقة واضحة ومتكررة، أمرا كان مثار الأقاويل لبعض الوقت، وهو أن أفراد البيراها يجدون صعوبة في التمييز بين الكميات التي تزيد على ثلاثة. ومن نواح عديدة، كانت التجارب التي أجراها جوردون تشبه بعض التجارب التي حاول والداي تنفيذها في الدروس سالفة الذكر مع أفراد هذه الجماعة في بداية الثمانينيات من القرن العشرين.
6
وفي موجة الانتباه الذي وجه إلى البيراها عقب نشر دراسة جوردون، غالبا ما كان يتم تصوير هؤلاء الأشخاص بصورة غير دقيقة، أو مشوهة للغاية في بعض الأحيان. فعلى أي حال، أصبحوا يمثلون بالنسبة إلى البعض حياة الرجعية، عودة إلى أيام العصر الحجري، وبقايا من العصر اللاعددي. واقترح البعض أن الصعوبة التي يواجهونها في تعلم المفاهيم الحسابية ربما تعود إلى زواج الأقارب فيما بينهم، فربما يكون السبب هو جينا، أو جينات، متنحية قد ظهرت بسبب المختنق السكاني. وكلا التفسيرين خاطئ تماما بالطبع؛ فالنتيجة المنطقية الوحيدة التي يمكننا أن نستخلصها من دراسة جوردون هي أن أهل البيراها هم جماعة تعيش على الصيد والتقاط الثمار، وقد اختاروا ألا يستخدموا الأعداد، ونتيجة لذلك، فهم لا يستخدمون المزايا الإدراكية التي تقدمها هذه الأداة. ولكي نفهم هذا التفسير بصورة أفضل؛ يجب علينا أن ندرس نتائج دراسة جوردون، وكذلك أعمال الآخرين اللاحقة عليها، بما في ذلك أعمالي.
شكل 5-1: أسرة من البيراها في زورق تقليدي يسير في أحد روافد نهر مايسي، ثيابهم من الواردات القليلة من العالم الخارجي. الصورة من التقاط المؤلف عام 2015.
لكننا في البداية، سنعرض مقدمة عن كيفية إدراك البشر للأعداد بصفة عامة. مثلما أوضحنا في الفصل الرابع، فإن البشر مزودون فطريا «بحاستين» حسابيتين. وبالرغم من أن العديد من البالغين لن يروا أن هاتين القدرتين أو هاتين الهبتين الوراثيتين، تتسمان بالطبيعة الحسابية، نظرا لبساطتهما، فإنهما أساسيتان لمشروع التفكير باستخدام الأعداد؛ لدينا أولا: الحاسة العددية التقريبية، وهي قدرتنا الفطرية على تقدير الكميات، ويبدو أن أطفال البشر يولدون بهذا النظام، وهو يمكنهم من تمييز الفروق الكبيرة بين الكميات؛ فمثلما سنرى في الفصل السادس، يستطيع الأطفال حديثو الولادة أن يميزوا على سبيل المثال بين ثمانية عناصر وستة عشر عنصرا، فهم يستطيعون إجراء العمليات الحسابية بشكل تقريبي، فيما يتعلق بالكميات الكبيرة. وأما ثاني القدرات الحسابية الفطرية لدى البشر: فهي قدرتهم على التمييز الدقيق للكميات المتمثلة في ثلاثة أو أقل، بعبارة أخرى، فإن جميع أفراد البشر من جميع الأعمار يستطيعون أن يميزوا بين شيء واحد وشيئين، وكذلك بين ثلاثة أشياء وشيء واحد. وفي هذا الكتاب، سوف أشير إلى هذه القدرة باسم الحاسة العددية الدقيقة؛ لسهولة مقارنتها بالحاسة العددية التقريبية. (ونظرا إلى أنها تساعد بصفة عامة في تتبع المجموعات الصغيرة من الأشياء بالتوازي، فعادة ما يشار إليها في مجال علم النفس باسم «نظام الملف الهدف» أو «نظام التفرد المتوازي».) ومثلما ذكرت في الفصل الرابع، فإن المنطقة المسئولة بشكل كبير عن هاتين الحاستين في أدمغتنا، هي منطقة الثلم داخل الفص الجداري.
إن وجود هاتين القدرتين الحسابيتين البدائيتين المختلفتين، قد أصبح مؤكدا في الوقت الحالي، غير أن الوعي بوجودهما لا يزال يطرح أمامنا أسئلة محيرة: لم يستطيع البشر دون الأنواع الأخرى الجمع بين هاتين القدرتين؟ وكيف نجمع بينهما معا؟ وما الذي يمكننا من نقل هذا الإدراك الدقيق للكميات الصغيرة إلى الكميات الكبيرة، التي تعالجها الحاسة العددية التقريبية تلقائيا؟ وبصفة عامة، توجد إجابتان أساسيتان لهذه الأسئلة المتشابهة؛ الإجابة الأولى هي إجابة التوجه الفطري، ووفقا له فإن هاتين القدرتين مدمجتان في الدماغ البشري؛ لأن تلك ببساطة هي كيفية عمل الدماغ البشري. ووفقا لهذا المنظور، فإننا لم نزود في شفرتنا الوراثية بالحاسة العددية الدقيقة والحاسة العددية التقريبية فحسب، بل زودنا أيضا بالقدرة على استخدامهما معا تدريجيا بطريقة ما. ومعنى هذا بعبارة أخرى: أن إحدى السمات التي يتميز بها نوعنا هي أن الأعداد مثبتة في أدمغتنا، وأننا ندرك تلقائيا على مدار تطورنا أن كميتين مثل 5 و6، تختلفان عن بعضهما البعض. (وحتى إن كانت التسميات مثل «خمسة» و«ستة» قد تيسر هذا الإدراك، فإن الإدراك نفسه ممكن في غيابها.) أما الإجابة الثانية المحتملة فهي ذات توجه ثقافي، وهي أن البشر لا يتعلمون الجمع بين القدرتين الرياضيتين الفطريتين، إلا إذا تعرضوا للأعداد بعد انتمائهم إلى ثقافة عددية وتحدثهم لغة عددية. ويفترض مثل هذا التفسير أن البشر لا يتعلمون التمييز بدقة بين الكميات الأكبر من 3، إلا حين يتعلمون الرموز الثقافية المشتركة التي ترمز إلى الكميات المحددة، أي حين يتعلمون مفردات الأعداد.
إن هذين التفسيرين المحتملين بشأن نشأة الإدراك العددي الذي يتميز به البشر؛ يؤديان إلى توقعات متماثلة بدرجة كبيرة. فكلا التفسيرين يتوقع أنه مع نشأة البشر في مجتمعات عددية، سوف يكتسبون مهارة إدراك الفروق الدقيقة بين الكميات الأكبر من 3. ونظرا إلى أن الغالبية العظمى من ثقافات العالم عددية؛ فقد ظل تقديم أدلة واضحة تدعم هذه الفرضية أو تلك أمرا صعبا لبعض الوقت. فقد يقترح أحد المؤيدين لهذا التفسير الثقافي، على سبيل المثال، أن الأطفال لا يتقنون التمييز بين الكميات الأكبر من 3، إلا حين يتعلمون العد. وقد يحتج أحد المؤيدين لفرضية التوجه الفطري بأننا نتعلم العد حين تنمو أدمغتنا بالدرجة الكافية لأداء هذه المهمة. ومن الطرق التي يمكن استخدامها لإلقاء الضوء على المسألة تقديم بيانات من مجموعة من البالغين الأصحاء الذين يعيشون في مجتمع غير عددي. فإذا كانت إحدى الجماعات السكانية لا تستخدم مفردات الأعداد أو غيرها من أشكال الثقافة العددية، فهل سيتعلم أفرادها التمييز بين معظم الكميات بدقة، أم يقتصر استخدامهم على الحاسة التقريبية الأبسط التي يوفرها جهازنا الدماغي؟ إن الإجابة بالإيجاب عن السؤال الأول سوف تقدم دعما كبيرا للتفسير الفطري، أما الإجابة بالإيجاب عن السؤال الثاني فسوف تقدم دعما كبيرا للتفسير الثقافي.
ومع وضع هذه المسائل في الاعتبار، فإن الدراسات المتعلقة بالموضوع، التي أجريت على سكان البيراها، قد ركزت على إبراز قدرة هؤلاء الأفراد على التمييز بين الكميات الأكبر من 3 بدقة، أو إبراز غيابها. تكونت دراسة جوردون من مجموعة من مهام تمييز الكميات، وقد أجراها على البالغين في قريتين، وكان الهدف من هذه المهام هو الإجابة عن هذا السؤال الأساسي: هل يتمكن الأفراد البالغون الأصحاء الذين ينتمون إلى ثقافة لا عددية من التمييز بين الكميات الأكبر من 3 بدقة وبصورة منتظمة؟ هل يمكنهم دوما التمييز بين 6 عناصر و7 عناصر، أو بين 8 و9، أو حتى بين 5 و4؟ وإذا لم يكونوا يستطيعون، فإن ذلك سوف يشير إلى أن معرفة العد ومفردات الأعداد أمر أساسي، لا للرياضيات فحسب، بل لمجرد التمييز بين الغالبية العظمى من الكميات.
كانت مهام جوردون التجريبية تنقسم إلى فئتين واسعتين، وفي إحدى فئتي المهام، يطلب من المشاركين في التجربة أن يقدموا عددا مطابقا للأشياء الموضوعة أمامهم على أحد الأسطح، وذلك من خلال وضع العدد نفسه من الأشياء على ذلك السطح، وقد كانت الأشياء المستخدمة بطاريات جافة صغيرة بالحجم
AA . وقد استخدمت هذه البطاريات في أنواع مختلفة من المهام، وفي المهمة الأساسية المتمثلة في «مطابقة الخط»، كان يوضع أمام المشاركين خط من البطاريات الجافة التي تبعد عن بعضها مسافات متساوية، وكانت البطاريات توضع قريبا بعضها من البعض لكي يفهم أنها مجموعة، لكنها مجموعة من عناصر منفصلة. وكان يطلب من المشاركين بعد ذلك أن يضعوا الكمية نفسها من البطاريات الجافة في مصفوفة موازية للخط الأصلي، وذلك بعد تمثيل المهمة أمامهم أولا بدقة. (وينطبق ذلك على جميع المهام المتعلقة بالكميات التي أجريت بين هذه المجموعة؛ فدائما ما ينفذ الباحثون التجارب أولا، وذلك للحد من أي لبس.) في مهمة «المطابقة المتعامدة» طلب من المشاركين مرة أخرى أن يصنعوا خطا من البطاريات، وقد كان من المفترض أن يكون العدد مساويا للخط الأصلي المعروض أمامهم، لكنه في هذه الحالة أدير بمقدار تسعين درجة. (وذلك بدلا من أن يكون موازيا للخط الأصلي مثلما هي الحال في مهمة مطابقة الخط الأساسية.) وفي إحدى المهام الأخرى ذات الصلة، وهي مهمة «العرض لفترة موجزة»، عرض أمام المشاركين خط من البطاريات، وطلب منهم أن يصنعوا خطا من الكمية نفسها من البطاريات، لكن ذلك بعد إخفاء الخط الأصلي من أمامهم. وفي الفئة الثانية من المهام التي استخدمها جوردون، كان المطلوب من المشاركين أن يوضحوا إدراكهم لكمية من الأغراض الموضوعة في وعاء؛ ولهذا، فعلى سبيل المثال، كان جوردون يضع بعض الجوز في علبة معتمة، وكان يضعها واحدة تلو الأخرى أمام المشاركين. (كان المشاركون يستطيعون رؤية جانب العلبة من منظورهم، لكنهم لم يكونوا يستطيعون رؤية ما بداخلها.) وقد قام بعد ذلك بإزالة حبات الجوز نفسها واحدة تلو الأخرى على مرأى من المشاركين، وبعد إزالة كل حبة كان يطلب منهم أن يوضحوا ما إذا كان هناك أي جوز بالعلبة أم لا.
مع إجراء جوردون لتجاربه، ظهر نمط واضح في إجابات أهل البيراها، بصرف النظر عن الطلبات المحددة في المهمة. وموجز القول إن أهل البيراها كانوا يواجهون صعوبة ملحوظة في التمييز بين الكميات، على أن الأمر الأهم هو أنهم لم يجدوا هذه الصعوبة إلا في الكميات الأكبر من ثلاثة؛ فحين كان يطلب من المشاركين على سبيل المثال أن يصنعوا خطا من البطاريات يطابق خطا آخر في الكمية، فإن الخط الذي كانوا يصنعونه كان يطابق الأول دائما، إذا كانت هذه الكمية 1 أو 2 أو 3. بالرغم من ذلك، فحين كان الخط الأولي يتضمن 4 بطاريات أو أكثر، بدأ ظهور الأخطاء في الإجابات، وكان عددها يزداد طرديا مع زيادة عدد البطاريات التي تعرض عليهم. وقد ظهر نمط مشابه لذلك في مهمة المطابقة المتعامدة، وكذلك مهمة العرض لفترة وجيزة، غير أن الأخطاء قد زادت في المهمة الثانية، وليس ذلك مفاجئا بالطبع نظرا لما تحمله طبيعة هذه المهام من صعوبة أكبر. وفي اختبار وضع الجوز في العلبة، واجه متحدثو هذه اللغة اللاعددية صعوبة فائقة، وقد زادت أخطاؤهم تبعا لزيادة عدد الجوز الذي وضع في العلبة في البداية. وبعبارة أخرى، فقد أشارت نتائج جوردون إلى أن أهل البيراها كانوا قادرين على مطابقة الكميات في عقولهم، وذلك بشكل متكرر ودقيق؛ شرط ألا تزيد كمية هذه العناصر التي يسجلونها في عقولهم عن ثلاثة. أما في الكميات التي تزيد على الثلاثة، فقد بدأت الأخطاء بالظهور كما هو متوقع. لقد عكست إجاباتهم نمطا من الاعتماد على التقريب أو التقدير التماثلي، لا التمييز الدقيق بين الكميات.
إن الأخطاء التي قام بها أهل البيراها لم تكن عشوائية، بل إن جوردون قد لاحظ ارتباطا واضحا بين عدد المحفزات المعروضة أمامهم وبين نطاق الأخطاء المعتادة التي يقومون بها؛ فبالنسبة إلى الكميات الكبيرة التي أجريت الاختبارات عليها، كان متوسط الانحراف عن الإجابات الصحيحة يزداد بشكل متناسب، أي كلما زاد العدد المستهدف زادت الأخطاء. وقد كانت هذه العلاقة منتظمة للغاية.
7
وقد تتساءل عن السبب الذي يجعل نمط الإجابات الخاطئة لأهل البيراها وثيق الصلة للغاية بمناقشتنا. والواقع أن لذلك سببين؛ أولهما أن العلاقة التي لاحظها جوردون تشير إلى أن أهل البيراها كانوا يحاولون بالفعل أن يطابقوا الكميات التي يشاهدونها، من خلال عقولهم؛ فهم لم يتوقفوا عن المحاولة ببساطة حين كانت الكميات تزيد عن ثلاثة، ولا هم كانوا يخمنون الإجابة عشوائيا لأنهم سئموا على سبيل المثال. والسبب الثاني هو أنه بالرغم من أن العلاقة تشير إلى أنهم كانوا يصورون كميات ما يعرض عليهم من أشياء في عقولهم، فمن الواضح أنهم كانوا يفعلون ذلك بطريقة تقريبية فحسب. وتلك هي الطريقة نفسها التي سنتنبأ بها في ضوء ما نعرفه عن الحاستين العدديتين اللتين قد زود بهما البشر فطريا.
لقد رسمت لنا هذه النتائج الأولية التي جمعناها من البيراها صورة واضحة؛ وهي أن هؤلاء الأشخاص يجدون صعوبة في مجرد التمييز بين الكميات التي تزيد عن ثلاثة، وهم يستطيعون فعل ذلك، غير أنهم يفعلونه بطريقة تعتمد على التقدير. وبالمثل، فإنهم قادرون تماما على التمييز بين الكميات الصغيرة؛ فما يبدو أن أهل البيراها يفتقرون إليه هو الوسيلة إلى توحيد هاتين القدرتين التي منحتنا إياهما شفرتنا الوراثية، بالرغم من أن هؤلاء الأشخاص طبيعيون جدا من الناحية الوراثية؛ فلقد نجحوا في بيئتهم المحلية، وتمكنوا من التكيف والبقاء على قيد الحياة بجوار نهر مايسي على مدار قرون على الأقل، وما من تفسير سهل يوضح السبب فيما يواجهونه من صعوبات واضحة في أداء المهام الأساسية التي تستند إلى تمييز الكميات، إضافة إلى حقيقة أنهم يتحدثون لغة لا عددية تماما، ولا تتضمن ثقافتهم أي ممارسات عددية.
لقد نوقشت نتائج جوردون على نطاق واسع، ونظر إليها الكثيرون على أنها مؤشر واضح، ولعله الأوضح بشأن تلك النقطة المتمثلة في أن بعض المفاهيم الرياضية الأساسية ليست متأصلة فطريا لدى البشر، بل إننا نتعلمها ونكتسبها من خلال الثقافة والانتقال اللغوي. وإذا كنا نتعلمها لا نكتسبها بالوراثة، فهي ليست مكونا من مكونات الجهاز العقلي البشري، لكنها جزء من برنامجنا العقلي، سمة في تطبيق طورناه بأنفسنا.
ولأن القابلية للتكرار هي مبدأ أساسي في أي مشروع علمي؛ فقد تحمس الكثيرون من علماء الإدراك لأن يواصلوا عمل جوردون بين أفراد البيراها. وبعد سنوات قليلة من نشر جوردون لمقالته البارزة قام فريق من علماء الإدراك، ومنهم مايكل فرانك (من جامعة ستانفورد) وتيد جيبسون (من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) بفعل ذلك. ومثلما ذكرنا سابقا، وضح هذا الفريق أن المصطلحات التي يستخدمها أهل البيراها للتعبير عن الكميات، ليست لها دلالات دقيقة. بالرغم من ذلك، فلم يكن عملهم مقتصرا على التعزيز التجريبي للزعم بأن ثقافة البيراها هي ثقافة لا عددية بالفعل، بل تتضمن أيضا تكرار العديد من المهام التجريبية التي أجراها جوردون، ولا سيما مطابقة الخط ، والمطابقة المتعامدة، والعرض لفترة وجيزة، ووضع حبات الجوز في إناء. أعيد إجراء هذه المهام في قرية تدعى
Xaagiopai (وتنطق «آه جي أوه باي»)، وهي تبعد عن القرى التي أجرى فيها جوردون أبحاثه، مسيرة أيام (بالزورق) في النهر. وقد استخدم الباحثون نوعا مختلفا من المحفزات في تجارب المطابقة التي أجروها؛ إذ إنهم تخوفوا من أن تكون البطاريات التي استخدمها جوردون قد تدحرجت في بعض الأحيان، مما جعل من مهمة صعبة بالفعل أكثر صعوبة على أهل البيراها. وبدلا منها استخدموا أشياء أخرى منتظمة الشكل غير أصلية، لكن السكان يعرفونها؛ بكرات من الخيط، وبالونات فارغة من المطاط، وكان من الممكن وضع بكرات الخيط رأسيا على الطاولة دون أن تتدحرج. قدم إلى أربعة عشر من أفراد البيراها البالغين كميات من بكرات الخيط موضوعة على طاولة تقع أمامهم مباشرة، وطلب منهم أن يمثلوا كمية بكرات الخيط بالكمية المناظرة لها من البالونات المطاطية. وبخلاف استخدام محفزات مختلفة، فقد صممت التجربة بعناية على مثال التجارب التي أجراها جوردون. وفي تجارب المطابقة المتعامدة، والعرض لفترة وجيزة، ووضع حبات الجوز في وعاء، كان أداء أفراد البيراها مثلما لاحظه جوردون تماما؛ ومن ثم فقد استنتج الباحثون أن أهل البيراها لا يستطيعون التمييز بين الكميات الأكبر من ثلاثة بصورة دقيقة، حين يكون عليهم تغيير موضع الشيء أو حين يستذكرون عدد الأشياء بعد رؤيتها لفترة وجيزة. من الجدير بالذكر أن مثل هذه المهام تافهة بالنسبة إلى الأشخاص الذين يلمون بمعرفة مفردات الأعداد والعد، كالبالغين من متحدثي اللغة الإنجليزية.
وفي حالة مهمة مطابقة الخط الأساسية، دون الحاجة إلى الاستعادة من الذاكرة أو التدوير المادي، لم تكن النتائج التي توصل إليها فريق فرانك مطابقة تماما لنتائج جوردون؛ فقد وجدوا، مع بعض الاستثناءات، أن أفراد البيراها تمكنوا من إعادة تكوين الكمية التي رأوها من بكرات الخيط بشكل دقيق، إذا كانت هذه البكرات معروضة في خط، وسمح للمشاركين برؤية هذا الخط على مدار المهمة. وقد كانت هذه النتائج بمثابة عقبة للتفسير السابق بشأن الإدراك العددي لأهل البيراها . واستخلص فريق البحث أنه بالرغم من أهمية مفردات الأعداد التي تعمل بمثابة «تقنية إدراكية» وتيسر عملية معالجة الكميات واستذكارها، فإنها ليست ضرورية في المهام التي تقتصر على تمييز الكميات فحسب. وقد اقترح الباحثون سببا بديلا ربما يفسر الصعوبة التي واجهها أفراد البيراها في أداء أبسط المهام في دراسة جوردون، التي تتمثل في مطابقة خط بخط؛ ربما كانت البطاريات تدحرجت بالفعل في بعض الأحيان، وربما عقدت هذه الدحرجة إدراك الأفراد للكميات.
في صيف عام 2009، وفي ظهيرة أحد الأيام الأمازونية الرطبة، وجدتني أقرأ هذا العمل الحديث عن البيراها، بينما كنت أقوم بإجراء الأبحاث على مجموعة أخرى من السكان الأصليين. وبالرغم من أنني كنت مقتنعا بنتائج فرانك وزملائه، فلم أكن مقتنعا بأن نتائج جوردون كانت بسبب تدحرج البطاريات؛ فقد أجريت تجارب جوردون بمساعدة من والدي (مثل الدراسة الأخيرة)، وقد كانا بمثابة مترجمين وميسرين لبحثه الميداني في بداية التسعينيات من القرن الماضي. ولأنني كنت أتبع والدي أحيانا إلى الغابات خلال السنوات الأولى من مراهقتي (لكننا كنا نعيش آنذاك في الولايات المتحدة)، فقد شاهدت جوردون وهو يجري بعض تجاربه. ومثلما رأيت أفراد البيراها يواجهون صعوبة في التمييز الأساسي للكميات في تلك الدروس التي كانت تقام بجوار ضوء المصباح، فقد رأيتهم يواجهون القدر نفسه من الصعوبة في المهام المشابهة المستخدمة في عمل جوردون، بصرف النظر عن نوع المحفزات المستخدمة. وقد يكون الأهم من ذلك أنني كنت أعرف أن قرية «آه جي أوه باي»، التي أجريت فيها دراسة المتابعة، كانت تختلف عن باقي قرى البيراها الأخرى من ناحية مهمة. في الشهور التي سبقت العمل التجريبي الذي أجري هناك، قدمت أمي كارن مادورا بعض دروس الحساب لأهل القرية. وعلى العكس من المحاولات السابقة الفاشلة في تدريس المفاهيم العددية الأساسية، فقد أحرزت بعض التقدم حين لجأت إلى ابتكار كلمات جديدة من لغة البيراها مثل
xohoisogio
التي تعني «جميع أبناء اليد». وبدا أن بعض الأفراد في هذه القرية قد تعلموا بعض المبادئ الأساسية لتمييز الكميات، وإن كان ذلك يعود جزئيا إلى تلك الدروس على الأقل.
ولكي أتوصل إلى حل أفضل لهذه المشكلة؛ عدت إلى قرية أخرى من قرى البيراها بعد ذلك بعدة أسابيع، ثم عدت مرة أخرى في صيف عام 2010. وقد كانت ثمرة هذا البحث الذي أجريته مع أمي، التي تتحدث لغة البيراها بإتقان شديد كأبي، هو سلسلة من النتائج التي أيدت معظم ما توصلت إليه الدراستان التجريبيتان السابقتان اللتان أجريتا على أفراد البيراها. وقد قدمت هذه النتائج أيضا تأييدا قاطعا لفرضية جوردون الأولية، وهي أن أهل البيراها غير المدربين، والذين لا يستخدمون مفردات الأعداد ولا غيرها من رموز الكميات، لا يستطيعون التمييز بين الكميات الأكبر من ثلاثة على الدوام وبصورة منتظمة. وينطبق ذلك أيضا حتى على الأفراد الذين لم يطلب منهم سوى أن يؤدوا أبسط مهام المطابقة، وهي مطابقة خط بخط.
8
كررت دراستنا مهام المطابقة سابقة الذكر، باستخدام وسائل ومحفزات مماثلة لما استخدمه فرانك وزملاؤه، وهي بكرات من الخيط وبالونات من المطاط، وبعض المحفزات الأخرى، مع الحصول على النتائج نفسها في دراسة المتابعة. غير أننا حين اختبرنا أفراد البيراها في قرية أخرى غير «آه جي أوه باي»، لم يكن المشاركون في الدراسة قد تعرضوا لتدريس مفردات الأعداد في الشهور السابقة على عملنا التجريبي. وشارك في هذا المشروع أربعة عشر فردا من البالغين (ثماني نساء وستة رجال)، لكننا أجرينا بعض المهام مع الأطفال أيضا، الذين كانوا متحمسين للاشتراك. في مهام المطابقة الثلاث كانت إجابات أفراد البيراها تتضمن أخطاء حين يعرض عليهم أربعة محفزات أو أكثر. وانخفضت نسبة الإجابات الصحيحة من 100 بالمائة، عند عرض 1 أو 2 أو 3 عناصر ، إلى حوالي 50 بالمائة عند عرض 5 عناصر، وانخفضت هذه النسبة تدريجيا مع الكميات الكبيرة. وبالنسبة إلى الكمية 10، وهي أكبر كمية في الاختبار، كانت الإجابات صحيحة في ربع الوقت فقط في مهام مطابقة خط بخط ومهام المطابقة المتعامدة، وفي عشر الوقت فقط في مهام مطابقة الخط المخفي.
والأمر ببساطة أن أفراد البيراها يواجهون صعوبة في التمييز بين الكميات بدقة وتذكرها في السياقات التجريبية، متى ما كانت الكمية محل الاختبار تتجاوز ثلاثة. والدراسات التجريبية الثلاث كلها تؤيد هذا الاستنتاج، وتتسم نتائجها في معظم المهام بدرجة كبيرة من الاتساق. إضافة إلى ذلك، فإن الاختلاف ذا الصلة في نتائج فرانك وزملائه يمكن تفسيره بسهولة. وحتى إذا تشكك المرء في التفسير المقترح لهذا الاختلاف (وهو التدريب على الأعداد في قرية «آه جي أوه باي»)، فسوف تبقى الحقيقة أن مجموعات النتائج الثلاث جميعها، توضح أن أفراد البيراها يواجهون صعوبة في أداء مهام تمييز الكميات، التي نعرف أن الشعوب العددية يؤدونها بسهولة. والتفسير الأكثر وجاهة لبيانات البيراها هو أنه دون تعلم مفردات الأعداد واستراتيجيات العد المتعلقة بها، فإن الأفراد يفتقرون إلى القدرة على توحيد الحاستين الفطريتين اللتين نتشارك فيهما جميعا، من أجل التمييز بين الكميات؛ تبقى الحاستان العدديتان منفصلتين، وتصبح مهارات الإدراك الكمي محدودة، مقارنة بالإدراك الكمي لدى الشعوب العددية. ويبدو أن توحيد هاتين الحاستين يستلزم أن يولد المرء في ثقافة عددية، ويستخدم مفردات الأعداد.
9
إضافة إلى تكرار الدراسات السابقة بين أفراد البيراها، قمنا بعد ذلك باختبار مهارات الإدراك الكمي لديهم بطرق أخرى. فعلى سبيل المثال، طلبنا منهم في بعض المهام تكرار سلسلة من الإشارات، أو سلسلة من الأصوات، كالتصفيق. وفي جميع الحالات ظل أداؤهم يشير إلى أنهم يواجهون صعوبة في التمييز بدقة بين الكميات؛ إذ يبدو أنهم يستخدمون الحاسة العددية التقريبية عند التمييز بين الكميات، بصرف النظر عن كيفية استقبالهم للمحفزات المعنية.
ومن سوء الحظ أن النتائج التي جمعها الباحثون من أفراد البيراها، ما زالت تفسر على نحو غير صحيح في كثير من الأحيان؛ فمن التفسيرات السطحية والخاطئة بشكل واضح، مثلما أشرنا من قبل، هو أن أداء الأفراد يدل بطريقة ما على وجود قصور في مهارات الإدراك على مستوى السكان، وهو تفسير لا يمكن الدفاع عنه من منظور تجريبي. ومن التفسيرات الأخرى التي يمكن دحضها بسهولة أن الأفراد لا يبذلون جهدا في أداء مهام التجربة المعنية، أو يولون اهتمامهم لأشياء أخرى خلال أداء المهام. ولا يتفق هذا التفسير مع الفحص الدقيق للنتائج ؛ إذ إن المشاركين لا يخمنون الإجابة فحسب، بل إننا نجد منهم إجابات تقريبية صحيحة بصورة منتظمة. فمن الواضح أنهم يولون انتباههم إلى الكمية، لكن ذلك يكون بشكل تقريبي. وأما التفسير الثالث، وهو الأكثر وجاهة وتؤيده جميع النتائج التي حصلنا عليها من أفراد البيراها حتى الآن، فهو أنهم جماعة لا عددية، يفتقرون إلى وجود اللغة العددية أو غيرها من مظاهر الثقافة العددية، وهذا الافتقار إلى وجود الأعداد هو الذي ينتج هذا التأثير الواضح في قدرتهم على تمييز الكميات وتذكرها. وليست الدراسات التجريبية وحدها هي التي تدعم هذا التفسير، بل تدعمه أيضا تقارير كثير من الأجانب الذين تفاعلوا مع هذه الجماعة؛ فما من شيء في الثقافة الأصلية لجماعة البيراها يشير إلى وجود العد الدقيق؛ فالمباني التي يسكنون بها، والأدوات التي يصطادون بها، وغيرها من الأدوات الصغيرة، لا تستلزم في إنتاجها تمييزا دقيقا بين الكميات.
وبالرغم من ذلك، فمن المؤكد أن بعض مظاهر ثقافتهم تتطلب التمييز بين الكميات الكبيرة بصورة منتظمة، أليس كذلك؟ وفي ذلك الصدد يتضح لنا بعض من المفاهيم الخاطئة التي صادفتها مرات عديدة في المحاضرات وغيرها من السياقات، ففي الفقرة التالية التي قدمها أحد المعلقين على الإنترنت على مقالة نشرت في مجلة «سليت» بشأن نتائج هذه الدراسة التجريبية: «إذا كان ثمة سيدة في هذه الجماعة، ولديها سبعة أطفال أو حتى خمسة، فكيف ستربيهم وتهتم بهم إذا كانت غير قادرة على استخدام الحساب لمعرفة أعمارهم النسبية؟ هل يمكن للأم أصلا أن تتذكر أن لديها أكثر من طفلين أو ثلاثة؟ وإذا كانت تستطيع أن تتذكر فلا بد أنها تستطيع العد في سياقات أخرى أيضا.»
والواقع أن مثل هذه التعليقات تعكس مفهومين أساسيين من المفاهيم الخاطئة بشأن التجربة البشرية في الفراغ العددي؛ أولهما هو أن تتبع العمر بشكل تقريبي لا يتطلب استخدام مفاهيم عددية؛ فيمكنني أن أكون واثقا من أن أحد أقاربي أكبر من الآخر؛ لأن القريب الأول كان حيا بالفعل حين ولد القريب الثاني. وإذا كان لدي ثلاثة أقارب آخرون أو أكثر ، فيمكنني أن أعرف أيهم الأكبر باستخدام بعض القياسات المنطقية البسيطة، أو من خلال إجراء مقارنة مباشرة بين أي اثنين من أقاربي؛ ومن ثم فإذا كان لأم أربعة أطفال، فإنها سوف تعرف أيهم كان حيا قبل الآخرين جميعا، وأيهم ولد بعد أن كان الآخرون جميعا أحياء بالفعل؛ ففهم مثل هذه المفاهيم لا يستلزم الإشارة إلى الكميات. إن فهم الأعمار المطلقة، مثل عدد الرحلات التي قد قام بها أحد الأشخاص حول الشمس (راجع الفصل الأول)، يستلزم بالفعل التمييز بين الكميات، لكن ذلك مفهوم مختلف عن مفهوم الأعمار النسبية، غير أنه قد يبدو من الصعب على العديد من الأفراد أن يفهموا هذا الاختلاف، والأرجح أن ذلك بسبب ترسخ جذورهم في ثقافات يرتبط فيها العمر مع الأعداد بشكل معقد منذ سن مبكرة.
10
وأما النقطة الأخرى التي تتضح في تعليق القارئ، فهي تعكس بعض الحصافة، وإن كان ذلك سطحيا على الأقل؛ كيف يمكن لأم ألا تتذكر عدد أطفالها؟ لا شك بأن جميع الأمهات يتذكرن جميع أطفالهن طوال الوقت، أليس كذلك؟ بالطبع بلى، لكن ذلك لا يتعلق في الواقع بالعد وتمييز الكميات. فلنقل مثلا إنك تنحدر من عائلة كبيرة، وتذهب إلى بيتك في العطلات لتزور إخوتك الأربعة: كوري وأنجلا وجسيكا ومات. بالرغم من ذلك، تلغى رحلة كوري ولا يتمكن من الوصول في الموعد المحدد للعشاء العائلي. فإن لم تخطر بالإلغاء قبل العشاء وجلست لتناوله، فسوف تتساءل على الفور: «أين كوري؟» أعتقد أنك لن تنظر حولك متسائلا بتعجب: «إنني أرى ثلاثة إخوة هنا، لكنني أعرف أن لدي أربعة!» ما أعنيه أنك لا تحتاج إلى أي معرفة بالتمييز الدقيق للكميات لكي تدرك غياب أحد أحبتك. إننا نفكر في أعضاء أسرنا بصفتهم أفرادا، لا أشياء عديمة الوجوه يمكن عدها. «نستطيع» بالطبع أن نعد أعضاء أسرتنا، لكننا لا «نحتاج» إلى ذلك لكي ندرك حضورهم أو غيابهم. والأمر نفسه ينطبق على البيراها؛ فما من دليل يشير إلى أن هؤلاء الأشخاص يحتاجون إلى التمييز بين الكميات لكي يتذكروا الغائبين أو لأداء أي مهمة أخرى في ثقافتهم. فإذا كانت تلك هي الحالة فلا شك في أنهم كانوا سيستخدمون مفردات الأعداد لتيسير ذلك التمييز، لكن البيراها يتذكرون أطفالهم بصفتهم أفرادا، لا أعدادا.
إن الأسئلة المتعلقة بالأفراد الذين لا يستخدمون الأعداد غالبا ما تنبئنا بشيء عمن يسألونها من الأشخاص الذين ينتمون إلى ثقافات عددية. إننا منخرطون جدا في عالم الأعداد، حتى إنه قد صار من الصعب علينا أن نتخيل الحياة بدونها؛ فحيواتنا الإدراكية والمادية لا يمكن أن تنفصل عن الأعداد التي طورناها، والتي نفرضها على أنفسنا في سن مبكرة للغاية. إن النتائج التي تجمع من جماعة البيراها، قد تستغل في إظهار غرابة هذه الجماعة من السكان الأصليين، وذلك يحدث في بعض الأحيان، وتؤدي إلى التعامل معهم باعتبارهم نسخة معاصرة من بشر العصر الحجري القديم. ومثل هذا التغريب يضيع الكشف الحقيقي الذي تقدمه مثل هذه الأبحاث. ولا يقتصر هذا الكشف على جماعة البيراها فحسب، بل يمتد ليشملنا جميعا؛ فالبشر يحتاجون إلى اللغة العددية والثقافة كي يتمكنوا من تمييز معظم الكميات المحددة بدقة وتذكرها. إن المهارات الإدراكية المتعلقة بالكميات، التي تبدو من المهارات الأساسية، ليست مجرد منتج ثانوي لبعض الآليات الفطرية أو العمليات التي تحدث بصورة طبيعية تلقائية، بل إن بعضها لا يكتسب إلا من خلال الثقافة واللغة.
ومن حسن الحظ أن هذا الاستنتاج لا يتوقف كليا ولا حتى مبدئيا على النتائج التي حصلنا عليها من أهل البيراها؛ فالأعمال المعنية بتطور الإدراك العددي لدى الأطفال في المجتمعات الصناعية الكبيرة، قد توصلت إلى الاستنتاج نفسه، وهو ما سنراه في الفصل السادس، إضافة إلى الأبحاث التي أجريت بين مجموعة أخرى مذهلة من سكان الأمازون، وهي جماعة الموندوروكو التي سبق ذكرها. وثقافة الموندروكو من الثقافات الأصلية الكبيرة؛ فبينما يبلغ عدد أفراد البيراها 700 فرد تقريبا، نجد ما يربو على 11 ألف فرد من الموندوروكو. وهم يقيمون على أرضهم الكبيرة على بعد 600 كيلو متر من أقصى جزء باتجاه الشرق من أرض البيراها. وهم يشتركون مع البيراها في بعض السمات، بالرغم من اختلاف نمطي حياتهم؛ فمن الناحية التاريخية تشترك الثقافتان في سمعتهما المخيفة في الدفاع عن أراضيهم الأصلية عند وصول الأوروبيين. وقد استحقت هذه السمعة أيضا جماعة أخرى تعرف باسم المورا، التي كانت البيراها مجموعة صغيرة تنتسب لها. ومثلما ذكرنا سابقا، فإن جماعة الموندوروكو يتشاركون في تلك السمعة، التي سادت لفترة طويلة، بأنهم يواجهون صعوبة مع المفاهيم العددية.
بالرغم من ذلك، على العكس من البيراها، فثقافة الموندوروكو ليست لا عددية تماما؛ إذ إنهم يستخدمون بعض مفردات الأعداد التي تشير إلى مجموعات تتكون من عنصر واحد أو 2 أو 3 أو 4 من العناصر. غير أن الفحص الدقيق يوضح أن هذه الأعداد ليست دقيقة كمفردات الأعداد في معظم اللغات؛ فهي تقع في المنتصف بين مفردات الأعداد الإنجليزية مثل
one
وبين مفردات البيراها مثل
hói
وكذلك
hoí . وقد أكدت التجارب هذا الافتقار إلى الدقة؛ فحين كان يطلب من متحدثي الموندوروكو ذكر مفردة عددية تعبر عن مجموعة النقاط الموزعة عشوائيا على شاشة الكمبيوتر المحمول، أجابوا بالكلمة
pug
فيما يقرب من 100 بالمائة من الحالات التي عرضت عليهم فيها نقطة واحدة، واستخدموا الكلمة
xep
في 100 بالمائة من الحالات التي عرض عليهم فيها نقطتان. من الواضح إذن أن لغتهم تستخدم كلمات تشير إلى العدد «واحد» والعدد «اثنين»، وهي عادة ما تستخدم كلمات تعبر عن المجموعات التي تتكون من ثلاثة عناصر أو أربعة على التوالي، لكن هذه المصطلحات لا تشير إلى ثلاثة عناصر أو أربعة في جميع الحالات. ويوضح هذا أنها مصطلحات عددية غير دقيقة تتشابه في نوعها مع مصطلحات البيراها. وبالنسبة إلى الكميات الأكبر من أربعة، فهم يستخدمون كلمات تقريبية أخرى، وأفضل ترجمة لها هي «بعض» «والكثير». إضافة إلى ذلك، فمن الواضح أن مفردات الأعداد التي توجد في اللغة، لا تستخدم في كثير من الأحيان؛ لذا فالإشارات العددية ليست منتشرة. (على العكس من ذلك، فبعض اللغات في أستراليا وغيرها، لا تمتلك إلا مجموعة محدودة من مفردات الأعداد، لكنها تستخدم الإشارات إلى مفاهيم كالمفرد والمثنى والجمع، في كثير من الأحيان.)
11
لقد قام بيير بيكا، وهو عالم لغويات فرنسي يجري بعض الأعمال التجريبية في الأمازون، بدراسة الإدراك العددي الأساسي لدى جماعة الموندوروكو، وذلك مع فريق من علماء النفس المرموقين. وقد وضح هو والفريق أن متحدثي هذه اللغة يعتمدون على حاستهم العددية التقريبية في أداء المهام الرياضية التي تتضمن كميات أكبر من ثلاثة، مثلهم في ذلك مثل أفراد البيراها. في إحدى الدراسات أجرى بيكا ورفقته أربع مهام رياضية أساسية، على خمسة وخمسين من أفراد الموندوروكو البالغين، وعشرة أفراد من متحدثي الفرنسية يمثلون المجموعة الضابطة. وقد كانت اثنتان من هذه المهام لهما طبيعة تقريبية، وكان يطلب من المشاركين فيهما أن يحددوا بسرعة أي مجموعتي النقاط اللتين تظهران على شاشة الكمبيوتر تتضمن أكثر النقاط. وقد كان أداء الموندوروكو وأداء الفرنسيين متماثلا في مثل هذه المهام؛ إذ إنها لا تستلزم سوى التقريب لا التمييز الدقيق بين الكميات. بالرغم من ذلك، ففي المهمتين الأخريين طلب من المشاركين توضيح التمثيل الدقيق للكميات، وقد تضمنت كلتا المهمتين الطرح من النقاط؛ فقد شاهد المشاركون النقاط وهي «توضع» في علبة تظهر على شاشة الكمبيوتر، وقد تابعوا المشاهدة بينما تتم «إزالة» عدد من النقاط من العلبة. وقد طلب منهم في واحدة من هاتين المهمتين أن يذكروا اسم الكمية المتبقية في العلبة، وفي المهمة الأخرى طلب منهم أن يختاروا من بين مجموعة من الصور العلبة التي تحتوي بداخلها على العدد الصحيح المتبقي من النقاط؛ فعلى سبيل المثال إذا شاهدوا خمس نقاط تدخل العلبة، وأربعة تخرج منها، فقد كانوا يرون بعدها بشكل متزامن ثلاث علب «للاختيار»؛ من بينها: علبة تحتوي على صفر من النقاط، وعلبة تحتوي على نقطة واحدة، وعلبة تحتوي على نقطتين. والإجابة الصحيحة في هذه الحالة بالطبع هي العلبة التي تحتوي على نقطة واحدة.
في المهام التي تستلزم تمييز الكميات بدقة كانت إجابات الموندوروكو شبيهة للغاية بإجابات البيراها؛ فقد كان الاختلاف واضحا بين النتائج التي حصل عليها الباحثون من الموندوروكو، والنتائج التي حصلوا عليها من المجموعة الضابطة المتمثلة في متحدثي الفرنسية؛ ففي حالة أفراد الموندوروكو، بالغين وأطفالا، كان أداؤهم مثاليا تقريبا حين كان العدد الأولي للنقاط التي توضع في العلبة أقل من أربعة، أما حين أصبح العدد الأولي أربعة أو أكثر، فقد انخفض مستوى الأداء انخفاضا ملحوظا؛ فقد «ظل أفراد الموندوروكو يستخدمون التمثيلات التقريبية، في مهمة حلتها المجموعة الضابطة من الفرنسيين بسهولة من خلال إجراء حسابات دقيقة.»
12
بالرغم من أن بعض الأبحاث الأخرى قد درست الإدراك العددي لدى أفراد من المجموعات الأصلية غير المترابطة، التي تستخدم أنظمة عددية محدودة، فإن النتائج التي حصلنا عليها من البيراها والموندوروكو ترتبط ارتباطا كبيرا بفهمنا للقدرة التحويلية للأعداد بصفتها أدوات مفاهيمية؛ إذ إن هذه الجماعات تفتقر في العادة إلى وجود مصطلحات عددية محددة ووجود عدد نحوي. (تقترح الأبحاث الحديثة أن العدد النحوي يفيد أيضا في اكتساب المفاهيم العددية.)
13
وليس من الغريب أن هؤلاء الأفراد يفتقرون إلى وجود عادات العد وطرقه، التي يبدو أنها مهمة للغاية في تطور المفاهيم العددية المحددة في عقول الأطفال في المجتمعات العددية. (انظر الفصل السادس.) إن النتائج التي حصل عليها الباحثون من هاتين المجموعتين اللتين تعيشان في الأمازون متشابهة للغاية، مما يشير إلى نتيجة واضحة؛ وهي أن البشر الذين يعيشون في ثقافات تفتقر إلى وجود أنظمة عددية دقيقة يواجهون صعوبة في التمييز الدقيق بين الكميات الأكبر من ثلاثة. وهذا الاستنتاج يسهم في زيادة فهمنا لما كان للأعداد من تأثيرات على نوعنا؛ ففي نهاية المطاف لا تعكس هذه النتائج شيئا عن هاتين المجموعتين فحسب، لكن الأهم أنها توضح كيفية عمل الإدراك الرياضي الأساسي في غياب الدعم المفاهيمي الذي تقدمه مصطلحات الأعداد وغيرها من الرموز المرتبطة بها ؛ فالأصحاء البالغون الذين يفتقرون إلى وجود مثل هذه الأدوات الرمزية يعتمدون على التقدير التقريبي عند التعامل مع الكميات الأكبر من ثلاثة. إن التمثيلات الدقيقة لكميات مثل 5 و6 و7 ليست متأصلة في عقولنا بطريقة ما، بل تكتسب عادة من خلال الثقافة. إنها ظاهرة تعتمد على اللغة؛ فنحن لا نستطيع التمييز بين مثل هذه الكميات بدقة على الدوام إلا أن نندمج في مصفوفة من الرموز المتوارثة ثقافيا، مثل مفردات الأعداد.
في كتابه «الحاسة العددية» يقدم عالم النفس الشهير ستانيسلاس ديهان (أحد أعضاء فريق بيكا) التفسير التالي لنتائج تمييز الكميات التي جمعت من الموندوروكو: «إن تجاربنا تدافع بقوة عن عالمية الحاسة العددية ووجودها في أي ثقافة بشرية، مهما كانت درجة انعزالها أو حرمانها من التعليم؛ فما توضحه أن الحساب سلم، جميعنا يبدأ من الدرجة نفسها، لكننا لا نرتقي جميعا إلى المستوى نفسه.»
14
إن ديهان على صواب بالطبع في أن نتائج الموندوروكو والبيراها تؤيد الطبيعة العالمية لحاستنا العددية الفطرية، أو حاستينا العدديتين على وجه التحديد؛ فبالرغم من كل شيء، تستطيع كلتا الجماعتين التمييز بين 1 و2 و3 بصورة متسقة؛ وذلك من خلال الحاسة العددية الدقيقة (نظام التفرد المتوازي الفطري). وكلتا المجموعتين تعمدان إلى حساب الكميات الكبيرة بصورة تقديرية، باستخدام الحاسة العددية التقريبية. بالرغم من ذلك، فربما يكون الأمر الأهم بشأن هذه الدراسات وثيقة الصلة، هي أنها تقترح أن ارتقاء أي من درجات السلم يستلزم وجود الأعداد. إن الارتفاع الذي نبلغه في ارتقاء هذا السلم ليس نتيجة لذكائنا الفطري، بل نتيجة اللغة التي نتحدث بها والثقافة التي ولدنا فيها؛ فإذا كان أحدنا يتحدث لغة لا عددية، فلن تكون لديه سوى فرصة ضئيلة في الارتقاء، ومن المحتمل ألا يكون لديه سوى سبب ضئيل يدفعه إلى الارتقاء أيضا؛ فاللغة العددية وما يرتبط بها من ممارسات عددية، تتيح وجود ما يبدو لنا على أنه أنواع أساسية من التفكير الكمي.
لا يزال علينا إجراء الكثير من الأبحاث قبل أن نحيط بفهم كامل للدور الذي أدته اللغة العددية وغيرها من مظاهر الثقافة العددية، في تشكيل الإدراك الرياضي لدى الغالبية العظمى من البشر الذين يعيشون اليوم. وهذا الاستكشاف لن يوضح لنا دور الأعداد في توحيد حاستينا العدديتين الأساسيتين فحسب، بل سيفسر لنا أيضا جوانب أخرى من التفكير الكمي؛ فعلى سبيل المثال، بدأ العمل البحثي الذي أجري على ثقافة الموندوروكو في استكشاف كيفية تأثير الأعداد في قدرة البشر على تنصيف الكميات، ويقترح ذلك البحث أن أفراد الموندوروكو يستطيعون تنصيف الكميات بشكل تقريبي ، حتى وإن لم يكونوا قد تعرضوا لتلك الكميات من قبل.
15
ومن المسائل الأخرى التي أجريت الأبحاث عليها حديثا في ثقافة الموندروركو، هي مدى استخدام الأشخاص للمفاهيم المكانية أثناء التفكير الكمي. ومثلما ذكرت في الفصل الأول، فإن البشر كثيرا ما يستخدمون المجال المادي للمكان لفهم بعض النطاقات الإدراكية الأكثر تجريدا. وقد أشرت في هذا الفصل إلى أن الغالبية العظمى من الثقافات تستخدم المكان من أجل فهم الزمن. وبالمثل فإن البشر كثيرا ما يفسرون الكميات بمصطلحات مكانية، ويستخدم نقل الكميات إلى المكان في مدارسنا بالطبع، التي يتعلم فيها طلابنا استخدام خطوط الأعداد والمستوى الديكارتي، غير أننا نجد استخداما أقل منهجية للمكان يظهر في العديد من الثقافات الأخرى. إضافة إلى ذلك، تقترح بعض الأبحاث أن الأطفال الصغار والرضع يعرفون جيدا كيف يتصورون الأعداد في المكان قبل أن يبدءوا التعلم في المدرسة.
16
ولكي نتمكن من تحقيق فهم أفضل للتعيين الإدراكي للكميات في المكان؛ أجرى ديهان وزملاؤه التجربة التالية على أفراد الموندوروكو. عرض على المشاركين دائرتان يفصل بينهما خط أفقي. على الدائرة اليسرى توجد نقطة سوداء، وعلى الدائرة اليمنى توجد عشر نقاط سوداء، ثم عرض على المشاركين مجموعة منفصلة من النقاط، تتكون من ست نقاط على سبيل المثال، وطلب منهم وضع هذه الكمية من النقاط على الخط الأفقي. والآن، إذا كان الموندوروكو لا يفهمون الكميات من خلال المكان، فقد تكون إجاباتهم عشوائية، وعلى النقيض من ذلك، فالأمريكيون يضعون الكميات عادة على مسافات متساوية على خط «الأعداد» الأفقي؛ فهم على سبيل المثال يضعون تسع نقاط بالقرب من الدائرة التي تحتوي على عشر نقاط، ونقطتين بالقرب من الدائرة التي تحتوي على نقطة واحدة. وقد قام الموندوروكو أيضا بوضع النقاط بطريقة منتظمة، لكن طريقتهم في توزيعها على خط الأعداد لم تكن منظمة للغاية؛ فبدلا من هذه الطريقة الخطية، التي يبدو أنها تدرس في المدرسة، استخدم الموندوروكو ما يعرف باسم الاستراتيجية اللوغاريتمية في أداء هذه المهمة؛ لقد كانت الكميات الصغيرة هي الأكثر نزوحا بمحاذاة البعد الأفقي مقارنة بالكميات الكبيرة . وضعت ثلاث نقاط بالقرب نسبيا من منتصف الخط، ووضعت تسع نقاط على ضعف المسافة تقريبا (مقارنة بالنقاط الثلاث) من الدائرة اليسرى. في الشكل الخطي الذي يألفه معظمنا، نتوقع أن النقاط التسع ستوضع على بعد ثلاثة أضعاف المسافة من الدائرة اليسرى، مقارنة بالنقاط الثلاث. أما في الشكل اللوغاريتمي فيجب وضع النقاط التسع على بعد ضعف المسافة من الثلاث نقاط؛ إذ إن 3
2 = 9. ونظرا لأن الموندروركو ثقافة لا عددية بشكل كبير؛ فإن طريقتهم في تحديد موضع النقاط قد أوحت للبعض بأن جميع البشر، بصرف النظر عن ثقافتهم ولغتهم، يستخدمون المكان لفهم الكميات. فمن الواضح أن الأشخاص البالغين الذين ينتمون إلى ثقافات لا عددية، يستخدمون خط «أعداد» ذهنيا، لكن هذا الخط الذهني مؤسس على الطريقة اللوغاريتمية.
17
لكن يبدو لنا الآن أن الأمر قد لا يكون كذلك في جميع الجماعات السكانية التي لم تتلق التعليم المدرسي؛ إذ تشير نتائج حديثة جمعت من إحدى الجماعات الأصلية في الجانب الآخر من العالم إلى أن خط الأعداد البشري قد لا يكون عالميا على أي حال؛ فقد قام فريق من علماء الإدراك بقيادة رفاييل نونييث من جامعة كاليفورنيا في سان دييجو بإعادة تجارب خطوط الأعداد الذهنية على جماعة اليوبنو التي تعيش في سلسلة جبلية بعيدة في بابوا نيو غينيا. وبالرغم من أن أفراد اليوبنو يستخدمون مفردات الأعداد، فإنهم لا يقيسون المكان ولا الزمان بطرق دقيقة. وقد ثبت أنهم لا يربطون ذهنيا بين الكميات والمكان، بطريقة يمكن التنبؤ بها. وعلى العكس من معظم أفراد الموندوروكو، لم يظهروا أي استعداد لوضع الكميات على خط أعداد ذهني، سواء أكان لوغارتميا أم لا. وبدلا من ذلك، حين طلب منهم وضع كميات محددة من النقاط وغيرها من المحفزات على خط ما، كانوا يختارون النقاط الطرفية من الخط على الدوام. ويشير هذا العجز عن تقسيم الخط، وفقا للكميات، إلى أن التفكير في الكميات من الناحية المكانية لا يحدث لدى جميع البشر، وإنما يدرك بعض الأشخاص الكميات بطرق مختلفة، تستند - ولو جزئيا على الأقل - إلى الأدوات المفاهيمية التي اكتسبوها من ثقافتهم الأصلية.
18
من الواضح إذن أنه لا يزال علينا أن نتعلم القدر الكبير بشأن الكيفية التي تشكل بها اللغة العددية وغيرها من أجزاء الثقافة العددية إدراك البشر للكميات؛ فلا يزال من غير المؤكد لدينا، على سبيل المثال، مدى اختلاف الثقافات في نزعتها إلى استخدام خطوط الأعداد الذهنية. بالرغم من ذلك، فثمة أمر واحد اتضح لنا من مناقشتنا في هذا الفصل، وهو أن أعضاء الثقافات الأصلية المختلفة، الذين يعيشون في الأدغال البعيدة ويتحدثون لغات لا يرتبط بعضها ببعض، يسهمون في إعادة تشكيل فهمنا عن التفكير الرياضي؛ فقد أوضحت الدراسات التي أجريت على هذه الجماعات السكانية أن الأعداد والعد أمران أساسيان في مهارات الإدراك الكمي، حتى ما يبدو متواضعا منها. وقد أوضحت الدراسات أنه بالرغم من أن جميع البشر يولدون بقدرات رياضية مؤكدة وأساسية للغاية، فوحدهم الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافات عددية هم الذين يستطيعون ارتقاء السلم الحسابي.
بلا أصوات ولا أعداد
ليست جماعة الموندوروكو وجماعة البيراها هما الجماعتين الوحيدتين اللتين تستخدمان أساليب التواصل اللاعددي بصورة مطلقة، أو تستخدمانها بصفة أساسية؛ فثمة جماعة أخرى من البشر تفتقر إلى وجود اللغة العددية، وهي أيضا تلقي بعض الضوء على مدى تأثير الأعداد في التفكير الرياضي الأساسي. وهؤلاء الأفراد الذين نتحدث عنهم هم مجموعة من الصم الذين يعيشون في نيكاراجاوا، ولمجموعة من الأسباب، لم تسنح لهم الفرصة من قبل في تعلم لغة الإشارة. بالرغم من ذلك فهم، كغيرهم من الصم الذين لا يعرفون لغة الإشارة في أجزاء أخرى من العالم، يستخدمون إشارات الأيدي المبتكرة للتحدث مع من حولهم؛ لا سيما أفراد الأسرة الذين يشاركون في تعلم هذه الإشارات المبتكرة واختراعها. إن هؤلاء الصم هم شاهد حي على قوة احتياج البشر إلى التواصل؛ ففي الحالات التي يفتقر فيها الأطفال إلى حاسة السمع، والتعرض للغة مكتملة التكوين؛ لا تزال تظهر لدينا وسيلة واضحة من وسائل التواصل؛ غير أن هذه الوسيلة للتواصل، على الأقل في حالة صم نيكاراجاوا، تفتقر إلى مفردات الأعداد.
في دراسة مذهلة، أجرى علماء النفس مجموعة من التجارب المتعلقة بقدرات الإدراك العددي لدى أربعة من الصم البالغين الذين لا يعرفون لغة الإشارة في نيكاراجاوا. لا يمتلك هؤلاء البالغون أي معرفة بالأعداد، لكنهم على العكس من الموندوروكو والبيراها ينتمون إلى ثقافة عددية؛ فهم يدركون أهمية الاختلافات بين الكميات. فعلى سبيل المثال يمكن لهؤلاء الصم أن يدركوا القيمة التقريبية للأوراق النقدية، ويستطيعون التمييز بين الأوراق ذات الفئة الصغيرة والأوراق ذات الفئة الكبيرة. وبالرغم من هذا الوعي، وبالرغم من وعيهم بوجود كميات محددة أكبر من ثلاثة؛ فهم لا يمتلكون وسيلتهم الخاصة للإشارة إلى مثل هذه الكميات بطرق محددة. إنهم لا يمتلكون الأعداد.
وقد اختبر الباحثون مدى تأثير عدم وجود الأعداد على هذه الجماعة النيكاراجاوية، التي تشبه البيراها والموندوروكو في أنه لا يظهر لديها أي عيوب إدراكية خلقية. وتلقي الدراسة مزيدا من الضوء على القدرات الرياضية لدى الأصحاء البالغين الذين لا يعرفون الأعداد، لكنها تختبر ذلك على مجموعة من الأفراد الذين أدركوا على مدار حياتهم وجود الأعداد. إن هذه الأعداد ببساطة لم تتغلغل في حيواتهم الإدراكية من خلال اكتساب مفردات الأعداد وطرق العد؛ فبالرغم من أن هؤلاء الصم يستخدمون الإيماءات للتواصل بشأن الكميات، فهم يفعلون ذلك بطريقة غير محددة حين يتعلق الأمر بالكميات الكبيرة.
بعد إجراء مجموعة من التجارب، ومنها أحد مهام المطابقة الأساسية، والمتمثلة في مطابقة خط بخط، التي كانت قد أجريت لمرات عديدة بين أفراد البيراها؛ توصل الباحثون إلى نتيجة شبيهة للغاية، وهي أن الصم الذين لا يعرفون لغة الإشارة «لا يستطيعون مطابقة عدد العناصر في مجموعة ثانية بعدد العناصر في المجموعة الهدف، إذا كانت المجموعتان تضمان أكثر من ثلاثة عناصر.»
19
وكأفراد الموندوروكو والبيراها، يجد هؤلاء الأفراد البالغون صعوبة في تمييز كمية عناصر المجموعة بدقة وإعادة إنتاجها، حين تتجاوز الكمية ثلاثة. فعلى سبيل المثال شاهد الصم الذين لا يعرفون لغة الإشارة بطاقات عليها صور لعدد محدد من العناصر، ثم طلب منهم أن يمثلوا عدد العناصر الموجودة على البطاقة باستخدام أصابعهم. وحين كان عدد العناصر المصورة على البطاقات واحدا أو اثنين أو ثلاثة، كانوا يمثلون العدد الصحيح بأصابعهم في جميع المحاولات. أما في الكميات الكبيرة فقد انخفضت نسبة إجاباتهم الصحيحة، وازداد مقدار أخطائهم وفقا لزيادة كمية العناصر. وعلى العكس من ذلك، فالذين يتحدثون لغة الإشارة الرسمية من الصم النيكاراجاويين، الذين يعرفون مفردات الأعداد، لم يخطئوا، وكذلك أهل نيكاراجاوا من غير الصم، الذين يعرفون مفردات الأعداد بالإسبانية. وموجز القول أن النتائج التي حصل عليها الباحثون من النيكاراجاويين تقترب من استنتاج قد أصبح الآن مألوفا، وهو أن البشر يحتاجون إلى استخدام مفردات الأعداد لكي يتمكنوا من أن يميزوا بين الكميات الأكبر من ثلاثة بدقة واتساق.
خاتمة
إذا كانت للأعداد هذه الفائدة الكبيرة من الناحية الإدراكية، فلماذا اختارت بعض الجماعات أن تتخلى عنها أو فشلت في استخدامها؟ يمكننا أن نعمد إلى تقديم إجابات مسكنة عن هذا السؤال، فيمكننا أن نقول مثلا: إن «هؤلاء البشر أفضل حالا دون استخدام الأعداد.» لكن ثمة احتمالا كبيرا بأن هذه الإجابات تتسم بالنزعة الأبوية أو تضع النسبية الثقافية في غير محلها. والأرجح أن الإجابة الحقيقية عن هذا السؤال قد ضاعت فيما لم يكتب من تواريخ الثقافات المعنية، وذلك في حالة الموندوروكو والبيراها على الأقل. من المؤكد أن هذه الجماعات كانت ستستفيد من المزايا التي يوفرها استخدام هذه الأدوات المعرفية العجيبة، غير أنه من المؤكد أيضا أن هذه الجماعات قد تمكنت من البقاء على مدار فترة طويلة، ونجحت في البيئات التي تعيش بها دون مساعدة الأعداد.
20
على ضوء فائدة الأعداد وانتشارها في معظم لغات العالم؛ فإن وجود الجماعات اللاعددية هو أمر صادم بطريقة ما، غير أن المخزون العالمي من اللغات يقدم لنا، على نحو لا بد منه، استثناءات لتوقعاتنا بأن بعض السمات اللغوية يجب أن تكون عالمية. إن الثقافات واللغات يختلف بعضها عن بعض اختلافا جذريا. وإذا سلمنا بهذه الحقيقة، فلن نندهش بالقدر نفسه عندما نعرف أن بعض البشر يعيشون في عوالم بلا مفردات للأعداد، أو أرقام أو إشارات عددية متفق عليها، أو غيرها من الإشارات التي تعبر عن كميات محددة. وقد أشرت ضمنيا في هذا الفصل إلى أن ذلك أمر مفيد في سياق مسعانا الحالي لفهم الكيفية التي غيرت بها الأعداد خبرتنا البشرية؛ فهذه الجماعات من البالغين الأصحاء الذين ينتمون إلى ثقافات لا عددية، توفر لنا نافذة ثمينة على طبيعة التفكير الكمي لدى البشر. وهي تقدم لنا دليلا واضحا على أنه بدون الأعداد لا نستطيع أن ننمي قدراتنا الفطرية لكي نفهم جميع الكميات بشكل كامل.
الفصل السادس
الكميات في عقول الأطفال الصغار
بالرغم من أننا نتتبع عمرنا ووجودنا إلى اللحظة التي طردنا فيها من أرحام أمهاتنا، فذلك لأن هذه الطريقة ملائمة لنا بدرجة كبيرة، أما الواقع فهو أننا ننفصل عن مرحلة اللاوعي، وتدب فينا الحياة تدريجيا ونحن في الرحم. وهذا الانفصال مقيد بطبيعة الحدود المحيطة بنا التي تمنع معظم المحفزات من التأثير على حيواتنا العقلية. لكن الرحم لا يستطيع أن يمنع جميع المحفزات من الوصول إلينا، وفيه نبدأ التواصل مع المحفزات المادية الخارجية التي يكون لها تأثير عميق على حيواتنا المعرفية والسلوكية بداية من ذلك الوقت فصاعدا، وهي أصابعنا. إنها محفزات أساسية من الناحية التجريبية؛ فهي تتلمس طريقها إلى خبرتنا الحسية، وحتى أفواهنا، قبل أن نعي بالروائح والمناظر والأصوات (مع القليل من الاستثناءات). في المرة الأولى التي رأيت فيها وجه ابني، كان ذلك على جهاز التصوير بالأشعة فوق الصوتية ثلاثي الأبعاد، قبل ولادته بشهرين، وكانت أصابعه تطفو في المساحة الموجودة بجوار خديه، وقد بدا ذلك تأكيدا راسخا لوجوده الجديد. قبل أن يرى الضوء الحقيقي، كان «يرى» الأصابع حوله وهي تلمس هذه الأجزاء المتفردة من جسمه، ويبدو أنه يشعر بها واحدة بعد الأخرى، وينطبق الأمر نفسه على بقية الأجنة في الأرحام. وهذه المرحلة من الحياة فيما قبل الولادة هي البداية فقط لرحلة معرفية طويلة نخوضها مع أصابعنا جنبا إلى جنب. إن كمية الأصابع الموجودة في أيدينا تؤدي دورا أساسيا في تفكيرنا العددي الذي يميزنا بصفتنا بشرا، ويتضح هذا الدور في كثرة تسمية البشر على مستوى العالم للأعداد باسم المصطلحات التي يستخدمونها للإشارة إلى الأيدي. بالرغم من ذلك، فقبل أن نلقي الضوء على ذلك الدور الأساسي، فإننا نحتاج إلى فهم تلك المفاهيم العددية التي قد تسبق وعينا بأصابعنا التي يمكن عدها، بصورة أوضح؛ ذلك أننا حتى وإن كنا نلتقي بأصابعنا في وقت مبكر للغاية، يبدو أننا نكون واعين ببعض هذه الفروق العددية حتى قبل مثل هذا اللقاء. فعلى أي حال، يزود البشر منذ البداية بالأنظمة العصبية المعرفية المذكورة في الفصلين الرابع والخامس: الحاسة العددية التقريبية، وما أسميته بالحاسة العددية الدقيقة. وهاتان الحاستان معا يسمحان لنا بإدراك الفروق الكمية في مرحلة مبكرة من الحياة.
1
بالرغم من ذلك، فحتى مع هاتين الحاستين اللتين يمكن استخدامهما، فمن الصعب على الأطفال أن يتعلموا كيفية التفكير في جميع الكميات بدقة؛ فتعلم كيفية التمييز بين الأعداد ليس سهلا، وهو يتوقف بدرجة كبيرة على تعلم مفردات الأعداد. وبالنسبة إلى جميع البشر على أي حال فإن هذه المفردات، التي تستند تسميتها إلى الأصابع في معظم الأحوال، تكون هي بداية إدراكهم للأعداد الصحيحة.
كيف يفكر الرضع في الكميات؟
مثلما رأينا من قبل، فإن الحاسة العددية الدقيقة تتضح لدى الجماعات اللاعددية، دون وجود أي وسيلة لغوية لنقل المفاهيم العددية من جيل إلى الجيل التالي، أو بين أفراد الجيل الواحد. وينطبق الأمر نفسه على جميع البالغين من البشر؛ فحتى من ينتمون منهم إلى ثقافات لا عددية يمتلكون القدرة على التمييز بين المجموعات التي تحتوي على عدد كبير من العناصر، إذا كان الفرق بين المجموعات كبيرا بالدرجة الكافية. فجميع البالغين الذين يتمتعون بحالة عصبية إدراكية طبيعية يستطيعون التمييز بين 6 عناصر وبين 12 عنصرا، وكذلك بين 8 عناصر و16 عنصرا، وهذه القدرة هي دليل على وجود الحاسة العددية التقريبية. وتتيح لنا مفردات الأعداد واستراتيجيات العد أن نتمكن من التمييز بين الكميات بدقة، بما فيها الكميات الكبيرة، ويحدث ذلك بصفة أساسية من خلال الدمج بين حاستينا العدديتين الفطريتين معا.
وبالرغم من ذلك، قد يطرح أحدهم سؤالا وجيها: كيف يمكننا أن نجزم أن الحاستين المعنيتين هما قدرتان فطريتان فعلا؟ فبعض السمات الأخرى للأدوات الإدراكية للبشر، التي كنا نعتقد أنها فطرية قبل ذلك، لا تبدو الآن كذلك؛ على سبيل المثال استنتج العديد من علماء اللغة في الماضي أن نشأة اللغة نفسها كانت بسبب حدوث طفرة وراثية أو مجموعة من الطفرات في الجينوم البشري، وأن البشر جميعا يشتركون في وجود «غريزة اللغة» لديهم. ومعنى هذا أن الطبيعة قد انتقت البشر الذين حدثت لهم هذه الطفرة أو المجموعة من الطفرات؛ إذ كانت تلك السمة الوراثية مفيدة للغاية للتكاثر. واليوم قل عدد علماء اللغة الذين يعتقدون بهذا، وأصبح أفضل تعريف للغة هو أنها مجموعة من استراتيجيات التواصل وإدارة المعلومات المتنوعة، ولكنها في الغالب متشابهة. ومن هذا المنظور الذي تتزايد شعبيته، فمن المرجح أن يكون الانتقاء الطبيعي قد أنتج لنا مجموعة من القدرات الإدراكية والاجتماعية التي أسهمت في تعزيز اللغة، لكنها لم تؤد بصورة مباشرة إلى إنتاج غريزة لغوية محددة. فكيف يمكننا إذن أن نكون متأكدين للغاية من أن «حاستينا» العدديتين غريزيتان وليستا أيضا نتيجة مجموعة من الاستراتيجيات المتقاربة للتفكير في الكميات؟ كيف يمكننا أن نثق بأننا نمتلك بالفعل قدرة فطرية على التفكير العددي؟
2
إنه لأمر صعب أن نقدم إجابة محددة عن هذا السؤال، غير أن لدينا مكونين أساسيين في هذه الإجابة؛ وهما نوعان عامان من الأدلة قد تركا لدينا يقينا قويا إلى حد ما بأن البشر يتمتعون بغريزة عددية، أو هما على وجه الدقة قدرتان فطريتان يمكننا استخدامهما للتمييز بين الكميات. وقد استخلص الباحثون أحد نوعي هذه الأدلة من سلوك الحيوانات الأخرى؛ فمثلما سنرى في الفصل السابع تشترك العديد من الأنواع الأخرى في أن لديها قدرات مشابهة للتمييز الدقيق بين الكميات الصغيرة، وكذلك التمييز التقريبي بين الكميات الكبيرة؛ ومن ثم يمكننا أن نقول بثقة: إن النظامين العدديين الموجودين في أدمغتنا بدائيان من ناحية تطور النوع. ومعنى هذا أنهما كانا موجودين منذ ملايين السنين في أدمغة البشر، وأدمغة بعض الأنواع السابقة علينا. ويمكننا أن نتعقب أثرهما في الماضي في الأنواع المنقرضة التي كانت سلفا للبشر وغيرها من الفقاريات ذات الصلة. وأما المصدر الثاني للأدلة فهو سلوك الأطفال الصغار الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد، ويقترح هذا النوع الأخير من الأدلة أن بعض القدرات الرياضية تتطور في فترة مبكرة من التطور الحيوي للفرد، أي إنها قدرات نمتلكها قبل أن نبدأ في معرفة المفاهيم بصورة عملية في مرحلة الطفولة؛ فهي هبة وراثية. وليس معنى أن الحاستين العدديتين المعنيتين من الهبات الوراثية التي نتمتع بها أننا نلمح إلى غياب الاختلافات بين الثقافات في مدى نمو هاتين القدرتين في عقولنا بينما نكبر في العمر، أو في مدى تمكننا من استخدام هذين النظامين لتحقيق تفكير رياضي أكثر اكتمالا. لا يزال أمامنا إنجاز قدر كبير من العمل، لكي نتمكن من التوصل إلى فهم كامل لطبيعة التفكير الكمي لدى الأطفال في جميع ثقافات العالم. بالرغم من ذلك، فقد أنجزنا من العمل قدرا كبيرا أيضا، وفيما يلي سأولي بالاهتمام قليلا من النتائج البارزة بشأن هذا الموضوع.
لكن أولا ربما يكون لديك سؤال بسيط: كيف يمكننا أن نعرف ما يدور في عقل الأطفال الصغار ولما يكتسبوا مهارة اللغة بعد، ولا يمكن إخبارهم بما يجب عليهم أن يفعلوه في السياقات التجريبية؟ والحق أنها مشكلة صعبة من الناحية المنهجية، وقد استلزمت قدرا من الابتكار كي يتم التغلب عليها. وقد أنتج التغلب على هذه العقبة ما يشبه الثورة في فهمنا للإدراك العددي لدى الأطفال الصغار في الثلاثين عاما الأخيرة، وفي الوقت نفسه شكك في النتائج السابقة التي ربما تكون قد تأثرت بالتوقعات غير العادلة عن حدس الأطفال بخصوص الأهداف المرتبطة بتجارب معينة. وقد تغلب الباحثون على هذه العقبة حينما بدءوا يعتمدون على المهام التي تتطلب القدر الضئيل من مشاركة الأطفال مع القائمين بالتجربة والتفاعل المادي معهم، مع التركيز بالتحديد على ما يسترعي انتباه الأطفال في السياقات التجريبية. وهذا التركيز على الانتباه أمر منطقي؛ نظرا إلى أن البشر، كالأنواع الأخرى، يركزون على المحفزات الجديدة.
تخيل مثالا على بيئة يومية تألفها على الأرجح؛ مطعم مزدحم، حين تدخل المطعم قد تلاحظ طنين المحادثات، وصليل آنية المائدة الفضية وهي تلامس الأطباق، والكئوس وهي توضع على الموائد، وما إلى ذلك. وهذا ما تتوقعه من مثل هذه البيئة، وبينما تجلس وتأكل فإن مثل هذه المحفزات غير الجديدة لن تسترعي انتباهك؛ فسوف تبدأ أنت وبقية زبائن المطعم في تناول الطعام والشراب، مع التركيز على وجباتكم ومحادثاتكم (ولعلها تتضمن محفزات جديدة، وإلا فسوف يخمد اهتمامك بها أيضا على الأرجح). والآن تخيل ما سيحدث إذا دخل محفز جديد إلى حيزك الإدراكي؛ فعلى سبيل المثال يتدحرج كأس من صينية النادل ويهوي على الأرض متهشما. سينجذب انتباهك على الفور إلى صوت التهشم، بينما تحاول تمييز مصدر الضوضاء التي سمعتها للتو. وحين يتغير انتباهك بتلك الطريقة تحدث العديد من الأشياء على المستوى المادي؛ ينجذب بصرك إلى مصدر الضوضاء، ومن المرجح أن جميع رءوس من في المطعم سوف تستدير للتركيز على المحفز الجديد. ومن الأمور التي ستكون أقل وضوحا أنهم سوف يتوقفون عن الأكل للحظة على الأرجح، معلقين أنشطة كالبلع. أما الأمر الأهم فهو أن هذه النزعات إلى تثبيت النظر وإيقاف البلع، هي أمور أساسية من ناحية النمو، وهي تعود إلى طفولتنا المبكرة. ونتيجة لذلك، قد أدرك الباحثون في مجال نمو الطفل منذ فترة من الوقت أنهم يستطيعون معرفة المحفزات التي يعدها الأطفال محفزات جديدة أو غير ذلك؛ ولهذا فعند دراسة انتباه الأطفال، يمكن للباحثين أن يلاحظوا ما إذا كان الأطفال يميزون محفزا جديدا أو لا، سواء أكان هذا المحفز لونا جديدا أو شكلا جديدا أو كمية جديدة. ولكي يتمكن الباحثون من ملاحظة ذلك؛ عليهم أن يتابعوا ما إذا كان هناك أي تغيرات مصاحبة في نظرات الأطفال أو أنماط بلعهم في أثناء تقديم المحفزات لهم. وعند التطبيق يدرس القائمون بالتجربة أنماط الأطفال في النظر والرضاعة خلال مهمات محددة. والتحديق والرضاعة من السلوكيات التي لا يسهل قياسها بشكل دقيق، وقد تطلبت المنهجيات التي تقوم على قياس هذين السلوكين ظهور أدوات جديدة أصبحت موجودة في العقود الماضية الأخيرة. ومن هذه الأدوات سكاتات الأطفال التي يمكن مراقبتها إلكترونيا، وكاميرات الفيديو القادرة على تتبع نظرات الأطفال وحركات عيونهم.
والآن لنتناول بعض التجارب المهمة التي أجريت على الإدراك العددي لدى الأطفال، وجميعها يقوم على افتراض أن الأطفال يحدقون إلى أنواع معينة من المحفزات لمدة أطول. ويجب أن نبدأ بدراسة مشهورة حاليا أجرتها عالمة النفس كارين وين، نشرت نتائج هذه الدراسة في مجلة «نيتشر» قبل ما يزيد على 20 عاما، وقد نقحت تجاربها وأعيد إجراؤها بطرق مختلفة في السنوات اللاحقة. إن دراسة وين المؤثرة هي نقطة منطقية للبدء بالنسبة إلينا؛ إذ إنها تقترح بقوة أن الأطفال يستطيعون تمييز الاختلافات بين 1 و2 و3، حتى في تلك المرحلة التي تسبق تعلمهم الحديث. وقد كان متوسط عمر هؤلاء الأطفال الذين شملتهم الدراسة 5 شهور تقريبا. وقد تناولت بعض الدراسات الأحدث منها الإدراك العددي لدى الأطفال الأصغر سنا، ومنهم حديثو الولادة. (وسوف نتناول مثل هذه الدراسة بعد قليل.) استعانت وين باثنين وثلاثين طفلا للمشاركة في هذه الدراسة، وقد كانت المهمة التي عين لها نصف الأطفال تختبر قدرتهم على جمع 1 + 1، أما النصف الآخر فقد شاركوا في مهمة تختبر قدرتهم على طرح 2 − 1.
3
إذن، كيف اختبرت وين هؤلاء الذين يبلغ عمرهم 5 شهور في هاتين المهمتين؟ لقد استخدمت الطرق البسيطة المبتكرة التالية؛ وضع كل طفل بمفرده أمام صندوق للعرض كان يحتوي على شكل يشبه الدمية كان يجذب انتباههم تلقائيا. إضافة إلى ذلك، كان صندوق العرض يحتوي على ستار غير شفاف يمكن رفعه ليحجب رؤية الطفل للشكل الذي يشبه الدمية؛ وبعد رفع هذا الستار، لا يعود هذا الشكل مرئيا. أما الأمر الأهم فهو أنه كانت توجد فجوة بجوار كل جانب من جوانب الستار في صندوق العرض. وبعد أن كان انتباه الأطفال يتجه إلى الشكل في البداية، يرفع الستار ليحجب عن الطفل رؤيته، ثم يقوم الباحث القائم بالتجربة بوضع يده في باب جانبي في صندوق العرض مع الإمساك بشكل آخر يطابق الشكل الذي حجبه الستار. كان الأطفال يستطيعون رؤية اليد والشيء الذي تمسك به من خلال الفتحة الموجودة بين الستار وجانب صندوق العرض. ومن منظور الأطفال، فقد أضيف شيء آخر مطابق للشكل الذي يشبه الدمية، والموجود خلف الستار. وفي هذه المرحلة تظهر خدعة منهجية أساسية؛ كان صندوق العرض مزودا بباب سري يمكن للباحث من خلاله أن يزيل الشكل الأصلي من أمام الأطفال؛ ومن ثم فبالرغم من أن الأطفال قد رأوا شيئا يضاف إلى شيء آخر، كان يمكن إزالة الشيء الأصلي في الوقت نفسه من وراء الستار، دون علم الأطفال. وأخيرا أنزل الستار بعد إضافة الشيء الثاني. فوفقا لحالة «الناتج المحتمل»؛ كشف لنا إنزال الستار عن شكلين متطابقين يشبهان الدمية، وهو ما يتفق مع ما رآه الأطفال. ووفقا لحالة «الناتج غير المحتمل» كشف إنزال الستار عن شكل واحد فقط؛ لأن الشكل الأصلي قد أزيل بخدعة من خلال الباب السري لصندوق العرض.
ولأن البشر، بمن فيهم الأطفال، يحدقون لفترة أطول في الأحداث الجديدة غير المتوقعة، فقد افترضت وين أن الأطفال في دراستها قد يحدقون لفترة أطول في حالة الناتج غير المحتمل. ومعنى هذا أنهم إذا رأوا شيئا يضاف إلى شيء آخر مطابق، ثم اكتشفوا أن نتيجة هذه الإضافة هي شيء واحد متبق فحسب، فسوف تنتابهم الحيرة بعض الشيء. أما إذا رأوا شيئين بعد إضافة الشيء الثاني، فلن يكترثوا للنتيجة المتوقعة. بعبارة أخرى: إذا أدرك الأطفال ذوو الأشهر الخمسة أن 1 + 1 يساوي 2، وليس 1؛ فإن مثل هذه التجربة سوف توضح ذلك الإدراك. لقد كان التوقع المباشر أن الأطفال سوف يحدقون إلى صندوق العرض لفترة أطول في حالة الناتج غير المحتمل، حين بدا أن 1 + 1 يساوي 1 وليس 2، وقد حدقوا بالفعل لفترة أطول. لقد حدق الأطفال إلى صندوق العرض لفترة أطول بدرجة ملحوظة من الناحية الإحصائية، حينما كشف الستار بعد إنزاله عن شيء واحد فقط.
وفي مهمة الطرح، استخدم صندوق العرض نفسه والعناصر نفسها، لكن ترتيب الأحداث الذي شهده الأطفال كان معكوسا بالكامل؛ ففي البداية جذب انتباه الأطفال إلى الشكلين الشبيهين بالدمية في منتصف صندوق العرض، ثم رفع الستار فحجب عن الأطفال رؤية الشكلين كليهما. بعد ذلك ظهرت يد القائم على التجربة من خلال الفجوة الموجودة بين الستار وجانب الصندوق، ثم أزالت اليد أحد الشكلين من خلف الستار، بطريقة تظهر للأطفال بوضوح. في حالة الناتج غير المحتمل، استخدم الباب السري لإضافة شكل آخر مطابق، بينما تتم عملية الإزالة المرئية. ونتيجة لذلك، ظل هناك شكلان بعد إنزال الستار، بالرغم من الحقيقة الواضحة بإزالة أحد الشكلين. ففي حالة الناتج المحتمل، لم يضف شكل إضافي من خلال الباب المسحور، وعند إنزال الستار بعد إزالة أحد الشكلين بصورة مرئية، لم يتبق سوى شكل واحد. وقد جاءت نتائج مهمة الطرح متشابهة إلى حد ما مع نتائج مهمة الجمع؛ حدق الأطفال لفترة أطول إلى ما يبدو على أنه الناتج غير المحتمل، فإذا رأوا أحد الشكلين الأصليين وهو يزال، توقعوا بقاء شكل واحد فقط. فقد بدا أن الأطفال يدركون أن 2 − 1 = 1. وموجز القول أن نتائج هاتين المهمتين في دراسة وين، تشير إلى أن الأطفال الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد يستطيعون التمييز بين شيء واحد وشيئين. ومنذ دراستها التي كانت تستكشف الطريق، ظهرت أساليب جديدة قد استخدمت لاستكشاف هذه المسألة بعناية أكبر. ونتيجة لذلك، فقد أصبح من المتفق عليه بصفة عامة، أن الأطفال يستطيعون بالفعل التمييز بين الكمية من واحد إلى ثلاثة، بانتظام واتساق.
أما الدراسة الثانية التي سنناقشها من دراسات الإدراك لدى الأطفال، فقد ظهرت بعد ثماني سنوات تقريبا من نشر دراسة وين، وقد شارك إجراءها عالمتا النفس؛ فيشو، وإليزابيث سبيلك. (سبيلك هي باحثة وأستاذة جامعية في جامعة هارفارد، وواحدة من أكثر علماء نفس النمو تأثيرا على مستوى العالم.) وسوف نتناول نتائج الدراسة هنا؛ لأنها تؤيد وجود حاسة عددية تقريبية، وهي تبين بطريقة واضحة أن الأطفال الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد يستطيعون بطرق تقريبية، أن يميزوا الفروق الكمية بين المجموعات الكبيرة.
4
وسوف نتناول فيما يلي كيف سارت التجربة الأولى في دراسة شو وسبيلك. استخدم في التجربة ستة عشر طفلا يبلغ متوسط أعمارهم ستة أشهر، وقد جعلهم القائمون على التجربة يعتادون رؤية 8 نقاط سوداء أو 16 نقطة على شاشة بيضاء، بمعنى أن هذه المحفزات كانت تعرض على الأطفال حتى يملوا منها أو لا يعودوا يجدونها جديدة بعد ذلك. وكان القائمون على التجربة يرون أنهم قد وصلوا إلى مرحلة الاعتياد حين يتوقف الأطفال عن التحديق في المحفزات، أو حين يكونون قد رأوا أربعة عشر مصفوفة متتالية من النقاط. وفقا لحالة النقاط الثماني، كان يعرض على الأطفال عروض مختلفة لثماني نقاط تختلف في الحجم والتكوين والسطوع، حتى يعتاد الأطفال على رؤيتها. ووفقا لحالة الست عشرة نقطة، كان يعرض على الأطفال أيضا عروض مختلفة لست عشرة نقطة تختلف أيضا وفقا لمعايير مثل الحجم والتكوين، إلى أن يعتاد الأطفال على رؤيتها. وفي كلتا الحالتين، كان يعرض على الأطفال بعد ذلك 8 نقاط أو 16 نقطة، بعد أن يكونوا قد اعتادوا على الكمية الأولية من النقاط. فوفقا للحالة الأولى كانت المصفوفات التي تتكون من 16 نقطة، والتي عرضت بعد مرحلة الاعتياد، تمثل محفزا جديدا؛ لأن الأطفال لم يكونوا يرون سابقا سوى مصفوفات تتكون من 8 نقاط. وفقا للحالة الثانية، كان العكس هو الصحيح، وقد كانت المجموعات التي تتكون من 8 نقاط، والتي عرضت على الأطفال بعد مرحلة الاعتياد، هي المحفز الجديد؛ إذ إن الأطفال كانوا يرون قبل ذلك مصفوفات تتكون من 16 نقطة. على الأقل فنحن البالغين الذين نعرف الأعداد، سوف ندرك أن هذه المصفوفات جديدة؛ لأننا نعرف أن 16 لا تساوي 8. لكن ماذا عن الأطفال الذين لم يتعلموا العد بعد، ولا حتى تعلموا الحديث؟ إن نتائج شو وسبيلك قد قدمت بعض الأدلة القوية على أن الأطفال أيضا يمكنهم إدراك الفرق بين 8 عناصر و16 عنصرا.
جاءت نتائج التجربة الأولى مباشرة؛ كان الأطفال غالبا ما ينظرون إلى شاشات العرض التي تتضمن كمية مختلفة عن الكمية التي أصبحوا معتادين عليها، مدة ثانيتين أطول؛ ومن ثم فإذا اعتادوا على رؤية مجموعات تتكون من 8 نقاط، حدقوا إلى المجموعة التي تتكون من 16 نقطة لفترة أطول. وعلى العكس من ذلك، إذا اعتادوا على رؤية مجموعات تتكون من 16 نقطة، حدقوا إلى المجموعة التي تتكون من 8 نقاط لفترة أطول. وهذا الانتباه البصري لدى الأطفال قد بين بوضوح أنهم قد أدركوا الفرق بين 8 نقاط و16 نقطة، بصرف النظر عن العوامل الأخرى مثل حجم النقاط وتشكيلها. وبعبارة أخرى: يبدو أن معظم الأطفال قادرون على تمييز الاختلافات العددية، حتى في الكميات الكبيرة، على الأقل حين يكون الفرق بين المجموعتين التي تجري المقارنة بينهما واضحا،
5
غير أن هذا الادعاء الأخير مهم للغاية مثلما يتضح في نتائج تجربة شو وسبيلك الثانية. في تلك التجربة، كررت الباحثتان تجربتهما الأولى مع اختلاف مهم للغاية؛ فقد اختبرتا قدرة الأطفال على تمييز الفرق بين مجموعات تتكون من 8 نقاط و12 نقطة، بدلا من 8 نقاط و16 نقطة. في هذه الحالة، ومع انخفاض النسبة بين الكميتين إلى 2 : 3 (8 : 12) من 1 : 2 (8 : 16)، تغيرت النتائج تغيرا كبيرا؛ فلم يعكس نمط التحديق لدى الأطفال أي إدراك للفرق بين 8 نقاط و12 نقطة.
وهذه النتائج، إضافة إلى غيرها من نتائج الدراسات ذات الصلة التي أجراها علماء نفس النمو، تقدم دليلا واضحا على أن الأطفال يستطيعون تمييز الفروق بين كميات تحتوي على عدد كبير من العناصر، إذا كانت هذه الفروق تمثل نسبة 1 : 2 على الأقل. وهذه النتائج دليل على وجود النظام العددي التقريبي الفطري، مثلما أن دراسة وين دليل على وجود نظام عددي دقيق نسبيا. وكلا النظامين يمثلان مؤشرات إدراكية حاسمة على الإدراك العددي الأكثر دقة لدى البالغين. بالرغم من ذلك، فمثلما رأينا في الفصل الخامس، فإن هذا التفكير الكمي الدقيق لدى البالغين يعتمد على التدخل اللغوي. وقد لاحظت كل من شو وسبيلك عند مناقشة القدرتين العدديتين الفطريتين لدينا أنه: «بينما يتعلم الأطفال معاني مفردات الأعداد والغرض من العد، فقد يجمعون بين هذين النوعين من التمثيل، لتشكيل مفهوم موحد، بشري للغاية ويعتمد على اللغة، للعدد المنفصل.»
6
وليس معنى هذا أن عملية التوحيد هذه سهلة أو مباشرة؛ فالواقع أن قدرا كبيرا من الجدل يثار بين المختصين بشأن كيفية حدوث هذا «الدمج» على وجه التحديد.
توضح مثل هذه الأبحاث التجريبية أن أطفال البشر يمكنهم تمييز بعض الفروق العددية في سن صغيرة. إن الحاستين العدديتين التقريبية والدقيقة، لا يمكنانا من حل معظم المسائل الحسابية بسرعة ودقة، لكنهما يتيحان لنا الفرصة في معرفة كيفية التعامل مع مثل هذه المسائل. بالرغم من ذلك، فالدراسات المعنية لا توضح أن أطفال البشر مزودون بمفاهيم عددية مجردة بحق؛ فإدراك الفرق بين شكل واحد يشبه الدمية وشكلين، أو بين ثماني نقاط وست عشرة نقطة على الشاشة، لا يعني سوى أن الأطفال ينتبهون إلى الاختلافات العددية البصرية. غير أن البعض ربما يقولون: إن ذلك الإدراك لا يعني أن الأطفال يفكرون في الكميات بطرق مجردة، أي طرق لا تعتمد على الإدراك البصري. بعبارة أخرى: ربما لا يكون تمييز الكميات لدى الأطفال عابرا للحواس؛ فقد يميز الأطفال على سبيل المثال أن دميتين على شكل أسد تختلفان عن دمية واحدة في نطاق حاسة البصر. وقد يميزون أيضا أن صوت صفرتين متتاليتين يختلف عن صفرة واحدة في نطاق حاسة السمع، لكن ذلك الإدراك المادي للاختلافات في نطاق حاستين منفصلتين لا يعني بالضرورة أنهم يدركون الرابط بين صفرتين ودميتين على سبيل المثال؛ فهذا الإدراك العابر للحواس للتشابه بين الكميات، سوف يقدم دليلا أقوى على أن ما يحدث في عقول الأطفال هو تفكير عددي في شكل أكثر جوهرية وتجريدا. وربما لا يكون من الغريب إذن أن بعض التجارب الحديثة قد سعت إلى اختبار إدراك الكميات العابر للحواس لدى الأطفال.
وبعض هذه التجارب الأحدث قد تناولت أيضا مشكلة أخرى محتملة في الأعمال السابقة التي أجريت على الإدراك العددي لدى الأطفال، وهو السن المتقدمة للخاضعين للتجربة. وقد تبدو تلك مشكلة غريبة للطرح؛ إذ إن عمر الخاضعين للتجربة في دراسة وين لم يكن يزيد على خمسة أشهر فقط، غير أن إثبات وجود مهارة إدراكية معينة في مثل ذلك العمر لا يعني بالضرورة أنها مهارة غريزية؛ فهذا الدليل بوجودها في مثل هذه السن الصغيرة يدعم ولا شك الادعاء بوجود غرائز رياضية، لكن ذلك لا يوضح لنا أي المهارات الكمية يبدأ الأطفال في صقلها ثقافيا، حتى وإن كان ذلك في مثل هذه السن المبكرة. ويجدر بنا أن نضع في الاعتبار أن الأبحاث التي يجريها معظم علماء نفس النمو مخصصة لاستكشاف الإدراك العددي لدى أطفال ينتمون للثقافات الغربية والصناعية؛ ومن ثم فإن النتائج لا تقدم لنا إلا قدرا ضئيلا من المعلومات فيما يتعلق بأي تأثيرات محتملة عابرة للثقافات بشأن التفكير الرياضي في الشهور الأولى من الطفولة.
7
أما الدراسة البارزة الثالثة التي سنناقشها، التي أجرتها عالمة النفس فيرونيك إزارد وزملاؤها (ومنهم إليزابيث سبيلك)، فهي تتناول نقطتي الجدل السابقتين؛ فالنتائج المثيرة التي توصلت إليها الدراسة تفيد بأن الأطفال يستطيعون تمييز بعض الفروق بين الكميات على أساس مجرد وعابر للحواس، وأنهم يتمكنون من فعل ذلك بعد الميلاد بفترة قصيرة. وجدت إزارد وزملاؤها عددا من أولياء الأمور الذين وافقوا على مشاركة أطفالهم حديثي الولادة في الدراسة، والواقع أنه كان عليهم أن يجدوا العديد من أولياء الأمور الذين يوافقون على هذا؛ إذ إن جزءا صغيرا فقط من الأطفال المختارين للمشاركة، هم الذين أسهموا في نهاية المطاف في نتائج الدراسة. لقد اختير للدراسة ستة وستون طفلا، لكن خمسين من هؤلاء الأطفال قد استبعدوا من العينة الفعلية بسبب انزعاجهم أو بعض المشاكل الأخرى كالنوم، وهو ما يشير إلى مدى صعوبة إجراء مثل هذه الأبحاث! إن من يقومون منا بالأبحاث العابرة للثقافات في بعض الأماكن النائية كالأمازون أو مرتفعات نيو غينيا، قد يشتكون من التحديات الخاصة التي نواجهها عند القيام بالأبحاث الميدانية، لكنه من غير المرجح أن نجد المشاركين في التجربة يغلبهم النعاس في منتصفها. وكان متوسط عمر الأطفال الذين شاركوا في النهاية في تجربة إزارد وزملائها 49 ساعة. وهذه السن الصغيرة تسمح لنا أن ننحي تأثير خبرتهم الحياتية المبكرة بدرجة كبيرة من الثقة. ومثلما أشرنا من قبل فإن الأطفال يرون كميات منتظمة، مثل أصابع أيديهم، وهم في الرحم. إضافة إلى ذلك، فإن الطفل يستطيع أن يسمع نبضات قلب الأم وصوتها قبل الولادة، مما يجعلهم معتادين بعض الشيء على المحفزات السمعية على فترات بينية منتظمة، غير أن الاحتمال ضئيل للغاية بأن يكون للعوامل التجريبية والثقافية تأثير على كيفية تطور الإدراك العددي في الرحم. إضافة إلى ذلك فقد وضحت دراسة إزارد وزملائها أن البشر قادرون على تمييز الكميات بصريا بعد فترة قصيرة من مولدهم، ومن الجلي أنهم لم يتعرضوا لرؤية أي كمية من العناصر وهم في الرحم.
8
لقد قدمت إزارد وزملاؤها دليلا واضحا على أن الأطفال حديثي الولادة قادرون على استخدام نظامهم العددي التقريبي في المقارنة المجردة للكميات عبر حواس متعددة. استمع الأطفال إلى مجموعة من المقاطع، مثل «تو، تو، تو، تو» أو «را، را، را، را». وقد كانت هذه المجموعة تحتوي على عدد ثابت من المقاطع، ويتبع كلا منها فاصل قصير. فعلى سبيل المثال، يستمع الطفل إلى أربعة مقاطع يتبعها فاصل قصير، ثم يستمع إلى أربعة مقاطع أخرى، وهكذا. كان الأطفال يستمعون إلى المحفزات السمعية لمدة دقيقتين، وخلال هذا الوقت، ألف الأطفال كمية المقاطع. وبعد هاتين الدقيقتين، عرض على الأطفال بعض الصور على شاشة كمبيوتر. وكانت هذه الصور تتضمن مصفوفات لعدد محدد من الأشكال زاهية الألوان، تحتوي على أفواه وعيون (لجذب انتباه الأطفال)، التي كانت تتطابق في العدد مع سلسلة المقاطع التي تكررت على مسامع الأطفال. وقد افترضت إزارد وزملاؤها أنه إذا كان الأطفال يتمتعون بالإدراك المجرد للكميات العابر للحواس، فسوف تصدر عنهم استجابات مختلفة تجاه المصفوفات البصرية التي عرضت عليهم بعد المقاطع. فسوف يحدقون لفترة أطول إلى مصفوفات محددة، وفقا لما إذا كانت المصفوفات تتطابق في العدد مع مجموعة المقاطع التي سمعوها للتو. وهذا بالضبط هو ما لاحظه الباحثون؛ فعلى سبيل المثال، عند الاستماع إلى مجموعة تتضمن أربعة مقاطع، كان الأطفال بعدها يحدقون إلى الشاشة حين تحتوي على أربع صور لفترة أطول من تلك التي حدقوا فيها إلى الشاشة حين عرضت اثنتا عشرة صورة. وهم أيضا يحدقون إلى الشاشة حين تتضمن أربع صور لفترة أطول من تلك التي يحدقون فيها إليها حين تتضمن ثماني صور. (وقد كان الاختلاف في فترة التحديق أكبر في الحالة الأولى ؛ إذ إن الفرق بين 4 و12 أكثر وضوحا من الفرق بين 4 و8.) وحين استمع الأطفال إلى مجموعة تتكون من ستة مقاطع، كانوا يحدقون بعدها إلى الشاشة التي تحتوي على ست صور لفترة أطول من تلك التي يحدقون فيها إلى الشاشة التي تحتوي على ثماني عشرة صورة. وقد كان الاختلاف في فترة التحديق في حالات التطابق وعدم التطابق يزيد عن 10 ثوان في معظم الأحيان، وليست تلك بالنتيجة الهينة. وباختصار، فإن فترات التحديق لدى الأطفال كانت تتوافق بدرجة كبيرة مع اهتمامهم الزائد نسبيا بالكميات المتساوية، كما لو أنهم كانوا يدركون وجود تطابق جديد بين الحواس. لقد زادت نتائج إزارد والمجموعة في تأكيد الادعاء القائل بأن البشر يولدون بقدرة فطرية تمكنهم من تقدير عدد المجموعات الكبيرة من العناصر بصورة تقريبية، وهي تشير أيضا إلى أن هذه القدرة تتميز بالتجريد، ولا تقتصر على حاسة واحدة كالبصر.
لقد بينت الدراسات الثلاث التي تناولناها بعض الطرق المبتكرة التي يستخدمها علماء نفس النمو لاستكشاف التفكير العددي لدى الأطفال، وتتطابق هذه الدراسات مع الاستنتاج الأساسي الذي ذكرناه قبل هذه المناقشة، وهو أن البشر يتمتعون بفهم غريزي مجرد للأعداد، وهو يتجلى حتى بعد الميلاد بفترة قصيرة. وهم يمتلكون حاسة عددية فطرية تقديرية ودقيقة.
9
الأطفال والعد
يبدو لنا إذن أن الأطفال يزودون مسبقا بالحاستين العدديتين اللتين يتمتعون بهما منذ مولدهم. غير أن وجود هاتين الحاستين لا يسهم إلا بمقدار في إكمال الصورة التي لدينا عن القدرة التي يتمتع بها البشر على وجه الخصوص على التفكير الرياضي. فبطريقة ما، لا يزال الجزء الأكبر من اللغز قائما؛ إذ إننا لا نعرف الكيفية التي يجري بها دمج حاستينا الفطريتين بعد ذلك، للقيام بالتفكير الرياضي. فمع الطبيعة البدائية لهاتين الحاستين العدديتين، كيف نتمكن على سبيل المثال، من تمييز أن الأخطبوط يمتلك عددا معينا من المجسات، وليس كمية مبهمة فحسب؟ إن مثل ذلك التمييز الكمي الأساسي لا يتوفر لدينا من خلال حاستينا الفطريتين. فكيف ننتقل إذن من النقطة «أ» وهي التمييز الفطري البسيط بين الكميات، إلى النقطة «ب » وهي التفريق الدقيق بين جميع الكميات؟ كيف ننتقل بالفعل إلى عالم الأعداد الطبيعية؟ إحدى الطرق التي يمكننا استخدامها لإيجاد الإجابة (أو الإجابات) المحتملة عن هذا السؤال، هي استكشاف كيفية تقدم الأطفال في التفكير الكمي بينما يتقدمون في السن. لقد أجرى علماء النفس، وما زالوا يجرون، مثل هذه الدراسات. وفيما يلي سوف أستعرض بعض النتائج التوضيحية التي توصل إليها الباحثون خلال مثل هذه الدراسات. وأعتقد أن الدراسات التي ألخصها هنا، تمثل أنواع الطرق التي تستخدم لتحسين فهمنا للكيفية التي يتعلم بها الأطفال المفاهيم العددية. بالرغم من ذلك، فعلينا أن نضع في الاعتبار أنه توجد بالفعل آلاف الدراسات المنشورة عن هذا الموضوع الواسع. وتسهم الدراسات التي سنناقشها في هذا الكتاب في توضيح أن التقدم تجاه الوعي بالأعداد الطبيعية، هو تقدم مضن وتدريجي، وهو يتطلب الممارسة المتكررة مع المحفزات اللغوية.
حتى الجزء الأخير من القرن العشرين، لم تكن المهارات العددية لدى الأطفال في سن ما قبل المدرسة تحظى بالتقدير الكافي بشكل عام، بل كان يعتقد في وقت ما أن الأطفال لا يتعلمون المفاهيم العددية الأساسية حتى سن الخامسة تقريبا. ومن الأدلة التي كان يستند إليها هذا الادعاء هو سلوك الأطفال في سن الرابعة، فيما يعرف باسم «اختبارات الحفاظ». في مثل هذه الاختبارات، يعرض على الأطفال صفان من الأشياء؛ صف به ست كئوس وصف به ست زجاجات على سبيل المثال، ويكون كل عنصر في أحد الصفين أمامه عنصر في الصف الآخر، حتى يكون من الواضح على الأرجح أن المجموعتين متساويتان في العدد. عندما كان الأطفال يسألون أي الصفين أكبر عددا، كانوا يجيبون بأنهما متساويان. أما إذا باعد القائم بالتجربة بين العناصر الموجودة في أحد الصفين، فأصبح صف الكئوس على سبيل المثال أطول من صف الزجاجات، فقد تتغير إجابات الأطفال. في كثير من الأحيان، كانت إجاباتهم في التجارب الأولى على الحفاظ على الكمية، تشير إلى أنهم كانوا يعتقدون أن عدد العناصر في الصفين يختلف بمجرد إطالة أحد الصفين. فقد كانوا يقولون، على سبيل المثال، إن عدد الكئوس أكبر من عدد الزجاجات، بالرغم من عدم إضافة أي كئوس أو إزالة أي زجاجات. ومعنى هذا أنه وفقا لمهام الحفاظ البسيطة هذه، فإن الأطفال فيما دون سن الخامسة، لم يدركوا أبدا أن الكمية تبقى كما هي بصرف النظر عن طول صفي المحفزات اللذين تجري المقارنة بينهما. إن تغيير الحجم الكلي لمجموعة من المحفزات، كان يربك إدراك الأطفال لعدد المحفزات.
بالرغم من ذلك، فحقيقة الأمر أن الأطفال الصغار يستطيعون الحفاظ على الكميات في بعض الأحيان على الأقل، فهم يستطيعون تمييز أي المصفوفتين تحتوي على عدد أكبر من العناصر، بصرف النظر عن طولهما. وقد وضحت بعض التجارب في الوقت الحالي أن النتائج التي حصل عليها الباحثون من مهام الحفاظ الأولى، قد كانت بسبب تشوش الأطفال بعض الشيء، وهو تشوش بشأن أهداف الباحثين. حاول لثانية أن تتصور أنك طفل في مثل هذه التجربة، وقد عرض عليك أحد البالغين، الذي تفترض أنه يعرف عن كيفية عمل الأشياء أكثر منك بكثير، مصفوفتين يمكن التمييز بينهما بصريا، ثم سألك أيهما يحتوي على كمية «أكبر» بالرغم من أنه من الواضح أنهما متساويتان في العدد (نظرا إلى أن كل عنصر في المصفوفة الأولى له ما يقابله في المصفوفة الثانية)، فبماذا يمكنك أن تجيب؟ من الصعب أن نعرف ذلك بالطبع، لكنك قد تؤول سؤاله بأفضل صورة ممكنة لكي تفهم دوافعه التي يفترض أنها خالصة، وربما تفسر الأمر على أن الخط الذي يتضمن كمية «أكبر» هو الذي يغطي مساحة أكبر من الفراغ، لا الخط الذي يحتوي على عدد أكبر من العناصر. وقد تفترض أن الخط الأطول لا بد أنه يحتوي على شيء ما بكمية أكبر من الخط الآخر (المسافة مثلا) وإلا فإن هذا الشخص يسأل سؤالا مضللا؛ لماذا قد يفعل شخص بالغ مثل هذا الشيء؟ ومعنى هذا أن مهام الحفاظ البسيطة تلك ربما لا تخبرنا إلا الشيء القليل عن الإدراك العددي لدى الأطفال، وتخبرنا بدلا من ذلك بقدر أكبر عن مدى الجهد الذي يبذله الأطفال في التوصل إلى الدلالات الاجتماعية خلال المحادثات مع البالغين.
ويدعم هذه الاحتمالية الأخيرة بحث أحدث بشأن هذا الموضوع، الذي قد أثبت الآن أن بعض الأطفال الصغار يستطيعون التمييز حين يكون أحد الخطين يحتوي على عناصر أكثر من الآخر في مهام الحفاظ. والواقع أن إحدى الدراسات قد أثبتت هذا الأمر قبل عدة عقود، وقد قدمت ابتكارا منهجيا مثيرا للاهتمام. فقد عرض الباحثون على الأطفال صفوفا من أشياء يرغبون في أكلها، لا سيما حلوى إم آند إمز. فعلى سبيل المثال شاهد الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة صفين يقابل كل عنصر في أحدهما عنصرا في الصف الآخر، ويحتوي كل منهما على أربع حبات من الحلوى. بعد ذلك تغير أحد الصفين، فأصبح أحدهما أقصر من الآخر مع أنه يحتوي على ست حبات من الحلوى بدلا من أربعة. وبناء على النتائج القديمة فسوف يكون من المتوقع أن يرى الأطفال أن الصف الأطول هو الذي يحتوي على عدد أكبر من الحلوى إذا سئلوا ببساطة أن يختاروا الصف الذي يحتوي على كمية أكبر من العناصر. بالرغم من ذلك، فعندما طلب من الأطفال أن يختاروا صفا من الحلوى ليأكلوه، أي لكي يتناولوا جرعة من إم آند إمز (بالمعنى الأدق)، فقد اختارت الغالبية العظمى من الأطفال الصف الذي يحتوي على عدد أكبر من الحلوى، بالرغم من أنه كان أقصر. وقد اكتشف علماء نفس الطفل الآن أن الأطفال يستطيعون أداء هذه المهمة بمهارة أكبر مما كان يعتقد قبل ذلك، غير أن الجدل ما زال مستمرا بشأن العمر الذي يتمكن فيه الأطفال من الحفاظ على الكميات بهذا الشكل.
10
ولكي نصل إلى فهم أفضل لكيفية انخراط الأطفال مع الأعداد، سنتناول نتائج دراسة بارزة أحدث عن تطور الإدراك لدى الأطفال. (أجريت الدراسة على يد عالمة النفس بجامعة هارفارد، كيرستن كوندري، والعالمة سابقة الذكر إليزابيث سبيلك.) ومن خلال مجموعة من التجارب، وضحت الدراسة أنه حين يتعلم الأطفال الذين يبلغون من العمر 3 سنوات مفردات الأعداد، فإنهم لا يفهمون معناها في البداية إلا بالقدر الضئيل. وبالفعل فإن هذه النتيجة قد دعمتها العديد من الدراسات الحديثة: الأطفال لا يفهمون معاني الأعداد تماما حين يبدءون في تعلمها. وفي الدراسة المعنية، درست الباحثتان ما تمثله الأعداد فعلا للأطفال الذين يبلغ عمرهم 3 سنوات، وقد ركزتا على هذه السن بصفة جزئية؛ لأن هؤلاء الأطفال قد تعرضوا لمفردات الأعداد، لكنهم لم يدرسوا الحساب بصورة مكثفة، وهم يستطيعون في العادة استظهار الأعداد من «واحد» إلى «عشرة». وقد بينت نتائج الدراسة أن الأطفال في سن الثالثة لا يستوعبون المفاهيم المرتبطة بمفردات الأعداد، إلا على مستوى أساسي للغاية. فعلى سبيل المثال، يفهم الأطفال أن الاسم «ثمانية» يستخدم لوصف مجموعة عناصر لها كمية محددة، وهم يدركون أيضا أن «ثمانية» تشير إلى مجموعة لها حجم مختلف عما تشير إليه كلمة مثل «اثنين».
بالرغم من ذلك، فقد وضحت الدراسة أيضا أن الأطفال في عمر الثلاث سنوات لا يدركون الكمية التي تشير إليها كلمة «ثمانية»، ولا ما إذا كانت دائما أكبر من «أربعة» (وذلك من بين إخفاقات أخرى). وبعبارة أخرى: فبالرغم من أن الأطفال في عمر ثلاث سنوات يستطيعون استظهار مفردات الأعداد من «واحد» إلى «عشرة»، فإنهم لا يستوعبون المفاهيم المرتبطة بها مثلما يفهمها البالغون؛ فهم لم يدركوا بعد أن هذه الكلمات تشير إلى كميات محددة. وفي نهاية المطاف، فإن الاستعداد الفطري للأطفال لتمييز الكميات من 1 إلى 3 يساعدهم في فهم مفردات الأعداد التي يسمعونها في كل مكان حولهم. ويبدءون في إدراك المعاني الفعلية لكلمات مثل «واحد» «واثنين» «وثلاثة»، وإن كان ذلك جزئيا على الأقل، بسبب حاستهم العددية الفطرية. ثم يبدأ هذا الإدراك في تنبيههم إلى أن بعض كلمات العد الأخرى تتطابق أيضا مع كميات متتابعة محددة، لكن هذا الإدراك الأخير لا يتم إلا تدريجيا. وليست الحال بالتأكيد أن الأطفال حين يتعلمون مفردات الأعداد التي تشير إلى معظم الكميات، يتعلمون مجرد أسماء للمفاهيم التي يألفونها بالفعل.
11
إن مثل هذا البحث يسهم في توضيح كيفية تشكيل الأعداد الدقيقة في عقول الأطفال على مدار الوقت، بينما يتعرضون لمفردات الأعداد وممارسات العد في بيئتهم الخاصة . وإجماع الرأي الذي يظهر في علم نفس النمو واضح: مهارات التمييز بين الكميات فطرية، في الجوانب التقريبية فحسب، وهي تستلزم دعامات لغوية وثقافية لكي تتطور. ومثلما رأينا في الفصل الخامس، فإن هذه الدعامات لا توجد في جميع ثقافات العالم، لكنها توجد في معظمها. وبينما تختلف الجماعات السكانية في الأساسات العددية التي تستخدمها، أو في مدى اعتمادهم على الرياضيات النظامية، فإن الغالبية العظمى من الثقافات تستخدم أنظمة عددية وما يرتبط بها من أشكال العد. وهذه الاستراتيجيات اللفظية للعد، التي تدعم في كثير من الأحيان بالعد على الأصابع أو أحد أنظمة العد بالعصي، هي أساسية للغاية في تطور المفاهيم العددية في عقول الأطفال.
12
وبالرغم من أن العديد من التفاصيل بخصوص اكتساب الأعداد عند الأطفال لا يزال غامضا، توجد بعض المبادئ الراسخة التي يكتسبها الأطفال بعد تعرضهم بشكل مستمر إلى مصطلحات الأعداد وغيرها من التقنيات المرتبطة بالعد. ومن المبادئ المحورية التي يتعلمها الأطفال الصغار هو «مبدأ الخلف» ويكتسبه الأطفال عادة في سن الرابعة تقريبا، مما يشير إلى الوعي بأن كل عدد في تسلسل العد يدل على كمية تزيد بمقدار واحد تحديدا عن العدد الذي يسبقه. وفهم مبدأ الخلف يشير إلى أن الأطفال قد فهموا أن الأعداد لا تعبر عن الكميات بصورة عشوائية فحسب، بل إن تسلسل الأعداد يؤسس بطريقة تسمح بأن يشير كل عدد إلى كمية تختلف عن العدد السابق عليه بمقدار واحد فحسب.
13
ومن النقاط الأساسية أيضا في طريقنا للتفكير الحسابي، ما نشير إليه باسم «المبدأ الكاردينالي». حين يتعلم الأطفال هذا المبدأ، يدركون أن آخر عدد ينطق به عند عد مجموعة من الأشياء، يصف عدد العناصر في المجموعة التي يجري عدها أو كمية العناصر في المجموعة بأكملها. حين يصل الأطفال إلى مرحلة المعرفة بالمبدأ الكاردينالي، يدركون أن كل عدد يصف حجم مجموعة محدد بدقة، وهو إدراك يتشكل تدريجيا وهم لا يتوصلون إليه بسهولة، ويختلف الوقت المستغرق في التوصل إليه من طفل إلى طفل. بالرغم من ذلك يمر الأطفال بمراحل متوقعة في طريقهم إلى الوصول لهذه المرحلة: في البداية يمرون بمرحلة «معرفة العدد واحد» التي يدركون فيها أن الكلمة «واحد» تمثل مجموعة تتكون من عنصر واحد فقط، ثم يمرون بمرحلة «معرفة العدد اثنين»، ثم «معرفة العدد ثلاثة»، ولا يصلون إلى مرحلة المعرفة بالمبدأ الكاردينالي إلا بعد ذلك. وهم يصلون إلى مرحلة المعرفة بالأعداد واحد واثنين وثلاثة بسهولة نسبية، حتى وإن كان ذلك بصورة جزئية على الأقل؛ وذلك بسبب قدرتهم الفطرية على عد أشياء تتراوح كميتها من 1 إلى 3 بدقة.
إن المبدأ الكاردينالي يساعد الأطفال على إدراك مفهوم التكافؤ العددي (بمعنى أن أي مجموعتين تتساويان في عدد العناصر التي تحتوي عليها كل منهما، يمكن مقابلة كل عنصر من إحداهما بعنصر في الأخرى). وهذا الإنجاز الرائع يستلزم شهورا أو حتى سنوات، وفي خلال هذا الوقت يتعرض الأطفال لعدد هائل من المحفزات اللغوية التي تساعد في جعل الإدراك الأساسي ممكنا. بالرغم من ذلك، فمثلما رأينا في الفصل الخامس، لا يتعرض جميع الأطفال في العالم لهذا القدر الكبير من المحفزات. ونظرا إلى أن الأطفال في بعض الثقافات لا يتعرضون بالقدر الكافي إلى المحفزات الضرورية، فمن غير المحتمل أن يعرفوا المبدأ الكاردينالي، وإدراك التطابق بين كل عنصر والذي يقابله في المجموعات الكبيرة المتساوية عدديا. وبعبارة أخرى: فإن النتائج التي لاحظناها في الجماعات السكانية اللاعددية، تتنبأ بها دراسات علماء نفس النمو، الذين قد وضحوا لنا الكيفية التي يكتسب بها الأطفال المعرفة بالأعداد في الثقافات العددية.
14
لا تزال معرفتنا بشأن الآليات التي تنتج من خلالها مفردات الأعداد والعد المفاهيم المجردة كالمبدأ الكاردينالي تتشكل من خلال الدراسة التجريبية. ومن المثير للاهتمام أن إحدى الدراسات الحديثة التي أجراها فريق من علماء النفس قد بينت أن إيماءات اليد تساعد في تمهيد الطريق للربط بين المفاهيم العددية والكلمات. وقد تضمن الفريق سوزان جولدن مدو، وهي عالمة نفس بجامعة شيكاجو، وقد كانت دائما في طليعة من يدرسون الإيماءات البشرية وما يرتبط بها من عمليات إدراكية. وفي مجموعة من المهام التجريبية التي أجريت على 155 طفلا، درس الباحثون الإيماءات العددية التي يقوم بها الأطفال في المرحلة العمرية ما بين 3 إلى 5 سنوات. وقد وجدوا أن الأطفال الذين لم يفهموا المبدأ الكاردينالي، كان استخدامهم للكلمات للإشارة إلى الكميات أكثر محدودية من استخدامهم للإيماءات للإشارة إلى الكميات نفسها. وقد كان الأطفال يشيرون إلى الكميات الصغيرة من خلال إيماءات اليد بدقة أكبر من الإشارة إليها من خلال الكلمات. ومثلما يذكر الباحثون، فإن النتائج توضح أنه «قبل أن يتعلم الأطفال المعاني الكاردينالية لمفردات الأعداد مثل «اثنين» «وثلاثة» يكونون قادرين على فهم التمثيلات غير اللفظية لأحجام هذه المجموعات والتواصل بشأنها باستخدام الإيماءات».
15
إضافة إلى ذلك، اكتشف علماء النفس أن الأطفال الذين لم يعرفوا المبدأ الكاردينالي بعد، يستطيعون تسمية المجموعات الكبيرة بصورة تقريبية باستخدام أصابعهم، أفضل مما يستطيعون تسميتها باستخدام الكلمات. فيبدو أن التمثيل الإيمائي لبعض المفاهيم العددية يسبق التمثيل اللفظي. وربما لا يكون ذلك مفاجئا؛ نظرا لما للأصابع من مزايا متأصلة في تمثيل بعض الكميات، مقارنة بالكلمات. فيمكن للأصابع تمثيل كمية العناصر في مجموعة صغيرة من خلال مطابقة كل إصبع بعنصر في المجموعة، وذلك من خلال الأصابع المنفصلة التي تستخدم معا في الوقت ذاته لتمثيل كل عنصر. ويكون الأطفال أكثر استعدادا لتقدير الكميات الأكبر بصورة تقريبية من خلال التمثيل البسيط باستخدام اليد الواحدة واليدين على التوالي. أما الكلمات فهي على العكس من ذلك عشوائية في معظم الأحوال، ولا بد من حفظها، ولا يمكن للأطفال استخدامها بسهولة في وصف مجموعة معينة من العناصر، سواء أكان ذلك بصورة دقيقة أم تقريبية.
وتتضح هذه الميزة المتعلقة بالتطور الحيوي للفرد، التي تتسم بها الأصابع واليدان أيضا في الأنماط العابرة للغات في مصطلحات الأعداد التي تناولناها في الفصل الثالث. فعلى أي حال، نجد أن مفردات الأعداد تسمى عادة بأسماء الأصابع واليدين التي كانت تستخدم منذ البداية في تمثيل الكميات، ومنذ البداية مقصود بها من الناحية التاريخية ومن ناحية التطور الحيوي الفردي على حد سواء. بالرغم من ذلك فإن تعلم المفردات التي تعبر عن المفاهيم العددية في نهاية المطاف، ييسر المعالجة الذهنية للكميات بدرجة كبيرة؛ إذ يتعلم الأطفال التعبير عن عدد العناصر بدقة من خلال الإشارات المعجمية. (تكون هذه الإشارة المعجمية الأدق إلى الكميات لفظية لدى معظم الأطفال، ولكن يستطيع الأطفال الصم بالطبع استخدام الإشارات اللغوية من أجل الإشارة إلى الكميات بسرعة ودقة.)
من خلال اكتساب مفردات الأعداد والعد، يتعلم الأطفال مبدأ الخلف، والمبدأ الكاردينالي، ويبدءون أيضا في إدراك أن الكميات الكبيرة تكون متساوية إذا كان كل عنصر في إحدى المجموعات يقابله عنصر في الأخرى، وهم يدركون معنى التساوي الدقيق. وعلينا أن نلاحظ أنه بالرغم من وجود الحاستين العدديتين لدى البشر، فإنهم لم يتمتعوا بأي من هذه المبادئ الأساسية من خلال الغريزة، بل إننا نعمل بجهد على مدار سنوات طفولتنا لكي نكتسبها. ونحن لا نبذل مثل هذا المجهود في تعلمها إلا إذا لقمنا من هم حولنا هبات الأعداد والعد (والواقع أن ذلك يكون في بعض الأحيان في أثناء تلقيننا بالفعل). والذين ينتمون إلى ثقافات لا تستخدم «الكثير» من الأعداد أو ممارسات العد، لا يمتلكون الأدوات نفسها لتيسير هذا المجهود.
16
خاتمة
كيف نقوم إذن بالبناء على حاستينا الفطريتين للتفكير العددي؟ كيف نؤسس صرح التفكير العددي الذي يتميز به البشر؟ من التفسيرات المهمة والمنطقية، ذلك التفسير الذي تقدمه عالمة النفس بجامعة هارفارد سوزان كاري: يتعلم الأطفال مفردات الأعداد، لكنها تكون مجرد مفردات يحفظونها بالترتيب، دون أن يدركوا العلاقة الدقيقة بين الكلمة «اثنين» وبين الكمية 2، على سبيل المثال. وبصفة أساسية تكون الكلمات بمثابة أوعية للمفاهيم التي ستملؤها فيما بعد. ومع مرور الوقت، والتعرض الكافي لمفردات الأعداد تلك، يدرك الأطفال أن بعض مفردات الأعداد لها معان محددة ترتبط بمفاهيم يسهل تمييزها. ولأنهم يتمتعون بقدرة فطرية على التمييز بين المجموعات التي تتكون من عنصر واحد أو عنصرين أو ثلاثة عناصر؛ فإن لديهم نزعة تلقائية لإدراك ما تمثله الكلمات «واحد» «واثنان» «وثلاثة» مثلما أن لديهم نزعة تلقائية لإدراك بعض الاختلافات اللغوية الأخرى مثل صيغة الجمع مقابل صيغة المفرد. فهم يبدءون في إدراك أن هذه الكلمات تصف كميات محددة، ومع القدر الكافي من التعرض يربطون بين الكميات الصحيحة وبين تلك الكلمات. ومثلما أشرنا سابقا، فإنهم يمرون بمرحلة معرفة الواحد أولا، ثم الاثنين، ثم الثلاثة، ثم يبدءون في استنتاج أن الكلمات التي تعلموها بالترتيب، لا بد أنها أيضا تكافئ كميات محددة. وهم يدركون أن ترتيب الكلمات يتوافق مع ترتيب الكميات الذي يختلف بمقدار واحد؛ ومن ثم فإن «ثلاثة» «وأربعة» تجمع بينهما نفس علاقة الإضافة التي تجمع بين «اثنين» «وثلاثة». إن الحاسة العددية التقريبية تزودهم بوعي تأسيسي لحقيقة أن الكميات الكبيرة يمكن تمييزها؛ ولهذا، فمن المرجح أنها تؤدي دورا أساسيا في عملية اكتساب الأعداد الأخرى. وفي نهاية المطاف، يبدأ الأطفال في إدراك أن «خمسة» أكبر من «أربعة» بواحد، «وستة» أكبر من «خمسة» بواحد. ومع القدر الكافي من التعود والممارسة، «يفهمون» مبدأ الخلف تماما، وكذلك المبدأ الكاردينالي، ووجود التساوي الدقيق للكميات الكبيرة، وما إلى ذلك.
17
بصفة أساسية، يمكن للأطفال أن يستخدموا المفاهيم التي توصلوا إليها، مثل فكرة أن «ثلاثة» أكبر من «اثنين» بواحد، ويشكلون مفاهيم أخرى على المنوال نفسه، على سبيل المثال «ستة» أكبر من «خمسة» بواحد. فتكون الكلمات بمثابة علامات إرشادية في هذه العملية، وتخبر الأطفال بأنه لا تزال هناك مفاهيم عددية محددة يجب توليدها. إن تعلم الأعداد ليست عملية لتسمية المفاهيم بقدر ما هي عملية «إضفاء معنى المفاهيم على تسميات محددة.»
18
والتسميات في هذه الحالة هي مفردات الأعداد المتسلسلة، التي لا يفهم الأطفال معانيها في البداية، وتكون بمثابة أوعية للمفاهيم التي تملؤها بعد ذلك بطريقة أنسب. وهذه العملية التي تتمثل في ابتكار مفاهيم جديدة من المفاهيم القديمة؛ من أجل فهم كلمات لم يكتمل تشكيل معانيها بعد، تعرف أحيانا باسم «التدعيم المفاهيمي» إذ يطور الأطفال أنفسهم من الناحية المفاهيمية، وذلك من خلال أدواتهم التمهيدية العددية البسيطة.
والآن يوجد عدد كبير من الأبحاث يدعم هذا التفسير في صورته الأساسية، غير أن القدر الأكبر منها أجري على أطفال في المجتمعات الصناعية الكبيرة؛ ومن ثم فالاتفاق الواضح في الآراء هو أن مفردات الأعداد أساسية لتوسع التطور في التفكير الكمي لدى البشر بما يتجاوز التفكير الفطري المحدود؛ فمفردات الأعداد هي المفتاح الذي يحرر إمكانية استخدام حاستينا العدديتين، أو يزيد من سهولة تحريرها بصورة بارزة على الأقل؛ إذ تساعدنا الممارسة على مفردات الأعداد والعد في نقل التمييز الدقيق للكميات إلى الكميات الكبيرة التي كنا سنميزها على نحو تقريبي وخاطئ لولا ذلك. وهذه القصة مقنعة، ويمكن الوثوق بها، وهي مدعمة بالتجارب. وعلينا أن نلاحظ الدور الأساسي الذي تؤديه اللغة في هذه القصة؛ فبالرغم من أن فهم الأطفال للفروقات العددية إنجاز رائع، فهو يعتمد بصفة أساسية على مفردات الأعداد وممارسات العد.
19
إن هذه المناقشة مقتضبة بكل تأكيد؛ فنحن لم نتناول مختلف النتائج المثيرة، المرتبطة بالطرق التي يتعلم بها الأطفال الأعداد والمهارات الكمية المرتبطة بها. بالرغم من ذلك، فقد ركزت هذه المناقشة على بعض النتائج المهمة المتعلقة بغايتنا الأشمل؛ وهي توضيح الدور الذي تؤديه الأعداد في حياتنا، والدور الذي أدته على مدار تاريخ البشرية. إن الأعداد وطرق العد تغير الطريقة التي يفكر بها الأطفال في الكميات. وهي توفر مستوى جديدا من الدقة في التفكير العددي لدى البشر، وهو لم ينتج ببساطة عن التطور الطبيعي للدماغ، بل هو نتيجة النشأة في ثقافات محددة طورت طرقا للعد وغيره من المهارات ذات الصلة. وهذه الطرق والمهارات تعتمد في النهاية على مفردات الأعداد.
الفصل السابع
الكميات في عقول الحيوانات
بدأ علماء الحيوان مؤخرا في سبر أغوار ذكاء الأنواع الأخرى بطرق جديدة؛ ففي المختبرات والمواقع الميدانية حول العالم، يوضح الباحثون أن الرئيسات وغيرها العديد من أنواع الحيوانات أكثر ذكاء مما قد نتوقع، أو أكثر ذكاء مما كنا نعتقد على الأقل. وسنقدم مثالا على إحدى المهام الإدراكية المعقدة التي كانت تستخدم لاختبار ذكاء الرئيسات، وهي مهمة نفذها العلماء في معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري، في مدينة لايبزيج في ألمانيا. في هذه المهمة، يوضع أحد قردة الشمبانزي في غرفة بها أسطوانة شفافة مصنوعة من مادة البلكسيجلاس، مثبتة في أحد الجدران. وهذه الأسطوانة ضيقة وعميقة إلى حد ما (عرضها 5 سنتيمترات، وطولها 26 سنتيمترا)؛ مما يجعل من المستحيل أن تصل أصابع الشمبانزي إلى قاعها. وفي قاع هذه الأسطوانة، يضع أحد الباحثين حبة من الفول السوداني، وقردة الشمبانزي تحب الفول السوداني؛ ومن ثم فإن الشمبانزي يرغب في أكل حبة الفول السوداني، لكنه مع الأسف الشديد لا يستطيع أن يفعل ذلك. بالرغم من ذلك، فمن حسن الحظ أنه يوجد حل لهذا السيناريو، وإن لم يكن واضحا في البداية. على بعد متر من الأسطوانة، يوجد إناء مياه يمكن للشمبانزي أن يشرب منه. هذا الإناء لا يمكن تحريكه، وكذلك هي الأسطوانة. فما الذي سيفعله شمبانزي جائع؟ إنه يرغب في حبة الفول السوداني لكنه لا يستطيع استخدام يديه، وليس لديه أداة طويلة صلبة لكي يحاول أن يغرسها في حبة الفول. (يشتهر الشمبانزي في البرية بمقدرته على استخدام أدوات الطعن؛ فهم يستخدمونها في قتل صغار الجلاجو على سبيل المثال من أجل الحصول على مقدار ضئيل من البروتين.) وبالرغم من ذلك، فإن ما يمتلكه الشمبانزي هو أداة سائلة؛ إنها المياه التي يستطيع أن يشربها. حين يوضع أطفال البشر في مثل هذا الموقف، فإن العديد منهم يواجهون صعوبة في التوصل إلى حل. والواقع أن الأطفال الذين تقدم إليهم هذه المهمة وهم في سن الرابعة يفشلون في معظم الأحوال تقريبا، ولا ينجح الأطفال في أداء هذه المهمة بانتظام نسبي إلا في سن الثامنة. والحل بالطبع هو نقل المياه من الإناء إلى الأسطوانة حتى تطفو حبة الفول السوداني، وترتفع إلى مكان يمكن الوصول إليه بالأسطوانة. وتستطيع نسبة جيدة من قردة الشمبانزي (الخمس تقريبا) أن تدرك أن عليها استخدام أفواهها لكي تطفو حبة الفول السوداني إلى السطح؛ ولهذا فهم يبصقون المياه على حبة الفول السوداني، بمقدار شربة في كل مرة. وبعضها يتمتع بالقدر الكافي من المثابرة الذي يجعل حبة الفول تطفو في مكان عال بالأسطوانة، فيستطيعون الوصول إليها بأيديهم. لقد نجحوا في المهمة!
1
إن هذه المهمة هي واحدة فقط من المهام التي تشير إلى مدى البراعة الإدراكية التي تتضح لدى أقرب إخوة لنا من الناحية الوراثية، ويوجد الكثير غيرها؛ فالأبحاث التي تجرى على الحيوانات قريبة الصلة منا، والعديد من الحيوانات غير قريبة الصلة، تزيد باستمرار من فهمنا للقدرة الإدراكية لتلك الحيوانات؛ فمن قردة الشمبانزي إلى غربان كاليدونيا الجديدة إلى الحيتان، قد أطاحت سلسلة من الاكتشافات في العقود الماضية الأخيرة بالعديد من الجدران الإدراكية التي كنا نظن أنها تقف بين نوع «الإنسان العاقل» وغيره من الأنواع. وغالبا ما يكشف هذا البحث النقاب عن بعض القدرات الذهنية الأساسية التي تتضح في التجربة التي وصفناها للتو: الحيوانات الأخرى قادرة على التخطيط. وهي قادرة على استخدام الأدوات، والتفكير في حل العديد من المشكلات الحديثة بطرق كنا نظن من قبل أنها مستحيلة.
وقد اتضح أن بعض هذه المشكلات ذات طبيعة حسابية. وفي هذا الفصل سوف ننظر في بعض القدرات الكمية التي تمتلكها بعض الحيوانات الأخرى، مع تناول بعض الأعمال التجريبية التي اكتشفت هذه القدرات. إننا نخصص القدر الأكبر من انتباهنا للأبحاث التي تجرى على قردة الشمبانزي وغيرها من الرئيسات؛ إذ إن هذه الأنواع هي الأكثر ارتباطا إذا كنا نرغب في أن نحظى بفهم أفضل للكيفية التي تطورت بها أشكال التفكير الكمي الفريدة التي يتميز بها البشر. بالرغم من ذلك، فثمة تنبيهان يجدر بنا أن نذكرهما منذ البداية؛ أولهما هو أن تلك الأبحاث التي تجرى على الإدراك لدى الحيوانات، بما في ذلك الإدراك العددي، تتوسع باستمرار. إن تاريخ هذه الدراسة حافل بالمراجعات؛ إذ يكتشف الباحثون قطعا مهارات إدراكية جديدة في عقول الحيوانات، والأرجح أن هذا الوضع سوف يستمر أيضا في السنوات القادمة. وأما التنبيه الثاني، فهو أنه عند النظر في هذه الأبحاث، يجب علينا أن نراعي ألا نكون شديدي التركيز على النوع البشري، أو شديدي التشبيه بالصفات البشرية، عند تأويل النتائج. إن هذه النقطة التي نتناولها تتطلب التوسع؛ إذ إنها أساسية في مجال علم الإنسان وعلم الرئيسات، وغيرها من المجالات المرتبطة. والنقطة الأساسية هنا أنه يجب علينا أن ندع البيانات تتحدث، ونحاول أن نمنع تحيزاتنا الطبيعية من تحديد تأويلاتنا للبيانات وما قد تخبرنا به عن طريقة تفكير الحيوانات وسلوكها. إننا نميل إلى افتراض أن إدراك الحيوانات ليس له علاقة بالأبحاث التي تجرى بشأن البشر؛ ذلك أن البشر بالطبع حيوانات من نوع مميز لهم عقول تختلف تماما عن عقول الحيوانات، أو ربما تجري فيهم روح أثيرية. ويمكن أن نطلق على هذا المنظور أنه بشري التمركز. ووفقا لميول المرء الدينية أو الفكرية النظرية، يمكن أن تكون هذه المكانة التي يحتلها الإنسان في هذا المنظور أمرا جذابا للغاية. بالرغم من ذلك، فمن منظور يستند إلى التجريبية، فإن الأدلة وحدها هي التي يجب أن توجه آراءنا بشأن التفكير لدى الحيوانات. بدلا من افتراض أن الحيوانات تفتقر إلى مهارات إدراكية محددة، مهارات قد يكون من الصعب اكتشافها نظرا لصعوبة التواصل بين الأنواع المختلفة بعضها عن بعض، يجب علينا أن نستبعد وجود مثل هذه المهارات بعناية شديدة.
وعلى العكس من ذلك، فالعديد من الأشخاص يبدون ميلا تلقائيا إلى تبني وجهة النظر المتمثلة في التشبيه بالإنسان، وهي رؤية تفترض مسبقا أن الحيوانات الأخرى تتمتع بأفكار وعواطف تشبه الأفكار والعواطف البشرية، ذلك أن البشر هم «مجرد نوع آخر من الحيوانات.» بالرغم من ذلك، فثمة أسباب وجيهة تدعو إلى الارتياب في أن الحالة الثانية ليست هي الصحيحة، ويجب علينا أن نحرص على ألا نسقط السمات البشرية على أفكار الحيوانات وسلوكياتهم، حين تكون البيانات ملتبسة. في تفاعلاتي المتكررة مع طلبة الجامعة، أجد أن الموقف الأخير هو السائد في معظم الحالات، ويعود ذلك جزئيا إلى التجارب التي تجرى على الحيوانات الأليفة وغيرها من الحيوانات، التي غالبا ما يشعر الأفراد برابطة حميمية معها. إن تصفح موقع فيسبوك أو ريديت أو غيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر لنا دائما مقاطع فيديو أو حكايات عن حيوانات أليفة تعبر ظاهريا عن «حبها» لأصحابها أو «صداقتها» معهم. وبالرغم من أن تكوين الحيوانات لعلاقات مع البشر هو أمر لا جدال فيه (يقترح بعض العلماء في مجال علم الإنسان أن العلاقات بين البشر والحيوانات كانت أساسية في تطور الثقافة)، فإنه يظل من الصعب أن نقرر ما يدور فعليا في عقول الأنواع الأخرى. فعلى سبيل المثال، ما مقدار ما يصدر عنها من سلوكيات بسبب «مشاعرها» نحونا، أو نحو بعضها بعضا، ومقدار ما يصدر عنها بسبب العلاقات المتوقعة بين المحفز والاستجابة؟ وحين تفكر الحيوانات وتعبر عن مشاعرها، هل تفعل ذلك بطريقة تسمح لنا نحن - أفراد النوع الذي استفاد من الأدمغة الأكبر حجما، وكذلك الثقافة واللغة - بإدراك هذه الأفكار والمشاعر، على أنها تشبه أفكارنا ومشاعرنا بأي شكل من الأشكال؟ إن الإجابات المناسبة عن مثل هذه الأسئلة يصعب التوصل إليها، بالرغم من أي تخمينات حدسية قد نطرحها. وبالرغم من أنه قد يكون لدينا ميل شخصي قوي تجاه وجهة النظر البشرية التمركز، أو وجهة النظر المتمثلة في تشبيه الحيوانات بالصفات البشرية، فإن هذا الميل قد تأسس على الأرجح بناء على خبراتنا السردية. وفي نهاية المطاف، يكون تأويل الخبرات الشخصية أساسا غير مرض للاستنتاجات ذات الطبيعة العلمية، والدليل على ذلك أن التخمينات الحدسية الشخصية بشأن مثل هذه الموضوعات يمكن أن تختلف بدرجة كبيرة. بعبارة أخرى: التخمينات الحدسية بشأن الإدراك لدى الأنواع الأخرى، تخبر عنا أكثر مما تخبر عنها.
2
في سياق التفكير العددي لدى الحيوانات، نجد قصة يستشهد بها كثيرا، غير أنها لا تزال قصة تحذيرية مهمة، وهي قصة هانز الذكي. وقد كان هانز الذكي حصانا جميلا من سلالة أورلوف تروتر. وكان صاحب هذا الحصان رجلا ألمانيا يدعى فيلهلم فون أوستن، ويبدو أنه كانت له مجموعة من الاهتمامات الاصطفائية، وكان منها تدريس الرياضيات لهانز، وممارسة الفراسة، التي قد أصبحت الآن مجالا بائدا من الدراسة، كان مختصا بدراسة الجماجم البشرية في محاولة لاستكشاف القوالب الأساسية للدماغ، التي يفترض أنها مخصصة لمهارات عقلية محددة. وكان من اهتماماته في العقد الأول من القرن العشرين أن يوضح للجمهور أن هانز قادر على أداء مجموعة متنوعة من المهام الإدراكية المعقدة، كان من بينها قراءة بعض الكلمات الألمانية وتهجيها، وكذلك فهم التقويم وإيجاد الحلول لجميع المسائل الرياضية. وفي مثل هذه المهام، كان هانز يوضح كفاءته في المهارات العقلية ذات الصلة من خلال النقر بحافره على الأرض لعدد معين من المرات. فعلى سبيل المثال، إذا طلب فون أوستن من هانز أن يطرح 8 من 12، كان هانز سيضرب بحافره على الأرض لأربع مرات. والواقع أن العديد من المسائل الرياضية التي كان يبدو أن هانز يحلها، كانت أعقد من ذلك بكثير، وقد أبهر الحشود في ألمانيا بقدرته على الإجابة عن معظم الأسئلة بشكل صحيح. لقد أصبح شخصية مشهورة بشكل ما، وذاع نبؤه في بعض المنشورات التي تصدر بعيدا مثل صحيفة «نيويورك تايمز».
3
والآن، فمثلما قد خمنت على الأرجح، لم يكن هانز قادرا بالفعل على أداء العمليات الحسابية، ولا هو كان قادرا على فهم اللغة الألمانية؛ ولهذا فقد يتساءل المرء: كيف تسنى لفون أوستن أن يخدع الجمهور من خلال التلميح لهانز بطرق لا يكتشفها الجمهور؟ حسنا، هنا تأخذ القصة منحنى غير متوقع؛ فون أوستن لم يكن يخدع جمهوره (ولا حتى كان يتقاضى منهم أي مال). والحق أنه حين كان يسمح لأشخاص آخرين بأن يطرحوا على هانز الأسئلة، لم يكن أداء الحصان يتراجع تراجعا كبيرا. وحتى حين كان هؤلاء الأشخاص لا يعرفون هانز ولا فون أوستن، كان يبدو أن هانز يفهم أسئلتهم ويستطيع أن يجيب عنها إجابات صحيحة في معظم الأحوال. يظهر في المشهد أوسكار بفونجست، وهو عالم نفس ألماني كان أقل إعجابا بكثير من هذه الحشود المنبهرة بالعرض الفرسي، كان بفونجست واثقا من وجود شيء محير في هذا الأمر، ثمة عامل متغير آخر كان يمكن هانز من التعبير عن الإجابة الصحيحة عن طريق النقر بحافره على الأرض. ومن خلال مجموعة من التجارب، أثبت بفونجست أن هانز ليس بارعا في حقيقة الأمر في الرياضيات؛ فحين كان هانز لا يستطيع رؤية الشخص الذي يطرح عليه السؤال، كان نقره على الأرض يتراجع إلى إجابات عشوائية. علاوة على ذلك، وهذه نقطة مهمة، حين كان هانز يستطيع رؤية الشخص الذي يسأله، لكن هذا الشخص نفسه لا يعرف إجابة السؤال، كان أداء هانز يتراجع كذلك.
يمكننا أن نستخلص نتيجتين على الأقل من هذه القصة التحذيرية؛ أولا: بالرغم من أن الحيوانات مثل هانز قد لا يكونون بارعين في الرياضيات أو القراءة، فهم أفضل مما قد نعتقد بكثير في تمييز المعلومات البصرية التي يقدمها لهم البشر. بالرغم من أن السائلين لم يكونوا يتعمدون الكشف عن الإجابة لهانز، فقد كانوا يقدمون له بعض التلميحات البصرية الخفية، التي أفادت أداءه. وقد أوضح الفحص الدقيق أن رءوسهم كانت تتحرك قليلا حين كانت سلسلة النقرات التي يصدرها هانز تقترب من الإجابة الصحيحة. وبطريقة ما، كان هانز يلاحظ هذا التلميح غير المتعمد في التواصل. ثانيا: يجب علينا أن نكون واعين بالنزعة لتشبيه الحيوانات الخاضعة للتجارب، ببعض الصفات البشرية؛ ففي حالة فون أوستن على سبيل المثال، قد واصل اصطحابه في جولات بعد دراسة بفونجست للحيوان، وظل غير مقتنع بالنتائج التي توصل إليها عالم النفس. لقد فقد فون أوستن حسه الموضوعي، ويبدو أن ذلك لأنه أسقط بعض السمات البشرية على هانز، وربما يعود ذلك جزئيا إلى الرابطة التي نمت بينهما.
لا تزال قصة تأثير هانز الذكي تتداول اليوم بسبب دروسها الأساسية، والتي لا تزال تنطبق على الوضع في الوقت الحالي، بقدر ما كانت تنطبق قبل أكثر من قرن. ولتتأمل قصة الغوريلا كوكو، التي كان يزعم أنها تستطيع أن تتحدث «لغة إشارة الغوريلا»؛ ومن ثم التواصل مع البشر. وهذا أيضا قد جعل من كوكو شخصية شهيرة بعض الشيء، وقد تفاعلت مع ويليام شانتر، وروبن ويليامز، والسيد روجرز، والعديد غيرهم من الشخصيات المشهورة. بالرغم من ذلك، فقد ظهرت على مدار السنوات العديد من الانتقادات التي وجهت للبحث الذي قامت به فرانسين باترسون، نظرا إلى الرابطة القوية التي تجمع بين فرانسين وكوكو. وقد أوضحت هذه الانتقادات بشكل مقنع أنه من الصعب أن نستنتج من تفاعلات باترسون مع كوكو، نطاق المهارات الإدراكية والتواصلية لدى قردة الغوريلا؛ فحين تنشأ بين الحيوانات ومدربيهم علاقات اجتماعية قوية، فإن المدربين لا يحتفظون بالموضوعية التامة في معظم الأحوال، وقد يميلون إلى إنتاج تأويلات تتسم بإضفاء سمات بشرية على الحيوانات.
وتفسير تأثير هانز الذكي أيضا ليس أمرا مباشرا مثلما قد يبدو ذلك؛ فقد يقترح أحدهم على سبيل المثال ألا يحضر المدربون عند إجراء التجارب، أو استخدام التجارب مزدوجة التعمية فقط. إن تنفيذ هذه الاقتراحات ليس بالأمر السهل، بل ربما يكون مستحيلا في معظم الحالات؛ ففي معظم الأحيان، تستلزم التجارب أن تطيع الحيوانات تعليمات المدربين الذين يثقون بهم، وتجمعهم معا رابطة اجتماعية خارج سياقات المختبر. وإبعاد المدربين عن مثل هذه السياقات يمكن أن يؤدي بسرعة إلى فشل المشروع بأكمله.
إضافة إلى مثل هذه المخاوف، فالأنواع غير البشرية لا تمتلك مهارات التواصل اللغوية بالطبع؛ ومن ثم فإن ما ناقشناه في الفصل السادس من تحديات منهجية تتعلق بالدراسات على الأطفال الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد، تنطبق أيضا على الحيوانات. فبطريقة ما، من المدهش أننا نعرف أي شيء على الإطلاق عن الإدراك الرياضي لدى الحيوانات. وليس من المفاجئ أن بعض الخلافات بشأن نطاق الإدراك العددي لديهم لا تزال قائمة حتى اليوم. على أي حال، فبالرغم من هذه الخلافات المستمرة، ومجموعة التحديات المنهجية المرتبطة بمثل هذا العمل، فقد بدأنا في فهم القدرات العددية لدى العديد من الأنواع، إضافة إلى البشر. وبالرغم من أن الحيوانات قد تكون غير قادرة على حل المسائل الرياضية مثل تلك التي كانت تطرح على هانز الذكي، فقد اتضح أن إدراكها العددي لا يختلف كثيرا عن الإدراك العددي لدى أطفال البشر.
الإدراك العددي لدى غير الرئيسات
تظهر مطابقة الكميات في سلوك الحيوانات بطرق غير متوقعة وبشكل دائم. فلتتأمل ما يلي: في عام 1831، نقل تجار الفراء في أونتاريو أن جماعة أوجيبواي من السكان الأصليين، كانت تواجه نقصا حادا في الغذاء والفراء؛ لأن أحد فرائسهم الأساسية، وهو أرنب حذاء الثلوج البري، قد بدا أنه يختفي. وليس مصادفة أن تجار الفراء في شركة هدسون باي، قد أذاعوا وجود نقص مماثل في حيوانات الوشق الثمينة للغاية بسبب فرائها الناعم . ولأن حيوانات الوشق هي أيضا تتغذى على الأرانب البرية؛ يبدو أن نقص النوع الأخير قد ساهم في نقص عدد النوع الأول. وتوضح سجلات شركة هدسون باي، التي يعود تاريخها إلى سبعينيات القرن السابع عشر، أن هذا النقص في أعداد حيوانات الوشق والنقص في الأرانب البرية قد تزامن حدوثهما معا على فترات منتظمة تبلغ عشر سنوات. والآن، تقترح دراسات واسعة النطاق أن هذا النقص المنتظم في عدد أفراد النوعين، يعود إلى أنماط يمكن التنبؤ بها تتعلق بالزيادة الفائضة في عدد الأفراد. فحين تصل بيئة محلية إلى درجة التشبع ولا يمكنها الاحتفاظ بعدد أكبر من الأرانب البرية بسبب تناسلها الخارج عن السيطرة، فإن ذلك يمكن أن يشكل ضغطا على الموارد الغذائية؛ ومن ثم حدوث انخفاض بارز في معدلات تناسل الأرانب البرية. وهذا الانخفاض يكون له تأثير غير مباشر على أنواع أخرى كالوشق، على فترات زمنية منتظمة إلى حد ما تبلغ عشر سنوات.
4
أو يمكننا أن نتأمل مثال حشرات الزيزيات، وهي عائلة من الحشرات لها ما يزيد على 2000 نوع، ومنها جنس الزيزيات الدورية، الذي يقضي الجزء الأكبر من دورة حياته تحت الأرض يتغذى فيه على جذور الأشجار، ولا تخرج هذه الحشرات من تحت الأرض إلا لكي تتكاثر بأعداد كبيرة للغاية. وبعد شهرين تقريبا، وهي الفترة التي تتزاوج فيها هذه الحشرات وتضع البيض للجيل التالي، تختفي الزيزيات البالغة مرة أخرى. ووفقا لما يقوله السكان، فإن الزيزيات البالغة لا تظهر مرة أخرى إلا بعد 13 أو 17 عاما . وهذه الدورة طويلة للغاية ومنتظمة للغاية، فكأن هذه الحشرات تعد السنوات إلى أن يحين موعد ظهورها من جديد، غير أن الأمر ليس كذلك بالطبع. وما يبدو أنه قد حدث هو أن الطبيعة قد انتقت لصالح الزيزيات دورة الظهور تلك؛ فمعظم الحيوانات التي تتغذى على الزيزيات، تكون دورة التكاثر لديها من سنتين إلى 10 سنوات. تخيل لو أن الزيزيات تظهر كل 12 عاما على سبيل المثال، عندها كانت ستصبح فريسة أسهل لجميع الأنواع المفترسة التي تأتي دورة تكاثرها كل عامين أو ثلاثة أعوام أو أربعة أعوام أو ستة أعوام؛ إذ إن العدد 12 يقبل القسمة على 2 و3 و4 و6؛ ومن ثم يمكننا أن نتوقع أن الزيزيات إذا تبعت دورة تكاثر كل 12 عاما، سوف تواجه تحديات أعظم في التكاثر. على العكس من ذلك، فإن الزيزيات عندما تتبع دورات تكاثر أطول، وتتكرر على فترات زمنية منتظمة مثل 13 عاما أو 17 عاما، ستواجه تحديات أقل من الأنواع الأخرى؛ فهذان العددان من الأعداد الأولية ولا تسهل قسمتهما مثل العدد 12 على سبيل المثال. إن الضغوطات البيئية قد انتقت لصالح الزيزيات دورات تكاثر من الأعداد الأولية، ولغير صالح الحشرات التي تتبع دورات تكاثر من أعداد تقبل قسمتها بشكل متساو.
5
إن مثالي أرانب حذاء الثلوج البرية والزيزيات، يوضحان أن الكميات المنتظمة تظهر في سلوك الأنواع غير البشرية، ومنها الحشرات. غير أنهما يوضحان أيضا أن ظهور هذه الكميات المنتظمة، لا يستلزم أن تتمتع الحيوانات الأخرى بقدرات الإدراك العددي. وفي العديد من الحالات يمكننا أن نفترض أنها لا تتمتع بها، وذلك على سبيل المثال، بسبب المحدودية المتأصلة في الأنظمة العصبية للحشرات. على سبيل المثال، نحن نعرف أن بعض أنواع النمل لديها القدرة على التمييز الميكانيكي لعدد الخطوات التي قطعتها لكي تصل إلى مكان محدد، لكن ذلك الإدراك لا يشير بشكل مؤكد إلى أن النمل يستطيع استيعاب الكميات.
6
بالرغم من ذلك، فحين يمتد نقاشنا لكي يشمل كائنات أكثر تعقيدا مثل السمادل وأنواع متعددة من الأسماك، فإننا نجد أن العديد من الأنواع التي تقع على أغصان بعيدة من شجرة الحياة تتمتع بقدرات إدراكية لتمييز الفرق بين الكميات الكبيرة والصغيرة. غير أنه لا يتضح لنا في مثل هذه الحالات ما إذا كانت هذه القدرات الظاهرية في تقدير الكميات، تعود إلى بعض العوامل غير المحددة مثل الحجم الكبير أو الكثافة أو الحركة المرتبطة بالكميات الكبيرة. فلننظر في حالة السمادل؛ في إحدى الدراسات، خير الباحثون السمادل بين أنبوبين مملوءين بوجبة شهية، وهي ذباب الفاكهة، وبين ثلاثة أنابيب مملوءة أيضا بها، وتلقائيا، اختارت السمادل الاختيار الذي يحتوي على عدد أكبر من ذباب الفاكهة. بالرغم من ذلك، في دراسة أخرى، اكتشف الباحثون أن اختيار السمادل لوجبة شهية أخرى، وهي الصراصير الحية، كان يتوقف على كمية الحركة التي تقوم بها الحشرات التي يرونها. وعند الحد من هذه الحركة، بدا أن اختيار السمادل لكمية الصراصير التي يرونها، كان عشوائيا، أي إن السمادل تميز الكمية المتواصلة لشيء ما (الحركة الكلية) حين تقوم بمثل هذه الاختيارات، لكنها لا تميز الكميات الفردية، مثل 2 و3 وما إلى ذلك. لقد أوضحت الكثير من الدراسات التي أجريت في البرية أن أنواعا كثيرة يمكن أن تكون انطباعات عن الكمية الأكبر من شيء ما، غير أن الدراسات التي تجرى خارج المختبرات لا تستطيع التحكم في متغيرات هي ضرورية لفهم مقدار ما يعود من قدرة الحيوانات على إدراك كميات الحيوانات الأخرى، إلى القدرة على التمييز بين الأكثر أو الأقل من «الأشياء»، أو الحركة المستمرة، مقارنة بقدرة الحيوانات على التمييز بين الكميات على نحو منفصل.
7
إن الفئران، التي لا ننظر إليها عادة على أنها أحد أنواع الثدييات القريبة لنوعنا، تشترك في جزء كبير مع السلالة البشرية، وهي قادرة على تمييز الكميات. لقد ثبت هذا الأمر منذ أكثر من أربعة عقود الآن؛ ففي دراسة أجريت عام 1971، اكتشف الباحثون أنه يمكن تدريب الفئران على الأعداد التقريبية؛ فالفئران التي كانت تتلقى مكافأة على الضغط على ذراع رفع لعدد محدد من المرات، كانت تقترب من بلوغ هذا العدد بعد التمرين. فعلى سبيل المثال، عند مكافأة أحد الفئران بعد الضغط على ذراع الرفع لخمس مرات، وكانت تتوفر أمامه الفرصة لدفع الذراع بعد ذلك، فإنه كان يدفعه لخمس مرات تقريبا. وكلمة «تقريبا» هنا أساسية للغاية؛ فالفئران لا تتذكر أنه يجب عليها دفع الذراع لخمس مرات على وجه التحديد، لكنها تستطيع أن تتذكر أنه يجب عليها دفع الذراع حوالي خمس مرات. وفي مثل هذه الحالات، فسوف يكونون أقرب إلى دفع الذراع خمس مرات من دفعه ثماني مرات، على سبيل المثال. بالرغم من ذلك، فإن نطاق الأخطاء في عدد المرات التي يرفع فيها الفئران الذراع، يزداد مع زيادة الكمية المستهدفة. وبالرغم من أن استجابات الفئران في دراسة عام 1971، كانت فوضوية، فقد كانت تتوزع بصورة طبيعية حول الكمية التي دربوا عليها. وهذه الاستجابات ذات الصوت المزعج، والصحيحة في معظم الأحيان، تشير إلى أن الفئران كغيرها من العديد من الأنواع الأخرى، وكالبشر الذين لا يعرفون الأعداد؛ غير قادرة على التمييز بدقة بين الكميات؛ غير أنها قادرة على تحديد الكميات بصورة تقريبية، وحقيقة أن هذا النوع من الثدييات بعيدة الصلة بالبشر، يستطيع تمييز الكميات بصورة تقريبية، تقترح أن الحاسة العددية التقريبية لدى البشر كانت موجودة في سلفنا المشترك مع الفئران. وقد كان ذلك النوع موجودا قبل ستين مليون عام على الأقل.
8
بعض الأنواع الأبعد صلة بالبشر تتشارك معهم أيضا في القدرة على تحديد الكميات بصورة تقريبية، غير أنه ليس من الواضح في مثل هذه الحالات أن ذلك يعود إلى وراثتنا المشتركة للقدرات العددية الفطرية. ومعنى هذا أن الحيوانات الأخرى تتمتع بمهارات إدراكية «مماثلة» لا مهارات إدراكية «متناددة». والسمات المماثلة هي سمات مشابهة توجد على مستوى النوع؛ إذ تطورت بشكل مستقل للتغلب على تحديات بيئية متشابهة. وعلى العكس من ذلك، فالسمات المتناددة تشير للخصائص التي توجد في العديد من الأنواع لوجود أسلاف مشتركة بينها؛ على سبيل المثال، الأرجل الأربعة لدى الأسود والدببة سمة متناددة، أما أجنحة الفراشات، والوطاويط، والطيور، فهي سمات مماثلة.
بعض أنواع الطيور التي لا تجمعها بالبشر إلا صلة بعيدة، تتمتع بالقدرة على تقدير الكميات، غير أنه ليس من المؤكد مقدار ما يعود من هذه القدرة إلى العناصر الإدراكية المتناددة أو المماثلة، مقارنة بالبشر. ثمة قصص وأساطير عن طيور تستطيع العد بصورة دقيقة، لكن من الصعب أن نلغي تأثير العناصر الملفقة في مثل هذه الحكايات. علاوة على ذلك، فالعديد من البشر الذين يمتلكون طيورا أليفة، مقتنعون بأن هذه الطيور (أو غيرها من الحيوانات الأليفة على أي حال) تتمتع بقدرات رياضية. غير أن هذه الحكايات القصصية لا تدخل في نطاق نقاشنا هنا؛ وذلك بسبب عوامل كتأثير هانز الذكي، ونزعتنا إلى إسقاط السمات البشرية على الحالة العاطفية والحالة الإدراكية لحيواناتنا الأليفة، دون سبب مقنع. بالرغم من ذلك، ومع تنحية مثل هذه الحكايات جانبا، فإن لدينا أدلة تجريبية قوية توضح أن العديد من غير الرئيسات، ومنها الطيور والفئران، تستطيع تحديد الكميات على نحو تقريبي. غير أنه حتى في التجارب التي تجرى على حيوانات ذكية نسبيا (مقارنة بالسمادل على سبيل المثال)، فمن الصعب أن نضبط جميع العوامل المتغيرة لكي نضمن أن مهارة التقريب التي نكشف عنها لها طبيعة كمية بالفعل.
فلننظر في هذا المثال؛ حين قدم الباحثون إلى إناث الأسد في متنزه سيرينجيتي تسجيلا صوتيا لأنثى أسد أخرى تزأر، اقتربت الإناث في الغالب من مصدر الصوت لكي تدرأ الدخيلة المزيفة. وعلى العكس من ذلك، حين سمعت إناث الأسد تسجيلا لثلاث من إناث الأسد، لم تكن تقترب من مصدر الصوت في معظم الأحوال؛ فهل تستطيع إناث الأسد عد مصادر الزئير الذي تسمعه؟ ربما، ولكن من الصعب التأكد من مثل هذه المهمة؛ ربما كانت تحدد فقط السعة العامة للزئير، ربما لديها علاقة غامضة بين مقدار الزئير ومقدار الخطر، بدون التمييز بين كمية أي من المتغيرين بمصطلحات عددية مجردة. وبصرف النظر عن التفاصيل، فإن القدرات الإدراكية الحسية لدى إناث الأسد، تفيدهم في زيادة فرص البقاء؛ إذ تجنبهم المخاطر غير الضرورية، وهي تشير إلى أن إناث الأسود تستطيع تمييز عدد الأسود الأخرى التي تصدر ما تسمعه من زئير. وفي سياق مماثل ، فمن المعروف أن الحمام يستطيع دائما أن يختار الكمية الأكبر من الغذاء دون تدريب. وهذا الانحياز في الاختيار أيضا، يضفي مزايا واضحة على فرص بقاء الحيوان وتكاثره؛ فتجنب الخطر أو اختيار غذاء يحتوي على عدد أكبر من السعرات الحرارية، أو تقدير الكميات، كل ذلك يساعد الحيوانات على التفوق في بيئاتها المختلفة.
9
ما يبدو واضحا من هذه النتائج وغيرها، هو أن العديد من الأنواع تستطيع التمييز بين الكميات بشكل تقريبي. غير أن هذه النتائج تشير أيضا إلى أن تمييز الكميات يعتمد في بعض الأحيان على الإدراك التقريبي لبعض العوامل المستمرة (أي إن بعض الاختيارات في المواقف التجريبية وغير التجريبية، يعكس تفضيلا «للكمية» الأكبر من عنصر ما). ومثلما أشار عالم الإدراك كريستيان أجريلو مؤخرا إلى أن «العددية تتغير تغيرا مصاحبا لبعض السمات المادية الأخرى (وهي المساحة التراكمية للسطح أو السطوع أو الكثافة أو المساحة الإجمالية التي تشغلها المجموعات)، ويمكن للكائنات استخدام الحجم النسبي للمتغيرات المستمرة، لتقدير أي المجموعات أكبر أو أصغر.»
10
وتمييز مقدار مثل هذه السمات ذات الصلة، يقدم مزايا واضحة لبقاء الأنواع ونجاحها في التكاثر. بالرغم من ذلك، فهذه القدرات تختلف في طبيعتها عن القدرتين العدديتين لدى البشر؛ القدرة على تمييز المجموعات الصغيرة، والتعرف على عددها بصريا بسرعة وتلقائية، والقدرة على التوصل إلى عدد المجموعات الكبيرة بشكل تقريبي.
غير أن بعض الأبحاث التجريبية تقترح بقدر أكبر من الوضوح أن بعض أنواع غير الرئيسات، تتشارك معنا في واحدة على الأقل من هاتين القدرتين العدديتين، وهي الحاسة العددية التقريبية الفطرية. إضافة إلى ذلك، ففي حالة عدد قليل من الحيوانات التي أجريت عليها الاختبارات، مثل الكلاب أو طيور أبي الحناء النيوزلندي، يبدو أنها تستطيع تمييز عدد العناصر في المجموعات الصغيرة بدقة، كالإنسان تقريبا. وبالفعل، فقد أوضحت الأبحاث أن طيور أبي الحناء النيوزلندي قادرة على التمييز بين عنصر واحد مقابل عنصرين، وكذلك بين عنصرين مقابل ثلاثة عناصر، وثلاثة عناصر مقابل أربعة عناصر. بالرغم من ذلك، فعند المقارنة بين مجموعات يزيد عددها على أربعة عناصر، لا تنجح في التمييز إلا أن يكون معدل الفرق بين المجموعتين 1 : 2 على الأقل، أي إذا كان عليهم الاختيار مثلا بين أربعة عناصر وثمانية. وهذا الاستعداد لتمييز الكميات الصغيرة بدقة، وتمييز الكميات الكبيرة بشكل تقريبي، يذكرنا للغاية بما لاحظناه فيما يتعلق بالبشر الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد، والبشر الذين ينتمون إلى ثقافات لا عددية.
11
ومن المثير للدهشة أن بعضا من أفضل الأدلة المستقاة من أنواع مختلفة، بشأن الأنظمة المحددة لتمييز الأعداد، يأتي من نوع أبعد صلة بالبشر من ناحية تطور النوع. لقد أثبتت الأعمال البحثية الحديثة أن أسماك الجوبي (وهي نوع من الأسماك الصغيرة) تستطيع تمييز الكميات الصغيرة وتقدير الكميات الكبيرة كذلك. لقد قام الباحثون في مجال الإدراك لدى الحيوانات بوضع أسماك الجوبي؛ كل بمفردها في بيئة تستطيع فيها الاختيار بين الانضمام إلى واحدة من مجموعتين ظاهرتين. وحين كان عدد كلتا المجموعتين يزيد على أربع سمكات، كانت الأسماك تختار الانضمام إلى المجموعة الأكبر، التي ستكون أكثر أمنا في أغلب الأحوال، غير أنها كانت تستفيد في هذا الاختيار من وجود فرق كبير في النسبة بين المجموعتين. ومعنى هذا أنها كانت تختار المجموعة الأكبر في معظم الأحوال، إذا كان الاختلاف بين عددها وبين عدد المجموعة الأصغر بنسبة 2 : 1 أو 3 : 1 أو 4 : 1، وتزداد احتمالية اختيارها، بزيادة حجم النسبة بين الخيارين. وأيضا كانت أسماك الجوبي تختار المجموعة الأكبر عادة من مجموعتين، حين كانت كل مجموعة تحتوي على أربع سمكات أو أقل. ومن المثير للاهتمام أن هذا الاتساق في الاختيار لم يتأثر وفقا للنسبة في الكميات الأصغر. فإذا كانت إحدى المجموعتين تحتوي على سمكتين، والأخرى تحتوي على أربع سمكات، كانت الأسماك تختار المجموعة الأخيرة في ثلثي المرات تقريبا. وحتى حين كانت إحدى المجموعتين تحتوي على ثلاث سمكات، وتحتوي الأخرى على أربع، كان السمك لا يزال يختار المجموعة الأخيرة في ثلثي المرات تقريبا. وبالرغم من أن البشر يؤدون مثل هذه المهام بدقة أكبر من ذلك بكثير، فثمة تشابه مثير للاهتمام في استجابات الأسماك. إنها مثلنا، يبدو أنها تميز الكميات الصغيرة بدقة، مقارنة بتمييزها للكميات الكبيرة.
12
لقد تعلم الباحثون القدر الكبير عن الإدراك العددي لدى أنواع الرئيسات فيما دون البشر، لكن ما لم يتعلموه بعد لا يزال أكبر. إن الصورة التي ترسمها الأعمال المعنية بهذا الموضوع، التي لم أشرح منها إلا القدر القليل، لا تزال غير واضحة؛ ففي حالة العديد من الأنواع، يبدو أن تمييز الكميات يستند بصفة أساسية على الإدراك الحسي للمتغيرات المستمرة، مثل مقدار ما يدركونه من حركة. إضافة إلى ذلك، فإن استراتيجيات التمييز التي تستخدمها بعض أنواع من غير الرئيسات ، يمكن أن تختلف وفقا للمهمة أو للمحفز الذي تتضمنه المهمة، وسوف تستمر الأعمال المستقبلية في اختبار مثل هذه المتغيرات. وستكون هذه الأبحاث محورية في فهمنا لتطور الأنظمة العددية البيولوجية العصبية، مثل تلك الموجودة لدى الإنسان. فنحن لا نعرف حتى الآن، على سبيل المثال، مدى تميز الإدراك العددي لدى الفقاريات، أو مدى تميز المهارات العددية الفطرية لدى الرئيسات، مقارنة بغيرها من الفقاريات الذكية مثل الطيور. علاوة على ذلك، فلا تزال هناك فجوات واضحة في سجل التجارب على الحيوانات الأخرى؛ فعلى سبيل المثال، لا توجد أعمال قد أجريت بشكل منهجي على مهارات إدراك الكميات لدى الزواحف. وسوف يساعدنا سد هذه الفجوة الموجودة في سجل التجارب، على تحقيق فهم أفضل عن مدى قدم القدرات العددية الفطرية لدى الإنسان، وكذلك مقدار ما يعود من القدرات العددية لدى العديد من الأنواع إلى السمات المتناددة التي تتشارك فيها مع البشر. إذا لاحظ الباحثون وجود قدرات مشابهة لدى الزواحف، فربما يكون لدينا دليل أوضح على أن بعض القدرات العددية المتناددة تعود إلى النوع السالف من الثدييات، كالزواحف والطيور والأسماك وغيرها الكثير من الفقاريات، وهو نوع يعيش منذ ما يزيد على 400 مليون سنة.
الإدراك العددي لدى الرئيسات
إن الإدراك العددي لدى الرئيسات فيما عدا البشر، يرتبط بقصة الأعداد بصورة خاصة. فالرئيسات الأخرى، ومنها القردة العليا مثل الشمبانزي، هي الأقرب إلينا من الناحية الوراثية، مما يعني أن الجينوم الخاص بها شبيه للغاية بالجينوم البشري؛ ففي حالة الشمبانزي، يشير أحد الأبحاث إلى أن التطابق بين المجموع الجيني لنوعينا يبلغ 99 بالمائة تقريبا (وينطبق الأمر نفسه على نوعنا والبونوبو). ونحن نتشابه في طبيعتنا البيولوجية نظرا إلى هذا التطابق الجيني؛ ومن ثم، فإذا كنا نحرص على الوصول إلى فهم أفضل بشأن حاستنا العددية الفطرية، فمن الضروري لنا أن نستكشف عقول هذه الحيوانات وغيرها من الرئيسات ذات الصلة. لكن بالرغم من أننا نتشارك الكثير من جينات شفرتنا الوراثية مع بعض الرئيسات الأخرى، فعلينا أن ننتبه لئلا نفسر سلوكها من خلال إسقاط سمات بشرية عليها . والواقع أن التشابه بين شفراتنا الوراثية، لا يخبرنا إلا بالقدر الضئيل عن الإدراك العددي لدى أولاد عمومتنا هؤلاء.
13
يعود التركيب الحلزوني المزدوج المميز لجزيئات الحمض النووي «دي إن إيه» إلى ارتباط أربع قواعد فقط من النيوكليوتيدات على شكل يشبه السلم، وهذه القواعد هي: (الأدينين والسيتوسين والجوانين والثايمين)، ونشير إليها بالرموز المألوفة:
A
و
C
و
G
و
T . إذن، توجد أربعة مكونات في الحمض النووي «دي إن إيه» هي التي تؤلف الجينات في نهاية المطاف، حتى جينات الأنواع المختلفة عن نوعنا. إضافة إلى ذلك، فالعديد من هذه الأنواع تتسم بتشابهات بارزة في مادتها الوراثية المصنوعة من الحمض النووي «دي إن إيه»، وهي الجينومات الخاصة بها؛ فعلى سبيل المثال يوجد تشابه بنسبة 25 بالمائة بين الجينوم البشري وجينوم العنب. (ونحن نمتلك عدد جينات أقل مما يمتلكه العنب!)
14
ويجب علينا أن نأخذ بعض الحذر قبل التوسع في القراءة بشأن نسب التشابه الجيني بين الأنواع؛ فأنا أشك أن ينتهي بك الأمر لأن تعتبر نفسك عنبة بنسبة الربع! وعلى أي حال، فإن الجينوم البشري يتشابه بدرجة كبيرة مع غيرنا من أنواع الثدييات بسبب وجود سلف مشترك يجمعنا بها. فعلى سبيل المثال، نجد أن نسبة التشابه الجيني بين البشر وبين نوعي الكلبيات والبقريات، تبلغ 85 بالمائة. ونظرا إلى هذه العوامل، وكذلك إلى الاختلاف السلوكي الواضح بين الكلاب والأبقار والبشر؛ فيجب أن نتأنى حين نستقي أي استنتاجات تقوم على التشابه الجيني بين الشمبانزي والبشر. وبالطبع، فعلينا ألا نتوقع أن حيوانات الشمبانزي قادرة على التفكير العددي بلا شك، لأنها وثيقة الصلة بنا فحسب؛ فالتغييرات الصغيرة في التكوين الجيني يمكن أن ينتج عنها، ضمن عوامل أخرى، تغييرات كبيرة في حجم الدماغ. ولكي نفهم العلاقة بين التفكير العددي لدى البشر، وما يرتبط بهم من الأنواع الأخرى؛ فعلينا أن ندع البيانات التجريبية هي التي تتحدث.
وها هي البيانات تتحدث؛ فعلى مدار العقود العديدة الماضية، كان العديد من الباحثين الجسورين يستكشفون العوالم الإدراكية لحيوانات الشمبانزي وغيرها من الرئيسات غير البشرية، ويضعون تصورا للإدراك العددي لدى هذه الحيوانات . ونتيجة لهذا التصور، فقد أصبح من الواضح لنا الآن أن أقاربنا من الرئيسات تتشارك معنا بالفعل في قدر من مهارتنا الفطرية في التعامل مع الأعداد، وهي تتشارك معنا أيضا في قدر من القيود التي نواجهها في غياب الأعداد. فهي تمتلك قدرات عددية متناددة، تتسم بتشابه صارخ مع حاستينا العدديتين للتمييز الدقيق للكميات الصغيرة، والتمييز التقريبي للكميات الكبيرة.
وفي تجربة شبيهة ببعض التجارب التي أجريت على أطفال البشر، اكتشف علماء النفس أن قرود الريسوس تستطيع التمييز بين الكميات الصغيرة. قدمت إلى القرود في هذه التجربة كميات مختلفة من طعام لذيذ (شرائح التفاح)، ثم أخفيت عن أبصارها. بعد ذلك، كان يسمح للقرود باختيار الكمية التي تريدها من هذا الطعام المختفي. وحين كان اختيارهم يقع بين 1 و2 من شرائح التفاح أو بين 2 و3، أو بين 1 و3، أو حتى بين 3 و4، فقد كانت تختار الكمية الأكبر دوما. بالرغم من ذلك، فقد اتضح أنها غير قادرة على اختيار الكمية الأكبر من شرائح التفاح بصورة مستمرة ومنتظمة، حين كانت تختار بين 4 و6 على سبيل المثال. في مثل هذه الحالات، كانت اختياراتها تتراجع إلى اختيارات عشوائية، مما يشير إلى أن أدمغتها مزودة بالقدرة على التمييز بين الكميات الصغيرة فقط.
15
وفي المهام التي تتسم بقدر أكبر من التجريد، اتضح أن قرود الريسوس أيضا تستطيع تمييز الفروق الكبيرة بين الكميات، لكن هذه القدرة على التمييز تتوقف على مدى التباين بين هذه الكميات. فعلى سبيل المثال، وضحت إحدى الدراسات أنه يمكن تدريب القرود على تمييز مجموعة من العناصر في ترتيب تصاعدي. وبعد تدريبها بهذه الطريقة، فقد تعلمت أن تختار مجموعات تتكون من عنصر واحد وعنصرين و3 عناصر و4 عناصر، بالترتيب. بعد ذلك، قدم الباحثون لها مجموعتين تحتويان على عدد أكبر من العناصر، وقد تمكنت القرود من لمس المجموعة الأصغر أولا بصورة منتظمة؛ فقد استطاعت ترتيب الكميات الكبيرة مثلما تعلمت ترتيب الكميات الصغيرة. بالرغم من ذلك، فقد كان الوقت الذي استغرقته القرود في أداء هذه المهام، يختلف وفقا لمدى التفاوت بين الكميات الكبيرة؛ فكلما زاد حجم التفاوت، زادت سرعة القرود في الاستجابة. وفي دراسة متابعة، كانت استجابة اثنين من القرود تشبه استجابة 11 من البالغين الذين أجريت التجربة عليهم حين منع الخاضعون للتجربة من البشر، من العد اللفظي. وهذا التشابه يدل على وجود حاسة عددية تقريبية قديمة، ورثها كل من قرود الريسوس والبشر.
16
إن النوع الأقرب للإنسان على شجرة الحياة، وهو يوجد على الغصن المجاور في حقيقة الأمر، يستطيع تمييز الكميات بطرق محكمة نسبيا. إن قدرات الشمبانزي على تمييز الكميات تذكرنا بما لاحظناه في أطفال البشر؛ فعلى سبيل المثال، مثلما يميل الأطفال إلى اختيار الكمية الأكبر من الحلوى حين يتاح لهم الاختيار، تميل حيوانات الشمبانزي إلى اختيار الكمية الأكبر من أصناف الطعام اللذيذة، حين تقدم إليها صينيتان تحتويان على كميات مختلفة من الأطعمة الشهية. وقبل 30 عاما تقريبا، لاحظ الباحثون في مجال الحيوان أنه عند تقديم طبقين يحتويان على كمية صغيرة من رقائق الشكولاتة إلى قردة الشمبانزي، كانت تختار الطبق الذي يحتوي على الكمية الأكبر في معظم الأحيان. غير أن أداء هذه الحيوانات قد أصبح يعتمد على الصدفة بصورة أكبر عند تقديم كمية أكبر من الشوكولاتة، مع عدم وجود فرق بارز بين الكمية الموجودة في كل طبق. بعبارة أخرى: كانت اختيارات القرود تتسم بتأثير نسبة الفرق ذاته، الذي لاحظناه في العديد من التجارب الأخرى التي أجريت على غير ذلك من الحيوانات والبشر الذين ينتمون إلى ثقافات لا عددية. والأمر الأجدر بالملاحظة، أن نتائج الدراسة المعنية التي تشير إلى أن قردة الشمبانزي لا تستطيع تمييز الكميات الكبيرة من رقائق الشوكولاتة عند وجود اختلاف كاف بين كمية الطبقين فحسب، بل تستطيع أيضا جمع الكميات معا قبل المقارنة بين إجمالي كمية رقائق الشوكولاتة في كل من الطبقين. ففي بعض الحالات على سبيل المثال، كانت القردة تواجه اختيارا بين طبقين. يحتوي أحد الطبقين على كومتين من رقائق الشوكولاتة، تحتوي إحداهما على ثلاث رقائق، بينما تحتوي الأخرى على رقاقتين. أما الطبق الآخر، فقد كان يحتوي على كومتين أيضا، لكن إحداهما تحتوي على أربع من رقائق الشوكولاتة، وتحتوي الأخرى على ثلاث منها. في مثل هذه الحالات، كانت القرود تدرك في معظم الأحوال أن الكمية الموجودة في الطبق الأول، وهي 5 (3 + 2)، أقل من الكمية الموجودة في الطبق الثاني، وهي 7 (4 + 3)، وهو ما يدل على أن قردة الشمبانزي قادرة على جمع الكميات الصغيرة، والمقارنة بين نتائج هذه العمليات الحسابية. بالرغم من ذلك، فعلينا أن نؤكد على أن اختيارات القرود كانت صحيحة في معظم الحالات فقط، وكانت تمتلئ بالأخطاء. علاوة على ذلك، فحين كان الفرق بين نتائج عمليات الجمع التي تقارن بينها صغيرا، مثل 7 في مقابل 8، تراجع مستوى الدقة. وبالرغم من أنه من المنطقي أن نستنتج من هذه التجارب أن قردة الشمبانزي تستطيع إجراء عملية الجمع على الكميات والمقارنة بينها بصورة تلقائية، فينبغي التأكيد على أن قدراتها على الجمع معرضة للأخطاء، لا سيما حين يكون الفرق بين الكميات التي تقارن بينها صغيرا، وهو ما أصبح نمطا مألوفا لنا بوصولنا إلى هذه المرحلة. وبناء على أبحاث مثل هذا البحث وغير ذلك من الأعمال التجريبية التي لم نعرضها هنا، يمكننا أن نثق بأن قردة الشمبانزي تتمتع بقدرة طبيعية على تقدير الكميات بصورة تلقائية، والتمييز بين الكميات الصغيرة على نحو دقيق. وبالطبع، فإنها ليست نوع الرئيسات الوحيد القريب منا، الذي يشترك معنا بدرجة ما في فهمنا البدائي للتمييز بين الكميات.
17
لقد أوضحت الأبحاث التي أجريت على الرئيسات أيضا أنها قادرة على تعلم الأرقام وربطها بالمعلومات الكاردينالية والمعلومات الترتيبية. أي إنها تستطيع أن تتعلم ترتيب الرموز مثل 2 و3 و4 و5، مع إدراك أن مثل هذا الترتيب يمثل زيادة في حجم المجموعة التي تتضمن عددا محددا من العناصر، وهي تلك العناصر كالحلوى التي قد تفوز بها عند توضيح فهمها للرموز. والواقع أن إحدى التجارب قد وضحت أن قرود الريسوس تستطيع أن تتعلم أن تلمس رموز الأعداد من 1 إلى 9 على شاشة الكمبيوتر في ترتيب تصاعدي، وأنها تستطيع أن تتعلم الكميات التي تمثلها هذه الرموز. ثم أوضحت التجارب بعد ذلك أن القرود السنجابية وقرود البابون، تتمتع هي أيضا بهذه القدرة. ففور تلقي التدريب المناسب على هذه الرموز، تبدي القرود السنجابية مقدرتها على جمع رموز الأعداد معا، مثلما يتضح ذلك من تفضيلها لاختيار كمية مضافة مثل (3 + 3) على اختيار (5 + 0)، حين يكون عليها الاختيار من بين خيارين يصفان كمية المكافآت التي ستحصل عليها بعد ذلك. إن هذه الاختيارات ليست منتظمة تماما، ومما لا شك فيه أن «حساب القرود» يتضمن بعض الأخطاء، مثلما قد نتوقع بالطبع. بالرغم من ذلك، فمن الواضح أيضا أن اختيارات القرود ليست عشوائية، والاختيارات التي تختارها في معظم الأحيان، تعكس فاعلية الرموز في تعزيز مهارة تمييز الكميات. إذن، يمكن للقرود أن تتعلم الأعداد، غير أن لهذا التعلم حدودا لا نجدها لدى البشر.
18
إن القدرات الرياضية لدى الرئيسات غير البشرية، كالقدرات الرياضية لدى بعض الأنواع الأخرى، تتميز بشكل واضح بتأثير المسافة وتأثير المقدار. يشير التأثير الأول إلى حقيقة أن هذه الحيوانات، كالبشر الذين ينتمون إلى ثقافات لا عددية، أفضل كثيرا في تمييز الاختلافات بين الكميات، حين يكون الفرق بينها كبيرا. أما التأثير الثاني فهو يشير إلى حقيقة أن هذه الحيوانات تستطيع تمييز الكميات الصغيرة بكفاءة أفضل من الكميات الكبيرة. إن انتشار تأثيري المسافة والمقدار في الأنواع المختلفة، هو أحد النتائج الأساسية التي حصلنا عليها من العمل على هذا الموضوع. وهذا الانتشار يمثل دليلا على وجود حاسة عددية تقريبية متناددة قديمة، وربما يكون دليلا على وجود حاسة عددية دقيقة متناددة أيضا، غير أنه لا يزال أمامنا مقدار كبير من العمل حتى نستطيع تقديم تفسير كامل للقدرات العددية الفطرية لدى الأنواع غير البشرية.
19
خاتمة
إن قدراتنا العددية الفطرية قديمة، وتتشارك معنا فيها العديد من الأنواع، بدرجة أو بأخرى. ومن المنطقي أن تكون العديد من الأنواع قادرة على التمييز بين الكميات، بطريقة تقريبية على الأقل. فبعض القرارات المتعلقة بالكميات ضرورية للبقاء في البرية؛ ومن ثم لنجاح التكاثر الذي يؤدي إلى حفظ السمات الوراثية، وانتشارها على المدى الطويل. وسواء أكنا نتحدث عن فوائد تمييز الفئران أو الحمام للمجموعات التي تحتوي على عدد أكبر من عناصر الطعام ، عن تلك التي تحتوي على عدد أقل، أو عن الفوائد التي تعود على إناث الأسود من قدرتها على تمييز وجود مجموعات أكبر من غيرها من إناث الأسود، فإن مزايا البقاء التي توفرها القدرة على تمييز الكميات واضحة. وبالرغم من هذه التأويلات البديهية للأسباب التي أدت إلى توارث مهارات تمييز الكميات عبر العديد من الأنواع، فإننا لا نعرف السبب في أن هذه القدرات لم تصقل لدى معظم الأنواع فيما بعد.
بطريقة ما، نجد أن توضيح القدرات الإدراكية لدى حيوانات أخرى، لا سيما أولاد عمومتنا من القرود كبيرة الأدمغة، يجلب إلى دائرة الضوء المزيد من الألغاز؛ فحين نفكر في أنه يمكن تدريب بعض قردة الشمبانزي على تمييز الكميات بقدر أكبر من الدقة، تصبح هذه النقطة بارزة على نحو خاص. إذا كانت بعض الأنواع الأخرى تمتلك القدرة على تعلم أنواع أكثر تعقيدا من التفكير العددي، فلماذا لم تصقل هذه الأنواع قدراتها على مدار ملايين السنين التي ظلت تتطور خلالها على فرع آخر من شجرة الحياة؟ إن قردة الشمبانزي تمتلك الأسس للتفكير الرياضي، لكنها لا تبني شيئا على الإطلاق على مثل هذه الأسس؛ فهذه الأسس التي تتضح في تفكيرها، وفي تفكيرنا نحن أيضا قبل أن نتعلم الأعداد خلال نمونا، تبدو بدائية إلى حد كبير. ومثلما أشار مؤخرا كل من جونكو بارك وإليزابيث برانون، وهما عالمان مختصان في الإدراك لدى الحيوانات: «إنه من الصعب أن نفهم كيف أمكن لنظام بدائي، غير قادر على تمثيل الكميات الكبيرة بدقة، أن ينتج الرياضيات الشكلية، التي هي إنتاج بشري خالص.»
20
إن التفكير الكمي الذي زودنا به فطريا نحن وغيرنا من الأنواع، يتمثل في القيم الأسية التي تغيب من أنواع التفكير الكمي التي يمتلكها البشر في نهاية المطاف. وهذا يوضح أن التفسيرات البيولوجية لمثل هذا التفكير ذات طبيعة محدودة. إن القدر الأكبر من إدراكنا العددي لا يعزى إلى تركيبنا البيولوجي العصبي إلا قليلا، بينما يعزى بأكثر من ذلك بكثير إلى طريقة استخدامنا لهذا التركيب. وهذا الاستخدام لا يكون ممكنا إلا بوجود أدوات خارجية تتفاعل مع آلياتنا الفطرية للتمييز بين الكميات. والأداة الخارجية الرئيسة التي نعنيها هنا هي الأعداد، تلك التمثيلات الرمزية للكميات، التي تتجسد عن طريق اللغة وتستخدم بطرق تختلف باختلاف الثقافة. إن وجود الأعداد يفسر الفجوة الموجودة بين التفكير العددي الفعلي لدى البشر، والتفكير العددي الذي نزود به فطريا.
بعض الأدلة التي تؤيد قوة الأعداد تأتي أيضا من حيوانات أخرى قد تلقت تدريبا مكثفا على الرموز دون أن تكون طليقة في بيئتها. وربما يكون المثال الأفضل على هذه الحيوانات، هو أليكس، وهو ببغاء أفريقي رمادي، تلقى التدريب على مدار عقود طويلة على يد عالمة النفس أيرين بيبربيرج. وبالرغم من أن أليكس قد مات عام 2007، فإن نتائج المهام الرياضية التي أجريت مع الببغاء لم تنشر إلا عام 2012. وتقدم هذه النتائج أدلة قاطعة على أن أليكس كان قادرا على القيام بمهام حسابية لا يقدر عليها عادة سوى نوع «الإنسان العاقل». ففي سلسلة من التجارب، ثبت أن أليكس يستطيع تسمية رموز الأعداد وترتيبها من خلال التعبير اللفظي، وذلك بصفة منتظمة ومستمرة. والأهم من ذلك أنه كان يستطيع تسمية الكمية التي تمثلها مجموعة من العناصر، حتى إذا كانت المجموعة تحتوي على ثمانية عناصر. وربما يكون الأكثر إثارة للدهشة هو أن أليكس كان قادرا على إجراء عملية الجمع على مجموعتين يتراوح عدد العناصر فيهما بين الصفر والستة، وكان يتوصل إلى الإجابة الصحيحة في معظم الحالات. ومن الحيوانات الأخرى التي أوضحت الأبحاث الخاضعة لمراجعة الأقران أنها تستطيع التوصل إلى ناتج جمع مجموعتين بصفة مستمرة، هي قردة شمبانزي تدعى شيبا. يبدو أن «عباقرة» الحيوانات المدربة مثل أليكس وشيبا، تتمتع بمهارات رياضية محددة، تمكنها من التمييز بين الكميات الأكبر من 3 بدقة. وذلك اكتشاف مذهل؛ إذ إن الحيوانات غير المدربة، بصرف النظر عن نوعها وحجم دماغها، لا تبدي هذه المهارة. بالرغم من ذلك، فعلينا أن نلاحظ ما يتطلبه الأمر قبل أن تبدي هذه الحيوانات هذا النبوغ: سنوات من التعلم، بل عقود يقضيها المدربون في تعريف المتدربين على رموز الكميات؛ فالمدربون يدرسون لهم الأعداد. في بعض الحالات، ومنها حالة أليكس بالتأكيد، يتمكن الحيوانات من تعلم هذه الأعداد. ومثلما يتعلم الأطفال في نهاية المطاف تمثيل الكميات التي تزيد عن ثلاثة بالرموز، فإن بعض الحيوانات المدربة يمكن أن تفعل ذلك بالفعل.
21
وقد أتاحت لنا مثل هذه الأبحاث التوصل إلى مثل هذه الملاحظة الهامة، وهي أنه يمكن تطبيق اختراع الأعداد البشري على أنواع مختلفة، وإن كان ذلك في بعض الحالات على الأقل. ومثلما تشير بيبربيرج عند مناقشة حيوانات مثل أليكس وشيبا، إلى أن تلك الحيوانات فقط أي التي «دربت على تمثيل الكميات من خلال الأرقام العربية أو الأعداد اللفظية ... هي التي يبدو أنها قادرة على ربط تلك الأرقام بالقيمة الكاردينالية للمجموعات.»
22
لذا، فبالرغم من أن الببغاوات والشمبانزي تستطيع تكوين مفاهيم مجردة عن كميات كبيرة محددة، فإن اختراع الأعداد البشري هو الذي يجعل من هذه القدرة على التصور التجريدي أمرا ممكنا.
في آخر ثلاثة فصول، لاحظنا أن البالغين من البشر الذين ينتمون إلى ثقافات لا عددية، وأطفال البشر الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد، وبعض الأنواع المختلفة من الحيوانات، يستطيعون التفكير في الكميات بصور تقريبية، ويمكنهم أيضا التفكير فيها بصورة محددة حين يتعلق الأمر بالكميات الصغيرة. وهذه القدرات التقريبية والدقيقة، هي بمثابة أساس ضروري من أجل بناء نظام أكثر تعقيدا للتفكير بشأن الكميات، غير أنه أساس تقريبي. فالبناء على مثل هذا الأساس يتطلب استخدام أدوات رمزية. فهو يتطلب استخدام الأعداد، وهي الرموز اللفظية والكتابية للكميات. وفي الجزء الثالث، سوف نستكشف الكيفية التي اخترعت بها الأعداد على الأرجح، وندرس الطرق العميقة التي أثرت بها في الخبرة البشرية.
الجزء
الأعداد وتشكيل حياتنا
الفصل الثامن
اختراع الأعداد والحساب
إن أنماط اللغة تنتج أنماطا في التفكير. فقد وضحت الأبحاث الموسعة في العصر الحالي أن الاختلافات بين اللغات يمكن أن تؤدي إلى وجود اختلافات، هي اختلافات طفيفة في معظم الأحيان، في العادات الإدراكية للمتحدثين بها. وهذا الاستنتاج، الذي يشار إليه عادة بمصطلح «النسبية اللغوية»، قد أصبح له الآن ما يؤيده من عشرات الدراسات التي تجرى في موضوعات مثل الإدراك المكاني، وإدراك الزمن، وتصنيف الألوان. فعلى سبيل المثال، قد رأينا في الفصل الأول كيف أن «المكان» الذي «يقع» فيه كل من المستقبل والماضي، يتوقف على اللغة التي تتحدث بها. وبالمثل فإن الطريقة التي تستخدمها في تذكر الألوان والتمييز بينها، تتأثر بشكل مستتر، بمخزون المصطلحات الذي يعبر عن الألوان الأساسية في لغتك الأصلية. لقد أدت بنا جولتنا في العوالم اللاعددية في نهاية الأمر، إلى التوصل إلى نتيجة مفادها أن اللغات العددية ينشأ عنها اختلافات في طريقة تفكير الأفراد. فمفردات الأعداد، التي توجد في الغالبية العظمى من لغات العالم (وليس كلها بالتأكيد)، تؤثر ولا شك على الإدراك الكمي. ووحدهم الأفراد الذين يستخدمون مفردات الأعداد والعد، هم الذين يستطيعون التمييز بين معظم الكميات بدقة. إذن فوجود مفردات الأعداد في لغة من اللغات لا يؤثر في طريقة تفكيرنا في الكميات بشكل مستتر فحسب، بل يفتح لنا أيضا بابا للحساب والرياضيات. وأول خطوة نخطوها عبر ذلك الباب، هي إدراك أنه يمكننا التمييز بدقة بين الكميات، بصرف النظر عن حجمها.
1
لكن ما الطريقة المحددة التي تفتح لنا بها الأعداد هذا الباب في بادئ الأمر؟ وما الذي يحدث بعد أن نمر منه؟ في الجزء الثالث من هذا الكتاب، سوف نتناول مثل هذه الأسئلة. في هذا الفصل، نبحث في «الكيفية»؛ كيف ظهرت مفردات العد ومبادئ الحساب الأساسية في الوجود؟ إنني أقدم رواية للكيفية التي اخترع بها البشر الأعداد على الأرجح (وما زالوا يخترعون) المفردات الأساسية للأعداد، وكذلك الكيفية التي نأخذ بها مفردات الأعداد تلك، ونستخدمها كوحدات بناء في العمليات الحسابية الأساسية.
الأعداد غير الطبيعية
إن النتائج التي حصلنا عليها من العوالم اللاعددية تشير بوضوح إلى أننا نحتاج إلى وجود الأعداد، لكي «نفهم» الكميات بالفعل، على النحو الذي يتميز به البشر في فهمها. بالرغم من ذلك، فإن ذلك يطرح مفارقة، مثلما ذكرت في الفصل الأول؛ إذا كنا نحتاج إلى الأعداد لكي ندرك معظم الكميات بدقة، فكيف توصلنا إلى الأعداد في المقام الأول؟ وكيف تمكنا بداية من تسمية الكميات الموجودة في مجموعة محددة من العناصر، إذا كنا لا نستطيع تمييز هذه الكميات؟ إذا كنا لا نستطيع على سبيل المثال، أن نميز أن «سبع تفاحات» لا تمثل «ست تفاحات» ولا «ثماني تفاحات» فكيف تمكنا من استخدام كلمات مثل «ستة» و«سبعة» و«ثمانية» للمرة الأولى؟
ونظرا لما يبدو من صعوبة هذه المفارقة؛ فقد استنتج البعض أن البشر مهيئون فطريا لاكتساب مفاهيم الأعداد. ووفقا لهذا المنظور، فلا بد أن نكون مهيئين بطريقة ما من شأنها أن نستطيع التمييز بين 5 و6 و7، وغير ذلك من الكميات، على مدار تطورنا الإدراكي الطبيعي. إلا أن هذا النهج يطرح أمامنا معضلة للوهلة الأولى؛ إذا كنا مهيئين فطريا للتمييز بين الأحجام المختلفة للمجموعات بصفتها كيانات مجردة مستقلة، فما حد هذا الاستعداد الفطري المسبق؟ فهل نحن مهيئون فطريا لأن ندرك في النهاية، على سبيل المثال، أن 1023 ليست هي 1024؟ إن هذا يبدو غير منطقي بدرجة كبيرة؛ فوجهات النظر التي تستند إلى النهج الفطري في الموضوعات التي تتعلق بالأعداد، لا تقدم شيئا سوى أنها تؤخر النقطة التي سنصل عندها للمفارقة.
في كتابه المميز عن اللغة والأعداد، يذكر عالم اللغويات جيمس هيرفورد، أن مفردات الأعداد هي أسماء «الكيانات غير اللغوية التي تشير إليها الأعداد.»
2
أي إن مفردات الأعداد هي تسمية لكيانات مفاهيمية. وفي سياق متصل، اقترحت عالمة الآثار كارينلي أوفرمان مؤخرا أن «مفاهيم الكميات لا بد أنها تسبق تسمياتها المعجمية، وإلا فلن يكون ثمة ما يمكن تسميته ... فلا يمكن لأي طريقة اختراع أن تسبق ما تخترعه.»
3
وهذا الرأي الأخير منطقي بعض الشيء، لكن يمكننا القول إنه يقلل من أهمية الأدلة الكثيرة التي عرضناها في الفصول من الخامس إلى السابع. ووفقا لهذه الأدلة، فإن المفردات التي تعبر عن الكميات الأكبر من ثلاثة، ليست مجرد تسمية لمفاهيم موجودة مسبقا؛ لأن هذه المفاهيم لا توجد لدى معظم الناس إلى أن يتعلموا الأعداد بالفعل.
وفي رأيي أن مفتاح حل هذه المفارقة هو أن المفردات التي تعبر عن الكميات الأكبر من ثلاثة، تجسد الأفكار العددية المجردة المحددة التي تطرأ على ذهن بعض الأفراد في بعض الأحيان وبصورة غير منتظمة. وبعض هؤلاء الأفراد قد يخترعون الأعداد في نهاية المطاف، ولكن إن لم يفعلوا، فلن تنقل أفكارهم العابرة إلى غيرهم. إن تسمية مثل هذه الأفكار سريعة الزوال، هو ما يمكن الأفراد في نهاية المطاف من إدراك الفروق بين الكميات على نحو منتظم ومستمر. إنني أعتقد أن مفهوم الانتظام والاستمرارية هذا ضروري للغاية لحل هذه المعضلة. يبدو أن البشر، كجماعة، يبدون القدرة، على نحو غير منتظم فقط، على التوصل إلى فكرة بسيطة لكنها مؤثرة، وهي فكرة أنه يمكن تعريف المجموعات التي تتضمن كمية أكبر من ثلاثة تعريفا دقيقا. وهذه الفكرة البسيطة قد أدت على الأرجح إلى اختراع رموز لهذه الكميات الكبيرة، وذلك على مدار مرات عديدة لم يكن من الممكن تسجيلها كلها. وقد كانت هذه الرموز لفظية في البداية؛ إذ إن الغالبية العظمى من ثقافات العالم تستخدم مفردات لمثل هذه الكميات، لكن معظمها يفتقر في العادة إلى وجود الأرقام المكتوبة أو حتى أنظمة العصي المعقدة. إن بعض الأفراد قد اخترعوا مفردات الأعداد من أجل تجسيد إدراكهم لوجود كميات كبيرة محددة، وقد كان من الممكن لهذا الإدراك أن يظل عابرا.
هل يعني هذا أن مفردات الأعداد ليست إلا تسميات لمفاهيم؟ الأمر ليس كذلك تماما؛ إذ تبدو الحقيقة أكثر تعقيدا وتنوعا من الخيار الثنائي القسري الذي تفترضه هذه المفارقة؛ فمفردات الأعداد ليست تسميات فحسب، على الرغم من أنها تصف الاكتشافات المفاهيمية التي يتوصل إليها «بعض» الأفراد في «بعض» الأحيان. إن مصطلح «تسمية» يشير إلى أن الكلمات تعبر عن مفاهيم يفكر جميع البشر فيها، أي إن جميع البشر يولدون وهم على استعداد لإدراك هذه المفاهيم (على الأقل في نهاية المطاف)، بصرف النظر عن بيئتهم الثقافية. بالرغم من ذلك، فمن الواضح أن ليس جميع البشر يتمتعون بالقدرة على إدراك مثل هذه المفاهيم حتى وهم كبار، والأرجح أن معظم الأفراد لن يتوصلوا أبدا إلى هذه الاكتشافات المفاهيمية المعنية، التي يمكن وصفها من خلال الأعداد. وفي الوقت نفسه، من الواضح أيضا أن بعض الأفراد قد توصلوا إلى تلك الاكتشافات، حتى وإن كان ذلك بشكل غير منتظم. وفي تلك الحالات التاريخية الفعلية التي تمكن البشر فيها من وصف تلك المفاهيم بكلمات، اخترعوا الأعداد. وبعد ذلك، تمكن غيرهم من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتهم نفسها، من تمييز المفهوم الذي اخترعوا له اسما، وذلك من خلال استخدام (أو الكلمات) الوثيقة الصلة. إن مفردات الأعداد هي أدوات مفاهيمية تنتشر بسهولة؛ فهي أدوات يرغب معظم البشر في استعارتها.
إن التفسير العام الذي أقترحه ليس جوهريا بدرجة كبيرة، بل يمكن تطبيقه بالطريقة نفسها على الكثير جدا من الاكتشافات البشرية التي توصف باستخدام كلمات جديدة. فغالبا ما تتطور الكلمات أو تخترع، من أجل التعبير عن المفاهيم والأفكار التي يكتشفها البشر حديثا، لا عن الأفكار والمفاهيم الفطرية. فلنتناول مثالا «كالمصباح الكهربائي». لقد أدرك العديد من المخترعين في أواخر القرن التاسع عشر أن تمرير الكهرباء عبر فتيل معدني ينتج إنارة، وقدمت العديد من براءات الاختراع لمصابيح كهربائية قصيرة الأجل. أما توماس إديسون وموظفوه، فقد طوروا فن إنارة فتيل في مصباح زجاجي مفرغ يسمح للفتيل بالاحتراق لفترة أطول كثيرا. بطريقة ما، كان اختراع مثل هذا النوع من مصادر الإنارة قائما على اكتشاف بسيط، وهو: اعزل السلك عن الهواء المحيط، وسوف يظل مضيئا لفترة أطول كثيرا. لم يكن هذا الاكتشاف البسيط عسيرا على فهم الآخرين، وقد كان الجهاز الناتج عنه سهل التسمية بكل تأكيد؛ فمما لا شك فيه أن مصطلح «المصباح الكهربائي» ليس صعبا في الفهم، وبالرغم من هذه البساطة الجوهرية الأنيقة، وبالرغم من سهولة فهم معظم الأفراد لمفهوم «المصباح الكهربائي» والمصطلح المرتبط به؛ فإن أحدا لن يزعم أبدا أن البشر مهيئون فطريا لفهم المصابيح الكهربائية. إن «المصباح الكهربائي» يمكن أن يصف مفهوما محددا لا يصعب فهمه، لكنه ليس بمفهوم طبيعي. ومفردات الأعداد تعد هي أيضا إشارات لمفاهيم بسيطة، وربما لا نكون مهيئين فطريا بشكل مسبق للتوصل إلى تلك المفاهيم، لكن بعض البشر يتوصلون إليها، ويمكن للآخرين اكتسابها من خلال الوسائل اللغوية. ومثلما أوضحنا في المقدمة، فإن ما يتميز به نوعنا لا يتمثل في أننا نتمتع بقدرة عظيمة على الاختراع، بل أننا استثنائيون في توارث هذه الاختراعات ومشاركتها بسبب طبيعتنا اللغوية. (لقد كتب إديسون نفسه ذات مرة أنه كان «إسفنجة أكثر مما هو مخترع.») إذن، فنحن لسنا مهيئين فطريا لأن تطرأ على أذهاننا مفاهيم مثل «المصباح الكهربائي»، وتنتظر أن تجري تسميتها، ولا نحن نمتلك مفاهيم مثل 6 و7 و8 تجول في عقولنا وتنتظر أن تجري تسميتها. إن اختراع الأعداد يستلزم أولا أن ندرك بطريقة تجريبية عشوائية تعتمد على الاكتشافات الشاردة التي تتوصل إليها بعض العقول فقط، أن الكميات المحددة التي يمكن تسميتها (والتي تزيد عن ثلاثة) موجودة بالفعل.
وثمة دليل على أن العدد النحوي، أي التمييز بين المفرد والجمع على سبيل المثال، له مصدر مختلف، مقارنة بالأعداد المعجمية مثل «ستة» «وسبعة». ومثلما أشرنا في الفصل الرابع، فإن اختلافات العدد النحوي في لغات العالم (قليلا) لا تميز بين 1 و2 (ونادرا) ما تميز بين 1 و2 و3، وكذلك بين هذه الكميات وجميع الكميات الأكبر. ويبدو أن هذه الاختلافات تشير بالفعل إلى مفاهيم موجودة مسبقا، باعتبار أن أدمغتنا تتسم باستعداد فطري للتمييز بين مثل هذه الكميات. ويمكننا قول الشيء نفسه عن مفردات الأعداد الصغيرة مثل «واحد » «واثنين» «وثلاثة»، وهي تسميات لمفاهيم فطرية. إن هذه المفاهيم لها أساس بيولوجي عصبي واضح؛ ومن ثم فإن الكلمات التي تصفها توجد في الغالبية العظمى من لغات العالم. وليس من قبيل المصادفة أن مصادرها التاريخية غالبا ما تكون مختلفة عن مصادر الكلمات التي تصف الأعداد الكبيرة في لغة معينة. ومثلما يذكر عالم النفس ستانيسلاس ديهان، أن «التوحيد والتثنية والتثليث، هي ملكات إدراكية يحسبها دماغنا بعفوية بدون العد.»
4
لكن غير ذلك من مفردات الأعداد لا يستند إلى هذا الأساس العصبي، ولا تحسبه أدمغتنا بهذه الدرجة من العفوية. إن اللغة وغيرها من الجوانب الرمزية في حضارتنا، تمنح الفرصة لنوع «الإنسان العاقل» لاختراع الأعداد . بالرغم من ذلك، فإن الاستفادة من مثل هذه الفرصة ليست بالأمر السهل، مثلما يشهد على ذلك الاختلاف الواسع في تعقيد مفردات الأعداد الكبيرة وأساساتها بين الثقافات. ومع ذلك، فمثلما ناقشنا في الفصل الثالث، فإن هذا التنوع اللغوي بين الثقافات ليس عشوائيا ويشير إلى وجود بعض التوجهات الأساسية الواضحة. وهذه التوجهات تشير بوضوح إلى أنه بالرغم من أن البشر يمكن أن يتخذوا أكثر من مسار مختلف يأخذهم إلى اختراع رموز تطابق الكميات التي يميزونها في بعض الأحيان، فإن هذه الرموز تخترع عادة عن طريق الأيدي. وهذا الطريق اليدوي أساسي للأعداد الأكبر من 4.
في دراسة حديثة لتاريخ مفردات الأعداد في أستراليا، لاحظ عالما النفس كيفين زو وكلير بويرن، نمطا مثيرا للاهتمام، وهو يتوافق مع التفسير العام الذي نطرحه هنا. ووفقا لهذا النمط، فإن الأعداد من 1 إلى 3 تتسم بمكانة أكثر أساسية من الأعداد الكبيرة؛ فقد وجدا أن الكلمة التي تعبر عن العدد 4 في هذه اللغات عادة ما تكون تركيبية، أي إنها تتكون من مفردات أعداد أصغر. في الفصل الثالث، كنت قد أشرت إلى أننا نلاحظ وجود هذا النمط أيضا في لغة الجاراوارا بإقليم الأمازون؛ فالكلمة التي تعبر عن العدد 4 في هذه اللغة هي
famafama
وتعني «اثنين اثنين». وتوجد أيضا أنماط مماثلة في العديد من اللغات الأخرى في الأمازون وأستراليا وغيرها من الأماكن. وهذه السمة التركيبية للعدد «أربعة» تشير إلى أن تسمية هذا المفهوم أقل سهولة؛ فهو مفهوم يتجه البشر إلى تسميته في معظم الأحيان من خلال الاستعانة بأفكار أبسط، أفكار قد تشكلت مسبقا. وبالرغم من أننا نستطيع تسمية العدد «أربعة» من خلال الجمع بين عددين أصغر منه، ونحن نفعل ذلك بالفعل، فهو عدد مخالف للقاعدة. فالأعداد الأكبر من «أربعة» لا تبتكر عادة من خلال التركيب البسيط لكميات أبسط مثل 2، وإنما بتسمية الكميات على الأيدي بطريقة ما. وبالرغم من أن اللغات الأسترالية، يمكن أن تفقد بعض مفردات الأعداد أو تكتسب بعضها على مدار الوقت، فقد استنتج زو وبويرن أن تلك اللغات غالبا ما تكتسب الأعداد الأكبر من خمسة، بسرعة أكبر إلى حد ما، بعد اكتساب كلمة تعبر عن العدد «خمسة»، التي ترتبط من الناحية الاشتقاقية في أكثر عائلات اللغات الأسترالية انتشارا، بالكلمة التي تعبر عن «اليد». إن مثل هذا الاكتشاف، مع الأساسين الخماسي والعشري الشهيرين في الغالبية العظمى من الأنظمة العددية في العالم، يشير إلى أن العدد «خمسة» المستند إلى اليد، هو بمثابة الأساس للأنواع الأكثر فاعلية من الأنظمة العددية؛ فعادة ما يكون بمثابة المدخل لأشكال جديدة من التفكير العددي.
5
إن الجسم هو الأساس لمعظم مفردات الأعداد الأكبر من «أربعة»؛ إذ يتعلم البشر أنهم يستطيعون المطابقة بين أصابعهم وبين المجموعات الصغيرة التي يعدونها. إن العد على الأصابع يسهم في تعزيز حقيقة أن الكلمات التي تعبر عن «اليد» أو «الأيدي» كثيرا ما تمثل المصدر التاريخي للأعداد وأساساتها. وبالرغم من مزايا هذا التفسير بشأن مفردات الأعداد الكبيرة، فإنه يغفل بعض الأسئلة المهمة، منها: كيف تأسست علاقة التطابق بين الأصابع وأحجام المجموعات منذ البداية، ولماذا؟ وإذا كان البشر اللاعدديون، من الأطفال الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد، والصم الذين لا يعرفون لغة الإشارة في نيكاراجاوا، وشعب الموندوروكو، يواجهون صعوبة في التمييز بين الكميات الكبيرة بدقة، فكيف تمكن أي إنسان بالغ «أي مخترعو الأعداد» من تمييز التطابق بين الأصابع بدقة، لا سيما تطابقها مع غيرها من العناصر التي يمكن عدها والتي تمثل مجموعات كبيرة من خمسة أو عشرة؟ وما السبب في أن الأصابع مهمة للغاية في إحراز تقدم نحو التفكير العددي المعقد؟
6
إنني أعتقد بوجود سببين على الأقل لذلك؛ أولهما أن الأصابع مميزة لأنها أول الوحدات المنفصلة التي نصادفها في حياتنا بشكل فعلي، فمثلما ذكرنا في الفصل السادس، نحن نتعرف على أصابعنا، ونحن ما نزال في الرحم، والأطفال مهووسون بأيديهم، يمصون أصابعهم في بداية حياتهم، ويركزون بصريا على أيديهم حين يدركون أن هذه الأشياء يمكن اللعب بها ومدها أمام بصرهم أو سحبها منه، حسب إرادتهم. إذن، فالأصابع عنصر بارز للغاية في حياتنا كلها. ومن الأمور المهمة للغاية أنها ليست على هذه الدرجة نفسها من البروز في تلك الأنواع القريبة منا، والتي تشترك معنا في بعض القدرات الفطرية للإدراك العددي. فالغوريلا وقرود الجيبون والشمبانزي، وغيرها من أنواع القرود القريبة من نوعنا، لا تسير على قدمين مثلنا؛ ولهذا فهي تستخدم قائمتيها الأماميتين في معظم الأحوال لأغراض الحركة. أما نحن، فنستخدم أيدينا عادة في صنع الأدوات واستخدامها، ونستخدم أصابعنا لنطاق أوسع من الأغراض، ومنها بعض الأغراض الأكثر تخصصا والتي تتطلب المزيد من البراعة والتركيز على اليدين. إننا نركز على أصابعنا أكثر مما يفعل أي نوع آخر، وربما تمثل هذه النقطة الجزء الأول من الإجابة عن سؤالنا عن الكيفية التي تمكنا بها من التوصل إلى الأعداد من خلال أيدينا.
بالرغم من بروز الأصابع في حياتنا اليومية، فمن غير المرجح أن يكون مجرد انتشارها الفعلي، هو السبب الوحيد للمفاهيم التي توصل إليها بعض مخترعي الأعداد حين أدركوا أنه يمكن مطابقة مجموعات الأصابع مع مجموعات تتكون من عناصر أخرى. وأما السبب الثاني في أن الأصابع تؤدي مثل ذلك الدور البارز، وهو سبب لم يناقش حتى الآن (حسب معرفتي) في المؤلفات، هو أنها توجد في الطبيعة متطابقة على نحو متناظر. فليس الأمر أننا نتفاعل مع أصابعنا باستمرار ونركز عليها فحسب، بل لأن كل إصبع من أصابعنا له رفيق يشبهه في اليد المقابلة، فإن احتمالية أن يتطابق كل إصبع من أصابعنا مع عنصر واحد في مجموعة أخرى من العناصر، تتأكد بثبات في خبرتنا البصرية والحسية. إن التناظر الموجود في أيدينا وأصابعنا، وتعرضنا المستمر لذلك التناظر في حياتنا التي تعتمد على اليدين بشكل غريب، قد دفع العديد من الأشخاص على الأرجح إلى إدراك إمكانية الربط بين مجموعتين تتكون كل منهما من خمسة عناصر.
وربما يدرك بعض الأفراد أيضا التطابق بين خمسة عناصر خارجية على الجسم، مع مجموعة من خمسة أصابع (مع تسمية التكافؤ العددي للأصابع الموجودة في كل يد في البداية، أو بدونه). إن هذا التوافق بين الأصابع وهذه العناصر، يستفيد على الأرجح من التوافق المادي الطبيعي للعناصر الصغيرة التي يمكن حملها باليد والأصابع، فربما حدث ذلك بسبب وضع هذه العناصر على راحة اليد. بالرغم من ذلك، أيا كان الطريق الذي يتخذه مخترعو الأعداد، فإن اختراع أنظمة عددية معقدة يعتمد عادة على المساواة الكمية بين الأصابع وعناصر محددة، ومنها الأصابع الأخرى. على مدار التاريخ البشري، اكتشف البشر هذا التطابق المنتظم بين الكميات، ثم وثقوا هذا التطابق الكمي، وقد كان ذلك في معظم الأحيان من خلال تسمية تطابق محدد باسم الكلمة التي تستخدم في لغتهم للتعبير عن «اليد». وحين استخدموا هذه التسمية بالفعل، اخترعوا أداة رمزية سهلت الإشارة إلى الكمية المعنية المحددة، وتمييزها بعد ذلك، كما سمحت أيضا بتوصيلها إلى عقول الآخرين.
بعد ذلك، يمكن لمستخدمي مفردات الأعداد أن يكونوا كلمات للأعداد الأكبر؛ فربما في أثناء عد بعض العناصر على أصابعهم، يبتكرون كلمة جديدة من خلال الجمع بين الكلمة التي تعبر عن «اثنين» والكلمة التي تعبر عن «يد» فتصبح «اثنين ويد» (أي «سبعة»). وبمرور الوقت، فإن استخدام مثل هذه الكلمة، سيؤدي إلى الاستفادة منها بأكبر درجة ممكنة، وقد يمكن استخدامها في الكثير من السياقات لتسمية مجموعات تتكون من عناصر مختلفة. وقد ينشر بعض المتحدثين الابتكار في اتجاهات جديدة، فيبتكرون كلمات تعبر عن العدد «عشرة» والعدد «عشرين»، ومن المرجح أيضا أنهم سيستخدمون من عدد الأصابع الموجودة في جسم الإنسان أساسات لمثل هذه الكلمات. ثمة الكثير من الطرق التي يمكن سلوكها؛ إذ إن مفردات الأعداد تتراكم وتقترض وتعدل وتنتشر. ونظرا إلى فائدة الأعداد ونوع العمليات التي تجعله ممكنا؛ فإنها سوف تنتشر في معظم السياقات بين أفراد الجماعة السكانية الواحدة وكذلك بين الجماعات السكانية التي تتواصل فيما بينها. ويمكن أن تدخل مفردات الأعداد إلى لغات جديدة على هيئة كلمات دخيلة أو ترجمات اقتراضية، إذ تستخدم المفاهيم على مستوى الثقافات، مع تأليف كلمات جديدة للمفاهيم المقترضة.
إن إدراكنا لفكرة أن الأصابع يمكن أن تتطابق بعضها مع بعض بشكل متناظر، ومع العناصر الأخرى إذ يطابق كل إصبع عنصرا واحدا، يأخذنا إلى ما هو أبعد من قدرات الحاسة العددية الفطرية. غير أنه إدراك قد تشكل على نحو غير متوقع؛ إذ إن بعض اللغات لا تمتلك أنظمة عددية متينة، وبعضها يستخدم أعدادا لا تتأسس على عدد الأيدي أو الأصابع. على أي حال، فإن هذه الفكرة هي العامل الأكثر فعالية في التجسيد اللفظي للكميات الأكبر من 4. (بطريقة ما، نجد أنه أمر غريب أن بعض الجماعات البشرية لا تسمي الكميات الكبيرة على أيديها، نظرا لما لدينا من انحياز تشريحي تجاه مساواة الأصابع الخمسة في إحدى اليدين، بالأصابع الخمسة الموجودة في الأخرى.) في نهاية المطاف، يعد اكتشاف وجود كميات كبيرة محددة؛ ومن ثم اختراع معظم الأعداد، ناتجا عرضيا لسيرنا على قدمين، مثله في ذلك مثل العديد من الأمور الأخرى التي نتميز بها كبشر. إن السير على قدمين قد أدى في النهاية إلى التركيز على اليدين بدرجة أكبر، والانتباه إلى تناظر أصابعنا، وقد سهل أيضا إدراك تطابق كل إصبع من أصابعنا مع غيره من الأشياء التي يمكن عدها. ونتيجة لمثل هذه العوامل، مهدت لنا أيدينا الطريق الأسهل في رحلتنا الشاقة نحو الأعداد.
7
إن الظاهرة التي نتناولها هنا، وهي فهم البشر للكميات بسبب أعضاء من أجسامهم توجد خارج الدماغ، هي مثال على ظاهرة أعم تعرف باسم «الإدراك المتجسد». على مدار العقود القليلة الماضية، أشار العديد من الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء اللغة وغيرهم إلى أن مجموعة من عمليات الإدراك البشرية تتأسس على سمات التجربة الجسدية البشرية، أو تتيسر من خلالها على الأقل. وقد وضح هذا المجال النامي من دراسة الإدراك المتجسد أن الطبيعة التشريحية لأجسادنا وطريقة عملها، تقيد بعض عمليات التفكير أو تعززها. وعلى الرغم من أن هذا ليس المكان المناسب للمناقشة المطولة لمثل هذه العمليات، فلنعد النظر مرة أخرى في مثال الإدراك الزمني الذي ناقشناه في الفصل الأول. نحن - متحدثي اللغة الإنجليزية - نفكر في المستقبل على أنه أمامنا؛ لأننا بطريقة ما نسير إلى المستقبل. ولأننا نسير، فاللحظات التي وقعت في ماضينا قد وقعت ونحن في أماكن مادية قد أصبحت الآن خلفنا . وعلى العكس من ذلك، فمن المتوقع أن تقع لحظات المستقبل بينما تكون أجسادنا في أماكن هي الآن أمامنا. إن استعارة «المستقبل أمامنا» هي نتيجة التفكير في الزمن في سياق هذه التجربة المادية الجسدية. وهذا المنظور الشائع بشأن الزمن مثال على التفكير المتجسد؛ إذ يتأثر تفسيرنا لتقدم الزمن بكيفية عمل أجسادنا. وفي سياق متصل، حين يفكر البشر أن «خمسة أشياء تشبه اليد» أو غير ذلك من الأفكار وثيقة الصلة؛ ومن ثم يخترعون الأعداد، فإن هذا يعني أن بعض سمات أجسادهم تمكنهم من العملية الإدراكية المعنية. إن إدراكهم يتجسد حين يستخدمون اليد على سبيل الكناية؛ للدلالة على خاصية كمية لتلك السمة الجسدية. وبالرغم من أن علماء اللغة قد لاحظوا أن أنظمة الأعداد غالبا ما تكون عشرية أو خماسية أو عشرينية (أو توليفة من كل ذلك)، فإن مدى تأثير التفكير الكمي المتجسد في ابتكار معظم الأعداد، لم يحظ بالتقدير الكافي في العديد من الدوائر.
8
ما بعد العد البسيط
إن العديد من المفاهيم المستندة إلى الأعداد لم تستلهم من خلال اليد. ولم تتطور الممارسات الرياضية المعقدة بصورة مستقلة إلا في عدد قليل بعض الشيء من الثقافات، بالرغم من عالمية الأصابع، وبالرغم من انتشار مفردات الأعداد على مستوى العالم، فالأعداد المستندة إلى الأيدي، لا تؤدي بالضرورة إلى إنتاج أعداد كبيرة للغاية؛ فوجود كلمة مثل «خمسة » أو «عشرة» في لغة ما، لا يعني أن هذه اللغة تحتوي على كلمة مثل «ألف» أو «مليون» إن وجود مفردات الأعداد البسيطة هو شرط ضروري لتفصيل أعداد أكثر تعقيدا، لكنه غير كاف لذلك.
كذلك فإن العديد من الأنواع الأخرى من الأعداد، لا تتبع بالضرورة تقديم مفردات أعداد أساسية في ثقافة معينة. فالمسار التشريحي ينتج أعدادا صحيحة بسيطة يطلق عليها اسم «الأعداد النموذجية المستخدمة في العد»
9
مثل «خمسة» و«ستة» و«عشرة» و«عشرين»، لكنه لا ينتج بالضرورة عددا «كالصفر». (راجع مناقشة العدد صفر في الفصل التاسع.) وهو أيضا لا ينتج بالضرورة الأعداد السالبة، ولا الأعداد غير النسبية، ولا يؤدي إلى اكتشاف متتالية فيبوناتشي، وما إلى ذلك. إذن، فالسؤال المتوقع في سياق هذه المناقشة، هو: كيف نبدأ في تشكيل الأعداد النموذجية المستخدمة في العد لكي نصل إلى عالم يحفل بجميع الأنواع الأخرى من الأعداد والمفاهيم الرياضية؟ إن ذكر التفاصيل الكاملة لتطور علم الحساب، يقع خارج نطاق هذا الكتاب، غير أن الأمر حري بأن نتناول بعض العوامل الأساسية التي تتعلق باستخدام البشر للأعداد النموذجية المستخدمة في العد في ابتكار مفاهيم رياضية أساسية، مثل الجمع والطرح والضرب. ففي نهاية المطاف، تعد هذه المفاهيم الأخيرة محورية في العديد من التقنيات البشرية المادية والسلوكية.
إن هذا النقاش الذي نتناوله بشأن اتساع المفاهيم العددية يعيدنا مرة أخرى إلى إحدى الأفكار المتكررة، وهي أن البشر يفهمون الأفكار المجردة من خلال الأشياء المجسدة الموجودة في حيواتنا التي ترتكز على الطبيعة المادية. ومثلما أن المجاز، والمسار اليدوي الذي اتخذناه نحو الأعداد، يستند إلى كيفية تركيب أجسادنا وعملها؛ فثمة حجة مقنعة على أن الإدراك الحسابي الأساسي يرتكز على خبرتنا المادية. ومعنى هذا أن تطور المفاهيم الرياضية من أعدادنا النموذجية المستخدمة في العد، ينتج بدرجة كبيرة عن إعجاب البشر بالتفكير المجازي المرتكز على أشياء مادية.
10
إن ما يعنينا في هذه المناقشة، هو نوعان من أنواع التفكير المجازي المرتكز على الطبيعة المادية، وأولهما هو الاستعارة المفاهيمية، التي يوجد منها العديد من الأمثلة في أي لغة، وسنذكر عليها مثالين من اللغة الإنجليزية: تصوير مفهوم المزاج العاطفي في صورة درجات الحرارة، ووصف الأمور السلبية بأنها «منخفضة». على سبيل المثال، تظهر الاستعارة الأولى المرتكزة على الطبيعة الجسدية حين نتحدث عن أشخاص يتمتعون إما بشخصية «دافئة» أو «باردة»، مع افتراضنا الضمني أن الشخصيات «الدافئة» أكثر ودا وترحيبا. وتظهر الاستعارة الثانية المرتكزة على الطبيعة الجسدية حين نتحدث مثلا عن شعورنا «بانخفاض الروح المعنوية» أو عن شخص يشعر بأنه «سقط في هوة الاكتئاب.» إن ما ذكرناه هنا هو مثالان فقط على هذا النوع من الاستعارات، غير أن هناك الكثير من الأمثلة عليها. (وينبع الربط المجازي بين الأشياء «المنخفضة » والحزن من العلاقات التجريبية، مثل العلاقة بين الموت والدفن، والوجود في مستوى «منخفض» في الأرض.)
وأما النوع الثاني من التفكير المجازي الذي يعنينا في هذه المناقشة، فهو ما يشير إليه علماء اللغة باسم «الحركة الخيالية»، والتي تتمثل في تفكيرنا في الأشياء على أنها تتحرك بينما نستعرضها في عقولنا. فعلى سبيل المثال، إذا قلت: «إن منظر ناطحات السحاب في أفق ميامي، يجري على امتداد خليج بيسكاين.» فذلك من الأمثلة على الحركة الخيالية؛ فمن الواضح أن ناطحات السحاب لا تجري فعليا، لكنني أتحدث عنها وكأنها تفعل. وبالمثل، حين أزعم أن «الحد الفاصل بين بيرو والبرازيل يمر بالأمازون.» فلن يفسر أحد ذلك على أن الحد يتحرك بالفعل؛ فإن الاستعارات المستندة إلى الطبيعة الجسدية والحركة الخيالية، كلاهما أساسي في تشكيل التفكير الرياضي.
إن علماء الإدراك، ومن أبرزهم رافاييل نونييث من جامعة كاليفورنيا في سان دييجو، قد قدموا بعض الأدلة على أن الاستعارات الأساسية والحركة الخيالية، تسهمان في بنية علم الحساب؛ فهم يذكرون على سبيل المثال أن إحدى الركائز الأساسية في تكوين عمليات الإضافة والطرح هو استعارة أن «الحساب هو جمع الأشياء.»
11
وبعبارة أخرى: فإن البشر يفكرون في الأعداد من خلال الأشياء، فها هم مرة أخرى يحولون الأفكار المجردة إلى شيء مادي وملموس بدرجة أكبر. ومن الأدلة على هذا التوجه المجازي ذلك التداخل بين المصطلحات والعبارات المستخدمة في الجمع والطرح، والتعامل مع الأشياء المادية؛ فيمكنني أن أتحدث مثلا عن «إضافة اثنين وخمسة»، ويمكنني أيضا أن أتحدث عن «إضافة الجبن إلى الهامبرجر»، أو «إضافة الملح إلى السلاطة»، أو «إضافة قطعة أخرى من الأثاث إلى الغرفة». يمكنني أن أقول: «إضافة ثلاثة وثلاثة تساوي ستة.» أو يمكنني أن أقول: «سيارة فيراري الجديدة إضافة رائعة إلى مجموعته.» وبقدر ما يمكنني أن أتحدث عن «الجمع بين ثلاثة وخمسة»، يمكنني أن أتحدث عن «الجمع بين السكر والبيض والزبد»؛ إننا نجمع الأعداد معا في عقولنا، مثلما نجمع بين الأشياء الموجودة في العالم الخارجي عنها. وعلى العكس من ذلك، فإننا نفصل بين الأعداد ، مثلما نفصل بين الأشياء؛ فيمكنني أن أقول مثلا: «إذا أخذت هذا العمود، فسوف ينهار البناء.» أو يمكنني أن أقول: «شكرا على أخذ القمامة.» ومع ذلك، يمكنني أن أتحدث عن «أخذ خمسة من سبعة»، أو أقول: «اثنا عشر نأخذ منها ستة، يساوي ستة.» إضافة إلى ذلك، فمثلما يمكنني أن أقول: «خمسة عشر ناقص اثنين، يساوي ثلاثة عشر.» يمكنني أن أقول: «إذا أنقصنا هذا الحزام من الزي، فإنه سيصبح غير ملائم.» يمكنني أن أستمر في طرح المزيد من الأمثلة، لكنني أعتقد أن ما أعنيه قد أصبح واضحا، وهو أن الكثير من كلمات اللغة التي نستخدمها لجمع الأشياء وإزالتها، يستخدم أيضا لجمع الأعداد وإزالتها.
إن التوازي بين الأشياء والأعداد، لا ينتهي هنا على أي حال؛ فمثلما يمكننا الحديث عن حجم الأشياء، يمكننا الحديث أيضا عن «حجم» الأعداد. فيمكنني أن أقول مثلا: إن التريليون عدد «كبير للغاية» أو: إن «سبعة أصغر من خمسة عشر». ويمكنني أن أقول: «أنا لا أعرف بالضبط الراتب الذي تحصل عليه، ولكني أعرف أنه رقم ضخم.» ويمكنني أيضا أن أقول: «إن راتبها ضئيل للغاية مقارنة بما تستحقه.» إننا نتحدث عن الأعداد في معظم الأحوال، وكأنها أشياء طيعة مختلفة الأحجام، أشياء يمكن المقارنة بينها وضمها معا وتجميعها كذلك. إن هذا النوع من التفكير المجازي طبيعي للغاية حتى إننا قد لا ندرك أننا نستخدمه. وربما يعود السبب في هذا الأساس المادي للغة الحسابية إلى أن اختراع الأعداد يعتمد بصورة كبيرة على أجسامنا المادية، لكننا، إضافة إلى هذا، نفكر في الأفكار المجردة، ونتحدث عنها في العديد من المجالات الإدراكية على أنها عناصر موجودة في العالم المادي. إن التفكير في الأعداد على أنها أشياء مادية ييسر تخزينها وتمثيلها ومعالجتها في الدماغ؛ إذ إننا نستطيع تصور الأشياء وتذكرها بسهولة أكبر من المفاهيم المجردة.
تؤدي الحركة الخيالية أيضا دورا في تطور الاستراتيجيات الحسابية، غير أن هذا الدور أكثر ثانوية. وهي ظاهرة مختلفة تماما، لكنها مجازية أيضا، ويمكننا أن نطلق عليها اسم «الحساب هو حركة على مسار ».
12
والفكرة الأساسية هي أن العديد من البشر (لا سيما متحدثي اللغة الإنجليزية) يصفون الأعداد على أنها توجد على خط، ويصفون الحركة على امتداد هذا الخط. والأمثلة اللغوية التي تتجسد فيها هذه الاستعارة كثيرة للغاية؛ فيمكنني أن أقول مثلا إن «101 و102 قريبان للغاية.» وإذا سألتك عما يكون ناتج عشرة زائد عشرة، وأجبت بأنه ثلاثون، يمكنني أن أقول إن إجابتك «بعيدة للغاية.» وإذا رأيت مجموعة من الأشخاص في فصل دراسي، فقد تقول إنه يوجد «ما يقرب من عشرين طالبا». وإذا كنت لا تعتقد أنهم بهذا العدد الكبير، فقد تقول إن عددهم «يقترب من العشرين». ويمكننا أن نطلب من الأطفال أن يعدوا من واحد إلى مائة، دون «تخطي أي أعداد». ويمكنهم أن يعدوا «من الخلف»، وكأن العد ينطوي على حركة إلى الأمام أو إلى الخلف على خط الأعداد. إن ما تتميز به هذه اللغة من تلقائية يمكن أن يحجب ما يحدث حين نستخدمها، وهو أننا نتحدث عن الأعداد المجردة والكميات التي تصفها وكأنها توجد على خط يمكن تحريكها عليه أو عرضها. إن الإشارة إلى الأعداد في سياق الخطوط والأشياء الطيعة منتشرة للغاية، وهي تسهل من اكتسابنا للكثير من المفاهيم الحسابية خلال الطفولة. إن هذه الاستعارات تستخدم عن عمد في السياقات التربوية كذلك؛ إذ يربط الأطفال بين الأعداد وبين الأشياء المادية وبين خطوط الأعداد في كتب التدريبات الخاصة بالرياضيات.
13
إضافة إلى أنماط الحديث، فإن الإيماءات المصاحبة للحديث، توضح الطرق التي نفهم بها الأعداد مجازيا. إن دراسة الإيماءات التي يقوم بها البشر في أثناء حديثهم، هي مجال خصب للدراسة في مجال علوم الإدراك. وتشير الكثير من الأبحاث إلى أن الإيماءات بمثابة نافذة تطل على العمليات الإدراكية لدى البشر. فعلى سبيل المثال، تنعكس نزعة متحدثي الإنجليزية إلى الحديث عن المستقبل باعتباره شيئا يقع أمام أجسامهم، في إشارتهم إلى الأمام في أثناء الحديث عن الأحداث المستقبلية. وعلى العكس من ذلك، فهم يشيرون إلى خلفهم في معظم الأحيان عند التحدث عن الماضي. وبالمثل، تظهر الإيماءات حين يتحدث الأشخاص عن الأعداد، مثلما يتضح ذلك في دراسة حديثة لمقاطع فيديو مسجلة لطلبة الكليات. حين تحدث الطلبة عن إضافة أعداد معا، كانوا يستخدمون في الوقت نفسه إيماءات «الجمع» أو «المسار». وقد تمثلت الإيماءات الأخيرة في تحريك أصابعهم أو أيديهم من أحد جانبي أجسادهم إلى الجانب الآخر، وكأن الأعداد تتقدم على خط ما. أما إيماءات الجمع، فقد كانت تنطوي على حركة الأيدي إلى الداخل، مع ضم اليد في قبضة، كما لو أن الطلاب يمسكون شيئا في أيديهم، أو يقبضون عليه. وحين كان الطلاب يتحدثون عن جمع الأعداد، كانوا يقومون في الوقت نفسه، وبشكل غير واع، بجمع أشياء متخيلة بأيديهم، أو يحركون أيديهم على خط خيالي. فمن الواضح أن المجاز يؤدي دورا في إنشاء الرياضيات باستخدام الأعداد، غير أن حجم هذا الدور يستلزم المزيد من البحث.
14
وثمة أنواع أخرى من الأدلة التي تدعم الاستنتاج المتمثل في أن البشر غالبا ما يفكرون في الأعداد في ضوء المكان المادي؛ فعلى سبيل المثال، يتخذ الأفراد القرارات الرياضية بصورة أسرع حين تتوافق المعلومات المكانية والعددية بدقة. فلتفكر على سبيل المثال في أي العددين التاليين له قيمة أكبر:
7 أم 9؟
أو أي العددين التاليين أكبر قيمة:
6 أم 8؟
هل استغرقت وقتا أطول في تقييم الزوجين الأولين من الأعداد؟ إذا كنت قد فعلت، فهذا يعني أن أوقات استجابتك لا تختلف عما أبداه معظم الأشخاص الذين تعرضوا لاتخاذ هذا القرار؛ فالفصل الكامل بين المعلومات المكانية والمعلومات العددية صعب بعض الشيء. وهذا التشابك الموجود بين هذين النوعين من المعلومات، يظهر بالفعل في الأبحاث المعنية بتصوير للدماغ. فحين يطلب من الأفراد التركيز على عدد أو أداء مهمة تتضمن التفكير العددي، تنشط في أدمغتهم أجزاء محددة. ويحدث الشيء نفسه حين يؤدون مهام تستلزم منهم اتخاذ قرارات بشأن الحجم المادي والموقع أو أي منهما؛ إذ تنشط هذه الأجزاء نفسها.
15
إضافة إلى هذا، فإن التشابك المكاني العددي يتضح أيضا في الارتباط المكاني العددي لرموز الاستجابة، الذي يشار إليه عادة باسم تأثير سنارك
SNARC . (يعود اكتشاف هذا التأثير، مثل العديد غيره من سمات الإدراك العددي، إلى عالم النفس الفرنسي ستانيسلاس ىديهان.) ويتضح هذا التأثير في السياقات التجريبية، حين يطلب من الخاضعين للتجربة على سبيل المثال أن يضغطوا على زر فور أن يروا عددا محددا على شاشة أمامهم. في حالة الأعداد الكبيرة، كان الخاضعون للتجربة يستجيبون بصورة أسرع حين يضغطون الزر باليد اليمنى، وفي حالة الأعداد الصغيرة، كانوا يستجيبون بصورة أسرع حين يضغطون على الزر باليد اليسرى. ويشير هذا النمط في الاستجابة إلى أننا نفكر في الأعداد وكأنها توجد في تمثيل مكاني على طول خط ما، بحيث تكون الأعداد الأصغر على اليسار والأكبر على اليمين. بالرغم من ذلك، ففي بعض الثقافات التي يسير اتجاه كتابتها من اليمين إلى اليسار، نجد أن هذا الخط معكوس، ونجد أن الاستجابة إلى الأعداد الكبيرة تتحقق بصورة أسرع باليد اليسرى. إن انتشار تأثير سنارك، مثل القرارات العددية المتأثرة بالمكان التي ذكرناها في الفقرة السابقة، كلاهما يدل على التشابك الإدراكي بين المكان والأعداد.
16
بالرغم من أن الأدلة على وجود أساس مجازي ومكاني للتفكير الحسابي تتسم بالإقناع، فإن هذا لا يعني أن التفكير المجازي هو الأساس الوحيد لمثل هذا النوع من التفكير؛ فمن غير المنطقي ألا يكون لدينا سوى عامل واحد فقط هو الذي يفسر تطور الأعداد أو استخدام هذه الأعداد في مبادئ الحساب. في حالة المجاز ، على سبيل المثال، نجد أن الثقافات تختلف في طريقة وضعها للأعداد في سياق المكان. إضافة إلى ذلك، ففي بعض الثقافات نجد أن الأدلة التي نمتلكها على أن الأفراد يضعون الأعداد على خط لها، قليلة للغاية أو حتى منعدمة. (راجع النقاش عن جماعة اليوبنو في الفصل الخامس). وعلى مستوى أكثر بدائية، فقد لاحظنا بالفعل وجود عدد قليل من الثقافات التي لا تستخدم أي أعداد محددة على الإطلاق، أو تستخدم منها مجموعة محددة للغاية. وبالرغم من أن الطريق اليدوي إلى الأعداد منتشر للغاية، فهو ليس بالطريق المحتمل الوحيد، ولا تظهر آثاره على الدوام في أساسات الأنظمة العددية. فعلى سبيل المثال، تستخدم بعض اللغات أنظمة سداسية (الأساس 6) لا يمكن تفسيرها باستخدام الأيدي أو الأصابع في التسمية الأولية للكميات. (راجع الفصل الثالث) إن أحد الموضوعات المتكررة في مجال اللغويات هو أنه لا ينبغي لنا الإفراط في تعميم الأنماط التي تتضح في العديد من اللغات، ونفترض أنها توجد في اللغات جميعها. بالرغم من ذلك، ولأن جميع البشر يمتلكون الأدمغة نفسها والأجساد نفسها بصفة أساسية، فليس من المفاجئ أنهم عادة ما يتخذون مسارات متشابهة توصلهم إلى المفاهيم الحسابية، وهذه المسارات غالبا ما تتضمن طرقا مجازية.
ومن الأساسات الأخرى التي أسهمت في انتشار الأعداد الأساس اللغوي على وجه التحديد؛ إذ تشير بعض الأعمال التي قامت بها عالمة اللغويات هايكا فيسا إلى أن علم بناء الجملة ييسر ابتكار المفاهيم العددية؛ فقد يساعدنا البناء اللغوي على تحويل مصطلحات الأعداد مثل «خمسة» و«ستة» إلى أنظمة عددية ذات فائدة أكبر. وفي نهاية المطاف، عندما ندرك نحن - مستخدمي الأعداد - أن 6 أكبر من 5 بمقدار واحد، وأقل من 7 بمقدار واحد، نصبح على وعي بمبدأ الخلف. لكن الأرجح أننا نتوصل إلى هذه الفكرة، بشكل جزئي على الأقل، لأن اللغة توفر لنا التدريب على استخدام رموز يختلف معناها وفقا للترتيب الذي ترد فيه. فلنتناول هذه الجملة الإنجليزية المتعدية على سبيل المثال:
The crocodile ate the snake . (التي تعني بالعربية أن التمساح أكل الثعبان.) يتوقف معنى هذه الجملة على كلماتها المفردة ، لكن الكلمات وحدها لا تكفي للفهم في غياب الاتفاق البنائي؛ فبالرغم من كل شيء، توجد بعض أنواع الثعابين (الأناكوندا) تأكل التماسيح؛ فكيف سنعرف ما الذي يأكل ماذا؟ إن السهولة التي نفهم بها مثل هذه الجمل التي يمكن أن تكون مبهمة، يعود السبب فيها إلى قواعد بناء الجملة في اللغة الإنجليزية. فلأننا نعرف أن الفاعل يسبق الفعل عادة، الذي يسبق المفعول بدوره؛ فنحن نعرف أن الثعبان هو الذي أكل. وإذا طبقنا على عالم الأعداد هذا النوع من المعنى الذي يتوقف على الترتيب، يمكننا أن نرى كيف أن علم بناء الجملة يساعدنا في فهم العلاقة بين كل عدد والآخر. ربما تكون لدينا نزعة فطرية لتشكيل التسلسلات العددية وفك رموزها، وفهم أن مفردات العد لها معان محددة متوقعة؛ لأن البناء اللغوي يساعدنا في وضع الأساس لفهم تسلسلات الأعداد. ومن هذا المنظور فإن البناء اللغوي يمدنا بالأساس لإدراك أن معاني الكلمات يمكن أن تختلف وفقا للترتيب الذي ترد فيه.
17
إن هذه العوامل مثل المجاز والبناء اللغوي، تفيدنا في أن نفهم كيف تمكن نوعنا من الانتقال من «مواجهة» الصعوبة في التعامل مع الأعداد الأساسية (وأنا أعني هذه التورية)، إلى استخدامها بطرق جديدة. وهي تساعدنا في تفسير كيفية تطور العمليات الحسابية من الأعداد النموذجية. وبغرض الوضوح، فإنني لا أزعم أن هذه العوامل توجد قطعا في جميع الثقافات، أو أنها تنبع منطقيا في جميع الحالات من اختراع مفردات الأعداد؛ فسوف يكون من غير الدقيق بالطبع أن نزعم أن «البشر يخترعون الأعداد بسبب أصابعهم، فهم يستخدمون اللغة والمجاز، وغير ذلك من العوامل؛ فيتوصلون في النهاية إلى النظرية الأساسية في التفاضل والتكامل.» إن مدى استخدام الثقافات لمبادئ الحساب الأساسية، والرياضيات الأكثر تعقيدا، تختلف بدرجة كبيرة من ثقافة إلى أخرى، مما يدل على أن العديد من العوامل المرتبطة بالمجتمع تدخل في الأمر. بالرغم من ذلك، يبدو لنا أن العوامل التي ناقشناها هنا شائعة، وهي من المكونات الأساسية في تعزيز التفكير الرياضي.
الأعداد في الدماغ
إن الدماغ البشري أكبر مما ينبغي أن يكون عليه بعدة مرات، وذلك مقارنة بالنسبة المعتادة بين حجم الدماغ وحجم الجسم، والتي تظهر لدى أنواع الرئيسات الأخرى. ويتركز 80 بالمائة من كتلة الدماغ في القشرة الدماغية؛ تلك الطبقة الفوضوية الالتفاف، التي تتكون من المادة الرمادية، ويبلغ سمكها من ميلليمترين إلى أربعة ميلليمترات، وتنقسم إلى نصفين وأربعة فصوص أساسية. ووفقا لبعض التقديرات، فإنها تحتوي على 21 إلى 26 مليارا من الخلايا العصبية التي تسمح بجميع أنواع عمليات التفكير المميزة للبشر. وفي العقود القليلة الماضية، استكشفت الأبحاث الموسعة من بين العديد من الموضوعات الأخرى، كيفية حدوث الإدراك العددي من الناحية الفيسيولوجية العصبية. وقد اكتشفت دراسات تصوير الدماغ المكان الذي يحدث فيه الجزء الأكبر من عمليات التفكير العددي. وهذا الموضع العددي لا يقع في قشرتنا الأمامية التي تتميز بتطورها الفائق، بل إن القدر الأكبر من تفكيرنا العددي يحدث في منطقة تدعى الثلم داخل الفص الجداري (
IPS )، التي ذكرناها لأول مرة في الفصل الرابع، وقد أشرنا حينها إلى أن حاستنا العددية الفطرية توجد، بصفة أساسية على ما يبدو، في الثلم داخل الفص الجداري.
18
وبالنظر إلى أن الحاسة العددية الفطرية لدى البشر لا تختلف عن مثيلتها لدى الرئيسات الأخرى، فربما لا يبدو من المفاجئ أن يحدث القدر الأكبر من تفكيرنا العددي في منطقة من الدماغ توجد أيضا في أدمغة الأنواع قريبة الصلة بنوعنا. والواقع أن دراسات تصوير الدماغ تشير إلى أن الثلم داخل الفص الجداري في القرود، ينشط هو أيضا استجابة للمهام العددية، مثل تحديد ما إذا كانت مجموعتان من النقاط تمثلان كميتين مختلفتين أم لا. إضافة إلى ذلك، تنشط مجموعات محددة من الخلايا العصبية الموجودة في الثلم داخل الفص الجداري، وفقا للكميات المحددة التي تركز عليها مهام معينة. فحين ترى القرود شيئا ما تنشط مجموعة متوقعة من الخلايا العصبية، وحين ترى شيئين تنشط مجموعة أخرى متوقعة أيضا من الخلايا العصبية.
19
إن الدراسات التي أجريت على أدمغتنا قد أوضحت مرارا أن الثلم داخل الفص الجداري في نصفي الدماغ، ينشط في أثناء العديد من مهام المعالجة العددية . في معظم الأحيان، تستخدم دراسات تصوير الدماغ التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. وفي هذه الدراسات، يجري الخاضعون للتجربة عددا من مهام التفكير العددي، بينما تتم مراقبة نشاط أدمغتهم من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. ومثلما قد أشار بعض علماء الأعصاب، فإن هذا النشاط يقع بصورة كبيرة في منطقة محددة من الثلم داخل الفص الجداري، وهي شريط أفقي من الثلم الدماغي يشار إليه باسم المنطقة الأفقية في الثلم داخل الفص الجداري (
hIPS ). فقد أوضحت مجموعة متنوعة من تجارب التصوير أن الثلم الأفقي داخل الفص الجداري ينشط حين يفكر البشر في الكميات ويميزونها. فعلى سبيل المثال، إذا عرضت عليك مجموعة من النقاط، أو طلب منك أن تقارن بين كمية مجموعتين، فسوف تنشط المنطقة الأفقية في الثلم داخل الفص الجداري لديك. ومن المثير أنه ينشط عند إدراك كميات من النقاط أو رؤية رموز الأعداد، أو عند سماع الأعداد المنطوقة. وبعبارة أخرى، فإن المعالجة العددية في الحواس المختلفة تحدث هناك. إن المنطقة الأفقية في الثلم داخل الفص الجداري ترتبط بالتفكير العددي المجرد، لا الإدراك الحسي البصري لمجموعات من الأجسام فحسب. إضافة إلى ذلك، فإن درجة هذا النشاط تتناسب مع شدة التفكير العددي المطلوب لأداء المهمة المحددة. فعلى سبيل المثال، إذا طلب منك أن تحدد ما إذا كانت عشرون نقطة أكبر عددا من خمس نقاط أم لا، فإن المنطقة الأفقية في الثلم داخل الفص الجداري لا تنشط إلا بدرجة ضعيفة. وعلى العكس من ذلك، إذا طلب منك أن تميز عشرين نقطة من سبعين، فإن درجة نشاطها ستكون أعلى بدرجة كبيرة.
20
ترسم بيانات التصوير العصبي صورة مشابهة لتلك التي يرسمها ما فحصناه من بيانات أخرى، وهي أن البشر يمتلكون مكونا حيويا عصبيا بدائيا أساسيا، وهو يوجد أيضا لدى العديد من الأنواع الأخرى. لكننا نمتلك أيضا القدرة على توسيع وظائف هذا المكون إلى ما هو أبعد من عالم التمييز بين الكميات الصغيرة وتقدير الكميات الكبيرة. ويستلزم هذا التوسع الوظيفي استخدام أجزاء أخرى من القشرة الدماغية البشرية، وبصورة أكثر تحديدا ، فنحن نحتاج إلى استخدام أجزاء من النصف الأيسر من الدماغ، التي يكون لها دور في المعالجة اللغوية لتوسيع التفكير العددي إلى عالم التمييز الدقيق والجمع الدقيق والطرح الدقيق، وغير ذلك. ولكي يحدث هذا التوسع، نحتاج إلى تحويل الفروق المادية إلى ألفاظ. وهذا التوسع القائم على الألفاظ، والذي ييسره على ما يبدو، علم بناء الجملة والمجاز، يتضح في بيانات التصوير التي تبين نشاط المناطق المرتبطة باللغة في القشرة الدماغية خلال بعض المهام الكمية؛ ومن ثم فإن بيانات تصوير الدماغ تعيدنا مرة أخرى إلى الاستنتاج الذي أصبح مألوفا لنا: لكي نبني تفكيرنا الرياضي الفطري؛ نحتاج إلى رموز لفظية للكميات، أي إننا نحتاج إلى الأعداد.
21
خاتمة
هذه هي الطريقة التي اخترعت بها الأعداد في معظم الأحوال؛ كان البشر يكتشفون أحيانا أنه توجد كميات محددة مثل «خمسة». وقد أدى اكتشافهم هذا، في بعض الحالات على الأقل، إلى ابتكار كلمات لتلك الكميات، وقد كانت هذه الكلمات تشتق عادة من أسماء أجزاء الجسم الموجودة بالفعل، وهي أجزاء الجسم التي مكنتهم من إدراك وجود الكميات المحددة، أو يسرت ذلك. وأصبحت مفردات الأعداد الناتجة تمثل الكميات بدقة، وهذا التمثيل الدقيق ينبع جزئيا من قدرتنا الفطرية على تقدير الكميات الأساسية. بالرغم من ذلك، فلا يمكننا أن نغالي في ذكر الدور المحوري للأصابع والأيدي في تقدير الكميات الأقل أساسية. ويعود هذا الدور بدرجة ما إلى الحضور القوي للأصابع في الخبرة الإدراكية والحسية للبشر، وإلى التناظر الجوهري بين يدي البشر. وهو يعود بطريقة غير مباشرة إلى سير البشر على قدمين، وهو إحدى الطرق الأساسية العديدة التي يفسر بها البشر خبرتهم الإدراكية من خلال التفكير المتجسد.
إن اختراع الأعداد الأساسية، أو الأعداد النموذجية، ليست سوى بداية الحكاية فقط؛ فاستخدام مثل هذه المفردات يؤدي في النهاية إلى التوسع الوظيفي للأنشطة الفيسيولوجية العصبية المرتبطة بالتفكير الكمي. وبالرغم من أننا لا نفهم هذا التوسع تماما، فنحن نعرف أنه يعتمد بدرجة كبيرة على وجود الأعداد اللفظية. صحيح أن بعض الظواهر اللغوية الأخرى مثل المجاز والترتيب البنائي المعتاد، تساعد في تشييد بنيان علم الحساب، لكن هذا البنيان يقوم بصورة أساسية على الأعداد اللفظية.
إن الأعداد هي ابتكار من العقل البشري كانت له آثار عميقة على قصة البشرية؛ فقد غيرت الأعداد فهمنا للكميات. لكن هذه الآثار لم تكن إدراكية فحسب؛ إذ إنها قد شكلت أيضا خبرتنا البشرية من نواح أخرى. في الفصل التالي، سنناقش المدى الذي شكلت به الأعداد، وما زالت تشكل، الجوانب المختلفة في حياتنا اليومية.
الفصل التاسع
الأعداد والثقافة: نمط الإعاشة والرمزية
على قمة هرم خوفو، أكبر أهرامات الجيزة، نجد السحر الرياضي لقدماء المصريين يقبع هناك عاريا؛ ملايين الأطنان من الحجر الجيري المجوى تتقارب عند القمة المربعة ، وهي مساحة تتسع بالكاد لأن يستريح فيها فرد واحد فقط بعد وصوله إلى القمة، وتحيط به منحدرات شديدة الانحدار على الجوانب الأربعة (غير أن أعقاب السجائر المبعثرة على القمة توضح أن العديد من الأشخاص قد تمكنوا من الصعود والاسترخاء هناك بالأعلى). حين ينظر المرء إلى جوانب الهرم من الأعلى، وهو يبتلع أي نزعة لرهاب المرتفعات، فإنه يدهش من الانتظام الهندسي لمربعات الحجارة متحدة المركز، التي تأخذنا نحو القاعدة؛ فعلى طول 139 مترا رأسيا، يزداد حجم المربعات المرصوصة تدريجيا كلما اقتربت من الأرض. وعلى العكس من القمة المربعة الصغيرة للغاية، يبلغ طول كل جانب من جوانب القاعدة المربعة ما يقرب من 230 مترا. ومن المثير أن محيط قاعدة الهرم، يساوي تقريبا ضعف الارتفاع الأصلي للهرم عند ضرب هذا الارتفاع في ثابت الدائرة
π .
1
لا يزال بعض الخلاف قائما بشأن ما إذا كان هذا التناظر مقصودا أم أنه أمر عرضي فحسب قد جاء نتيجة للتناظر الكلي للهرم ودقة البناء. أما ما لا يوجد خلاف بشأنه، فهو أن هذا الهرم إنجاز استثنائي وخالد للمعماريين والعمال القدامى. لقد صمد كأعلى بناء صنعه البشر على مدار ما يقرب من أربعة آلاف عام، وذلك إلى أن اكتملت كاتدرائية لنكولن في إنجلترا عام 1311. لقد كان الهرم مقبرة للفرعون المصري خوفو منذ أن اكتمل إنشاؤه قرابة العام 2540 قبل الميلاد؛ فهذا البناء المذهل قديم للغاية حتى إنه قد ظل من أماكن الجذب السياحي على مدار آلاف السنين حتى الآن. إن إنشاءه قد استلزم تخصيص نسبة كبيرة من السكان للعمل فيه، وهم الذين أنشئوه، مثله في ذلك كغيره من الآثار العظيمة والمقابر والمباني. لقد احتل مركزا محوريا في ثقافتهم، مجسدا لأساطيرهم ومعززا العديد من القيم الروحية. إن تشييد هرم خوفو وغيره من الأهرامات، قد أسهم في تشكيل حياة المصريين القدماء، بل إنه لا يزال يؤدي دورا بارزا في حياة الكثير من المصريين المعاصرين الذين ينتفعون من السياحة بعد بنائه بأربعة آلاف وخمسمائة عام.
إن الأمر لا يتطلب الكثير من التأمل حتى ندرك أن البناء، كغيره الكثير من إنجازات البشرية في آلاف الأعوام القليلة الماضية، لم يكن ليصبح ممكنا بدون الأعداد والرياضيات؛ فالمشروعات الكبيرة التي يتعاون فيها عدد من الثقافات، التي تسهم بدورها في تشكيل تلك الثقافات من خلال حلقة استجابة مادية اجتماعية، عادة ما تتوقف على الرياضيات. ولن يختلف أحد على أن الرياضيات قد سمحت بازدهار بعض المظاهر الواضحة من الثقافة المادية، مثل هرم خوفو وغيره من المباني الضخمة. في هذا الفصل، سوف نستكشف عددا قليلا من هذه الطرق التي غيرت بها الأعداد خبرات البشر اليومية في معظم الثقافات. إضافة إلى هرم خوفو، توجد العديد من الأمثلة الأقل وضوحا والأكثر انتشارا، في مظاهر الثقافة المادية والرمزية التي ابتكرت من خلال الأعداد أو أصبحت ممكنة بسبب وجودها؛ فمنذ فترة طويلة ونحن نعترف بأن الرياضيات مؤشر مهم للعمارة والتصنيع، وتقدم العمليات الطبية والعلمية وما إلى ذلك. وبالرغم مما يحمله هذا الاعتراف العام من مزايا، فيمكننا أن نقول إنه يعكس قصر نظرنا التاريخي؛ إذ إننا عادة ما نركز على التطورات الحديثة نسبيا في الرياضيات الغربية، التي نتج عنها العديد من الإنجازات في مجالات الهندسة والعلوم. أما هنا، فنحن نولي تركيزا أكبر على عمق تاريخي أبعد، وعلى الدور التأسيسي الذي لعبته الأعداد في بناء الممارسات الثقافية التي أعادت تشكيل الخبرة البشرية، بعيدا عن دورها في الرياضيات المتقدمة. ربما يكون الأمر الأكثر أهمية، هو أن الأعداد قد جعلت من الثورات الزراعية أمرا ممكنا، وما يرتبط بها من اختراع أنظمة الكتابة في أجزاء مختلفة من العالم، وفي مراحل مختلفة من التاريخ. فلم تتطور الممارسات الرياضية المعقدة في بلاد الرافدين والصين وأمريكا الوسطى، إلا بعد أن وفرت الثورات الزراعية الفوائض الغذائية، التي أتاحت وجود طبقات من الأشخاص المدربين على استخدام الرياضيات في هذه المناطق. بالرغم من ذلك، فقبل هذه التطورات، لم يكن ظهور الأنظمة العددية سابقا على الزراعة والكتابة بشكل عرضي؛ ففي واقع الأمر كانت هذه الأنظمة العددية هي الأساس الذي بنيت عليه هذه الحضارات الكبيرة، ومنها الحضارة التي شيدت هرم خوفو. ولسنا نزعم هنا أن الأنظمة العددية المعقدة تتمخض دوما عن اتساع الرقعة الزراعية أو أنظمة الكتابة، بل نزعم أن استخدام مثل هذه الأنظمة كان معيارا ضروريا لانبثاق مثل هذه الظواهر. وفيما يلي سأقدم بعض الأدلة التي تدعم هذا الرأي.
الأعداد ونمط الإعاشة
إننا نرشح خبرتنا من خلال ما تعلمناه وشاركناه من معتقدات وقيم وأدوات ورثناها من المحيطين بنا، وذلك بطرق لا شعورية في معظم الأحوال. أي إننا نرشح خبرتنا من خلال ثقافتنا الأصلية. إن جميع عناصر حياتنا تقريبا تتأثر بهذا الترشيح؛ ماذا يعني لك الزواج؟ حسنا، يتوقف هذا على ثقافتك الأصلية؛ ففي بعض الثقافات يعني الزواج أن يكون لك أكثر من شريكة، وفي ثقافات أخرى يعني الزواج الارتباط بشريكة واحدة فقط. أحيانا يكون الزواج بعقد مدى الحياة، وأحيانا لا يحدث هذا. في تجاربي الشخصية في ثقافات مختلفة، شهدت زواج مراهقين عمرهما اثنا عشر عاما، وزواج أنثى عمرها أحد عشر عاما من ذكر عمره أربعون عاما، وزواج رجل واحد بعدة نساء، وزواج امرأتين في الخمسين من عمرهما، إضافة إلى غير ذلك الكثير من ترتيبات الزواج. وفي كل من هذه الثقافات التي التقيت فيها بأفراد في هذه الزيجات، كانت ترتيباتهم تبدو طبيعية للغاية بالنسبة إليهم، بالرغم من أنها تبدو شاذة جدا في بعض المجتمعات في العالم. إن هذه الترتيبات تعكس بعض الاختلافات الأساسية في مفهوم الطفولة بين ثقافات العالم أيضا. وليس هذا مجالا لذكر الطرق التي تؤسس بها الثقافات حياتنا الاجتماعية، لكن إذا كانت الثقافات تحدد مفهومنا عن الطفولة والزواج، فلن يقع خارج نطاقها من جوانب الحياة إلا عدد قليل. ومثلما ذكرت سابقا، فإن المكون اللغوي للثقافة يمكن أن يؤثر في كل شيء، بداية من كيفية تفكيرنا في الزمان والمكان، إلى التمييز بين فئات الألوان، وأحيانا يكون ذلك بشكل مستمر (وإن كان خفيا). موجز القول أن خبرتنا الإدراكية والسلوكية تعد نتيجة لعوامل تتعلق بالثقافة بطريقة أو بأخرى. وهذه العوامل تتضمن الأعداد التي تستخدمها مجموعات محددة من الأشخاص.
مثلما رأينا، فإن مصطلحات الأعداد يكون لها تأثير على التفكير العددي الأساسي؛ إذ تمكننا من اكتساب المهارات الأساسية لتمييز الكميات، ويمكن استخدام هذه المهارات بعد ذلك في تأسيس علم الحساب. إضافة إلى هذا، يبدو أن المهارات الأساسية لتمييز الكميات وعلم الحساب، تسمح بوجود ما يرتبط بها من تغييرات ثقافية، أو تسهل من وجودها على الأقل، مثل تلك التغيرات المرتبطة بنمط الإعاشة. وبهذا، فقد تشكل تلك التغييرات مصدر ضغط على أفراد ثقافات محددة في أن يزيدوا من تطوير مخزونهم من مفردات الأعداد، وأن يصقلوا استراتيجياتهم الحسابية. وبعبارة أخرى: يبدو أن هناك علاقة تكافلية بين الأعداد والجوانب غير اللغوية من الثقافة؛ إذ إن كليهما يتوقف على الآخر، على مدار الأجيال. ويتضح جزء من هذه الأدلة التي تدعم وجود هذه العلاقة التكافلية، من خلال دراسة العلاقات العالمية بين العناصر السلوكية في الثقافة، وبين اللغة العددية.
إن أحد الأمور المذهلة بشأن الأعداد (من منظور متعدد الثقافات) هو النطاق الواسع لتنوعها، ويتضح هذا التنوع في المعلومات التي عرضناها في هذا الكتاب. ويجدر بنا أن نشير إلى أن معظم جوانب المعنى لا تتنوع بهذه الدرجة الكبيرة فيما يتعلق بنطاق التعبير عنها في لغات العالم. فعلى سبيل المثال، في حالة مصطلحات الألوان، نجد تنوعا بالفعل فيما يتعلق بكيفية ترميز لغات العالم لدرجات الألوان، لكن هذا التنوع ينحصر في نطاق عدد مصطلحات الألوان الأساسية، وعادة ما تمتلك اللغات ما يتراوح بين ثلاثة مصطلحات وأحد عشر مصطلحا للألوان الأساسية. وينطبق الأمر نفسه على مصطلحات العواطف، وحتى الروائح قد ثبت أنها تتنوع بطرق مشابهة، إضافة إلى مجموعة متنوعة من فئات المفاهيم. أما حين يتعلق الأمر بمفاهيم الكميات، فإن اللغات تختلف بدرجة أكبر في عدد الكلمات التي تستخدمها، في ترتيب الحجم، على المقياس الأسي. وهذا لا يعني أنه لا توجد قواعد في كيفية بناء تعبيرات الأعداد، وهو لا يعني أيضا أن معاني مصطلحات الأعداد ليس لها حدود. فبالرغم من أن مقدار مفردات الأعداد يختلف اختلافا كبيرا بين اللغات، نظرا إلى أن نطاق الكميات التي يمكن تسميتها غير محدود، فإن ترجمة هذه المفردات عادة ما تكون مباشرة للغاية؛ فالكلمة التي تعبر عن العدد 6 في أي لغة من اللغات، يشير تعريفها إلى التعبير عن ستة أشياء على وجه التحديد. وهو أمر منطقي؛ فالأجسام المادية كمياتها منفصلة، أي إنها ترد في مجموعات منفصلة. وعلى العكس من ذلك، نجد أن ألوان الطيف الضوئي المرئي تمتزج مع بعضها. ونتيجة لهذا، ولعوامل أخرى، فإن الدلالات المادية التي تعبر عنها مصطلحات الألوان غالبا ما تختلف بعض الشيء من لغة إلى أخرى (راجع الفصل الأول)؛ إذ إن هذه المصطلحات تقسم الضوء المرئي بأشكال محددة، لكنها متباينة. وعلى العكس من ذلك، فإن معنى كلمة مثل «خمسة» يظل ثابتا بين اللغات بشكل عام.
مع ذلك، فنظرا إلى أن «النطاق» الذي يمكن أن تتنوع فيه الأعداد المنطوقة بين الثقافات منقطع النظير، فثمة أهمية خاصة لأن نستكشف العلاقة بين أنظمة الأعداد وغيرها من العوامل الثقافية. لقد انشغل العديد من الباحثين باستكشاف العلاقة بين الأعداد والثقافة على مدار سنوات، وسوف نناقش هنا أحد أهم النتائج التي توصلت إليها هذه الأعمال البحثية، وهي إظهار العلاقة بين أنواع أنظمة الأعداد وبين أساليب الإعاشة. وقد قدمت الأعمال الحديثة بعض الأدلة على وجود ارتباط يمكن تمييزه بوضوح بين الأنظمة العددية البسيطة (التي توشك أحيانا ألا تكون موجودة على الإطلاق)، وبين أسلوب الإعاشة القائم على الصيد وجمع الثمار. وعلى العكس من ذلك، توضح هذه الأعمال وجود علاقة بين أنظمة العيش الزراعية وبين أنظمة الأعداد الأكثر تعقيدا.
2
بقيادة بيشنس إبس من جامعة تكساس، قام فريق من علماء اللغويات مؤخرا بتوثيق تعقيد أنظمة الأعداد في العديد من لغات العالم. وقد اهتم الباحثون تحديدا بالحد العددي الأعلى في اللغات، أي أكبر كمية لها اسم محدد. وليس من السهل تأسيس هذا الحد في حالة بعض اللغات، مثل لغة الباردي؛ فهذه اللغة الأسترالية تستخدم كلمات للتعبير عن الكميات 1 و2 و3، لكن وضع الكلمة التي ترمز إلى الكمية 4 أقل وضوحا؛ إذ إنها تنطوي على تكرار الكلمة المستخدمة للعدد 2. (مثلما أشرنا في الفصل الثامن، فإن الكلمة التي تعبر عن العدد «أربعة» في اللغات الأسترالية، غالبا ما تتكون من أعداد أصغر.) إضافة إلى ذلك، فإن كلمة «ني-مارلا» أو «يد» يمكن أن تشير إلى العدد 5، لكن ذلك بين بعض متحدثي الباردي فحسب. ومثل هذا العدد المميز يجسد مثالا على التحديات العرضية في تأسيس الحدود العليا في أنظمة عددية معينة. بالرغم من ذلك، ففي معظم الحالات يكون تحديد العدد الأكبر في لغة ما مهمة مباشرة بدرجة كبيرة. وقد توصل الفريق المعني من علماء اللغويات إلى الحد العددي الأكبر في 193 لغة في الثقافات التي تقوم على الصيد وجمع الثمار في أستراليا والأمازون وأفريقيا وأمريكا الشمالية. إضافة إلى ذلك، فقد فحصوا الحد العددي الأكبر في 204 من اللغات في الثقافات الزراعية والرعوية في هذه الأماكن أيضا، واكتشفوا أن الحد العددي في لغات الجماعات التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار، عادة ما يكون أصغر. وينطبق ذلك تحديدا في أستراليا والأمازون، وهي المناطق التي تعتمد في أسلوب العيش على الصيد وجمع الثمار بشكل كامل. وقد ذكرنا الأعداد المحدودة التي تستخدمها هذه اللغات في الفصل الثالث، أما الآن فسوف نربط هذه القيود بالعوامل الثقافية.
3
في حالة اللغات الأسترالية لاحظت الدراسة المعنية أن 80 بالمائة من اللغات، محدودة من ناحية الأعداد، وأكبر كمية تمثل فيها لا تزيد عن 3 أو 4.
4
وقد أشارت الدراسة إلى أن لغة أسترالية واحدة، وهي لغة الجاميلاراي، هي التي يزيد حدها العددي الأكبر على العشرة، وأعلى عدد تمثله هو العدد 20. ونظرا إلى أن كل جماعات السكان الأصليين في أستراليا تعتمد عادة على الصيد وجمع الثمار، فإن العلاقة بين وجود عدد محدود من مصطلحات الأعداد ونمط العيش، يؤثر بشدة على الاتجاه المتوقع في تلك القارة. وتتضح هذه العلاقة بقوة أيضا في أمريكا الجنوبية، أو الأمازون على وجه التحديد؛ فعادة ما يكون الحد الأعلى في اللغات التي تستخدمها ثقافات الصيد وجمع الثمار في هذا الإقليم، أقل من عشرة، فلا توجد سوى لغة واحدة من هذه اللغات هي التي تمتلك أعدادا للكميات الأكبر من 20، وهي لغة هاوراني. إن ثلثي اللغات التي تستخدمها جماعات هذا الإقليم يكون الحد الأكبر فيها 5 أو أقل، وأما الثلث الآخر فلا يزيد الحد الأكبر فيه عن عشرة. وهذه النسب من الأنظمة العددية المحدودة أكبر كثيرا مما قد نتوقعه من عينة عشوائية من الثقافات. واختصارا، فإن العلاقة بين أساليب العيش الأساسية والتعقيد العددي متغلغلة في هذه الأقاليم.
وبالرغم مما تجلبه مثل هذه النتائج من فائدة، فإنها تنطوي على إحدى المشكلات، وهي أنها مبنية على أساس التصنيف المبسط للثقافات إلى نوعين: ثقافات تتبع نمط الصيد وجمع الثمار مقابل ثقافات لا تتبع نمط الصيد وجمع الثمار. وهذا التصنيف ضروري لإجراء هذا العمل الاستبياني، غير أنه من المهم أيضا أن نراعي أن أنماط إعاشة البشر تتنوع تنوعا أكبر مما ينطوي عليه هذان المسميان. فعلى سبيل المثال، نجد أن المجموعات التي تعيش على الصيد وجمع الثمار تختلف بدرجة كبيرة في مقدار ما تحصل عليه من سعرات حرارية من خلال الصيد، وفي أنواع الصيد الذي تمارسه. وبالرغم من كل شيء، فإن مجموعات الصيد وجمع الثمار في أستراليا والأمازون وغيرها من الأماكن، تصطاد أنواعا مختلفة من الحيوانات، وتعيش في أنظمة بيئية مختلفة. وهذا الاختلاف في الأنظمة البيئية، يتضمن الاختلاف في إمكانية الوصول إلى مصادر الماء العذب، ومن ثم اختلاف معدلات الاعتماد على الأسماك وغيرها من الحيوانات المائية كمصدر للحصول على السعرات الحرارية. إضافة إلى ذلك، فالعديد من الجماعات التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار، تعتمد على أساليب القطع والحرق في الزراعة، بدرجة ما على الأقل، حتى وإن لم يمارسوا الزراعة المستقرة على الإطلاق. وأخيرا، فإن أنواع الشبكات الاجتماعية الأكبر التي تتضمن مجموعات الصيد وجمع الثمار، تختلف اختلافا كبيرا؛ فبعض مجموعات الصيد وجمع الثمار في الأمازون تعيش في انعزال بدرجة كبيرة. وفي الواقع، وفقا لتقنيات التصوير بالقمر الصناعي الجديدة، توجد العديد من جماعات السكان الأصليين المنعزلة التي تعيش في الإقليم. وعلى العكس من ذلك، فإن معظم جماعات الصيد وجمع الثمار التي تعيش في منطقة الحوض العظيم بجنوب غرب أمريكا (وهي المنطقة التي ركز عليها إبس وزملاؤه)، طالما كانت متصلة مع بعضها البعض، ومتصلة بالمجتمعات الأكبر منها أيضا. ومع هذا التواصل يأتي انتشار التجارة وتقييم السلع، مما يزيد من فائدة مفردات الأعداد، بينما يؤدي هذا الترابط المجتمعي الكبير إلى استعارة مفردات الأعداد. وموجز القول أن ثقافات الصيد وجمع الثمار المختلفة، تواجه ضغوطات اجتماعية ثقافية كبيرة التنوع، فيما يتعلق بزيادة استخدام الأعداد. ومن ثم، فبالرغم من أن الاستخدام المتجانس لمصطلحات مثل «مجموعات الصيد وجمع الثمار» أمر منطقي، فهو يعتم على بعض الاختلافات المهمة بين أنواع الثقافات؛ ولهذا فليس من الغريب أن مجموعات الصيد وجمع الثمار في أمريكا الشمالية، تمتلك أنظمة عددية أكثر تعقيدا، من تلك التي تمتلكها مجموعات الصيد وجمع الثمار التي تعيش في الأمازون على سبيل المثال.
5
وبالرغم من محدودية المصطلحات المستخدمة لتصنيف الجماعات السكانية البشرية، فلا يزال لدينا ارتباط واضح بين أنواع أسلوب العيش، وتعقيد أنظمة الأعداد: الجماعات التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار، ولا تستخدم الزراعة أو غيرها من الأساليب الزراعية المعقدة إلا قليلا، تستخدم تقنيات عددية متواضعة في معظم الأحيان. وينبغي أن أؤكد على «في معظم الأحيان» هنا؛ إذ يوجد بعض الاستثناءات من المجتمعات التي لا تعتمد على الزراعة، لكنها تمتلك حدودا عددية كبيرة نسبيا. ويوجد عدد قليل من المجتمعات الاستثنائية التي تطبق بعض الممارسات الأساسية في الزراعة، لكن حدودها العددية منخفضة (مثل جماعة الموندوروكو التي تناولناها في المناقشة في الفصل الخامس.) بالرغم من ذلك، فما من جماعات زراعية كبيرة، سواء في الوقت الحالي أو في التاريخ المسجل لدينا، دون أنظمة عددية معقدة. ومع ذلك، يجب أن أوضح أن التفسير الذي أطرحه ليس تفسيرا حتميا يقضي بأن الأنظمة العددية التي تتسم بوجود حدود عددية مرتفعة، تؤدي حتما إلى ظهور الزراعة. وإنما أقترح أن الأنظمة العددية القوية (كانت) ولا تزال عاملا مهما يساعد في ابتكار الممارسات الزراعية. غير أننا في نهاية المطاف نفترض وجود تطور مشترك بين الأنظمة العددية وأنماط الإعاشة، أي إن أنواعا محددة من أنماط الإعاشة (مثل الزراعة المستقرة) تشكل بعض الضغوطات لتطوير أنواع أكثر تعقيدا من الأعداد.
إن تداعيات هذا الاستنتاج لا تقتصر على وعينا بالبشر في الوقت الحالي فحسب، ولكنها تؤثر أيضا على فهمنا للبشر على مدار التاريخ. فقد عاش نوعنا في الغالبية العظمى من فترة وجوده على الصيد وجمع الثمار في أفريقيا، دون ممارسات زراعية ولا شبكات تجارة معقدة؛ إذن فمن التفسيرات المنطقية للتوزيع المعاصر لأنواع الأنظمة الثقافية والعددية، هو أن البشر لم يستخدموا الأنظمة العددية المعقدة على مدار الجزء الأكبر من تاريخهم. ومن التفسيرات المنطقية الأخرى أن التحول إلى ثقافات أكثر استقرارا وتعتمد على التجارة بدرجة أكبر، قد أسهم في دفع العديد من المجموعات إلى تطوير تقنيات عددية أكثر تعقيدا. وقد كان هذا التحول واضحا بالفعل في نقاشنا لنشأة الكتابة في الفصل الثاني؛ فقد تطورت الأعداد المكتوبة، والكتابة بوجه عام، في منطقة الهلال الخصيب بعد أن بدأت الثورة الزراعية هناك؛ فحين بدأ البشر الذين كانوا يعيشون في هذه المنطقة في تطوير مزارع كبيرة، وأصبحت الحياة في تلك المنطقة تعتمد بصورة أكبر على الزراعة، ظهرت ضغوطات جديدة دفعت البشر الذين يعيشون في هذا الجزء من العالم إلى تسجيل كميات السلع بدقة. فقد كان عليهم مثلا أن يعدوا مخزون القمح والشعير والدخن، وأن يسجلوا أعداد هذه المحاصيل وغيرها من السلع الناتجة عن الزراعة أو التصنيع أو كليهما، وذلك في المراكز الحضرية التي تعتمد على الزراعة. وفي النهاية نتج عن هذه الضغوطات اختراع الأرقام وغيرها من الرموز، وذلك مثل الأرقام القائمة على العملات الفخارية، التي ناقشناها في الفصل الثاني. وقد أتاحت هذه الأرقام وجود أشكال جديدة من الزراعة والتجارة، التي كانت تستلزم تمثيل الكميات والتمييز بينها بدقة. ومن ثم، فإن المثال القديم لبلاد الرافدين، يوضح السبب وراء الربط الحالي بين نمط الإعاشة وأنواع الأعداد؛ فالأنظمة الاقتصادية الكبيرة التي تقوم على الزراعة والتجارة، تستلزم وجود التعقيد العددي كي تنجح. ومثل الأرقام المكتوبة فإن الحدود العددية الكبيرة تؤدي إلى نجاح الزراعة والتجارة؛ إذ إنها تمكننا من التمييز الدقيق بين جميع الكميات المعنية.
حتى بعض الممارسات الزراعية التي يفترض بأنها بسيطة، لن تكون ممكنة إن لم يسبقها وجود أنظمة عددية معقدة. فمن جميع الأدلة التي استعرضناها، يمكننا القول بأن الثورة الزراعية لم تكن لتحدث إن لم يطور البشر مجموعات واسعة من الأعداد. فمثلما رأينا يحتاج البشر إلى الأعداد كي يتمكنوا من التمييز بين معظم الكميات بدقة؛ ومن ثم فمن الواضح أن مفردات الأعداد وغيرها من الأدوات العددية ضرورية لنا لكي نتمكن من متابعة دورة القمر، وغيرها من السمات البيئية الضرورية لتطوير العديد من الممارسات الزراعية. وبسبب هذه الضرورة؛ فإن العديد من السجلات العددية المبكرة في مناطق مختلفة مثل أمريكا الوسطى وبلاد الرافدين، تتبع الدورات الفلكية والفصول. وبدون التقويمات المفصلة المستندة إلى الأعداد، لم يكن للبشر أن يتتبعوا الأنماط السماوية غير الواضحة، مثل تكرار مواقع الشمس في أوقات مختلفة من العام. لقد اخترعنا أدوات عددية، وقد أصبح من الممكن أن نستخدم هذه الأدوات بعد ذلك بطرق غير متوقعة، ويمكن تحسينها لتلبية احتياجات غير متوقعة أيضا. إن استخدام الأعداد قد مكن البشر من تتبع حدوث الاعتدال الربيعي والانقلاب الشتوي على سبيل المثال، وقد ثبت أن ذلك أمر محوري للزراعة. إضافة إلى ذلك، فالأنظمة العددية التي تتضمن حدودا عددية كبيرة، قد مكنت السومريين وغيرهم من تحديد عدد صفوف الشعير بدقة، أو قياس مخزون الحبوب للشتاء على وجه التحديد. وبدون الأعداد لن تكون مثل هذه المهام صعبة فحسب، بل مستحيلة. ويمكننا أن نقول هذا الآن بثقة؛ نظرا إلى الأبحاث التجريبية الحديثة التي ناقشناها في هذا الكتاب؛ إذن فالأعداد تمكننا من الزراعة، وفي نهاية المطاف تؤدي الزراعة إلى وجود مجتمعات أكبر وأكثر استقرارا، وهذه المجتمعات تنتج شبكات أكبر من العقول التي تتشارك اللغة نفسها؛ ومن ثم تنتشر الأدوات العددية خلالها بسرعة.
إن انتشار الأدوات العددية لم يكن سمة مميزة للماضي فحسب، أي خلال الثورة الزراعية في الهلال الخصيب على سبيل المثال. فالواقع أن انتشار أنظمة الأعداد لا يزال يغير أنماط العيش، والأرجح أنه يحدث اليوم بالغزارة نفسها التي كان يحدث بها في أي فترة من التاريخ؛ فثمة أنواع مختلفة من الضغوطات الاجتماعية الثقافية التي تواجه الأفراد في عصرنا، وتدفعهم إلى استخدام أنظمة عددية وتعديلها. فلنتأمل مثالا هذه الحالة، وهو صديق لي ينتمي إلى إحدى الجماعات الأصلية، هي الكاريتيانا. ومن أجل الحفاظ على سرية هوية صديقي هذا؛ سوف أشير إليه باسم باولو. إن جماعة الكاريتيانا تتكون من 350 فردا من السكان الأصليين، يعيشون في جنوب غرب الأمازون. ويعيش معظمهم في محمية تبعد حوالي 90 كيلومترا عن المدينة البرازيلية النامية، بورتو فاليو، غير أن نسبة متزايدة من أفراد الكاريتيانا يعيشون في بورتو فاليو نفسها. قضى باولو الجزء الأكبر من طفولته في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته في أكبر قرية في المحمية التي تعيش فيها الجماعة. فيمكننا القول إنه قد نشأ في جزيرة بالأدغال تحيط بها الطرق والمزارع البرازيلية. خلال ذلك الوقت، تعلم أعداد الكاريتيانا (راجع الفصل الثالث) لكنه تعرض أيضا للأعداد البرتغالية والأرقام البرتغالية. وينطبق الأمر نفسه على بقية أفراد جيله من الكاريتيانا. فبينما كان العديد من أفراد الكاريتيانا يسعون وراء رزقهم في مدينة بورتو فاليو المجاورة، جاهد العديد منهم للحفاظ على طريقتهم التقليدية في العيش في محميتهم. وقد كان ذلك متاحا في ذلك الوقت؛ إذ كان لا يزال من الممكن ممارسة طرقهم التقليدية في العيش من الصيد وجمع الثمار والبستنة. أما حديثا فقد صار الحفاظ على طريقتهم التقليدية في العيش أمرا يصعب التمسك به؛ إذ بني بالقرب منهم سد كهرومائي مما أثر على مصائد الأسماك المحلية. وفي الوقت نفسه صارت أراضي الكاريتيانا تواجه تعديا أكثر مباشرة على يد عدد متزايد من السكان البرازيليين المحليين، وقد نتج عن هذا التعدي وجود كميات أقل من الصيد والأسماك في محمية الكاريتيانا. وباختصار، فبالرغم من جمال جزيرتهم الموجودة في الأدغال وفائدتها، شعر العديد من أفراد الكاريتيانا بأنه لا خيار أمامهم سوى أن يحاولوا الحصول على عمل في الاقتصاد البرازيلي المحلي إن هم أرادوا البقاء والنجاة. وينطبق هذ الأمر تماما على باولو، فقد التحق بالمدارس البرازيلية لبعض الوقت، وحصل قدرا من التعليم العالي، وهو يعمل الآن في منظمة حكومية. ولكي يتمكن من القيام بكل هذا؛ كان على باولو بالطبع أن يتعلم قواعد اللغة البرتغالية وكتابتها، وكان عليه أيضا أن يتعلم الأعداد والحساب. وباختصار فقد واجه ضغوطات اجتماعية واقتصادية عظيمة، دفعته لتعلم أعداد ثقافة أخرى.
لنعد مرة أخرى إلى موضوعنا؛ إن باولو ليس سوى فرد واحد من مئات ملايين الأفراد الذين يتحدثون لغات قد أصبحت اليوم معرضة للاندثار، ويواجهون ضغوطات مماثلة لتعلم أعداد لغات أخرى. ووفقا لبعض التقديرات، فإن 90 بالمائة من 7000 لغة توجد اليوم معرض للاندثار بدرجة أو بأخرى. والسبب الأساسي في تعرضها للانقراض، هو أن أفرادا مثل باولو يجبرون على الانضمام لدول أكبر، ويتعلمون لغات أصلح للاقتصاد. وهذه اللغات التي تكون ذات أصول أوروبية في العادة، تستخدم أنظمة عددية ورياضية معقدة، وتحديدا عند مقارنتها بلغات المجتمعات الصغيرة التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار والبستنة. فالناس في نيو غينيا وأستراليا والأمازون وغيرها من المناطق يضطرون إلى تعلم الرياضيات. ولكي يتمكن السكان الأصليون من النجاة أو الكفاح أو كليهما، يجبرون باستمرار على التواصل بشكل أكبر مع شعوب الدول المهيمنة. وهذا التفاعل الطويل مع ثقافات شعوب هذه الدول، عادة ما يستلزم تعلم أنظمة عددية معقدة. إن هذه النقطة توضح لنا نمط ما كان يحدث من قبل على مستوى كل منطقة بعينها، على مدار آلاف الأعوام تشكل الثقافات ضغوطات قوية على بعضها البعض لتبني الأعداد وغيرها من التقنيات العددية. ومثلما أن الأعداد قد أتاحت حدوث بعض التغيرات الثقافية، مثل الاعتماد على الزراعة بدرجة أكبر، فإن التغيرات الثقافية أيضا تمكن من تعلم أعداد جديدة. إن الثقافة السلوكية وأنظمة الأعداد، كل منهما يعمل جنبا إلى جنب، وتجمع بينهما حلقة استجابة؛ فالتغيرات في الممارسات الثقافية غالبا ما تستلزم اكتساب أدوات عددية جديدة، مما يسهل بدوره اكتساب هذه الممارسات الثقافية، التي قد تتطلب بدورها وجود أدوات عددية أكثر تعقيدا، وهكذا.
المزايا المهملة لبعض أنظمة الأعداد
عند الحديث عن المزايا المحتملة التي أصبحت ممكنة بسبب وجود أنظمة عددية معقدة (مثل الزراعة) يجب أن أوضح أنني لا أساوي بين استخدام مثل هذه الأنظمة وبين «تطور» الثقافة أو اللغة. فقد دأب العديد من علماء اللغة والعلماء في مجال علم الإنسان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على تلك العادة المؤسفة، وهي مساواة سمات اللغات والثقافات الأوروبية بما يفترض أنه المرحلة اللاحقة في تطور المجتمعات البشرية. ويمكن قول الشيء نفسه عن المستعمرين الأوروبيين، الذين كانوا يعتبرون أن الثقافة الغربية هي أوج التكيف الاجتماعي البشري. ولم تعد مثل هذه الآراء تحظى بالتقدير، وإن كان ذلك جزئيا على الأقل؛ إذ إن الأعمال البحثية الميدانية الموسعة قد أثبتت أنها محض هراء؛ فعلى سبيل المثال، كان بعض المستوطنين يرون من قبل أن لغات السكان الأصليين الأمريكيين بدائية، وتفتقر إلى التهذيب النحوي الذي تحظى به اللغات الأوروبية الحديثة أو الكلاسيكية. وبالرغم من أن البعض من غير المختصين في علم اللغويات ربما لا يزالون يعتقدون بصحة مثل هذه الآراء القديمة، فإن العالمين في اللغويات ومجال علم الإنسان: فرانز بواس، وإدوارد سابير، قد أطاحا بمثل هذه الآراء في الدوائر الأكاديمية، وذلك منذ فترة طويلة في أوائل القرن الثامن عشر. فقد وضحا كيف أن هذه اللغات التي يزعم بأنها لغات أصلية بدائية، تمتلئ بجميع أشكال التعقيدات النحوية التي لا نجدها في اللغات الهندية الأوروبية. وذلك لا يعني أيضا أن اللغات الأصلية أكثر تعقيدا؛ فمنذ فترة من الوقت والإجماع في مجال اللغويات على أنه لا توجد طريقة موضوعية لترتيب اللغات من حيث تعقيدها الجوهري. إضافة إلى ذلك، فبما أننا نتفق بصفة عامة على أن جميع اللغات تعود إلى أصل أفريقي؛ فما من أساس نستنتج منه أن بعض اللغات أكثر تطورا من غيرها.
وبناء على هذا، فمن المهم ألا نقع في الفخ نفسه مجددا. من الواضح أن اللغات تختلف في درجة تعقيدها العددي؛ إذ إن بعضها يمتلك مخزونا من الأعداد أكبر كثيرا مما تمتلكه غيرها. غير أن ذلك لا يعني أن هذه اللغات المعنية هي أكثر تعقيدا بشكل عام، أو أن المتحدثين بها هم أكثر تقدما من الناحية الاجتماعية الثقافية، وإنما يعني أن متحدثي هذه اللغات يمتلكون أدوات يمكنهم استخدامها لتسهيل أنواع محددة من السلوك. وكل ذلك لا جدال فيه، لكن هذا لا يعني أنه يمكن وضع جميع الثقافات على طريق بسيط يؤدي إلى الحداثة، ولا يعني أنه يجب على جميع الناس أن يهتموا بمثل هذا الطريق. إن حالة الكاريتيانا توضح كيف أن استخدام الأنظمة العددية ليس أمرا اختياريا بالنسبة إلى العديد من الأشخاص. والأمر المثير للاهتمام أنه حتى مع هذه الضغوطات لاستخدام الأنظمة العددية، فإن بعض المجموعات تظل غير راغبة في استخدام مجموعة كبيرة من الأعداد. وتلك هي الحالة التي تنطبق على أفراد البيراها، الذين نجد أنهم عادة ما يناهضون معظم مظاهر الثقافة البرازيلية. فهل يجعل هذا من ثقافة البيراها أقل تقدما؟ إذا كان المرء يتبنى منظور المركزية الأوروبية، فسوف تكون الإجابة أجل بالتأكيد. بالرغم من ذلك، فإن أفراد البيراها يبدون راضين بشكل عام عن الخيارات التي اتخذوها للحفاظ على ثقافتهم، كما أن تمركزهم الإثني يكذب الاستنتاج الساذج بأنهم هم أنفسهم يشعرون بدونيتهم أو بدائيتهم عند مقارنتهم مع غرباء. إن سلالتهم الثقافية الفخورة، طالما تكيفت جيدا مع البيئة التي تعيش فيها؛ إذ نجحوا في الحياة في الأمازون منذ آلاف الأعوام.
6
إن منظور المركزية الأوروبية التقليدي تجاه التعقيد اللغوي، والذي يفترض تلقائيا أن لغات الجماعات الأصلية بدائية، لم يتسبب في التبسيط المبالغ فيه للقواعد اللغوية للغات الأخرى فحسب، بل تسبب أيضا في التمويه على التعقيد العددي في بعض اللغات. فعلى سبيل المثال، كان ثمة افتراض شائع بأن الأنظمة العددية تصبح أقل تعقيدا إذا لم تكن تتبع الأساس العشري، أو إذا كانت الثقافات التي تستخدمها لا تمتلك أنظمة كتابة. أما الآن، فقد بدأ الباحثون يدركون أن بعض الأنظمة العددية للجماعات الأصلية تقدم مزايا محددة لبعض المهام الرياضية، وهي مزايا لا توفرها أنواع الأعداد الأوروبية. إن التقدير الذي أصبحت تحظى به الأنظمة العددية غير المعروفة، قد جاء نتيجة العمل الذي قدمه اثنان من علماء الإدراك؛ هما أندريا بندر وسيجهارد بيلر، اللذان نشرا في العقد الماضي دراسات مذهلة عما سبق ذكره من المزايا الإدراكية لبعض الأنظمة العددية الأصلية في بعض جزر المحيط الهادي. وتوضح الدراسات التي قاما بها أن ما تتسم به بعض الأنظمة العددية للغات الأصلية من تعقيد وسمات جمالية يتم إهماله في بعض الأحيان.
7
في الفصل الثالث، ذكرنا أنه بالرغم من أن معظم أنظمة الأعداد المنطوقة تقوم على أساس الجسم البشري، فإنه توجد بعض الاستثناءات؛ فبعض أنظمة الأعداد السداسية في نيو غينيا على سبيل المثال، يبدو أنها قد ظهرت من الأنماط الشائعة في الترتيبات المستخدمة لتخزين الخيوط. وغالبا ما ينظر الغرباء على هذه الثقافة إلى هذه الأعداد على أنها أعداد بسيطة؛ لأنها تقدم أكثر فائدة لها في سياقات معينة، ولا يمكن تطبيقها بسهولة على جميع الأشياء التي يمكن جمعها. ففي بعض اللغات، يمكن أن تقتصر مفردات الأعداد أو ما يشبهها على سياقات محددة فقط؛ فعلى سبيل المثال، نجد أن اللغة البالية وغيرها من اللغات التي يوجد بعضها في جنوب أستراليا، تستخدم أسماء ترتيب الميلاد. وهذه ليست أعدادا، بل أسماء للأفراد بناء على ترتيب ميلادهم بين إخوتهم. فحين نجد شخصا يدعى «كيتوت» باللغة البالية، على سبيل المثال، نعرف أنه رابع طفل ولد في أسرته. وفي لغة الكورنا الأسترالية، نجد أنه يمكن تمييز ترتيب الأطفال وفقا لميلادهم من الأول إلى الثامن، من خلال نهايات الأسماء.
8
إن هذه الكلمات الشبيهة بالأعداد، لا تستخدم إلا في الأسماء؛ ومن ثم فهي ليست مجردة بالدرجة الكافية لأن تكون أعدادا مناسبة. بالرغم من ذلك، فالقول بأن أنظمة الأعداد التي تستخدم مصطلحات عددية محدودة بأشياء معينة، أقل تجريدا ونفعا، هو استنتاج يفتقر إلى وجود أساس قوي يدعمه في بعض الحالات. وفي حقيقة الأمر، أوضحت أبحاث بيندر وبيلر على اللغات البولينزية أن بعض الأنظمة العددية التي تستخدم مصطلحات عددية مخصصة لأشياء معينة، يمكن أن توفر مزايا إدراكية واضحة للمتحدثين بها .
فلنتأمل في مثال اللغة التي كانت تستخدم من قبل في جزيرة مانجريفا في بولينيزيا الفرنسية. كانت هذه اللغة تستخدم تسلسلات عد مختلفة، وفقا لما إذا كان المتحدث يعد على سبيل المثال ثمار فاكهة الخبز أو البندان (شجرة تشبه النخيل) أو أخطبوطات. وهذا التنوع البارز قد يعده الغرباء على الثقافة بدائيا أو غير متطور؛ إذ إنه لا يوجد مجموعة واحدة من مصطلحات الأعداد المجردة يمكن استخدامها لعد جميع العناصر. غير أن الأمر المثير للاهتمام هو أن اللغة المانجريفية تنحدر من اللغة المحيطية الأولية، وهي لغة كانت تمتلك على ما يبدو نظاما عشريا موحدا يمكن استخدامه لعد أي شيء. إذن، فنظام العد في اللغة المانجريفية وغيره من أنظمة العد في بولينيزيا، قد تطورت من نظام عشري قد يراه البعض أكثر تطورا من نظام العد المانجريفي، لكن مثل هذا التطور يعارض الافتراض القائل بأن الأعداد المانجريفية تمثل مرحلة مبكرة في تطوير أعداد تتسم بالتعقيد العددي الحقيقي. وربما يعود السبب في هذا المسار التاريخي غير المتوقع الذي اتخذه هذا النظام العددي، إلى حقيقة أن أنظمة الأعداد المرتبطة بأنواع الأشياء، يمكن أن تزيد من سرعة الحساب الذهني في بعض السياقات، مع تقليل الجهد الإدراكي المبذول في أداء بعض المهام الرياضية في غياب الكتابة.
لقد كانت اللغة المانجريفية تمتلك نظاما عدديا أساسيا يتضمن مصطلحات الأعداد الأكثر وضوحا والمستخدمة في عد أنواع محددة من الأشياء، وقد كان هذا النظام الأساسي عشريا في واقع الأمر. وبداخل هذا الإطار العشري كانت اللغة تمتلك أيضا تسلسلات عددية أخرى، لعد أنواع محددة من الأشياء بشكل أكثر فعالية. وقد كانت هذه التسلسلات العددية تتداخل بصورة بارزة. فالكلمة «تاوجا» على سبيل المثال، تشير إلى 1 أو 2 أو 4 أو 8 من الأشياء، وفقا لنوع هذا الشيء الذي تعده. وثمة قفزة ثنائية بين كل نوع «تاوجا» والذي يليه؛ ذلك أن 2 × 2 = 4، و2 × 4 = 8. بالرغم من ذلك، فقد ظلت سمة العشرية التي كانت موجودة في اللغة المحيطية الأصلية، في العد المانجريفي؛ إذ يمكن تجميع «تاجوا» بالعشرات، أي إن اللغة المانجريفية كانت تعد كميات «تاجوا» وبأسلوب عشري؛ لذا فإن الكلمة «باوا» على سبيل المثال تعبر عن الكمية 20 أو 40 أو 80، وفقا لنوع العنصر الذي يجري عده. بعبارة أخرى، فإن الكلمة «باوا» تشير إلى الكمية 10، لكن ذلك من أجل التعبير عن قيمة عشرة «تاجوا»، والتي يمكن أن تختلف على نحو ثنائي؛ ومن ثم فإن «باوا» تعني في الأساس: 10 ×2 أو 10 × 4 أو 10 × 8، وفقا لما يجري عده.
بصفة أساسية، فقد كان سكان جزيرة المانجريف يعدون الأشياء المهمة في ثقافتهم وشبكاتهم التجارية بالأزواج أو الأرباع أو الثماني. ومثلما يقترح بيندر وبيلر، إذا كان أحدهم يعد اثني عشر «تواجا» من الأسماك، فإنه يشير بذلك إلى 24 سمكة. وإذا كانوا يعدون اثني عشر «تواجا» من جوز الهند، فإنهم يشيرون بذلك إلى 48 من ثمار جوز الهند.
9
لم يكن سكان جزيرة مانجريف يعدون الأشياء بصفتها عناصر منفصلة، بل بصفتها مجموعات يسهل التمييز بينها. وهذه الاستراتيجية التي تتمثل في عد الأشياء بالمجموعات، ستوفر بعض المزايا فيما يتعلق بالأشياء التي توجد في كميات متوقعة من 2 و4 و8، ونحن نقوم اليوم بعمليات مماثلة حين نعد الأشياء التي توجد بطبيعتها في مجموعات؛ فعلى سبيل المثال إذا طلبت من شخص ما أن يبتاع لك البيرة من المتجر، فيمكنك أن تطلب منه أن يشتري لك «أربعا من عبوات الستة» بدلا من أن تطلب منه «أربعا وعشرين من زجاجات البيرة». لقد كان نظام العد المانجريفي مخصصا للكميات التي توجد عادة في النظام البيئي المحلي.
إضافة إلى ذلك، فإن النظام المانجريفي يوضح المزايا المحتملة لاستخدام الاستراتيجية الثنائية في تجميع الكميات بسرعة؛ فحجم الكمية التي يشار إليها بالكلمة «تاجوا» تقوم على الأس 2. لقد وضح لايبنيز في أعماله الشهيرة، مزايا الحسابات القائمة على الأساس الثنائي في الجزء الأول من القرن الثامن عشر. وتقترح أبحاث بيندر وبيلر أن سكان جزيرة المانجريف قد استغلوا بعضا من هذه المزايا قبل عمله بقرون، مما يوضح لنا أن أساليب العد المستخدمة في بعض جزر المحيط الهادي، التي تبدو بدائية وغير مجردة، ليست بهذا القدر من البدائية بالرغم من كل شيء . ويبرز لنا مثل هذا الاستنتاج بمثابة حكاية تحذيرية؛ فبعض الأنظمة العددية «غير المتطورة» تعمل بكفاءة، وبطرق معقدة خادعة، لكي تلبي احتياجات من استخدموها أو ما زالوا يستخدمونها.
وتقترح الأبحاث الحديثة أيضا، أن درجة التعقيد في بعض الأنظمة العددية غير اللغوية لم تحظ بالتقدير الكافي. فالعديد من ألواح العد والمعدادات التي كانت تستخدم في الماضي، لا تزال مستخدمة في بعض الثقافات في مختلف أنحاء العالم، وهي توفر مزايا واضحة لمن يستخدمونها. ولن يشك الكثيرون في هذا الاستنتاج إذا رأوا بعض الأشخاص يستخدمون معداد السوروبان الياباني على سبيل المثال (الذي اخترع منذ قرون عدة على غرار معداد سوان بان الصيني). إن الأطفال في المجتمعات الغربية الصناعية لم يعتادوا على استخدام المعدادات، التي قد تبدو بدائية مقارنة بالآلات الحاسبة التي تنتشر في قاعات الصفوف الدراسية في معظم أنحاء العالم، غير أن هذه المعدادات تقدم بعض المزايا الإدراكية على عكس الآلات الحاسبة. وتقترح الأبحاث أن السبب في هذا يعود إلى أن الأطفال الذين يشبون على استخدام المعداد، يطورون «معدادا ذهنيا» بمرور الوقت. أي إنهم يستوعبون تركيب المعداد داخليا، ويستخدمون الصور الذهنية للمعداد في إجراء الحسابات من خلال استعمال الخرز بصورة خيالية. ووفقا لبعض الاستنتاجات الحديثة من ثقافات متعددة؛ اتضح أن الأشخاص الذين يستخدمون الاستراتيجيات الرياضية القائمة على المعداد ، يتفوقون على الأشخاص الذين لا يعرفون مثل هذه الاستراتيجيات، في بعض المهام الرياضية على الأقل. وليس مصادفة أن نجد أن العديد من المدارس في قارة آسيا، قد أصبحت تستخدم معداد السوروبان. إن فعالية المعداد الذهني، توضح لنا مرة أخرى أن الرموز العددية غير الغربية، توفر بعض المزايا الواضحة، مقارنة بتلك الرموز التي اعتاد عليها معظمنا. وتؤكد هذه الفعالية أيضا على نقطة أساسية أخرى، وهي أن التقنيات العددية تمدنا بطرق جديدة للتعامل مع الكميات ذهنيا، وهي طرق قد تبدو غير متوقعة قبل اختراع هذه التقنيات المعنية أو استخدامها. وينطبق هذا الأمر على هذه التقنيات، سواء أكانت كلمات عد جديدة، أو معدادات جديدة، أو أي تمثيل عددي آخر للكميات.
10
رحلة الصفر المؤثرة والبطيئة
في أعماق الأدغال الكمبودية، ثمة مجموعة من الوجوه الضخمة المتخفية، المصنوعة من الحجر الرملي، تبرز محدقة في القادم إليها من وسط بناء شاسع مترامي الأطراف، وذلك هو معبد بايون. ويقع هذا المعبد في عاصمة مملكة خمير القديمة، التي تعرف باسم أنجكور ثوم. وتلك الوجوه التي يصل ارتفاعها إلى عشرات الأمتار التي تقع في أنحاء المعبد، تمثل خليطا من وجهي بوداسف أفالوكيتاسفارا، الذي يقال إنه يجسد الشفقة لجميع البوذيين، وجيافارمان السابع، ملك خمير (انظر الشكل
9-1 ). وقد بني هذا المعبد تلبية لأمر الملك جيافارمان السابع، والذي يقال عنه: إنه كان شخصا صالحا قد حكم هذه الأدغال قبل ما يقرب من 900 عام. إن التاريخ يذكر جيافارمان بالخير، ويعود السبب في ذلك جزئيا إلى أنه قد أسس ما يزيد على 100 مستشفى لعلاج مواطني إمبراطوريته. وعلى بعد عدة كيلومترات من أنجكور ثوم، يوجد أنجكور وات أكبر مبنى ديني في العالم، وقد بني خلال فترة حكم والد جيافارمان السابع. ومثل الأهرامات العظيمة في الجيزة، أو أهرامات أمريكا الوسطى، فإن معابد إمبراطورية خمير تحتل مكانة مميزة في خيالنا الجمعي. ففي أنجكور، وبعيدا عن الحضارة الغربية من ناحيتي المكان والزمان، أسس مواطنو هذه الإمبراطورية بعضا من أكثر المباني المذهلة في العالم. وقد ابتكروا أيضا شبكات للمستشفيات والطرق وأنظمة للري منقطعة النظير. وقد فعلوا كل ذلك بدقة مذهلة، حتى إن التناظر والمهارة الفنية التي تظهر في أطلال أنجكور، تملؤنا بالرهبة.
شكل 9-1: أحد الأوجه الموجودة في معبد بايون، كمبوديا. الصورة من التقاط المؤلف.
وسط جميع مباني خمير العظيمة المحيطة بنا، قد نغفل بسهولة عن بعض التقنيات الأساسية التي كانت هي صميم هذا الإنجاز البشري الرائع. وهذه التقنيات لا تتجلى للمرء فور أن يسير حول واجهات معبد بايون الحجرية وفي ساحاته، لكن هذه الواجهات والساحات شاهدة على تلك التقنيات المعنية. ولعلك تستطيع أن تخمن التقنيات التي أشير إليها: الأعداد المنطوقة والأرقام المكتوبة. إضافة إلى ذلك، فأنا أشير تحديدا إلى رقم مهم ومبتكر، ويبدو أنه قد سهل تأسيس إمبراطورية خمير، بعد أن وصل من شبه القارة الهندية قبل قرون من ظهور وجوه بايون في الحياة. هذا الرقم الذي أتحدث عنه هو «الصفر». ولا يزال هذا الرمز الدائري الذي يرمز إلى اللاشيء يظهر في الثقافة الكمبودية المعاصرة؛ إذ نجده على العملة الكمبودية على سبيل المثال. وبالرغم من الإغراء الذي يتمثل في أن نرى في كمبوديا المعاصرة هذا الرمز الدائري الذي يعبر عن الصفر فنفترض أنه مأخوذ من الصفر الغربي 0، فإن الطريق العكسي للتأثير هو الصحيح. والواقع أنه في العام 2015، أعيد اكتشاف أقدم نقش واضح للصفر الدائري على مستوى العالم، في كمبوديا. وهذا الصفر المعني هو نقطة كبيرة للغاية، ووظيفته حفظ الخانة المكانية في العدد الخميري القديم الذي يعبر عن الكمية 605. لقد نقش هذا الصفر على لوح حجري يعود تاريخه إلى العام 683 ميلاديا، وقد وجد على بعد كيلومترات فحسب من وجوه بايون وغيرها من أطلال أنجكور وات وأنجكور ثوم. ومثلما أوضحنا في الفصل الثاني، فإن حضارة المايا قد طورت هي أيضا صيغة كتابية للصفر، ورمزت حضارة الإنكا إلى المفهوم في نظام الكويبو الذي كانت تستخدمه، وتوجد أيضا بعض الأدلة على وجود المفهوم في النقوش البابلية. بالرغم من ذلك، فهذا الصفر الذي نعرفه جميعا ونحبه، هذا الرمز الدائري الذي يعبر عن اللاشيء لتيسير الكثير جدا من العمليات الحسابية، لم يستخدمه اليونانيون ولا الرومان ولا معظم الحضارات القديمة الأخرى. وهو لم يستخدم بالفعل على الإطلاق في أي من حضارات العالم القديم، إلا بعد أن تطور في الهند على ما يبدو في القرن الخامس تقريبا. ومن هناك اتخذ طريقه إلى الشرق بسرعة إلى حد ما، فوصل إلى كمبوديا (والصين بعد ذلك) وساعد في تأسيس الرياضيات في إمبراطورية خمير التي كانت شديدة التأثر بالثقافة الهندية، ومنها الهندوسية في ذلك الوقت، كما أنه ساعد أيضا في تأسيس الرياضيات في ثقافات أخرى بطرق جديدة.
11
أما رحلة الصفر إلى الغرب، فقد كانت أكثر بطئا، فرمز الصفر الذي نستخدمه لحفظ الخانة المكانية (أي كعلامة ملائمة تدل على اللاشيء في العمليات الحسابية) لم يوجد في أوروبا إلا في القرن الثالث عشر. ففي القرن التاسع دعا عالم رياضيات فارسي يدعى الخوارزمي (الذي اشتقت كلمة «خوارزمية» من اسمه) في أعماله المؤثرة إلى استخدام نظام الأرقام الهندية، بما في ذلك الصفر. وبعد ذلك بقرون عدة، ترجمت هذه الأعمال إلى اللغات الأوروبية. وفي عام 1202، قام عالم الرياضيات الإيطالي ليوناردو بيسانو الذي يشتهر باسم ليوناردو فيبوناتشي، بكتابة كتابه الشهير «كتاب الحساب». وقد ذكرت هذه المخطوطة أيضا المزايا العظيمة لاستخدام الصفر (ونظام الأرقام الهندية بوجه عام) وأشار إلى أنه يسهل مختلف العمليات الرياضية. وبالرغم من تردد العديد من الأوروبيين في تقبل هذا النظام الشرقي؛ ففي نهاية المطاف اتخذ الصفر والأرقام المستندة إلى النظام العشري طريقها إلى الثقافة الغربية، وأصبحت هي الرموز السائدة في ممارسة الرياضيات. ومن المنطقي جدا أن يكون استخدام الصفر قد أسهم فيما حدث بعد ذلك من تطور العلم والتقنية في أوروبا. ويمكننا بالطبع أن نقول إن هذه الأداة الإدراكية البسيطة، التي هي مجرد رقم مبتكر، كان لها العديد من النتائج المؤثرة على حياة سكان خمير والصينيين والأوروبيين ومعظم البشر في الوقت الحالي. ففي النهاية نجد أن تسهيل حل المسائل الحسابية يعني تسهيل العمارة، وتسهيل العلوم. وبصفة عامة، يمكننا أن نقول إنها هبة واضحة للتطور التقني . وبالرغم من أن الأرقام العشرية التي تتضمن الصفر، التي استخدمتها أوروبا ربما لا تكون أكثر «تطورا» من جانب ثقافي محايد، فيبدو أنها قد سرعت إيجاد الحلول لأنواع محددة من المهام الرياضية التي اضطلعت بها الثقافات الأوروبية في الجزء الأخير من العصور الوسطى، وخلال عصر النهضة. لقد طور الأوروبيون بمن فيهم الرومان واليونانيون القدماء نظاما رياضيا دقيقا بدون وجود الصفر، ولا يبدو الرمز مكونا ضروريا لوجود الحضارات الكبيرة. بالرغم من ذلك، فمن الصعب أن نتخيل حدوث الثورة الصناعية أو التقنية بدون استخدام هذا الرقم.
إن التحسينات التي تجرى على اللغة العددية، ومنها التحسينات الكتابية كالصفر، تسمح بحدوث التغيرات الثقافية الخارجة على اللغة، أو تعجل بها على أقل تقدير. وانظر كيف حسن اختراع الصفر الرياضيات الغربية؛ فبدونه ما كان تمثيل الأعداد السالبة بالرموز، والنظام الإحداثي الديكارتي، والتمثيل البياني للدوال، والحدود في حساب التفاضل وغيرها أمرا يسيرا. وفي المقابل، فإن هذه الأدوات الرمزية كانت بمثابة منصات لغيرها من الاستراتيجيات الرياضية، والأرجح أن حدوث ثورة رياضية متواضعة في أوروبا بعد معرفتها برقم الصفر، ليس مصادفة على الإطلاق. ومن غير المرجح أن تكون مصادفة أن تسبق المعرفة بالصفر والكتابة الرياضية التي تستند إلى الأساس العشري، الابتكارات التقنية المبكرة في إمبراطورية خمير. ومن ثم، فإن وجوه بايون هي تمثيل مصغر للظاهرة الأكبر التي نشير إليها، وهي أن الثقافة، لا سيما الثقافة المادية المعقدة، تتأثر على نطاق واسع بالأدوات العددية المبتكرة، والتي تكون هي بدورها، منتجا لتقاليد ثقافية محددة.
12
الأعداد في صميم الابتكار الرمزي: عودة إلى الكتابة
لم تتطور الكتابة بصورة مستقلة، إلا على مدار مرات قليلة في التاريخ البشري، في بلاد الرافدين، وفي أمريكا الوسطى، وفي الصين، وفي مصر (وهو أمر خاضع للجدل).
13
وفي كل من هذه الثقافات الأربعة، نجد أن أقدم نماذج من الكتابة كان محورها الأعداد بدرجة كبيرة. وقد أكدنا على هذه النقطة في الفصل الثاني في مناقشتنا لأقدم أنظمة الكتابة، التي ظهرت في بلاد الرافدين؛ فالعديد من الألواح المسمارية التي اكتشفت هناك، هي في الواقع سجلات لبيانات كمية. ويبدو أن الكتابة المسمارية بصورتها المكتملة لم تظهر إلا بعد تطوير أنظمة تسجيل الحسابات العددية، أو بالتوازي معها على الأقل.
ومن المثير للاهتمام أيضا أن ذلك يمكن أن ينطبق أيضا على الكتابة الصينية، التي يعود تاريخ النماذج الأولى منها إلى عهد سلالة تشانج الحاكمة، وهو ما يزيد عن 3000 عام. وكان أقدم هذه النماذج مسجلا على عظام العرافة، وهي عظام قد نقشت عليها رموز عددية تحدد كميات بعض العناصر، مثل عدد السجناء من الأعداء، وعدد الطيور والحيوانات التي تم صيدها. وفي أمريكا الوسطى، إضافة إلى ذلك، نجد أن إحدى السمات الأساسية المشتركة في أقدم نصوص هذه المنطقة هي تمثيل الأعداد بالخطوط والنقاط . (انظر الشكل
2-4 ) وعادة ما تكون هذه الأشكال المبكرة من الكتابة في هذه المنطقة أشكالا تقويمية وعددية بدرجة أو بأخرى. وأخيرا في مصر، نجد أن أقدم الأشكال المعروفة من الكتابة الهيروغليفية عادة ما تعبر عن معلومات بشأن كميات السلع. من الواضح إذن، أن الأرقام هي سمة مشتركة في جميع الأشكال الأولى من الكتابة، وليست الكتابة في بلاد الرافدين فحسب. إن أشكال الكتابة القديمة التي ظهرت في مختلف أنحاء العالم تركز على الأعداد، مثلما أن نقوشات العصر الحجري القديم ورسوماته الشبيهة بالرموز تركز على الكميات في أغلب الأحيان. وقد رأينا هذا في الفصل الثاني في مناقشتنا لبعض الأدوات التي سجل عليها البشر الرسوم مثل قرن غزال الرنة المكتشف في ليتل سولت سبرينج، الذي يعود تاريخه إلى 1000 عام. إن مثل هذه الأشكال المصورة ليست مجردة أو اصطلاحية بالدرجة الكافية كالكتابة، لكن من الواضح أنها كانت تؤدي وظيفة مماثلة للتعبير عن الأفكار في صورة ثنائية البعد.
إذن، فالأعداد موجودة منذ بدايات جميع أنظمة الكتابة. ومن التفسيرات المنطقية لهذه الحقيقة أن رموز الأعداد المكتوبة، تعمل بمثابة مؤشرات ضرورية على وجود أنظمة كتابية أكثر اكتمالا. لكن إن كان الأمر كذلك؛ فلماذا تؤدي مثل هذا الدور المحوري في ظهور الكتابة؟ سوف أعرض عليكم تفسيرا محتملا قد أشرت إليه سابقا في الفصل الثاني، في مناقشتي لأنظمة العصي القديمة. فإذا تناولنا عددا رومانيا مثل العدد
III ، الذي يمثل بشكل مصور؛ إذ يمثل كل خط عنصرا واحدا. وعلى العكس من ذلك، فالكلمة اللاتينية
et («و») تمثل مفهوما بسيطا، لكنه ليس مصورا؛ إذ إن الرمزين اللذين تتكون منهما الكلمة، لا توجد بينهما وبين المفهوم الذي تعبر عنه الكلمة، أي علاقة مادية فعلية؛ فهما لا يشبهان ما يعبران عنه، مثلما يشبه الرمز
III
ما يعبر عنه. (فحين أقول سوبر باول
III ، على سبيل المثال، فإن كل علامة رأسية تمثل مباراة واحدة.) وفي النهاية قد تصبح الأرقام أقل تصويرا؛ ولهذا فإن الأصول التصويرية للرقم 7 على سبيل المثال، لم تعد واضحة. ويبدو أن تطوير الرموز العددية المكتوبة يكون أسهل في البداية، مقارنة برموز المفاهيم والأصوات الأخرى؛ بسبب مفهوم المطابقة واحدا إلى واحد. فيمكن على سبيل المثال تمثيل الكميات المفردة بخطوط مفردة، ثم تمثيل الكميات الكبيرة من خلال جمع هذه الخطوط. وفي الأنظمة التي تعتمد على المطابقة التصويرية، كلما زادت الكميات استلزم ذلك خطوطا أكثر (أو نقاطا أو زوايا، إلخ ...)؛ ومن ثم فإن السمة التصويرية الكامنة في العديد من الأرقام، تعتمد على قدرتنا على تمييز مفهوم مطابقة كل عنصر بعنصر واحد. ومثلما أكدنا في الفصول السابقة، فإن هذه القدرة تكون فطرية حين يتعلق الأمر بالكميات الصغيرة، ومكتسبة من خلال اللغة حين يتعلق الأمر بالكميات الكبيرة. وقد ركزت أيضا على دور الأصابع في تطوير التفكير العددي، مع ملاحظة أن الأصابع هي أول تمثيل خطي للكميات في حياة الفرد. إننا نستطيع فهم العلامات الخطية على الحجارة أو الورق أو الخشب، بصفتها تمثيلات للكميات بسهولة أكبر؛ لأننا نرى هذه التمثيلات الخطية في أيدينا. ونتيجة لمثل هذه العوامل؛ يمكن تمثيل الكميات مباشرة أو من خلال الصور عن طريق توليفات من أشكال ثنائية البعد، وذلك بسهولة نسبية من الناحية الإدراكية، لا تنطبق على ما يبدو بالنسبة إلى المفاهيم الأخرى.
14
إذن، من الواضح أنه يمكن كتابة رموز الكميات بسهولة نسبيا لثلاثة أسباب مترابطة على الأقل. أولها أن البشر مهيئون فطريا لاستيعاب تطابق بعض الكميات بصورة مجردة؛ فنحن ندرك تلقائيا أن الأشياء يمكن أن تتطابق بعضها مع بعض بأنماط بسيطة من التطابق لكنها مجردة. وثاني هذه الأسباب أن هذا التطابق المجرد يمكن الإشارة إليه بسهولة نسبية باستخدام رموز غير لفظية. فبالرغم من كل شيء، لا تتطلب الرموز التي تستخدم للإشارة إلى الكميات أي رسم أو نقش معقد بدرجة كبيرة، فعلى العكس من ذلك كانت التمثيلات المبكرة للمفاهيم الأخرى تكتب من خلال الصور التوضيحية في جميع أساليب الكتابة؛ ومن ثم فقد كان رسم معظم الرموز يستلزم درجة تعقيد أكبر مما يستلزمه رسم الأعداد المكتوبة. على سبيل المثال، كان تمثيل كلمة «ماموث» أو «صيد» أصعب من تمثيل
I
أو
II
أو
III . وثالث هذه الأسباب أن أصابعنا بمثابة رموز خطية طبيعية، وهي التي نبدأ في استخدامها لمطابقة الكميات. إن استخدام أصابعنا بمثابة رموز عددية، قد سهل على الأرجح استخدام رموز خطية أخرى لتمثيل الأعداد بعد ذلك. وبمرور الوقت، يمكن تسمية هذه الرموز الأخرى بعد ذلك بمصطلحات ثابتة وأكثر تجريدا، ثم تطورت الأرقام الحقيقية تدريجيا من هذه العلامات المستخدمة في أنظمة العصي.
إذن، فموجز القول إن السهولة الكامنة في تمثيل الكميات بالخطوط وغيرها من العلامات، يمكن أن تكون هي الأساس الطبيعي للتمثيلات ثنائية الأبعاد للكميات، بصورتها الأكثر اكتمالا وتجريدا. وهذا النوع الأخير من التمثيل يمكن أن يعجل بإدراك أن المفاهيم الأخرى يمكن أن تمثل هي أيضا في صورة مجردة ثنائية البعد. وعلى الأقل، من المهم أن ندرك أنه في ذلك العدد القليل من الأماكن على مستوى العالم، التي اخترعت فيها الكتابة بصورتها المكتملة (حتى وإن كان ذلك تدريجيا) كانت الأرقام المكتوبة موجودة في بداية نشأة أنظمة الكتابة المعنية. ومثلما كانت الأعداد ضرورية في تطوير الزراعة وانتشارها، يبدو أنها كانت ضرورية أيضا في اختراع الكتابة وانتشارها.
15
وأخيرا، فإن الدور المهم الذي أدته الأعداد في نشأة الكتابة يعود على الأرجح إلى حقيقة أخرى بسيطة أيضا؛ وهي أن الأرقام عملية للغاية؛ فهي تؤدي وظائف أساسية في بعض أنواع التفاعلات البشرية، ومنها التعاملات الاقتصادية على سبيل المثال. فالعديد من أوائل السجلات المكتوبة، هي أعمال كاتبي الحسابات المعنيين بالتجارة بين طرفين أو أكثر. إن تسجيل الحسابات قد يسر الإبقاء على شبكات التجارة، وتخزين السلع بعناية. ومما يتصل بذلك أيضا أن الأرقام قد مكنتنا من متابعة التقويم وتسجيله، مما أتاح لنا التوصل إلى توقعات دقيقة بشأن الفصول وجني المحاصيل. إن الأرقام ضرورية للقيام بالعديد من أنشطة المجتمعات العامرة بالسكان. (وهي مجتمعات يمكن تتبع أصولها إلى الممارسات الزراعية التي يسرتها الأعداد.)
لمثل هذه الأسباب، تعد الأعداد عنصرا تأسيسيا في ظهور الكتابة حول العالم. ومن المعترف به عموما أن الثورة العلمية والتصنيع والطب الحديث، قد اعتمدت على بعض الممارسات الرياضية المحددة. وحتى قبل وجود هذه الممارسات بآلاف الأعوام، قد ساعدت الأعداد اللفظية على إحداث تغييرات عميقة في الكيفية التي يحيا بها البشر، وفي كيفية استخدامهم للرموز للتعبير عن الأفكار.
خاتمة
من الأهرامات التي بناها قدماء المصريين، إلى المدن الحجرية في أنجكور، إلى أطلال بلاد الرافدين وأمريكا الوسطى القديمة، تظهر لنا سمة مشتركة. وهي أن المجتمعات الزراعية التي ابتكرت هذه الآثار العظيمة، قد اعتمدت بدرجة كبيرة على الأعداد، أو الأرقام على وجه التحديد. وقد كانت الأشكال الأولى من الأنظمة الكتابية التي طوروها تركز بدرجة مذهلة على تمثيل الأعداد. ونتيجة لذلك، فإن هذه الأرقام قد أتاحت أشكالا جديدة من الهندسة والعمارة، التي غيرت البيئات التي كانت تطورت فيها هذه الثقافات؛ فالأرقام على غرار الصفر قد سهلت التعامل مع الكميات. وبعد ذلك تطورت أنواع جديدة من الممارسات الثقافية، التي قد شكلت بدورها ضغوطات جديدة على أنظمة الأعداد. وقبل ذلك كله يبدو أن الأعداد اللفظية الدقيقة، كانت محورية للغاية في ظهور أنواع محددة من الزراعة، بدليل مثلا أن معظم الجماعات السكانية المعاصرة التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار، لا يستخدمون سوى أنظمة عددية محدودة الوظائف وذات حد عددي صغير. وباختصار، فإن الأعداد المنطوقة والأرقام المكتوبة، كان لهما دور محوري في إحداث تغييرات جذرية في ثقافات عدة منذ آلاف الأعوام. وفي العديد من الثقافات المعاصرة المعرضة للانقراض، تحدث اليوم تغييرات مشابهة.
الفصل العاشر
أدوات تحويلية
ما لبث جبل تيبل أن ظهر في مرآة الرؤية الخلفية في سيارتي، ثم اختفى بعد ذلك. كنت أسير على الأطراف الجنوبية من اليابسة الأفريقية عبر الوديان المتعرجة، وبينما كنت أقترب من وجهتي، وهي قرية هادئة تسمى ستيلباي، وتحتضن خليجا من المياه اللازوردية، يقع شرقا من الجزء الفاصل بين المحيطين الهادي والهندي، كانت إشارات الطريق وإعلانات الراديو مزيجا من اللغة الأفريقية والإنجليزية. إننا لا نعرف أين ظهرت الأعداد للمرة الأولى، لكن من المحتمل أنني أقترب من ذلك المكان. فمن المحتمل أن تكون قصة الأعداد قد بدأت هنا، على امتداد ساحل وعر يرى من ستيلباي، وهو ساحل تزداد أهميته باعتباره موقعا مهما في قصة البشرية.
على مدار العقدين الأخيرين، كان علماء الآثار متعددو التخصصات يفتشون سطح الأرض في بعض الكهوف القريبة من هذا الساحل، وكذلك الأسطح السابقة التي صارت الآن تحت الأرض. ومن هذه الكهوف، كهف بلومبوس الذي يقع غرب ستيلباي، وكهف بيناكل بوينت الذي يقع على بعد عشرات الكيلومترات إلى الشرق. وقد أسفر هذا البحث الذي أجري في هذه المناطق المحلية عن نتائج لافتة للنظر. إن هذا البحث، مع غيره من الدراسات المبكرة التي أجريت على «نوع الإنسان العاقل»، يلقي ضوءا جديدا على الكيفية التي تمكن بها أسلافنا من البقاء بل التفوق، على مدار آلاف الأعوام التي سبقت هجرة نوع «الإنسان العاقل» من أفريقيا. إن ما وجده العلماء في هذه الكهوف، ليس من نوع المكتشفات الذي نربطه في العادة بعلم آثار العصر القديم في أفريقيا؛ فليس هناك أي من عظام الأسترالوبيثسينات، أو أي بقايا من الهيكل العظمي لأي أنواع أخرى من الأسلاف المحتملين لنوع «الإنسان العاقل». (وقد اكتشفت مثل هذه الآثار في أماكن أخرى في جنوب أفريقيا، وغير ذلك من الأماكن البعيدة في أفريقيا مثل مضيق أولدوفاي والأخدود الأفريقي العظيم.) لم يعثر العلماء في كهفي بلومبوس وبيناكل بوينت على آثار هامة لأشباه البشر، فقط بعض بقايا قديمة لأسنان بشرية، وأجزاء من العظام. غير أن ما وجدوه يخبرنا عن حياة أسلافنا الأقربين، وهم أفراد نوعنا الذين كانوا يشبهوننا ويتصرفون مثلنا، أكثر مما قد يخبرنا به أي هيكل عظمي. وبناء على هذه المكتشفات التي وجدناها في هذه الكهوف، فإن الكثير مما نعده الآن من السلوكيات البشرية الحديثة، ربما يكون قد نشأ على هذا الساحل. ومن هذه السلوكيات ما يتعلق باستخدام التقنيات العددية.
فمنذ ما يتراوح بين 190000 إلى 135000 عام، حدث تغير في المناخ العالمي. ومثل غيره من التغيرات المناخية الأقدم، يبدو أن هذا التغير قد أمال مسرح البشرية؛ فربما كانت التغيرات المناخية السابقة، مثل ذلك الذي حدث قبل ما يقرب من 19 مليون عام، محورية في نشأة نوعنا؛ إذ اضطر أسلافنا من الأنواع إلى الانتقال إلى العيش في سهول السافانا بدلا من الغابات. أما التغير الأحدث الذي نتحدث عنه، فقد أثر على نوع «الإنسان العاقل» نفسه؛ إذ تسبب في وجود نقص حاد في المناطق الصالحة للعيش في أفريقيا؛ فقد أصبحت القارة أكثر جفافا، وندرت مصادر الغذاء. إضافة إلى ذلك، فقبل 75000 عام تقريبا، حدث انفجار بركاني عظيم في بركان توبا في سومطرة، مما أدى إلى تكون سحابة ضخمة من الرماد البركاني، وشتاء بركاني ربما يكون قد أدى إلى تناقص عدد البشر بدرجة كبيرة. وتقترح أدلة علم آثار العصر القديم أن البشر قد اتخذوا من المناطق الساحلية مأوى لهم خلال هذه الفترات الصعبة، ولا سيما السواحل الموجودة على الأطراف الجنوبية لأفريقيا. وتوضح النتائج الحديثة أن السبب في اختيار هذا المأوى يعود على الأرجح إلى أن هذا الساحل كان غنيا بمصادر الغذاء إلى حد ما. وينطبق ذلك بالتحديد على الحافة الجنوبية لأفريقيا، التي كانت تتوفر بها الأغذية البحرية بسهولة، مثل القواقع البحرية والنباتات الأرضية، وهي نباتات لحمية كالأبصال والدرنات التي يمكنها العيش تحت الأرض. وبالرغم من أن مصادر الغذاء كانت نادرة نسبيا في العديد من المواطن التي كان يسكنها البشر في ذلك الوقت، فقد كانت الأرض هنا غنية بمصادر الكربوهيدرات والبروتين. إن التجديدات المناخية والبيئية التي حدثت في تلك الحقبة المعنية، اتضحت في تلك البقعة بدرجة كبيرة؛ فقد كان هذا الساحل مكانا جيدا لحياة البشر، في مرحلة لم يكن فيها سوى القليل من الأماكن الصالحة للعيش في أفريقيا.
1
وبناء على ما اكتشفه العلماء في كهف بيناكل بوينت، فإن البشر لم يبقوا على قيد الحياة هنا فحسب، بل ازدهروا في هذه المنطقة خلال تلك الفترة التي نتحدث عنها. لقد شهدت البشرية نوعا من الازدهار التقني خلال الفترة التي عاش فيها البشر على هذا الساحل، والتي تبدأ قبل 170000 عام تقريبا. وقد أوضح علماء الآثار الآن أنه خلال عشرات آلاف الأعوام التي استخدمت فيها كهوف بيناكل، حسن البشر من التقنيات التي كانوا يستخدمونها مثل أدواتهم الحجرية. وهذه الكهوف تتضمن أدلة على أن الأدوات كانت تصنع بعد تسخين الحجارة في النار ثم صقلها، وتلك عملية معقدة لصنع الأدوات. وعلى العكس مما تميزت به تقنيات صنع الأدوات الحجرية في الفترات السابقة من جمود، فإن مكتشفات كهف بيناكل تدل على وجود معدل جذري من الابتكار في استخدام أنواع جديدة من الأدوات الحجرية. إضافة إلى ذلك، توجد بعض الآثار التي تشير إلى وجود تطورات تقنية أخرى مثل صبغة حمراء كانت تستخدم على الأرجح في طلاء الجسم، مثلما تستخدم لدى بعض الجماعات السكانية اليوم. إن الآثار المتبقية من هذه المادة تدل على أن التقنية كانت تتقدم خلال هذه الفترة، لكنها توضح أيضا أن البشر كانوا يفكرون بطرق رمزية، وينقلون هذه التقنيات المادية عبر الأجيال؛ ومن ثم فإن الآثار المتبقية من هذه المادة تشير إلى أن السكان القدماء لهذه المنطقة كانوا يمتلكون اللغة.
2
بقيادة كريستوفر هنشيلوود، عالم الآثار بجامعة ببيرجن في النرويج، أوضحت مجموعة من الدراسات أن البشر كانوا يستخدمون كهف بلومبوس أيضا على مدار آلاف الأعوام لفترة تبلغ 30000 عام على الأرجح. وينتمي الفتات الموجود في الكهف إلى فترة أحدث، وهو يحتوي على أدلة تعبر عن تقدم الإدراك البشري بصورة أكبر. وتتضمن هذه الأدلة أدوات حجرية دقيقة وأدوات عظمية تشبه الإبر . وربما يكون الدليل الأبرز هو وجود أصداف أذن البحر التي تشبه الوعاء، وأحجار الشحذ وغيرها من العناصر التي كانت تستخدم قبل ذلك في معالجة المغرة لاستخراج الصبغة من المعدن الممتلئة بعنصر الحديد. وفي حقيقة الأمر، يبدو أن كهف بلومبوس كان يستخدم بمثابة ورشة لتصنيع مختلف الأدوات ومعالجتها. وتتضمن هذه الأدوات قطعا منقوشة من العظام والمغرة، يعود تاريخها إلى فترة تتراوح بين 100000 عام و70000 عام في الماضي. وعلى أشهر قطعة من القطع المكتشفة في الكهف، وهي قطعة من المغرة يبلغ طولها 6 سنتيمترات، لاحظ علماء الآثار وجود مجموعة من العلامات المنتظمة التي تشبه الخطوط على هذه القطعة، والتي يتضح أنها قد نقشت عمدا بيد فنان من البشر. ولسنا نعرف على وجه التحديد ما الغرض الذي كانت تؤديه هذه العلامات، لكن من المحتمل أنها كانت تؤدي وظيفة رمزية أو شبه رمزية. وربما تكون هذه القطعة أقدم قطعة ذات طبيعة رمزية في تاريخ البشرية. ونظرا إلى وجود الكثير من الأدلة على وجود أعداد ما قبل التاريخ في مختلف أنحاء العالم، فمن المحتمل أن هذه العلامات كانت تؤدي وظيفة عددية. فهل من الممكن أن يكون الفنان الذي نقش هذه القطعة من المغرة، كان يسجل كمية ما، مثل هؤلاء الذين نقشوا عظمة إيشانجو بعد ذلك بعشرات الآلاف من الأعوام؟ (راجع الفصل الثاني) من المؤسف أن الوظيفة الحقيقية لهذه القطعة قد ضاعت على الأرجح في عتمة السجل الأثري.
3
وثمة أدلة أخرى في كهف بلومبوس، تشير إلى أن البشر الذين استخدموه بمثابة ورشة ربما كانوا يستخدمون طرقا لتسجيل الكميات، فربما يكونون قد اخترعوا الأعداد أو ورثوها على الأقل. ومن المكتشفات المميزة في هذا الموقع وجود العديد من الأصداف البحرية المثقوبة (وتسمى أيضا بأصداف القراد وهي أصداف من نوع «ناساريوس كروسيانوس») في مجموعات صغيرة تتكون من خمس أصداف واثنتي عشرة صدفة. ويبدو أن هذه الأصداف التي يبلغ طول الواحدة منها سنتيمترا واحدا، كانت تستخدم في الزينة الشخصية. فالثقوب المنتظمة التي صنعها البشر، قد مكنت الأفراد من ربط هذه الأصداف معا على هيئة عقد أو أي نوع آخر من أنواع الزينة، مثلما يحدث تماما في العديد من الثقافات في العصر الحالي. ومن المهم أن نلاحظ أن بعض هذه الأصداف لم يكن أصليا في المنطقة التي يقع بها الكهف، حتى قبل هذه الآلاف من الأعوام. واليوم لا توجد هذه الأصداف إلا في مصبات الأنهار على بعد 20 كيلومترا من بلومبوس.
4
ومن ثم يبدو أن البشر الذين كانوا يعيشون في هذه المنطقة كانوا يكنون تقديرا عظيما لهذه الأصداف؛ مما دفعهم إلى السفر لهذه المسافة الطويلة سيرا على الأقدام للعثور عليها، أو ربما كانوا يقايضونها مع الشعوب الأخرى. إن ما نراه في كهف بلومبوس إذن، هو دليل على الاستخدام القديم لأدوات صغيرة متشابهة نسبيا لها قيمة عظيمة.
من المحتمل أن يكون البشر الذين عاشوا بالقرب من الكهف قد واجهوا ضغوطا قوية لأن يخترعوا طرقا لتسجيل الكميات بشكل رمزي، أي إنها بصفة أساسية ضغوط لاختراع الأعداد، وربما كان ذلك لتسجيل هذه الأصداف الثمينة، أو لمقايضة سلع أخرى في مقابل الحصول عليها، أو ربما لكلا الأمرين. وقد تمادى بعض الباحثين إلى درجة أنهم قد اقترحوا أن هذه الأصداف الصغيرة هي بالفعل تمثيلات رمزية للكميات (أي إنها كانت هي نفسها أعدادا). بالرغم من ذلك، فمثلما نرجو أن تكون الاستنتاجات التي تناولناها في هذا الكتاب قد وضحت، فالأرجح أن الأصابع لا هذه الأصداف، كانت هي الأداة الأولى في التمثيل الدقيق للكميات؛ أي إنها هي التي كانت تمثل أول شكل من الأعداد. ومثلما تشير عالمة النفس المرموقة سوزان كاري (التي ناقشنا أعمالها المؤثرة في الفصل السادس) في مناقشتها لأهمية هذه الأدوات: «ربما يعود تاريخ الخرز إلى 100000 عام، لكن تاريخ الأصابع يعود إلى ملايين الأعوام.»
5
ففي معظم الأحيان، تكون الأصابع هي المدخل إلى التمييز الدقيق للكميات، وكثيرا ما تستخدم بصفتها أعدادا، تمثل حينها تمثيلا لفظيا. بالرغم من ذلك، يظل من المحتمل أن تكون مثل هذه القطع الصغيرة المنفصلة ذات القيمة الثمينة، قد دفعت البشر في مرحلة ما من تاريخهم إلى أن «يرغبوا» في تحديد كميات الأشياء، بطرق غير تقريبية، حتى وإن احتاجوا إلى أصابعهم لكي يتمكنوا من القيام بذلك. ربما تكون الضغوطات التي واجهها البشر الذين عاشوا في كهف بلومبوس لتحديد كمية هذه الحبات اللامعة من الخرز، قد خلقت حاجة جديدة إلى وجود الأعداد، رغبة جديدة للتمييز بين الكميات بدقة وبصورة منتظمة.
وبالرغم من أننا لا نستطيع أن نحدد على وجه الدقة، أول مكان قد استخدمت فيه الأعداد، فإن الصورة التي نرسمها الآن تبدو منطقية؛ فالبشر الذين عاشوا في هذه المناطق الساحلية، كانوا يمتلكون حضارة مادية ولغة، وربما كانوا يمارسون التمثيل الرمزي ثنائي البعد أيضا. إضافة إلى ذلك، كانوا يمتلكون سلعا صغيرة ثمينة، ومن المرجح أنهم كانوا يرغبون في عدها؛ نظرا إلى طول المسافة التي كان عليهم قطعها من أجل الحصول على هذه القطع. وفي ضوء هذه الحقائق، فإن استخدامهم للأعداد ليس بالأمر المستبعد. لكن لنفترض للحظة أن ذلك كان هو الحال بالفعل، فهل اخترعت الأعداد هنا، أم وصلت إلى هنا؟ وفقا للوتيرة التي بدأت بها التقنية في التطور على امتداد هذا الساحل، وذلك بناء على المكتشفات التي وجدها العلماء في كهف بيناكل، فإن السيناريو الأول ممكن على أقل تقدير. ربما يكون البشر قد صقلوا مهاراتهم اللغوية والعددية هنا، على امتداد هذا الساحل وفي أماكن أخرى من جنوب أفريقيا. وربما يكون هذا الصقل قد أدى بدوره دورا محوريا في قدرة البشر على التكيف على غير ذلك من البيئات المتنوعة الأخرى. ولا شك في أن استخدام اللغة، الذي يتضح على نحو غامض في الأدوات المدفونة في كهفي بلومبوس وبيناكل بوينت، قد مكننا بعد ذلك من غزو أفريقيا، ثم الهجرة من القارة في جماعات.
شكل 10-1: الساحل الموجود بجوار كهف بلومبوس، جنوب أفريقيا. الصورة من التقاط المؤلف.
عندما وصلت إلى الساحل الذي يبدو أنه قد لعب دورا مهما في التاريخ البشري، وجدته مليئا بعدد لا حصر له من الصخور. (انظر الشكل
10-1 ) إن هذه الصخور لم تكن ساحلية طوال الوقت؛ إذ إن الساحل نفسه يتحرك بدرجة ما من أثر حلول العصور الجليدية وذهابها، غير أنها منذ 100000 عام، استقرت في مكانها الذي نراه الآن بالقرب من كهف بلومبوس. معظم هذه الصخور مكعب الشكل تقريبا، وكأنما هي من صنع البشر، لكن إن كان الأمر كذلك؛ فهذا يعني أن معماريا منتشيا قد رتبها بهذا الشكل المائل بجوار بعضها. وإذ أخطو فوقها، أتذكر سكان المنطقة الذين كانوا يتسلقون هذه الصخور وفيما حولها قبل كل هذه العشرات من آلاف الأعوام. هنا على هذا الشاطئ، أنقذ البشر أنفسهم من الموت إذ اكتشفوا تذوقهم للمأكولات البحرية، وبصورة أعم، فإن القرارات التي اتخذها البشر على هذه الصخور، وفي الكهوف القريبة، وغيرها من الأماكن الموجودة في هذه المنطقة، من المحتمل أنها قد تكون قد أنقذت نوعنا من الانقراض. ولا شك في أن هذه القرارات قد سهلت على ما يبدو استمرارنا في البقاء خلال الأوقات العسيرة؛ ومن ثم توسعنا خارج القارة بعد ذلك.
وفيما بين هذه الصخور، نجد بعض الأدلة الظرفية المتناثرة، التي تدل على الضغوطات التي كان أسلافنا قد واجهوها لتطوير الأعداد. وعلينا أن نقر بأنها أدلة ضعيفة، لكن إشارة غير مباشرة تقبع بين هذه الصخور قد ابتلعتها تلك الأمواج العنيدة مع مرور الزمن، وهي وجود نبات الخزامى المحزز والأصداف البيضاء موزعة بدرجة من الانتظام. ونحن نعرف الآن أن مثل هذه الأصداف والرخويات التي كانت تحتوي عليها، التي لا يزال الحصول عليها ممكنا بالقدر الذي كان عليه ذلك قبل كل هذه الآلاف من الأعوام، قد كانت ضرورية لبقاء البشر خلال أوقات القحط. وقد كانت أيضا خيطا مهما في نسيج الحضارة المادية المحلية. فمن المحتمل أن تكون القيمة الأصلية لمثل هذه الأصداف هي التي قد دفعت إحدى نساء البشر إلى عدها؛ فربما أدركت أنه يمكن وضع هذه الأصداف مصطفة بمحاذاة بعضها، مثلما ترى أصابع يديها مصطفة ومتناظرة، أو ربما أدركت مباشرة أنه يمكن مطابقة خمس أصداف مع أصابع اليد الواحدة، كل صدفة مقابل إصبع من الأصابع. وربما تمثل هذا الإدراك في الواقع لفظيا حين بدأت تتحدث عن «يد» من الأصداف. وربما أصبح التوصل إلى هذا الإدراك أسهل كثيرا بعد ذلك، عليها وعلى غيرها من أفراد الجماعة السكانية الذين تدربوا على مفهوم «يد» من الأصداف، أو «يد» من عناصر أخرى. ونحن لا نعلم بالطبع، لكن في هذه المرحلة، فإن الاحتمال الأرجح هو أن هذا المكان هو أول مكان قد بدأ فيه البشر في استخدام الأعداد.
إن ما نعرفه هو أن شخصا ما في مكان ما، في لحظة معينة من التاريخ، كان هو أول شخص يدرك بصورة مجردة وجود خمسة أشياء على وجه التحديد. بالرغم من ذلك، فإن هذا الإدراك الضروري لاختراع أنظمة الأعداد، قد حدث بلا شك، على مدار العديد من المرات بصور مستقلة، وفي العديد من السلالات الثقافية. وقد ضاع مع الزمن على الأرجح في معظم الحالات، غير أن هذا الإدراك المتقلب قد تجسد رمزيا في بعض الحالات الأخرى، وأصبح حقيقيا من خلال تجسده في كلمة. وقد انتقلت هذه الكلمة بعد ذلك إلى عقول أخرى قد اعتمدت على هذا المفهوم بطرق جديدة. وبالرغم من أن أول مخترعي مفردات الأعداد مثل «خمسة» لم يدركوا هذه الحقيقة، فإن أدواتهم الإدراكية حديثة التشكل كانت ستغير مسيرة الثقافات البشرية في يوم ما.
الأعداد والألوهية
إن انشغالنا الدائم بأعداد أيامنا وسنواتنا، الذي يتضح في المجتمعات الكبيرة من مجتمع المايا القديم إلى المجتمع الأمريكي الحديث، ينبع جزئيا من الممارسات الزراعية، التي يعود السبب في وجودها إلى ابتكار الأنظمة العددية. إن التحول إلى نمط إعاشة يعتمد على الزراعة، كان أيضا هو البداية لأنواع أخرى من التغيرات الأكثر حميمية في الخبرة البشرية: إنها تغيرات لا تخبرنا بكيفية عد أعمارنا فحسب، بل تخبرنا أيضا بمكاننا في الكون. وأنا لا أشير هنا إلى حقيقة أن الأعداد والزراعة قد نتج عنهما حاجة أكبر إلى الاعتماد على تتبع النجوم وفصول السنة وغير ذلك، مما أدى في نهاية المطاف إلى تشكل وعي بالفضاء، وتقدير الكون الذي نعيش فيه، والذي لا يتمركز حول البشر. وبالرغم من أن الجزء الأخير حقيقي بلا شك، فأنا أشير هنا إلى النوع الجديد من الدوائر الدينية، الذي ظهر بعد وجود أنظمة عددية معقدة.
ربما يبدو من المبالغة بعض الشيء أن نعزو أي دلالة روحية إلى ظهور الأعداد. من المؤكد أن جميع الشعوب تؤمن بشكل ما من أشكال المعتقدات الدينية والروحانية، بصرف النظر عن نوع الأنظمة العددية التي تستخدمها؛ غير أن المغزى الذي نقصده هنا أكثر دقة، وله الكثير مما يؤيده من الأدلة في السجل الأثري والأنثروبولوجي: بالرغم من أن أساطير الخلق، والممارسات الروحية، وغيرها من أشكال الروحانية هي أمور عالمية أو تكاد تكون كذلك، فالديانات الهرمية واسعة النطاق، تقتصر على عدد قليل نسبيا من السلالات الثقافية. إضافة إلى ذلك، فإن هذه الديانات بما فيها الديانات التوحيدية، كالإسلام والمسيحية واليهودية، وغيرها العديد أيضا من الديانات الرئيسة في العالم مثل الهندوسية والشنتوية والبوذية، قد ظهرت بعد ظهور الزراعة بفترة طويلة. والأهم من ذلك أنها لم تظهر إلا بعد أن بدأ البشر يعيشون في مجموعات ومستوطنات أكبر، بسبب نمط حياتهم الزراعي. فعلى مدار الجزء الأكبر من مدة وجودنا التي تزيد على 100000 عام، عاش نوعنا في مجموعات صغيرة أو قبائل في أماكن مثل كهف بلومبوس. ومنذ 10000 عام تقريبا، لا سيما في الألفيات القليلة الماضية، بدأنا في الاحتشاد وتكوين زعامات أو إمبراطوريات أكبر، مع تأسيس مناطق حضرية في مراكزها في أغلب الأحيان. ومؤخرا قد اقترحت مجموعة من الباحثين أن تطور الديانات الرئيسة الهرمية، كتطور الحكومات الهرمية، قد نبع من تكتل البشر في مثل هذه الأماكن. وإذا افترضنا إلى الآن أن هذه الفرضية الوجيهة صحيحة، فإن هذا سيشير إلى أن اختراع الأنظمة العددية المعقدة، قد أدى في نهاية المطاف من خلال تيسير الزراعة، إلى تكوين وجهات نظر جديدة بشأن دور البشر في العالم، وظهور آراء جديدة بشأن نشأة الأرض وما عليها. ويمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن ظهور الأنظمة العددية كان أمرا محوريا في اختراع إله أو آلهة. أو مثلما يرى البعض، فإن تطور الأعداد قد أدى إلى توصل البشر إلى الإدراك الدقيق بوجود إله أو آلهة.
إن هذا الافتراض يقوم على الزعم القائل بأن المجتمعات السكانية الأكبر كانت تنتج تقاليد جديدة؛ لأسباب معينة، وعادة ما تكون هذه التقاليد إيمانية دينية. ما السبب إذن في أن الجماعات السكانية الأكبر قد اتجهت إلى الإيمان بوجود إله؟ في خطوط عريضة، تقترح الفرضية المعنية أن الأسباب قد جرت على المنوال التالي: المعتقدات الدينية المنظمة التي تتضمن آلهة وفئات رجال دين تلزم باتباع الأخلاق، نتجت عن حاجة المجموعات الكبيرة من البشر إلى التعاون من خلال الأخلاق المشتركة والإيثار. وبعد أن زاد عدد المنتمين للحضارات بعد ظهور المراكز الزراعية وما يرتبط بها من تحضر، كان على الأفراد أن يعتمدوا على الثقة المشتركة في عدد كبير من البشر الآخرين، ومنهم الكثيرون الذين لا يمتون لهم بصلة قرابة، على عكس ما كان عليه الحال في المجموعات الصغيرة كالقبائل والعشائر. وقد كانت هذه الثقة المشتركة داخل الحضارات أمرا ضروريا إذا أرادت هذه المجموعات أن تتفوق على مجموعات الأفراد التي تقاربها في الحجم. وعلى العكس من ذلك، فإن مجموعات القبائل والعشائر كانت (ولا تزال) صغيرة، وفي معظم الأحوال في العشائر التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار، توجد صلة قرابة بين معظم أفرادها وبين جميع الأفراد الآخرين الذين ينتمون إلى نفس الثقافة، أو معظمهم. إذن، فالدوافع الطبيعية للثقة والتعاون بين الأفراد، أكثر وضوحا في حالة الجماعات السكانية الصغيرة؛ فنظرا إلى أن الانتقاء الطبيعي يقوم على أساس حماية الفرد لجيناته، فمن الأسهل أن نفهم دوافع الإيثار والتضحية داخل المجموعة، في المجموعات الصغيرة كالعشائر والقبائل. لكن ما الذي قد يدفع البشر الذين يعيشون في المجموعات السكانية الأكبر كثيرا، والذين لا تربطهم بمعظم الأفراد الذين يتواصلون معهم يوميا صلة وراثية يمكن تمييزها، إلى التعاون مع هؤلاء الأفراد الآخرين الذين ينتمون إلى ثقافتهم؟ لماذا قد يهتمون بما فيه خير لأفراد غرباء عنهم تماما، من خلال أداء أفعال تعاونية باستمرار؟ وفقا للفرضية التي نتحدث عنها، والتي يؤيدها عدد من الباحثين مثل عالمي النفس أرا نورنزيان وعظيم شريف، فإنه كان لا بد من تطور آلية اجتماعية حتى لا تتفكك الثقافات الكبيرة بسبب المنافسة بين أفرادها، وحتى لا يستنزف العديد من الأفراد ثمرة عمل الآخرين. ومن الآليات الاجتماعية التي تعزز السلوك التعاوني الإيجابي نحو المجتمع، الدين المنظم الذي يستند إلى أخلاق مشتركة وآلهة كلية العلم تستطيع معرفة ما يقترف من مخالفة لمثل هذه الأخلاق. وربما كان التطور التدريجي لمثل هذه الديانات المرتكزة على وجود إله قد أدى تلقائيا إلى حفظ النظام والسلوكيات التعاونية التي كانت مفيدة في نجاح الحضارات وبقائها من خلال الاهتمام الاجتماعي بالآخرين. وبعبارة أخرى، يمكننا أن نقول إن الجماعات السكانية الكبيرة التي تبنت ديانات أخلاقية تتمركز حول إله أو آلهة، كان احتمال بقائها سيقل عند المواجهة مع مجموعات أخرى كبيرة لا تتسم بالتعاون مع الغرباء (وتتسم بدرجة من التعطش للدماء تجاه الغرباء) لكنها تتسم بالتعاون فيما بين أفرادها بسبب وجود دين يفرض عليهم التعاون مع غير أقربائهم من أفراد الجماعة السكانية.
يستند بعض الدعم الذي تلقته هذه الرؤية إلى دراسة مسحية حديثة للعديد من ثقافات العالم. ووفقا لهذه الدراسة التي أجريت على 186 من المجتمعات المعاصرة، فثمة ارتباط قوي بين حجم السكان في ثقافة معينة، واحتمالية أن تكون هذه الثقافة تتبع ديانة تتمركز حول إله (أو آلهة) يعنى بأخلاق الأفراد. وهذه العلاقة الطردية ليست حاسمة بالطبع، لكنها تشير إلى أن هذا التفسير يسير في الاتجاه الصحيح. أما الأمر الواضح فهو أن ظهور الديانات الهرمية الكبيرة التي تتمركز حول إله (أو آلهة) هو توجه حديث بدرجة كبيرة. إضافة إلى ذلك، فقد ظهر هذا التوجه بعد الثورة الزراعية المتأثرة بالأعداد، التي أتاحت زيادة عدد السكان في المناطق التي تطورت بها الأديان المعنية بعد ذلك. وهذه الديانات «الجديدة» قد غيرت بدورها رؤية الكثيرين من البشر بشأن موقعهم في الكون، وغيرت رؤيتهم بشأن العالم، وأشبعتهم بحس مميز بوجود الغاية. وبسبب هذا المنحى الذي اتخذته الأحداث، أصبح الكثيرون من البشر يرون أنفسهم على أنهم مخلوقات الإله (أو الآلهة) المميزة. ومن ثم، فإن تطور الأنظمة العددية المعقدة، قد أدى دورا في تغيير فهم البشر لأرواحهم، وإن كان ذلك بصورة غير مباشرة على أقل تقدير.
6
أعداد ذات دلالة اجتماعية
حين هبط موسى من جبل سيناء بألواحه الحجرية، كان منقوشا عليها عشر وصايا إلهية؛ هي الوصايا العشر. وحتى إذا لم تكن من أتباع إحدى الديانات التي تقر بهذه الوصايا، فأنت تدري بوجودها. وبالرغم من أنك قد لا تكون قادرا على ذكرها جميعا، فأنت تعرف أنها عشر وصايا. فلماذا هي عشرة؟ لا شك بأن هناك أكثر من عشر وصايا دينية كان من الممكن أن تلقى على البشرية، أو على مجموعة من رحالة الشرق الأوسط تحديدا، قبل ما يزيد على ألفي عام. ها هي وصية حادية عشرة كان يمكن أن يتبناها العديد من البشر دون جدال: «لا تعذب.» يمكننا أن نتخيل أنه إذا نزل موسى بمثل هذه الوصية، لم تكن لتحدث أي بلبلة. وعلاوة على ذلك، فإن كثيرا من البشر في الوقت الحالي كانوا سيؤيدون هذه الوصية المفقودة. غير أن القائمة كانت ستفقد بعضا من ثقلها البلاغي. «الوصايا الإحدى عشرة» وكأنها تشي بإله ساخر. لو كان موسى قد نزل بإحدى عشرة وصية، ربما لم يكن قومه ليعترضوا على هذه الوصية الحادية عشرة في حد ذاتها، لكن وجود إحدى عشرة وصية على وجه التحديد، كانت ستبدو للبعض أمرا غريبا. وربما كان تعلم الأطفال للوصايا الإحدى عشرة في السياقات الدينية، سيصبح أكثر التباسا، مما لو أنهم كانوا يتعلمون العدد المقدس عشرة. إن العدد عشرة هو أكثر الأعداد اكتمالا، ومن المنطقي جدا للعديد من الأشخاص أن ترد معظم القواعد التي تحكم حياتنا، في مجموعات من عشرة. ومن المثير للاهتمام أيضا أن العدد عشرة له دلالة روحية في العديد من التقاليد الدينية المختلفة: تجسدات فيشنو العشر، والجورو العشرة في السيخية، والصفات العشر في القبالة، وغيرها. وهذا التأثير المتكرر للعدد عشرة، ليس عرضيا على ما يبدو. وربما ليس علينا أن نندهش حين نجد أن للعدد عشرة دلالة روحية واجتماعية خاصة، نظرا إلى تأثيره واسع الانتشار في الأنظمة العددية. إن الدافع النهائي لهذه الدلالة قد أصبح واضحا الآن: ليس الأمر أن المفاهيم الإلهية ترد في مجموعات من عشرة، وإنما ينطبق ذلك على أصابعنا. (ومما لا شك فيه أن البعض يرون أن هذا الشكل الذي توجد عليه أصابعنا، هو إلهي في حد ذاته.)
7
إن الأعداد الأخرى التي تتميز بدلالة معينة في النصوص الدينية، غالبا ما تكون هي أيضا بسيطة وتامة، ويسهل قسمتها على عشرة. فعلى سبيل المثال، للعدد «أربعين» دور مهم للغاية في التقليد اليهودي المسيحي؛ فقد استمر طوفان نوح 40 يوما، وتجول يسوع في الصحراء 40 يوما، وقضى موسى 40 يوما على جبل سيناء، وصام إلياس 40 يوما ، ونزل يسوع بعد 40 يوما من صلبه، وغير ذلك.
8
وإضافة إلى الانحياز الواضح للأصابع في الأعداد المقدسة، التي يكون لها دلالة مميزة في بعض التقاليد الدينية، فإننا نشهد هنا ظاهرة أخرى ترتبط بهذا الأمر، وهي تداخل الأعداد مع الروحانية. ينطبق ذلك على الأعداد المقدسة في الديانات الرئيسة في العالم، وغيرها من التقاليد الروحية المنتشرة إلى جانب ما ذكرناه سابقا؛ فبعض التقاليد الصينية ترى أعدادا معينة على أنها ميمونة أو مشئومة، ويرى أنصار علم التنجيم أن أعدادا محددة تدل على سمات روحية أو شخصية محددة، أو كليهما.
إن هذه الأعراف تدور في حلقة منتظمة؛ فمثلما أشرنا سابقا، أدى ظهور نمط العيش الذي يعتمد على الزراعة والاستقرار إلى زيادة عدد السكان، الأمر الذي أدى بدوره إلى نشأة العديد من الأنظمة العقائدية الإيمانية والأخلاقية. ونظرا إلى أن أنظمة الأعداد قد أسهمت في تشكيل الممارسة الزراعية، فهي مسئولة جزئيا على أقل تقدير، عن نشأة الممارسات الدينية والروحية، التي أضفت بدورها دلالة روحية ودينية على أعداد محددة. ويعد هذا النمط من الاستجابة الثقافية، من السمات الأساسية للقصة العامة للتطور المشترك، التي يشير إليها هذا الكتاب في نقاط متعددة؛ فقد أثرت الأعداد وممارسة العد في التجربة البشرية تأثيرا جوهريا، وقد نتج عن هذا التأثير ضغوطات جديدة بشأن كيفية اعتماد البشر على الأعداد، وإلى أي درجة يعتمدون عليها. وقد تضمنت هذه الضغوطات إضفاء دلالة روحية على الأعداد.
قد يرى البعض أن إضفاء دلالات روحية واجتماعية على الأعداد، ما هو إلا أحد الآثار الطريفة لعصور ما قبل العلم. بالرغم من ذلك، يمكننا أن نجادل في أن الأعداد تكتسب الآن دلالة أكثر من أي وقت مضى؛ إذ أصبحت مرتبطة دون تفكير في بعض الحالات بالاكتشافات العلمية؛ ففي نهاية المطاف أدت الرياضيات دورا كبيرا في تشكيل التقدم العلمي الكبير الذي حدث على مدار القرون القليلة الماضية. ومعظم الأشخاص يدركون أن العلم الحديث يقوم على أساس النتائج التي تطرح عادة في صورة كمية. والمنهجية العلمية المرتبطة بمختلف أنواع الرياضيات، ترى على أنها نقطة الانطلاق لأي طريق مؤد إلى حقيقة أعلى. ومن ذلك الجانب، فإن أنصار العلم من الملحدين أو اللاأدريين، يمكنهم أن يضفوا على الأعداد أهمية روحانية؛ إذ يتعاملون معها على أنها حقائق خارجية عن العقل والجسد ترشدنا نحو اكتشافات لحقائق جديدة. بالرغم من أن الكميات التي تمثلها الأعداد يمكن أن توجد خارج عقولنا، فإن التمثيلات الرمزية لهذه الكميات هي اختراعنا الخاص؛ فهي ليست منفصلة تماما عن عقولنا. وتعتمد الممارسات العلمية على نوع من روحنة هذه الاختراعات التي تستند إلى طبيعتنا التشريحية؛ ففي العديد من المجتمعات الحديثة تعد الأعداد ضرورية للغاية في نظرية المعرفة؛ فهي تساعدنا على تحديد ما إذا كان أحد الأمور اعتقادا مبررا، أم لا. والوصف العددي للمعتقدات الجديدة يمدها بأنواع خاصة من المعنى. فعلى سبيل المثال، إذا أخبرنا علماء الكونيات أن الكون قديم للغاية، فإن هذا قد يعني شيئا لنا، لكن إذا أخبرونا أن عمر الكون يزيد على 13 مليار عام، فإن هذا قد يعني أكثر بكثير بالنسبة لنا، بصرف النظر عن قدرتنا على تصور مثل ذلك المقياس الزمني؛ ففور أن توصف الملاحظات بالأعداد، يزيد تقبلنا لها بصفتها حقائق فعلية.
إلا أن الأعداد لا تكتسب قيمة اجتماعية من ذلك الجانب العام المتعلق بنظرية المعرفة فحسب؛ فلا تزال بعض الأعداد تتحلى بدلالة اجتماعية شبه روحانية في بعض السياقات غير الدينية، وهي دلالة أكثر عشوائية مما يلاحظه الكثيرون. ولعل ذلك يتضح جليا فيما يعرف باسم القيم الدلالية. وهذه القيم مدهشة للغاية؛ لأنها توضح أن بعض الأعداد المحددة التي ترد في سياقات لا دينية ولا روحانية، تتخذ قيمة يصدق عليها المجتمع، مما يمنحها في معظم الأحوال مكانة مميزة في عقولنا. ونكرر أن هذه المكانة المميزة، تعود في نهاية المطاف إلى العلاقة بين الأعداد وطبيعتنا التشريحية.
وسأوضح ما أعنيه هنا؛ إذا تناولت أي مجلة علمية، فسوف تجد على الأرجح أن العديد من مقالاتها أو معظمها، يذكر ما يسمى بقيم «الاحتمالية أو
» يتعرف الباحثون على هذه القيم في مرحلة مبكرة من تدريبهم؛ (لذا، فلتعذر الاستفاضة هنا، إذا كنت باحثا في أحد المجالات.) تشتق هذه القيم من أنواع مختلفة من التحليلات الإحصائية بناء على نتائج التجارب أو غيرها من أشكال جمع البيانات. وهذه القيم الاحتمالية تعكس احتمالات أن تكون نتيجة محددة، تعود إلى الفرضية الصفرية، لا الفرضية التي يجري اختبارها؛ فعلى سبيل المثال، إذا كانت لدينا دراسة تبحث الارتباط بين معدلات التدخين في جماعة سكانية معينة، وانتشار سرطان الرئة فيها، فبعد اختبار قوة الارتباط، قد يخلص الباحثون إلى أن قيمة «الاحتمالية» تساوي 0,004 على سبيل المثال. وسوف يشير هذا إلى أن الفرضية الصفرية (وهي في هذه الحالة عدم وجود ارتباط بين التدخين وسرطان الرئة) غير مرجحة على الإطلاق، أي إن احتمالية وقوع الفرضية الصفرية أقل من 4 لكل 1000 في هذه الحالة المختلقة؛ فقيم «الاحتمالية» المنخفضة تشير إلى أن النتائج التي توصلت إليها دراسة معينة، لا يعود السبب فيها إلى الصدفة على الأرجح، وأنها تدعم الفرضية التي يجري اختبارها. في العقود التي تلت العام 1920، حين قدم عالم الإحصاء رونالد فيشر مفهوم قيم «الاحتمالية»، أدت هذه القيم دورا واسع الانتشار في العلوم. إن بعض قراء المؤلفات الأكاديمية يلقون نظرة سريعة أولا على المقالات؛ بحثا عن قيم «الاحتمالية» محاولين تكوين رأي سريع عن قوة النتائج التي تتناولها المقالة؛ فالأشخاص يرغبون مباشرة في أن يعرفوا ما إذا كانت النتائج «ذات دلالة إحصائية» أم لا. في معظم الأحيان يأمل الباحثون في الحصول على قيم «احتمالية» ذات دلالة منخفضة، عندما يقومون بإجراء التحليلات؛ فقيم «الاحتمالية» المنخفضة تزيد من فرصة نشر أعمالهم، ومن فرصة حصولهم على تمويل في المستقبل، وغير ذلك. وبصرف النظر عن الإفراط في استخدام قيم «الاحتمالية» أو إساءته في أحيان أخرى منذ أن ظهر عمل فيشر بشأن هذا الموضوع، وبصرف النظر أيضا عن خلافات علماء الإحصاء بشأن فائدتها، فمن المؤكد أن قيم «الاحتمالية» لها أهمية عظيمة في المجتمع العلمي المعاصر؛ فهي تضفي المعنى على العديد من الدراسات، أو هي على أقل تقدير تمكن الأشخاص من استخلاص المعنى من هذه النتائج بسرعة أكبر .
9
بالرغم من ذلك، فقد يكون هذا المعنى وهميا من بعض الجوانب، أو قد لا يكون عميقا بالقدر الذي يراه عليه بعض قراء الأعمال العلمية، على أقل تقدير. ولكي نعرف بعض الأسباب التي تؤدي إلى هذا؛ فلنلق نظرة على النتائج التي تعد «ذات دلالة إحصائية» فيما يتعلق بقيم «الاحتمالية»؛ إذا كانت قيمة «الاحتمالية» أقل من 0,01، فإن نتائج الدراسة تعد ذات دلالة إحصائية في معظم الأحوال. في فترة ما خلال العقود القليلة الماضية، كانت قيم «الاحتمالية» التي تقل عن 0,05 تعد هي أيضا ذات دلالة إحصائية في بعض المجالات، غير أنها كانت تعد ذات دلالة إحصائية أقل من قيم الاحتمالية التي تقل عن 0,01. إن قيم الاحتمالية التي تقل عن 0,05 تشير إلى أن هناك 5 فرص من 100 تكون فيها الفرضية الصفرية للدراسة صحيحة. لكن لماذا 5 من مائة؟ أو 1 من 100؟ هل أقر الكون بحياد أن مثل هذه النسب هي الطريق إلى المعرفة؟ بالطبع لا، لكن ما نراه في مثل هذه القيم «للاحتمالية» قد أصبح نمطا مألوفا لنا الآن؛ فالعددان خمسة وعشرة ومضاعفاتهما، من الأعداد المميزة لدينا؛ فنحن نميل إلى إضفاء دلالة اجتماعية على هذه الأعداد؛ لا لأنها ترتبط بالحقيقة العلمية من الناحية الموضوعية، بل لأنها ترتبط بأيدينا. حتى إذا لم نكن نفكر في هذا الأساس الخماسي، والأساس العشري، فهو موجود دائما من الناحية التاريخية. والواقع أن قدرا كبيرا من العلم، أو من الطريقة التي يفسر بها الكثيرون الدراسات العلمية على وجه التحديد، يتأسس على هذا الأساس المتعلق بالأيدي، دون تفكير. فمن الممكن أن تصبح قيم «الاحتمالية» مقبولة اجتماعيا حين تكون بنسب أخرى؛ فربما يجب أن تصبح قيم «الاحتمالية» أقل من 0,03 لكي تعد ذات دلالة إحصائية، أو ربما يجب أن تصبح 0,007 أو 0,023. إنهما قيمتان عشوائيتان ومنخفضتان، لكنهما من منظور غير متحيز للأصابع مسوغتان تماما بقدر تسويغ القيمتين 0,05 أو 0,01.
كل ما يمكننا إثباته فعلا هو أنه حين تكون قيم «الاحتمالية» منخفضة في دراسة محددة، فإن احتمالات أن تكون الفرضية الصفرية صحيحة ليست بالجيدة، غير أن ذلك لا يمنحنا سوى تأكيد أقل؛ فنحن نرغب في أن تخبرنا الأعداد ببساطة معنى الدراسة. إن ذلك لا يعني أن الاختبارات الإحصائية ليست موضحة، وإنما لكي نشير إلى أن طريقة تفسيرنا لها ليست حاذقة كما ينبغي لها أن تكون. وبدلا من ذلك، فإن تفسيرنا للدراسات العلمية غالبا ما يعتمد على طريقة «الكل أو لا شيء»، ولهذا الاختيار القائم على الثنائية فوائده في تبسيط قراءتنا للبيانات. لكن الأهم بالرغم من ذلك، هو أن طريقة قيامنا بالاختيار المعني، ليست سوى ناتج ثانوي بالأساس لسمات أيدينا التي نمارس بها العلم. فمن ناحية ما، تعد قيم «الاحتمالية» هي آخر مثال على استخدامنا لأصابعنا، دون أن ندرك في معظم الأحوال، في الإشارة إلى حقائق عليا، لا تختلف كثيرا عن الوصايا العشر.
خاتمة
من المحتمل أن تكون الأعداد قد بدأت في تشكيل الخبرة البشرية منذ الماضي البعيد حين كان أسلافنا يسكنون بجوار البحر بالقرب مما يعرف اليوم بمدينة ستيلباي، وهي لا تزال تفعل ذلك؛ فمن المعابد والكنائس، إلى الجامعات والمختبرات، لا تزال الأعداد تغير حياة الجماعات السكانية الزراعية الكبيرة، إضافة إلى الجماعات الصغيرة التي تعيش على الصيد وجمع الثمار، والجماعات التي تعتمد على البستنة، والتي تجبر الآن على الدخول في عالم تزداد عولمته.
إن التمثيلات اللفظية وغير اللفظية للكميات المحددة، قد غيرت جميع الأوجه الممكنة في حياتنا؛ فبينما تقرأ هذه الكلمات، لا يوجد سوى القليل من عالمك، بداية من أفكارك الداخلية إلى بيئتك الخارجية، هو الذي لم يتأثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة بهذه التمثيلات، أي بالأعداد؛ فهذه السطور الأنيقة والحروف الموجودة على هذه الصفحة ما كانت لتصبح ممكنة بدون الأعداد؛ فالأعداد قبل كل شيء، هي التي تمكننا من أخذ القياسات، وقد كانت رموز الأعداد هي باكورة الكتابة. إن ذكر الجوانب التي لم تتأثر في حياتنا باختراع الأعداد، لهو أمر أقل صعوبة من ذكر الجوانب التي تغيرت في حياتنا باختراعها. فكل شيء بداية من الطب الحديث، والدين، والتصنيع، والعمارة، والألعاب الرياضية، قد تأثر باختراع الأنظمة العددية، وتفاصيلها بطرق لا يمكن تمييزها في معظم الأحيان.
في هذا الكتاب، قدمت طرحا يفيد بأن الأعداد، أي التمثيل الرمزي للكميات، هي اختراع في واقع الأمر؛ فالكميات ترد في الطبيعة، حتى إن منها ما يرد بصورة منتظمة، سواء أكان ذلك في السنوات التي تفصل بين دورات تكاثر حشرات الزيزيات أو مجموع أرجل العنكبوت، أو أيام الدورة القمرية وغيرها. غير أن الأعداد نفسها، أي التجسيد الرمزي لمثل هذه الكميات المنتظمة، لا توجد بصورة مستقلة عن الابتكار البشري، ونحن لا نخترعها ببساطة، بفضل بعض الآليات الفطرية. وإنني أطرح هذا الزعم بناء على الأدلة الحديثة من التجارب التي أجريت على الأطفال، وعلى الشعوب اللاعددية، وعلى بعض الأنواع قريبة الصلة بنوعنا. ومثلما رأينا فإن هذه الأدلة تئول إلى نتيجة واضحة، وهي أننا لا نولد ونحن نمتلك القدرة على التمييز بين معظم الكميات بدقة، بالرغم من أننا نمتلك بعض القدرات الفطرية التي تمكننا من التمييز بين الكميات بصورة تقريبية، مع التمييز الدقيق بين المجموعات التي تحتوي على كمية صغيرة من الأشياء. إن هذه القدرات لا تسمح لنا بالتمييز بين أعداد معظم مجموعات الأشياء أو الأحداث، حتى وإن كانت هذه المجموعات توجد في الطبيعة. إن اختراع الأعداد، وهي تمثيلات كميات محددة، هو الذي مكن البشر من إدراك الأنماط الكمية على نحو محدد، وذلك بصورة منتظمة على الدوام؛ فقبل اختراع الأنظمة العددية كانت معظم الأنماط الكمية المنتظمة في الطبيعة خفية عن أعين أفراد نوع «الإنسان العاقل»، أو أي نوع غيره كذلك. وقد أدى اختراعها إلى حدوث تغيير إدراكي مزلزل، ولا يزال تأثيره مستمرا.
وقد اقترحت أيضا أن اختراع معظم أنواع الأعداد لم يكن ناتجا فرعيا تلقائيا عن اللغة والثقافة فحسب، وإنما كانت نتيجة التناظر الحيوي في يدي الإنسان. إنها الأيدي التي يمكن أن نركز عليها بسهولة؛ إذ إنها غير ضرورية للحركة. إن تمكننا من السير على قدمين، قد أتاح لنا التركيز على أيدينا بدرجة أكبر، وتحسين استخدامنا لها. وقد أدى هذا التركيز في نهاية المطاف إلى إدراكنا مصادفة للتطابق العددي بين الأصابع في كل يد والأخرى، إضافة إلى تطابق عدد الأصابع مع غير ذلك من المجموعات. إن هذا الإدراك البسيط شيء بسيط للغاية، ولكنه غير متأصل في طبيعتنا الفطرية، قد تجسد في النهاية من خلال اللغة. لقد أتت الأعداد إلى الوجود؛ فأصبحت الكميات المحددة حاضرة في أفكارنا على الدوام، فلم نعد نصادفها بشكل متقطع فحسب. وبناء على السجل الأثري والسجل اللغوي، فإن البشر يعبرون عن الكميات المحددة بصورة منتظمة من خلال الأعداد، منذ الكثير من آلاف السنين. ومن هذه الناحية فإن الثورة العددية ثورة قديمة.
بالرغم من ذلك، فمن ناحية واقعية أخرى لم تكتسب الثورة العددية زخما إلا منذ بضعة آلاف من السنوات. وخلال تلك الفترة، تطورت الأنظمة العددية والزراعة جنبا إلى جنب. وقد تضمنت نتائج هذا التطور المشترك تشكيل مجتمعات أكبر، وظهور أنواع محددة من العقائد الدينية، وظهور الرياضيات وأنظمة الكتابة، التي كانت أنظمة مرتكزة على الأعداد في بداية الأمر. ومما لا جدال فيه أن الأعداد وممارسة العد، قد غيرت قصة البشرية. فبالرغم من أن البشر قد أدركوا أهمية تطور الرياضيات في قصة البشرية منذ فترة طويلة، فقد أكدت أنا على أن اختراع مفردات الأعداد والأعداد المنطوقة، قد أدى دورا أهم وأسبق. وتماشيا مع الأبحاث متعددة التخصصات التي أجريت على هذا الموضوع؛ اقترحت أن الأعداد كانت ولا تزال أدوات إدراكية، أدوات قد غيرت حياتنا قبل استخدام الرياضيات المتطورة بفترة طويلة.
إننا - نحن البشر - نطفو على الدوام في بحر من الكميات، مثلما أننا نطفو دوما في بحر من المحفزات الأخرى. إننا نطفو في بحر من الضوء المرئي على سبيل المثال، ومثلما أن أعيننا تمكننا من تمييز ذلك الضوء، والتنقل في العالم المادي من حولنا، فإن الأعداد تساعدنا على تمييز الكميات الموجودة حولنا، واجتياز بحور فكرية جديدة. ومثلما أكدت في هذا الكتاب، فإن هذه الأدوات التي نستخدمها في الإبحار الفكري، لا توجد بصورة منفصلة عن اختراعنا لها. إننا لم نكتشف هذه الأدوات قابعة في مكان ما على ساحل جنوب أفريقيا، بل أدركنا التطابق بين الكميات، على مراحل مختلفة من التاريخ وفي أماكن مختلفة قد تكون مدينة ستيلباي منها، ثم جسدنا هذا الإدراك من خلال ابتكار أنواع جديدة من الكلمات. وفي معظم الأحيان، كان هذا التطابق بين كميات توجد في البرية، والكميات التي تمثلها أصابعنا.
إذن، فبصفة أساسية قد أخذنا أيدينا ومددناها في بحر الكميات التي لا نستطيع التمييز بينها، وشكلناها في صورة أعداد. لقد أمسكنا بأيدينا كميات من الأشياء الموجودة حولنا، وذلك بصورة مجازية وحرفية أيضا. وقد شكلنا هذه التطابقات المجردة للكميات، وصغنا منها أعدادا حقيقية للغاية، لكنها غير طبيعية على الإطلاق. لقد بنينا الأعداد، ونظرا إلى تأثيرها التحويلي، فمن الإنصاف أن نقول إن الأعداد قد بنتنا أيضا.
ملاحظات
تمهيد
الجزء
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
من اللغة العددية
الجزء
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء
الفصل
الفصل
الفصل
نامعلوم صفحہ