وكنت جالسة بجانب الغلام حين كان خولي المزرعة يروي لنا حكايته، وقد أخذ الغلام قطعة من الخشب، وجعل يتلهى بحفر رسم نقشه عليها، فأخذت الخشبة من يده، وقلت له: من الذي علمك صناعة النقش على الخشب؟
قال: تعلمتها من تلقاء نفسي؛ إذ لا يوجد هنا معلمون.
وقال الخولي: إن له ميلا شديدا إلى هذه الصناعة، وقد نقش رسوما كثيرة تدل على صفاء ذهنه.
وقد تمعن كوكليش بهذه الرسوم وقال: إنه سيخرج نقاشا ماهرا لا محالة إذا مارس النقش.
أما أنا فقد فرحت به فرحا عظيما حتى إني لم أتمالك نفسي عن معانقته، فقبلني كما قبلته، وقال لي: ألا تريدين أن تكوني أختي؟
قلت: دون شك، قال: إنك تقولين هذا القول اليوم، ثم تسافرين في الغد، فلا أعود أراك مدى الحياة، ألم ألقب بالسيئ البخت؟!
وقد رأيت عند ذلك دمعتين سالتا من عينيه الزرقاوين، وأطرق إطراق الحزين، فأخذتني به رأفة عظيمة ونكفت - مسحت عن خدي - دمعتيه بشفتي. وصمتت باكيتا هنيهة، ثم عادت إلى الحديث فقالت: وأقمنا في منزل الشيخ نتحدث في أمور مختلفة إلى أن سألنا عن مهنتنا، ولما علم ما هي اقترح علينا أن نلعب في اليوم التالي، وأجبناه إلى سؤاله، فلما كان اليوم التالي ورآني الغلام أمشي على الحبل، هجم علي بعد نزولي، فعانقني وقال لي: إني أريد أن أفعل كما فعلت، قلت: ذلك صعب لا تستطيعه، قال: بل أتعلمه في أقرب حين إذا نويت، وكان أحد غلمان المزرعة واقفا فقال متهكما: إنك لا تستطيع تسلق الشجرة دون أن تقع، فكيف تستطيع المشي على الحبل؟! فاحمر وجهه من هذا الهزء، وبرقت عيناه ببارق دل على «قوة إرادة لا تغلب»، وقال: إني أريد أن أجرب.
ثم صعد السلم إلى الحبل الذي كان مشدودا بين شجرتين ووقف على الحبل بتوازن عجيب، فتمكن من الوقوف بضع ثوان، ثم تمكن من المشي خطوتين، فانقطع الناس عن الضحك، وأخذت أنا أشجعه، وقد أعجبت به إعجابا عظيما، فمشى أيضا خطوتين، ثم اختل توازنه، فوثب إلى الأرض دون أن يصاب بأذى. وعند ذلك صفق له الجمهور، وقال خولي المزرعة وهو يضحك: هذه أول مرة لم يسقط فيها على أنفه.
أما الغلام فإنه دنا مني، وقال لي بصوت منخفض: لقد رأيت كيف أني سأتعلم في أقرب حين، فإذا أذنوا لي أن أكون معك أصبحت مثلك في زمن قريب.
وفيما هو يكلمني اضطرب وجهه، وتبين الذعر في عينيه، فصاح قائلا: هو ذا أبي وقد أتى ليضربني.
نامعلوم صفحہ