أبو نواس عند العامة
أبو نواس الإباحي
أسرار الغدد
شخصية منحرفة
الشعر والشيطان
عقدة الإدمان
طبيعته الفنية
غزل المؤنث والمذكر
الجاحدون واللادينيون
خاتمة
أبو نواس عند العامة
أبو نواس الإباحي
أسرار الغدد
شخصية منحرفة
الشعر والشيطان
عقدة الإدمان
طبيعته الفنية
غزل المؤنث والمذكر
الجاحدون واللادينيون
خاتمة
أبو نواس
أبو نواس
الحسن بن هانئ
تأليف
عباس محمود العقاد
أبو نواس عند العامة
شهرة أبي نواس
اشتهر في الأدب العربي عشرات من الشعراء والأدباء، يعرفهم قراء الأدب ورواته، ولا تصل أسماؤهم - فضلا عن أخبارهم - إلى الأميين وأشباه الأميين من جهلاء العامة، ما عدا شاعرا واحدا اشتهر من بين هؤلاء الشعراء والأدباء في بابه فسمع به الأميون وأشباه الأميين، واتخذوا من اسمه علما على كل من يشبهه في صورته عندهم، وصحفوا ذلك الاسم تصحيفا يدل على مصادره الأمية، فعرفوه باسم «أبي النواس» بتشديد الواو وزيادة الألف واللام للتعريف على الدوام.
ولم يكن شذوذ هذا الشاعر عن هذه القاعدة لسهولة شعره، فإن الأميين الذين يتناقلون أخباره ونوادره لا ينقلون بيتا واحدا من شعره، ولا يروونه مصحفا أو بغير تصحيف، وإنما يعرفون الشاعر «شخصية» ذات أخبار، ولا يعرفونه قائلا ينظم الأشعار.
ولم تكن هذه الشهرة أيضا لقرب عهده وقصر الزمن بينه وبين رواته المتأخرين، فإن النواسي عاش في القرن الثاني للهجرة، وهؤلاء الأميون الذين يتناقلون أخباره المزعومة قد يجهلون أسماء الشعراء والأدباء في عصرهم، أو يجهلون على التحقيق أسماء الشعراء والأدباء بعد القرن الثاني للهجرة بلا استثناء، ما عدا هذا الاستثناء.
ولكن هذا الاستثناء لم يكن على أية حال مصادفة لغير سبب، كما سنرى في موضع البيان عن أسباب هذه الشهرة عند نشأتها الأولى، ومتى وجدت الشهرة فهي قابلة بعد ذلك للإضافة والزيادة، ولو من غير القبيل الذي نشأت من أجله في مرحلتها الأولى.
وإذا كان هذا شأن الأميين في التحدث بأخبار الشاعر المجدود، فلا عجب أن يتحدث به أشباه الأميين وهم أقرب إلى الأدب المقروء في الكتب، والقدرة على فهم القليل منه، إن فاتهم فهم أكثره وأصحه.
ونعني بأشباه الأميين أولئك الذين يقرءون ولا يقدرون على تصحيح نسبة الكلام واستقصاء وجوه التصحيح، فإذا سمعوا كلاما لشاعر مشهور غيره، جاز عندهم أن يكون لهذا أو لذلك، وإن كان الفارق بينهما واضحا لنقاد الأدب ورواته المتثبتين.
هؤلاء القراء أشباه الأميين يعرفون النواسي كإخوانهم الأميين؛ أي يعرفونه لأنه شخصية ذات أخبار، وقلما يعنيهم منه ذلك الشعر الذي ينسبونه إليه سواء صحت نسبته إليه أو إلى غيره، أو كان مختلقا ملفقا لا تصح نسبته إلى أحد من الشعراء المشهورين.
والغالب على هذه الشخصية أنها شخصية النديم اللاهي - «الحاذق» - ونكاد نكتبها «الحدق» بالدال، وعلى غير صيغة اسم الفاعل؛ لأن «الحداقة» كما يفهمها العامة هي أم الصفات التي تتغلب على «النواسي» في روايات أشباه الأميين، ومنها سرعة الجواب والفهم بالإشارة، أو الفهم الذي يوشك أن يكون اطلاعا على الغيب، مع اللباقة في اللعب بالكلام أو اللعب بالأفهام على حسب المقام، ولا سيما اللهو ونبذ الحياء والملام.
وليس أشهر من الأدب المنسوب إلى أبي نواس في الكتب التي تروج بين أشباه الأميين، ومنها ألف ليلة، وأعلام الناس فيما جرى للبرامكة مع بني العباس، وقليله يغني عن الكثير.
قيل: «إن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرق ذات ليلة، فقام يتمشى في قصره بين المقاصير، فرأى جارية من جواريه نائمة فأعجبته فداس على رجلها، فانتبهت فرأته، فاستحيت منه، وقالت: يا أمين الله ما هذا الخبر؟
فأجابها يقول:
قلت: ضيف طارق في أرضكم
هل «تضيفوه» إلى وقت السحر
فأجابت بسرور سيدي
أخدم الضيف بسمعي والبصر
فبات عندها إلى الصباح، فلما كان الصباح سأل: من بالباب من الشعراء؟ قيل له: أبو نواس، فأمر به فدخل عليه، فقال: هات ما عندك على وزن: يا أمين الله ما هذا الخبر! فأنشد يقول:
طال ليلي وتولاني السهر
فتفكرت فأحسنت الفكر
إلى أن يقول:
فإذا وجه جميل مشرق
زانه الرحمن يزري بالقمر
فلمست الرجل منها موطئا
فدنت مني ومدت بالبصر
وأشارت لي بقول مفصح
يا أمين الله ما هذا الخبر ؟
قلت: ضيف طارق في أرضكم
هل «تضيفوه» إلى وقت السحر
إلى آخر البيتين. فتعجب أمير المؤمنين وأمر له بصلة.» «وذكر الخطيب في بعض مصنفاته أن الرشيد دخل يوما وقت الظهر إلى مقصورة جارية تسمى الخيزران على غفلة منها، فوجدها تغتسل فلما رأته تجللت بشعرها حتى لم ير من جسدها شيئا، فأعجبه منها ذلك الفعل واستحسنه، ثم عاد إلى مجلسه وقال: من بالباب من الشعراء؟ قالوا: بشار وأبو نواس، فأمر بهما فحضرا وقال: ليقل كل منكما أبياتا توافق ما في نفسي، فأنشأ بشار يقول:
تحببتكم والقلب صار إليكم
بنفسي ذاك المنزل المتحبب
إلى أن يقول:
وقالوا: تجنبنا ولا قرب بيننا
وكيف وأنتم حاجتي أتجنب
على أنهم أحلى من الشهد عندنا
وأعذب من ماء الحياة وأطيب
فقال الخليفة: أحسنت، ولكن ما أصبت ما في نفسي، فقل أنت يا أبا نواس، فجعل يقول:
نضت عنها القميص لصب ماء
فورد خدها فرط الحياء
وقابلت الهواء وقد تعرت
بمعتدل أرق من الهواء
ومدت راحة كالماء منها
إلى ماء معد في إناء
فلما أن قضت وطرا وهمت
فأسبلت الظلام على الضياء
وغاب الصبح منها تحت ليل
فظل الماء يجري فوق ماء
فسبحان الإله وقد براها
كأحسن ما تكون من النساء
فقال الرشيد: سيفا ونطعا يا غلام! قال أبو نواس: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: أمعنا كنت؟ قال: لا والله، ولكن شيئا خطر ببالي. فأمر بأربعة آلاف درهم!»
وأمثال هذه الحكايات كثير، حد «الحذاقة» فيها - أو «الحداقة» - هو حدها عند أشباه الأميين، وهو شرطهم في أرباب الفن إلى هذه الأيام.
أخباره عند الأدباء
وغني عن القول: أن أخبار النواسي ليست مقصورة على الأميين وأشباه الأميين، ولكن اهتمام الأميين وأشباه الأميين بها هو وجه الغرابة في هذا الباب من الأدب، وأما العارفون بأدب الفصحى فلا وجه للغرابة في اهتمامهم به وبأمثاله من موضوعات الأدب والفنون.
على أن الأمر في هذه الناحية لا يخلو من غرابته التي تخص أخبار أبي نواس بخاصة، ولم يشاركه فيها أعلام الشعر والثقافة الفنية ، فإن رواة الأدب الصحيح لا يهتمون بأبي نواس وأنداده من الأعلام على نحو واحد، بل يلوح عليهم أنهم يودون لو يشركونه بسهم في سيرة كل أديب. ويحبون إذا نسب الخبر إليه أو إلى غيره أن يؤثروه به لو استطاعوا، وأن يجعلوه من مروياته ومأثوراته دون المرويات والمأثورات عن سواه.
فصاحب العقد الفريد - ابن عبد ربه - من أعلم الرواة بأخبار الشعراء، ولكنه يروي عن أبي نواس بعض الأخبار التي نقلناها فيما تقدم عن الأميين وأشباه الأميين، ويضيف إليه أخبارا مشهورة عن ذي الرمة وصاحبته مية، وتغني بها تلك الأخبار التي تدور حول البيتين المنسوبين إليه وهما:
على وجه مي مسحة من ملاحة
وتحت الثياب العز لو كان باديا
ألم تر أن الماء يخبث طعمه
ولو كان لون الماء في العين صافيا
وقد سئل ذو الرمة عنهما فأنكرهما وقال: وكيف أقول هذا وقد قطعت دهري وأفنيت شبابي أشبب بها!
فيأتي صاحب العقد الفريد، ولا يبالي كذب الرواية من أصلها، ويحتفظ بها ليسندها إلى أبي نواس بلسان أبي بكر الوراق، وهذا مقام من المقامات الفنية التي يؤلفها خاصة الأدباء تأليفا؛ ليذكروا فيها ملحة أو طرفة عن ذلك الشاعر المجدود.
روي عن أبي بكر الوراق عن الحسن بن هانئ أنه قال: «حججت مع الفضل بين الربيع حتى إذا كنا ببلاد فزارة، وذلك إبان الربيع، نزلنا منزلا بإزاء ماء لبني تميم ذا روض أريض ونبت غريض، تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة والنمارق المصفوفة، فقرت بنضرتها العيون وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفجرت لبهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء فانشق غمامها، وتدانى من الأرض ركامها، حتى إذا كانت كما قال أوس بن حجر حيث يقول:
دان مسف فوق الأرض هيدبه
يكاد يدفعه من قام بالراح
همت برذاذ ثم بطش ثم بوابل، ثم أقلعت وغادرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألق، رياض مونقة ونوافح من ريحها عبقة، فسرحت طرفي منها في أحسن منظر، ونشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر، فلما انتهينا إلى أوائلها إذا نحن بخباء على بابه جارية مشرقة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، أشعرت حماليقه فترة وملئت سحرا، فقلت لزميلي: استنطقها. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قلت: استسقها! فاستسقاها، فقالت: نعم ونعما عين، وإن نزلتم فعلى الرحب والسعة، ثم مضت تتهادى كأنها خوط بان أو قضيب خيزران، فراعني ما رأيت منها، ثم أتت بماء فشربت منه وصببت باقيه على يدي، ثم قلت: وصاحبي أيضا عطشان! فأخذت الإناء فذهبت فقلت لصاحبي: من الذي يقول:
إذا بارك الله في ملبس
فلا بارك الله في البرقع
يريك عيون الدمى غرة
ويكشف عن منظر أشنع
وسمعت كلامي فأتت وقد نزعت البرقع، ولبست خمارا أسود وهي تقول:
ألا حي ربعي معشر قد أراهما
أقاما فما أن يعرفا مبتغاهما
هما استسقيا ماء على غير ظمأة
ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما
فشبهت كلامها بعقد در وهى فانتثر، بنغمة عذبة رخيمة، ولو خوطب بها صم الصلاب لابنجست، مع وجه يظلم في نوره ضياء العقل، وتتلف من روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم ويحار في بهائه طرف البصير:
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت
فلو جن إنسان من الحسن جنت
فلم أتمالك أن خررت ساجدا، فأطلت من غير تسبيح، فقالت: ارفع رأسك غير مأجور! لا تذم بعدها برقعا؛ فلربما انكشف عما يصرف الكرى، ويحل القوى ويطيل الجوى، من غير بلوغ إرادة ولا درك طلبة ولا قضاء وطر، ليس إلا للحين المجلوب والقدر المكتوب والأمل المكذوب، فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب حيران لا أهتدي لطريق، فالتفت إلي صاحبي وقال: ما هذا الجهد بوجه برقت لك منه بارقة لا تدري ما تحته! أما سمعت قول ذي الرمة:
على وجه مي مسحة من ملاحة
وتحت الثياب العر لو كان باديا
فقالت: أما ما ذهبت إليه فلا أبا لك، وإني لأنا بقول الشاعر:
منعمة حوراء يجري وشاحها
على كشح مرتج الروادف أهضم
لها أثر صاف وعين مريضة
وأحسن إبهام وأحسن معصم
خزاعية الأطراف سعدية الحشا
فزارية العينين طائية الفم
أشبه من قولك الآخر. ثم رفعت ثيابها بلغت بها نحرها وجاوزت منكبيها، فإذا قضيب فضة قد أشرب ماء الذهب، ثم قالت: أعرا ترى لا أبا لك؟ قلت: لا والله، ولكن سبب القدر المتاح، ومقربي من الموت الذباح يضيق علي الضريح، ويتركني جسدا بغير روح.
فخرجت عجوز من الخباء، فقالت له: امض لشأنك، فإن قتيلها مطول لا يودى، وأسيرها مكبول لا يفدى، فقالت لها: دعيه فإن له مثل قول غيلان ذي الرمة:
وإن لم يكن إلا تعلل ساعة
قليلا فإني نافع لي قليلها
فولت العجوز وهي تقول:
وما نلت منها غير أنك «واصل»
بعينيك عينيها فهل ذاك نافع؟
فنحن كذلك حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل وكرب خابل وأنا أقول:
وا حسرتا مما يكن فؤادي
أزف الرحيل بعبرتي وبعادي
فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين مررنا بذلك المنزل، وقد تضاعف حسنه ونمت بهجته، فقلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا، فلما أشرفنا على الخيام وصعدنا ربوة ونزلنا وهدة إذا هي تتهادى بين خمس ما تصلح أن تكون خادمة لأدناهن، وهن يجنين من نور ذلك الزهر، فلما رأيننا وقفن، وقلنا: السلام عليكن، فقالت من بينهن: وعليك السلام، ألست صاحبي قلت: بلى! قلن: وتعرفينه؟ قالت: نعم، وقصت عليهن القصة ما خرمت حرفا. قلن: ويحك! أما زودته شيئا يتعلل به؟ قالت: بل زودته لحدا ضامرا وموتا حاضرا! فانبرت لها أنضرهن خدا وأرشقهن قدا، وأسحرهن طرفا وأبرعهن شكلا، فقالت: والله ما أحسنت بدءا ولا أجملت عودا، ولقد أسأت في الرد ولم تكافئيه على الود، فما عليك لو أسعفته بطلبته في مودته؟ وإن معك من لا ينم عليك. فقالت: أما والله لا أفعل من ذلك شيئا حتى تشركيني في حلوه ومره! قالت لها: تلك إذن قسمة ضيزى! تعشقين أنت وأوخذ أنا؟ قالت أخرى منهن: قد أطلتن الخطاب في غير أرب، فسلن الرجل عن نيته وقصده وبغيته، فلعله لغير ما أنتما فيه قصد. فقلن: حياك الله وأنعم بك عينا، ممن؟ ومن أنت؟ وما تعاني، وإلام قصدت؟ قلت: أما الاسم فالحسن بن هانئ، من اليمن ثم من سعد العشيرة، وخير شعراء السلطان الأعظم، ومن يدنى مجلسه، ويتقى لسانه ويرهب جانبه، وأما قصدي فتبريد غلة وإطفاء لوعة قد أحرقت الكبد وأذابتها، قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كرم المخبر، وأرجو أن يبلغك الله أمنيتك وتنال بغيتك، ثم أقبلت عليهم فقالت: ما واحدة منكن إلا ملتمسة مرغبة، فتعالين نشترك فيه ونتقارع عليه، فمن واقعتها القرعة منا كانت هي البادئة، فاقترعت فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري، فعلقن إزارا على باب الغار وأدخلت فيه وأبطأت علي، وجعلت أتشوف لدخول إحداهن علي، إذ دخل أسود كأنه سارية. ثم صحت بصاحبي وكان متدانيا. ووالله ما تخلصت منه حتى خرجنا من الغار، وإذا هن يتضاحكن ويتهادين إلى الخيمات، فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود؟ قال: كان يرعى غنما إلى جانب الغار، فدعونه فوسوسن إليه شيئا فدخل عليك».
والقصة كلها كما يرى القارئ مقامة مؤلفة، وتلك علامة على تمكن شهوة الكلام عن الشاعر في سياق الخبر التاريخي، أو سياق الاختراع والتأليف.
وتتم الغرابة بالمصادر الأجنبية القليلة التي عنيت بأبي نواس من جانب الأدب، أو من جانب النوادر والأقاصيص الموضوعة، فإنها سايرت مصادر العربية في هذه النزعة، وأسندت إلى أبي نواس ما حدث وما لم يحدث، أو ما حدث منه وما حدث من غيره، ومنها رسالة إنجليزية طبعت في إحدى الجزر الهندية، وأهداها مؤلفها إلى ذكر الأستاذ «برتون» مترجم ألف ليلة وليلة، وقسمها إلى أخبار «أبو كريفية» تشبيها بالأخبار التي يدسها بعض الرواة على الكتب الدينية، وإلى أخبار خرافية من قبيل الأساطير والغرائب المروية عن عجائب المخلوقات، وهذه إحدى نوادرها «الأبوكريفية»:
كان أبو نواس يلهو ويقصف بين صحبه، فإذا الخليفة يفجؤهم بحضوره، ويسوءه ما يرى فيصيح بأبي نواس متأففا: ما أراك تصلح إلا أن تكون إماما للقوادين وقاضيا للفجرة الفاسقين، فأجابه أبو نواس وهو لا يعيى بالجواب على البديهة: وهل من قضية تعرضونها؟ فغضب الخليفة وأمر به من الغد حيث دخل الديوان أن يجردوه من ثيابه ويضعوا على ظهره بردعة حمار، ويطوفوا به بين الخدم والجواري؛ ليسخروا منه ويبعثوا به ثم يسلموه إلى الجلاد يطيح برأسه، ولكن أبا نواس الذي لا يغلب ظرفا وفكاهة لم يزل يلطف الجواري بدعابته وطرائف نكاته، ولم تزل هداياهن تنثال عليه حتى عاد من مطافه ممتلئ اليدين بالمال والجوهر، ورآه الوزير جعفر البرمكي وهو بهذه الحالة فسأله: فيم كان عقابه، ولأي شيء يحمل بردعة الحمار على ظهره؟ فأجابه في غير مهل: ما من شيء صنعت إلا أنني مدحت أمير المؤمنين، فخلع علي خلعة من خاصة ثيابه.
ونقلوا إلى الخليفة ما قال فضحك وعفا عنه وأمر له بهدية وخلعة سنية.
وهذه بعض النوادر التي جمعها المؤلف من إفريقية الشمالية، قيل: إن الشاعر كان يمشي في جنازة فسأله بعضهم: أيهما أكرم في تشييع الميت، أن تمشي أمام نعشه أو تتبعه؟
فقال:
لا تكن داخل النعش
وسر حيث طاب لك السير
وأمر الخليفة ذات يوم بجلده مائة جلدة؛ لأنهم وجدوا معه قارورة خمر فارغة يذهب بها ليملأها.
فسأل أبو نواس، علام الجلد يا أمير المؤمنين؟
قال الخليفة: على الخمر التي ستملأ بها القارورة.
قال: إذن فاحكم علي بالموت؛ لأنني أحمل لسانا قد يكفر بالله.
ورئي أبو نواس يوما سكران يتمايل في الطريق؛ فعجب الناظرون وسألوه: ألم تنظر من قبل إلى سكران؟
قال: ومن أين لي أن أرى السكارى، وأنا أول من يسكر وآخر يفيق؟!
نوادره الأسطورية
أما النوادر الأسطورية فقد جمعها المؤلف من مصادر لا يخطر على بال الكثيرين أنها سمعت باسم أبي نواس، ومنها القبائل التي تسكن سواحل إفريقية الجنوبية مما يلي زنجبار، وتتكلم «اللغة السواحلية»، وهي مزيج من الزنجية والعربية والهندية والفارسية، وبعض حكاياتها منقول عن أقوام إفريقية الأصلاء، الذين تدور حكاياتهم على السحرة والكهان والعفاريت.
ويقول المؤلف في تقديم هذا القسم من كتابه: إن شهرة أبي نواس وصلت إلى هناك مشافهة، «وإنه يعرف بين السواحليين من أهل زنجبار باسم كيبو نواسي وبنواسي وأبا نواسي.» ومن تصوراتهم له أنهم يلبسونه شخصية الأرنب الذي نعرفه في ألعاب خيال الظل؛ لأنهم يمثلونه سريع الفطنة حاضر الجواب، ويلبسونه شخصية أخرى هي شخصية خيال الظل في زنجبار، ولعله أصل صاحبنا الأرنب، واسم هذه الشخصية في اللغة السواحلية بواليم كرجوش، وهي كلمة تمت إلى الأرنب؛ لأنها بالفارسية شرجوش وتعني الأرنب. «ومقطع «كي» الذي يقدمون به اسم «كيبو نواسي» تصغير لكلمة الشاعر في اللغة السواحلية، حيث يتخيلونه ضئيل الجسم عظيم الفطنة، ويقال: إن اسم النواسي قد أصبح علما على كل من كان عنده جواب حاضر لكل سؤال، ومخرج قريب من كل ورطة، أو علم على اللبيب الذي نقول نحن: إنه يضحك كثيرا؛ لأنه يضحك أخيرا».
1
ومن أمثلة هذه الحكايات حكاية أنقذ فيها أبو نواس مسكينا متسولا من براثن تاجر طالبه بعوض عن رائحة طعامه، قالوا: «إن تاجرا ذبح معزة ومر به مسكين، فجلس إلى جانب القدر لعله يستسيغ الخبز القفار باستنشاق رائحتها، ثم لقى التاجر فقال له: إنك أيها السيد قد أحسنت إلي أمس إذ منحتني رائحة معزتك فاصطبغت بها هنيئا، فأخذ التاجر بتلابيبه وهو يقول له: الآن علمت كيف ضاعت النكهة من لحمها، فقد اختلستها أنت إذن ولا ندري، وساقه إلى هارون الرشيد - وقد كان شديد المحاباة للتجار - فحكم على المسكين بتغريمه اثنتي عشرة روبية يأخذها التاجر ثمنا لنكهة ذبيحته، وخرج المسكين يبكي؛ لأنه لا يملك فلسا من هذه الغرامة، فوجد أبا نواس في الطريق، وعطف عليه أبو نواس حيث علم منه سبب بكائه، ووعده أن يساعده، ثم أعطاه اثنتي عشرة روبية، وأوصاه أن يغدو بها إلى السلطان لا يؤديها له حتى يحضر هو مجلسه، ثم كان الغد فجاء إلى المجلس ورأى المسكين يعد الدراهم، فأخذها منه ورنها على الأرض، وسأل التاجر: أسمعت رنينها؟ قال: نعم؟ ومد يده إلى الدراهم يريد أن يقبضها، فرده أبو نواس وصاح به: حسبك، لقد وصل إليك الثمن رنينا برائحة، فإذا كان المسكين قد شبع من رائحة طعامك، فأنت حري أن تملأ يديك من رنين دراهمه، وترك الروبيات للمسكين وانصرف إلى داره.»
وإلى جانب هذه الحكاية وما جرى مجراها حكايات مطولة يقول المؤلف: إنها تسمع إلى الآن بين القبائل الزنجية، وتنقل عن غيرها من القبائل التي تتداول طرائف السحرة وأصحاب التعاويذ والكهانات، ولا ر يب أن أبا نواس قد انفرد بهذه الخاصة بين أدباء العربية في جميع العصور، ولا يقدح في هذه الحقيقة أن الأميين، وأشباه الأميين يروون النوادر عن عنترة بن شداد، ويضيفون إليه غرائب الشجاعة والإقدام، فإن نوادر عنترة بين الأميين وأشباه الأميين أقل كثيرا من النوادر النواسية في بابها أو في أبوابها، فقد أصبحت لها أبواب ولم تنحصر في باب واحد.
ما سر هذه الشهرة المنفردة؟
سرها بإيجاز أن أبا نواس قد أصبح عند عارفيه الأولين «شخصية نموذجية»؛ أي شخصية تمثل نموذجا اجتماعيا، ويعيش في كل زمن، وسر رجحانه على الشخصيات النموذجية من قبيل عنترة بن شداد أن وقائع الشجاعة أندر من وقائع «الحذاقة» في المجتمع، وأنها لا تصادف الناس في كل زمن كما تصادفهم الوقائع التي تدخل في مجال الشخصية النواسية.
وقد قيل: إن الناس مولوعون بالتحدث عن الشخصيات النموذجية يضيفون إليها كل خبر من جنس أخبارها.
وهذا صحيح. فقد أضاف الناس كثيرا من أخبار الجود إلى حاتم الطائي، وهي لم تقع له ولا لأحد من الكرماء المعروفين، وبعضها قد وقع لأناس آخرين على سبيل التحقيق.
وكذلك فعلوا بأخبار الحكمة مع لقمان، وأخبار الشجاعة مع عنترة وأخبار الطب مع بقراط، وأخبار كل شخصية نموذجية سمعوا بها في زمن من الأزمان.
لكن الأصح أنهم يضيفون إلى الشخصيات النموذجية ما هو من جنس أخبارها، وما ليس من جنسها، فإذا كان الأمر الأعم أنهم يراعون التناسب في جنس الأخبار، فلا يمتنع مع هذا أنهم يضيفون إليها أخبارا أخرى لا تناسب بينها وبين تلك الشخصيات، ويكفيهم منها أنهم يعرفون علما مشهورا يتكلمون عنه كلما أرادوا التعالم بمعرفة المشهورين.
ومن طرائف ما حدث لنا من ذلك، ونحن ندرس «الإنشاء» في إحدى المدارس الثانوية أن تلميذا نقل في موضوعه عدة أسطر من الشواهد الفلسفية نسبها إلى الشاعر ملتون الإنجليزي، واتفق في ذلك الحين أنني كنت معنيا بمعارضة قصائد ملتون على رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وكنت أعيد النظر في كل ما كتب ملتون من المنظوم والمنثور، ولم يكن الكلام الذي نسبه التلميذ إلى ملتون مما يناسب أقوال هذا الشاعر وموضعاته، ولم أذكر أنني رأيت له كلاما مثله، فلما حققت الأمر علمت أن التلميذ قد جرى على هذه العادة للتهويل على أساتذة اللغة العربية الذين لا يعرفون لغة أجنبية، وأن التلميذ رأى أمامه مدرسا عربيا، فلم يخطر له أنه يعرف لغة غير العربية، ولم يخطر له بطبيعة الحال أن ملتون كان موضوع قراءته الوحيدة على وجه التقريب في ذلك الحين، فادعى ما ادعاه وهو يحسب أنه في أمان، وأنه على ثقة من زيادة درجة أو درجتين.
ولما سألته على مسمع من زملائه بالإنجليزية: أين وجدت هذه العبارة من كلام ملتون؟ دهش ولم يكد يصدق أذنيه، ثم تبين أنه من الجهل بملتون وكلامه، بحيث لا يعلم أنه صاحب كتب ومصنفات، وكل ما عرفه عنه أبيات من المحفوظات سمع أخاه يستظهرها، وسمع أن ملتون هو ناظمها!
وليس أكثر بين العامة والجهلاء من الإحالة على أقوال المشاهير الذين لا يعرفون عنهم شيئا غير أسمائهم، فمنهم من يحيل على مشاهير عصره، ومن يمعن في التعالم، فيحيل على مشاهير العصور الغابرة، ومنهم من له لباقة الوضع والاختلاق فهو مجتهد في وضع الأقوال التي ينحلها مشاهير الرجال حسبما يتوهم مقدرتهم ومأثور أقوالهم؛ ولهذا يتفق أحيانا أن تنحرف «الشخصية النموذجية» من دلالتها الأولى إلى غير تلك الدلالة، حتى يتباعد ما بينهما وتصلح كل منهما لتمثيل شخصية نموذجية غير الشخصية الأخرى.
وعلى هذا النحو انحراف شخصية «لقمان الحكيم»، فإنها تستحق وحدها دراسة مستقلة من هذه الوجهة دون غيرها، ونعني بها دلالة «الشخصية النموذجية» في العصور المتتابعة، وكيف يطرأ عليها الانحراف عن وضعها الأول شيئا فشيئا حتى يصح أن تصبح عنوانا على إنسان آخر، أو عدة أناس غير صاحبها.
ففي مبدأ الأمر عرف لقمان بطول العمر وامتداد الأجل في أزمنة متعاقبة، ثم تأول المتأولون طول عمره بحكمته وسحره، وعرفانه سر الحياة والموت، وأنه بهذه المعرفة قرن عمره بأعمار سبعة نسور كان يربيها عنده واحدا بعد واحد، حتى انتهى أجله بانتهاء أجل النسر السابع، فمات معه في لحظة واحدة، ومن حكمة المواعظ والسحر والعلم بأسرار الحياة تحولت حكمة لقمان «الحكيم» إلى الطب والعلاج، وغلبت عليه خلة القدماء الذين تعودوا أن يكتموا عن الناس أسرار صناعاتهم، فلا يبوحون بها إلا على قدر، ولا يختصون بها غير الصفوة المختارين من تلاميذهم ومريديهم، ولا شك أن حكاية «ماء اللفت» هي أحدث هذه الأخبار الموضوعة أو المختلقة، ولكنها مع ذلك حملت معها بقايا العصور الغابرة من أوصاف هذه الشخصية النموذجية، كما عرفها على التتابع أبناء تلك العصور.
وخلاصة الحكاية التي تروى على عدة روايات أن ولي الأمر في عهد لقمان حبسه لغضبه عليه، أو خوفه من سحره ومكره، أو لضنه عليه وعلى الناس بأسرار حكمته وطبه، ثم سمع في حبسه بمرض إنسان يوشك أن يموت ودواؤه في ماء اللفت، وشق عليه أن يخالف عاداته أو يخالف أمر الحاكم، فلم يشأ أن يبوح بسر الشفاء إلا بأسلوب التورية والجناس، فصاح في سجنه يقول: «مات العليل وما ألفت له دوا». فسمع السامع العليم بأسلوبه أن ماء اللفت هو دواء العلة، فأعطاه الدواء وشفاه.
وفي هذه الحكاية مسحة من كل شخصية نموذجية تشكل بها لقمان في تاريخه، وآخرها شخصية الطبيب التي لم تظهر في العلم الحديث، إلا حين شاعت تسمية الطبيب بالحكيم، وشاع التداوي بماء اللفت بين العامة، وهم يتداوون به إلى اليوم.
الشخصية النموذجية
وقد انحرفت «الشخصية النموذجية» التي عرف بها أبو نواس على هذا النحو، فصارت في آخر هذا النموذج الأخير، وذاك هو نموذج الحاذق اللبق السريع إلى الجواب المفحم، ذي الدراية بالمخارج السهلة من الورطات العسيرة، وقد كان أبو نواس ولا ريب على حظ من اللباقة غير قليل، وكان يحسن الجواب ويتحيل على اللذات، ولكنه لم يكن آية الآيات في زمنه على سرعة الجواب والخروج من المآزق، بل لعله كان إلى التورط في المآزق أقرب منه إلى الدراية بمخارجها، ولعله كان من أولئك الذين نسميهم في عصرنا «باللخمة»؛ لتعذر الجواب عليه في مواقف الحرج، فلم يكن يحسن الدفاع عن نفسه حين تتألب عليه التهم بين أيدي الخلفاء والأمراء، ويروى في أخبار مجونه أنه كان يذهب إلى مجالس القيان متعمدا إخجالهن، فينقلب الأمر عليه ويخجلنه ويفحمنه، فلا يحير جوابا ولا يقد على البقاء في المجلس، وأبياته في جنان مشهورة حيث يقول:
وإن وقفت له كيما يكلمني
في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر
ولا يكون كذلك هو مثال «الشخصية النموذجية» في سرعة الجواب، وإفحام النظراء. ونحسب أنه لم يكن صالحا بطبيعة تكوينه للإفحام والإحراج، فإنه كان - كما تواتر وصفه - ألثغ نحيف الصوت مضطرب الأعصاب، وليس أيسر من إحراج مثله بمحاكاة لثغته ونحافة صوته واضطرابه، وإنما آلت «شخصيته النموذجية» إلى هذه الصورة بحكم الشهرة، وما يفهمه كل جيل من مناسباتها وأحوالها، فإذا تحولت به الشهرة من شخصيته الأولى إلى شخصية الشاعر الملازم للبلاط المنادم للأمراء في ساعات السكر والغضب والنزوات والبدوات، فلا جرم تكون النكتة الحاضرة والحيلة السريعة من أدواته وآلاته، ويصبح تصور الناس لصفات الشاعر هنا تابعا لما يتصورونه من صفات الأمير المطاع؛ حتى ليكون من صفاته في بعض الأزمنة أنه يغضب، ويأمر بالقتل بغير سبب، وأنه يدين ويعفو في لحظة واحدة، وأنه لا يقبل الكلام إلا أن يكون من باب الملحة أو الكناية أو الجناس.
هذه الشخصية النموذجية «حديثة» ولا ريب طرأت بعد عصر أبي نواس بعد أجيال، وسنعرض لحقيقة هذه الشخصية في الفصول التالية، ونعود به إلى الأصل الذي نجم منه النموذج الأول، ولكننا نزيد على ما تقدم في هذا الفصل أن الشهرة النادرة التي ظفر بها أبو نواس لم يكن مداراها كلها على شخصيته النموذجية، بل يرجع الكثير منها إلى اقترانه بطراز آخر من الشخصية النموذجية، لعله أشهر أمثاله في التاريخ العربي أو في تاريخ العالم، وتلك هي شخصية هارون الرشيد الذي قيل عن أبي نواس : كان شاعره ونديمه، وأنه كان يلازمه في حله وترحاله، ويطلع على أسرار بيته وخفايا حريمه. •••
ولأمر ما شاعت عن هارون الرشيد هذه الشهرة، وتعلم من لا يعلم شيئا عنه أن يتشبه به كلما قضى ليلة لهو ومرح، وخيل إليه أنه أحاط نفسه بكل ما يشتهيه المشتهي من الترف والمتاع، ولم يكن هارون الرشيد بهذه الصفة على التحقيق، ولم يكن شاهروه بهذه السمعة جميعا يحسنون النية، ويجهلون معنى ما يفترون، فربما كان منهم من يحنق على الخلافة العباسية، ويختلق المثالب لها ولأقطابها على سبيل الدعوة لخصومها، وربما كانت نوادر ألف ليلة كلها أو جلها من الأخبار الموضوعة للتشهير بدولة والترويج لدولة غيرها، وقد كان أبو نواس ذريعة للتشهير بالخلفاء في زمانه قبل تمادي الزمن، واختفاء الحقيقة أو نسيانها، فكان أعداء الخليفة الأمين بن هارون يعيبونه، فلا يجدون في عيبه ما هو أقدح وأقبح من مصاحبة أبي نواس وتقريبه إلى مجلسه، فلا عجب أن تعمل الدعوة بعد قرن أو قرنين عملا يجول فيه الملفق والمفتري كل مجال، ولا يرى من يعترضه بين العامة إذا جمع في تهمة واحدة بين الخليفة المثالي من بني العباس، والشاعر المثالي من أبناء عصره، وهو أبو نواس.
والمحافظة على اسم ذي كلمتين أسهل من المحافظة على معالم شخصية إنسانية تحتاج المحافظة عليها إلى عالم بخصائص الطباع والنفوس، وعلم بوقائع التاريخ ومطامع السياسة، ولكن الطوائف التي شاع بينها اسم هارون الرشيد كانت كالطوائف التي شاع بينها اسم أبي نواس، أو كانت هي إياها كما يقول النحاة، فتناولت بالتحريف اسمه كما تناولت معالم شخصيته، وسمته هارون الرشيدي كما سمت صاحبنا أبا نواس بتشديد الواو، ولعل تلقيب هارون الرشيدي قد نشأ في مصر مع أقوال الدعاة الفاطميين فيها، فحسبه المتحدثون والسامعون منسوبا إلى رشيد، أو سبقت النسبة إلى ألسنتهم؛ لأنهم يسمعونها مقترنة بكثير من الأسماء، ولا نخالها من تصحيف المطبعة حين طبع كتاب ألف ليلة وليلة بمصر غير مرة، فإن تصحيف المطبعة إنما جاء على ما هو ظاهر بعد تصحيف اللسان.
وجملة القول: إن «شخصية نموذجية» واحدة تفعل الأعاجيب في تزويد صاحبها بالأخبار والأوصاف، من حيث لا يحتسب فماذا تفعل شخصيان اثنتان!
لا جرم يظفر الحسن بن هانئ بنصيب من الأخبار والأوصاف والمعالم الشخصية لم يظفر به عربي غيره في المشرق أو المغرب، ولا في الزمن القديم أو الزمن الحديث. ولا جرم يحتاج بعد ذلك إلى تمييز وجهه لصحيح بين شتى الوجوه، التي عرضت على الناس باسم أبي نواس.
إلا أننا نعود فنقول: إن هذا النصيب الكبير من الشهرة لم يأت من جانب «الشخصية النموذجية» وحدها، ولا من تلاقى الشخصيتين النموذجتين بالحق وبالباطل، حيث التقت شخصية الشاعر وشخصية الخليفة.
فمن مزايا السمعة السيئة أنها تكف الحسد عن صاحبها من ذوي السمعة الحسنة.
وقد كان أبو نواس سيئ السمعة ولا مراء، وكان من أنداده الشعراء وأضرابه في سوء السمعة من يحسده، وينفس عليه مكانته ولهج الناس بأخباره وأشعاره، أما ذوو الوقار من علماء الأدب واللغة ورواة الشواهد والأمثال، فقد هان عندهم في ميزان الجد والوقار، فلم يحسدوه ولم يضنوا عليه بالشهادة «اللغوية» والتزكية العلمية، ولم ينكروا عليه البصر باللغة والسلامة من الخطأ، وأجمعوا أو كادوا يجمعون، على أنه أسبق المحدثين بعد الجاهليين والمخضرمين في مقام الاستشهاد باللفظ المحرر، والأسلوب الجزل والنسج القويم، لو كان بينهم وقار كوقار أبي الطيب أو أبي العلاء - لما خلصت له هذه الشهادة بغير بخس وانتقاص: فقد تكفلت لهم ببخسه وانتقاصه سمعة سيئة لا تتقاضاهم من عندهم مزيدا عليها، وربح أبو نواس من هذه «المزية» منزلة الأستاذين المتفقهين في اللغة والأدب، فأخذ من أهل الوقار كما أخذ من أهل المجون، ونجا من الإهمال حيث استحق الإهمال بميزان الخلق والدين.
ولا يزال بعد كل هذا مدد آخر من أمداد الشهرة النواسية غير الشخصية النموذجية، وغير شهادة العلماء والرواة والثقات.
ذلك المدد الآخر هو الفاكهة المحرمة، أو الفاكهة المحببة، على العهد بين كثير من الناس أن يحبوا كل ممنوع، ويلهجوا بكل محظور.
فقد كانت الفاكهة المحرمة بضاعة أبي نواس ، سواء حرمتها شريعة الأخلاق أو حرمتها شريعة الأديان، وكانت الزندقة والشذوذ بعض ما يبيع في سوق الفسوق. وشأن الفاكهة المحرمة أن يسأل عنها سرا من لا يسأل عنها علانية، وأن يقاربها من يألفها، ويتجسس عليها من يجهلها وينكرها، وأنها من بضائع السوق السوداء كما نقول في العصر الأخير، فهي من بضائع المساومة والمغالاة.
وفي عصرنا هذا نظير لأبي نواس في الآداب الغربية سيأتي الكلام على المشابهة بينه وبين أبي نواس في بعض الفصول التالية؛ لأنها مشابهة بمقاييس الأدب والخلق والمزاج والدراسات النفسية، وأهم من ذلك فيما نحن بصدده أنها متشابهة في أسباب الشهرة بالفاكهة المحرمة، وما يصح أن يسمى بالزندقة الاجتماعية.
فالشاعر الأيرلندي الحديث «أوسكار وايلد» أشبه «الشخصيات النموذجية» في الأدب الغربي بأبي نواس، ومهما يكن من قيمة أوسكار وايلد الفنية، فشهرته أكبر من قيمته بكثير، ولم يعرف في القرن التاسع عشر أديب استهجنت سيرته كما استهجنت سيرة «أوسكار وايلد»، ولا أديب شاعت كتبه من أجل ذلك كما شاعت كتب هذا الأديب المحروم المجدود، وقد ترجم إلى كل لغة أوروبية، وكتب عنه النقاد في كل بلد، وتضاعفت الكتابة عنه بعد شيوع التحليل النفسي والمباحث العلمية في مسائل الجنس والأخلاق، وإنما أصابه هذا النصيب في سوق الفاكهة المحرمة اتجر فيها من قبل أبو نواس.
وكل سبب من أسباب هذه الشهرة هو في الواقع غطاء على حقيقة أبي نواس فوق غطاء، فهي تخفيه ولا تبديه، ومن عمل الدراسة النفسية والدراسة التاريخية أن تبرزا تلك الحقيقة من وراء تلك الأغطية، وهذا ما سنبدؤه في الفصل التالي بالكلام على سريرته النفسية: وهي السريرة النرجسية.
أبو نواس الإباحي
النرجسية
كان أبو نواس إذن «شخصية نموذجية».
ولكنها ليست هي الشخصية التي شاع بها ذكره بين الأميين وأشباه الأميين، وبين طائفة من خاصة المطلعين على الأدب الفصيح، وهي الشخصية التي تقوم على الحيلة والجواب السريع والقدرة على الخلاص القريب من المآزق والمحرجات.
فما هي حقيقة الشخصية النواسية التي أشاعت ذكره في أيام حياته، وقبل أن تتحول بها الشهرة من دلالة إلى دلالة؟
أيسر ما يقال في كلمة واحدة أنه «إباحي».
وقد كان حقا إباحيا غاليا في الإباحة، إذا كان المقصود بالإباحة أنه كان يستحل المحرمات، ويخالف الدين والعرف والطبيعة.
ولكن الإباحي قد يخفي رذائله وموبقاته، وقد يداري الناس ويتسم بينهم بسمة الصلاح والتقوى، ولعل الأكثرين من الإباحيين في عصر أبي نواس خاصة كانوا على هذه السنة؛ لأنه كان باتفاق واصفيه عصر شكوك واختلاط ونفاق.
وأيسر ما يقال بعد ذلك أنه «إباحي متهتك» يظهر أمره، ولا يتكلف لإخفائه.
وذلك كذلك وصف صحيح، فمن قال عن أبي نواس: إنه «إباحي متهتك» فقد وصفه بما كان عليه؛ لأنه كان يقارف المنكرات ويعلنها ولا يحفل بمداراتها، وهذا يكفي للصدق في وصفه على حقيقته، ولكنه لا يغني شيئا إذا كان المقام مقام دراسة نفسية، إذ المرء قد يستبيح الرذائل ويتهتك في البطالة، ويتمادى في تهتكه غادية التمادي لعلتين متناقضتين ترجع كل منهما إلى خلال نفسية بعيدة من خلال الأخرى في بواطنها وظواهرها.
فقد يتهتك المرء؛ لأنه هين على نفسه يعلم أنه هين على الناس، مسلم بحقارته، شاعر بقلة الجدوى من التستر والمداراة، وأنه يهبط من المهانة إلى حضيضها، فلا ينفعه أن يحتجب ولا يضره أن يتكشف ويتبذل، ومثله في هذا مثل الوضيع الساقط الذي لا يبالي أن يخرج للناس في مباذله، إذ ليس له زي غير زي المباذل، ولسان حاله كلما أحاطت به نظرات الاحتقار قول القائل:
أنا الغريق فما خوفي من البلل
بل لعل النظرات لا تحفل به وتتخطاه لهوان شأنه، فلا تقف عنده محتقرة أو غير محتقرة.
هذه حالة من حالات التهتك أو المجون، وهو كلمة واحدة في اللغة العربية تعبر عن الإباحة المتهتكة.
أما الحالة الأخرى فهي نقيض هذه الحالة في باطنها وظاهرها؛ لأن صاحبها يتحدى بها الناس عامدا أن يسخر منهم، ويكشف رياءهم، وقد يهون عليه شأن الرياء والصراحة، فلا يعلن رذائله كراهة للرياء وحبا للصراحة؛ بل يعلنها لأنه يريد أنه «يقرر شخصيته» ويشعر الناس بوجوده، ويستخف بما يسترونه ويعلنونه، فلا هو مكترث لهم متسترين ولا مكترث لهم معلنين.
حالتان نقيضتان: حالة من ينسى «شخصيته»، ولا يراها أهلا للذكر مشهورا أو غير مشهور، وحالة من يقرر «شخصيته» ويتعمد الجهر بالمخالفة؛ لأن الجهر هو سبيله إلى هذا التقرير.
فأية الحالتين هي حالة أبي نواس؟
ليست هي الحالة الأولى على التحقيق؛ لأن ما روي عنه وما روي من كلامه يعربان عن رغبة في التهتك والمجاهرة به، ولا يقفان عند حد الجرأة، وقلة التكلف للمدارة.
ولا نستقصي هنا كلامه في هذه الأغراض، فإن لهذا الاستقصاء مواضعه عند نقده وتحليله، ولكننا نجتزئ بأبيات في جملة أغراضه تشير بغير عناء إلى هذا المعنى.
فهو الذي يقول في الجهر بمعاقرة الخمر بيته المشهور:
ألا فاسقني خمرا وقل لي: هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وهو الذي يقول في العشق:
الحمد لله أني
على حداثة سني
فقت المحبين طرا
ببعض ما شاع عني
وهو الذي يقول في مقارفة اللذات عامة:
أطيب اللذات ما كا
ن جهارا بافتضاح
وهو الذي سمى السمعة السيئة جاها يحتفظ به، ولا يفرط فيه حين نصح أبو العتاهية بالتوبة، فقال ساخرا منه:
أتراني يا عتاهي
تاركا تلك الملاهي
أتراني مفسدا بالنس
ك بين المرد جاهي
ومهما يكن من تبذله فلم تكن مسألة التبذل عنده علما بهوانه ورضاء بهذا الهوان، ويأسا من دفعه بالصيانة والمداراة، إذ كان معروفا عنه أنه كان يتعمد أن يلقى ذوي الوجاهة والرئاسة بالتيه والكبرياء، وكان يذكر ذلك في شعره، فيقول في غير موضع:
لقد زادني تيها على الناس أنني
أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر
وإنما كانت مسألة التبذل عنده مسألة ظهور متعمد، واستخفافا برأي الناس؛ لأنه يريد أن يلقي في روعهم أنهم أهون لديه من أن يتستر لهم، وأن ينزل عن لذة من لذاته لمرضاتهم، وأنهم من هوانهم عليه يتحداهم، ويطلب مذمتهم ويؤثرها على ثنائهم.
والواقع أن الإغاظة والظهور هما بيت القصيد، وأن صاحب المزاج قد يهمه أن يغيظ جمهرة الناس بالمخالفة، وإن كانت مخالفة إلى التقوى والصلاح؛ لأن «الظهور» وإثارة الشعور هما الهوى الغالب عليه.
ولو كانت الإباحية النواسية مقصورة على ما اشتهر به أبو نواس من إدمان السكر، وإيثار الذكران على الإناث، لما فسرتها ولا فسرت شيئا منها هذه الظاهرة النفسية الواضحة؛ ظاهرة التحدي بالإباحية المتهتكة، فإن صاحب الإباحية المقصورة على إدمان السكر، وإيثار الذكران على الإناث قد يخجل منها، ويسترها ويجتهد اجتهاده للخلاص منها، وقد ينتهي به الأمر إلى التهتك الذي وصفناه في الحالة الأولى، وهي حالة المهانة والاستكانة إليها.
وإنما تفسر آفات أبي نواس جميعا ظاهرة نفسية أخرى هي «النرجسية»، التي جعلناها عنوانا لهذا الفصل، وفيها تفسير لآفته الكبرى وتفسير للآفات الصغرى التي تتفرع على جوانبها.
هذه «النرجسية» شذوذ دقيق يؤدي إلى ضروب شتى من الشذوذ في غرائز الجنس وبواعث الأخلاق، ويلتبس الأمر من أجل هذا بين النرجسية، وتلك الضروب المختلفة من الشذوذات الجنسية، وهي مخالفة لها في دخيلها، مناقضة لبعضها في ميولها ونزعاتها، فقد تميل بصاحبها إلى العلاقة الطبيعية بين الذكر والأنثى، أو تميل إلى علاقة شاذة بين شخصين من جنس واحد، كما كان يحدث أحيانا من أبي نواس في غزله بالمذكر تارة وغزله بالمؤنث تارة أخرى، وفي الجمع أحيانا بين ما يزعمه عشقا لأكثر من فتاة واحدة، وما يزعمه عشقا لأكثر من فتى واحد، ولا أصل للعشيقين في نهاية المطاف غير النرجسية في قرارها العميق.
ما هي النرجسية؟
وقبل أن نشرح هذه النرجسية كما يفهمها المحللون النفسيون نذكر نشأة اللفظ والاصطلاح؛ لأنها ذات صلة قوية بالمعاني التي أوحت إلى المحللين النفسيين أن يطلقوا الكلمة على مدلولها بين الآفات الجنسية على الخصوص.
كان اليونانيون الأقدمون يطلقون اسم نرجس على فتى من فتيان الأساطير بارع الحسن ساحر الشمائل، يفتن من يراه ويشقي بجماله وتيهه قلوب العذارى الخفرات، فلا يلتفت إليهن ولا يستجيب لضراعتهن، ولم يزل كذلك حتى ضجت السماء بدعاء عاشقاته وصلواتهن إلى الأرباب أن يصرفوهن عنه أو يصرفوه عنهن، واستجابت «نمسسي» ربة القصاص والجزاء إلى هذا الدعاء، فقضت عليه أن يهيم بحب نفسه ويلقى منها الشقاء الذي تلقاه منه عاشقاته، قال رواة الأساطير: «فما هو إلا أن ذهب يشرب من ينبوع صاف حتى لمح بصورته في مائه، فوقف عندها يعجب من جمالها، وأذهلته الفتنة عن شأنه فلم يبرح مكانه مطرقا إلى الماء؛ ليتملى تلك الصورة ويرتوي من النظر إليها، فلا يزيده النظر إلا لهفة وشوقا، ولا تزيده اللهفة إلا هزالا حتى فني، وذهبت عرائس الماء تطلب رفاته فلم تجد في مكانه غير نرجسة مطرقة ترنو إلى الماء، ولا ترفع بصرها إلى السماء، فالنرجس أبدا مطرق مفتوح العين لا يشبع من النظر إلى خياله على حوافي الجداول والغدران».
وتروى الأسطورة على رواية أخرى، فيقول الرواة: إنه لما لمح طلعته في الماء حسب أنها عروس الينبوع، فألقى بنفسه فيه يحاول أن يمسكها، فغرق ولم يعثر الباحثون عنه على جثمانه، ولكنهم وجدوا في الينبوع نرجسة على مثاله، فغرسوها على حافته، وكانت أبا للزهر الذي يعرف باسمه ويتطبع في عشقه لصورته بطباع أبيه.
ومن غلوهم في عشق «نرجس» لنفسه يزعمون أن حملة الأرواح في نهر الموت، الذي يفصل بين الدنيا والآخرة عجبوا له حين رأوه مطرقا إلى النهر، ولم يزل منهم العجب حتى نظروا حيث ينظر، وعلموا أنه برح الدنيا ولم يبرح مفتونا بخياله كما كان وهو بقيد الحياة.
وللقصة علاقة بقصة أخرى عن عروس من عرائس الأساطير تسمى «الصدى»
Echo ، وترتبط قصتها بقصة نرجس؛ لأنها كانت تهواه.
قالوا: إن هيرا زوجة زيوس أبي الآلهة والأرباب خرجت كعادتها تتجسس على خليلات زوجها، وتتعقب الحور اللائي يسعدن بقربه من ورائها، فلما كانت في بعض الطريق لقيتها عروس الصدى، فشغلتها عن سعيها بثرثرتها وفضولها وحلاوة أحاديثها التي تحكي بها مناجاة ضميرها، فلما غابت عنها نظرت حولها، فإذا بالحور والعرائس الآلهات قد تغفلنها وهي مشغولة مع عروس الصدى، فغضبت على تلك العروس الثرثارة، وقضت عليها أن تعيى بابتداء الكلام، فلا تقدر على النطق إلا ترديدا لما يلقى إليها.
ثم هامت عروس الصدى بنرجس وهو على دأبه من الهيام بنفسه؛ وأبلاها الحب لأنها عجزت عن مفاتحته بغرامها، وكادت تيأس لولا أنها ظفرت به يوما ينادي أحد رفاقه، ويصيح به من بعيد: ألا أحد في هذا المكان؟
فسنحت لها الفرصة وأجابته قائلة في شوق وحنين: أحد في هذا المكان.
قال: هلم.
قالت: هلم.
فأعرض محنقا وهو يقول: «لا، لا، لست أعني هذا، سأموت ولا يكون لك سلطان علي».
فلما مضى في سبيله غير ملتفت إليها عافت نفسها، ولاذت بالكهوف والمغاور فلا يحسها السامع بعد ذلك إلا في كهف أو مغارة، ومن هنا كانت علاقة الصدى بمن يحب نفسه، ويروقه أن يستمع إلى كلامه معادا إليه.
ويرى الكاتب بلوتارك أن كلمة نرجس مأخوذة من كلمة نارس أو نارك الإغريقية بمعنى الخدر والغيبوبة، ومنها كلمة ناركوسس
Narcosis
التي تطلق على النبات المخدر المذهب للحس، ولم يكن النرجس من هذا النبات، ولكنهم أطلقوا عليه اسمه كأنه قد تعاطى المخدر، وبدا لمن يراه كالساهم المسبوت.
وكل هذه الأقاويل عن النرجس والصدى والخدر والسبات لاحقة بما تنطوي عليه آفة «النرجسية» من الغرائز، أو من الميول والأحاسيس، فهي آفة متصلة بالغيبوبة والنشوة والهيام، وحب المصاب بها لملامحه وكلامه؛ ولهذا وقع عليها اختيار المحللين النفسيين، فلم يجدوا اصطلاحا أوفق منها لأعراض تلك الظاهرة النفسية، مع عراقة الاصطلاح في اللغة اليونانية التي يختارونها لابتداع الأسماء الجديدة في العلوم، كما فعلوا بأسماء السيارات الفلكية أو العناصر والعقاقير التي تكشف حديثا، وأوفقها عندهم ما اشتهر في أساطير.
وأول من أدخل هذا المصطلح في الطب النفسي الدكتور هافلوك أليس
Havelock Elis
رائد المباحث الجنسية المشهور، ثم توسع الأطباء النفسيون في دراسة هذه الآفة، وتتبعوا أعراضها ولوازمها واستقصوا ما هو من لوازمها الأولية، وما هو من لوازمها الثانوية أو التبعية، فأصبحت بعد هذه الدراسات قسما قائما بنفسه من شذوذات الغريزة الجنسية، واشتملت على آفات متعددة تنطوي تحت عنوان واحد هو عنوان النرجسية.
الاشتهاء الذاتي والتوثين الذاتي
وتعنينا هنا شعابها التي تتصل بدراسة أبي نواس وموضوعات عشقه وغزله، وأهمها شعبتان: تسمى إحداهما الاشتهاء الذاتي
Auto-erotism ، وتسمى الأخرى التوثين الذاتي
Auto-Fetishism ، وبينهما فرق دقيق ولكنه غير حاسم؛ لأن أعراض كل منهما قد تنساب إلى الأخرى في مسارب النفس الخفية، ودخائل الغريزة المكنونة، وما أكثر المسارب والدخائل في هذه الشئون.
فالاشتهاء الذاتي يغلب على الحالات الجسدية التي تقترن باختلال وظائف الجنس في صاحبها، ويبلغ من اختلاف هذه الوظائف أن المصاب به يمنى إذا أطال النظر إلى بدنه عاريا في المرآة وما إليها، وأنه يشتهي بدنه كأنه بدن إنسان غريب عنه، ولكنها شهوة يبالغ فيها المريض؛ لأن الإعجاب بالأبدان الغريبة لا يستغرق شعور المرء كما يستغرق الاشتهاء الذاتي صاحبه، ويغريه على الدوام بتأمل جسده ومعاودة النظر إليه، ويحدث أحيانا ألا يكون النظر استحسانا محضا، بل أسفا لبعض النقص، واجتهادا في تحسينه والمغالطة فيه.
والتوثين الذاتي يغلب على الحالات العاطفية والفكرية، فيتخذ المصاب به من نفسه وثنا يعبده ويعزله ويدلله، ويشوب هذا التوثين حب كحب المرء لمعشوقه، فهو لا يخلو من اختلال وظائف الجسد، ولكنه لا يبلغ بها مبلغ الحالة الأولى.
وتلازم الاشتهاء الذاتي والتوثين الذاتي معا لوازم متفاوتة في درجة الالتصاق بالآفة وتوابعها.
فمن أبرزها وأقواها لازمة التلبيس أو التشخيص
Identification ، ومنها لازمة العرض
Exhibitionism
ولازمة الارتداد
Regression .
لازمة التلبيس والتشخيص
فلازمة التلبيس والتشخيص لا غنى عنها في هذا الضرب من الشذوذ الجنسي، وهو عشق الإنسان لذاته من الناحية الشهوانية، فالشاذ في حب جنسه أو حب الجنس الآخر يجد طلبته ويقضي مأربه، أما الذي يشتهي بدنه فليس في وسعه أن يقضي مأربه منه بغير الاحتيال لذلك بالتلبيس والتشخيص، فهو يلبس شخصيته شخصا آخر يتوهم أنه هو ذاته أو يحل محل ذاته، كما يفعل جالد عميرة حين يضع أمامه صورة، أو يتخيل في ذهنه عشيقة يتوهم أنه يواقعها، يحدث للمصاب بالاشتهاء الذاتي أن يختار شخصا آخر يحله محل نفسه في أوصافه البدنية أو الخيالية، ويتعلق به وهو في الواقع متعلق بذاته.
ولازمة العرض تشمل الإظهار بجميع درجاته، فإذا أمعن في الجسدية والشواغل الحسية شوهد المصاب به، وهو يكشف عورته، ويعرض أعضاءه ويتعرى من ثيابه أو يلبس الثياب التي تشبه العري، ولا تستر ما وراءها.
ولكن الأكثر الأعم في لازمة العرض أنها لا تمعن هذا الإمعان إلا في حالة الجنون، وما يقاربه، وإنها تتحول إلى إظهار ولفت الأنظار على أساليب لا تحصى، وقد ينتهي بها التناقض أحيانا إلى إعلان التقوى والظهور بين الناس بآثار التعذيب والتمريغ، وسمات العبادة، وإذلال النفس بتشويه الجسد وتلويثه.
ومن لم ينته التناقض به هذا المنتهى يشاهد عارضا نفسه بالأزياء الغريبة والألوان الصارخة، ماضيا في كل عمل من أعماله العامة على سنة الاشتهار بالمخالفة، على القول الشائع: «خالف تعرف».
أما الارتداد فهو يعتري الشواذ على أطوار منوعة، وإنما يعتري النرجسيين من تلبيس ذواتهم بغيرهم، أو خلع ذواتهم على شخص آخر يلتمسون المشابهة بينهم وبينه، ولكنهم لا يظفرون في كل حين بشخص تام الشبه بهم في كل صفة وصبغة، فإذا اتفق لأحدهم أنه رأى شخصا يشبهه في الملامح والقوام ويخالفه في القوة، فالذي يحدث في هذه الحالة أنه ينتحل صفة القوة لنفسه كأنه ارتدها إليه من الشخص الذي تلبس بملامح ذاته، وتتفاوت درجات الارتداد بتفاوت المصاب في درجات المرض، فمن المصابين من ينتحل صفة ليست له ولكنها قابلة للادعاء، كالقوة والمهارة والمهابة، ومنهم من ينتحل صفة ليست له ولكنها لا تقبل الادعاء، كالطول واللون الأبيض أو الأحمر، فيكون قصيرا ويروض نفسه على اعتقاد الطول، أو أسمر ويروض نفسه على ادعاء البياض والشقرة، بل قد يدعي الوصفين المتناقضين إذا تناول بالتلبيس والتشخيص مثالين مختلفين، وهذه الحالة عرضة للأعاجيب في أوهامها وأخيلتها، فقد تفضي بصاحبها إلى مجاراة الطبيعة والشذوذ في وقت واحد، فيخلع ذاته على امرأة مشتهاة، فهو من هنا طبيعي في حبه للجنس الآخر، ثم يتشبه بالنساء؛ لأنه أعاد إليه بالارتداد خصلة من خصال تلك المرأة لا توجد في الرجال، فهو من هنا شاذ عن السواء يحس إحساس المرأة نحو الرجل الذي تعشقه وتتصباه. •••
هذه اللوازم على أبي نواس في خلائقه الأولية وخلائقه التبعية، وتفسر جميع أحواله حيث لا يفسرها ضرب آخر من ضروب الشذوذ في المسائل الجنسية.
فالشذوذ الذي يميل بصاحبه إلى عشق أبناء جنسه، والعزوف عن الجنس الآخر آفة لا تنطبق على أبي نواس؛ لأنه يغازل الجواري كما يغازل الغلمان، وكلامه كثير في استحسان الفتاة؛ لأنها كالغلام واستحسان الغلام؛ لأنه كالفتاة:
غلام وإلا فالغلام شبيهها
وريحان دنيا لذة للمعانق
ويقول في غلام:
من كف ذي غنج حلو شمائله
كأنه عند رأي العين عذراء
ويقول في أخت وأخ:
يديرهما دعجاء رود وأدعج
أخ واخته في القوم واسمها إسم
يقال له: معن فإما نكسته
لتدعو أخته يوما فمنكوسه نعم
والشذوذ بمعنى حب الإنسان لجنسه
Homosexuality
لا يفسر هذه الحالة بل يزيدها إبهاما عند البحث عن أسباب النزعة ومواضع الزيغ فيها، وإنما تفسرها النرجسية وما طبع عليه المصابون بها من اختلاف الهوى حسب اختلاف التلبيس والتشخيص، فإذا اشتهى ذاته ولبسها بواحدة من الجنس الآخر ظهر أنه مستقيم على سواء الطبيعة، وهو في الحقيقة شاذ على الحالتين؛ لأن العلة هي الاشتهاء الذاتي، ولازمه التلبيس والتشخيص.
وقد كان هذا التلبيس يبدو في غزل أبي نواس صراحا مكشوفا حين يختار لهواه غلاما ألثغ كأبي نواس، وإن كانت لثغة هذا بالراء ولثغة ذاك بالسين، فيقول:
وا بأبي ألثغ لاججته
فقال في غنج وإخناث
لما رأى مني خلافي له:
كم لقي الناث من الناث
نازعته صهباء كرخية
قد حلبت من كرم حراث
أو يختار غلاما لا يحسن النطق بالراء تكسيرا لها كما يقول:
يكسر الراء وتكسيرها
يدعو مع السقم إلى الحتف
أو يختار «ظبيا» يعجبه منه ما يصنعه فوه بالراء:
يا ذوب قلبي من ظبي كلفت به
ما تصنع الراء في فيه إذا نطقا
وتعجبه البحة التي كانت إحدى خواصه الصوتية، فلا ينساها وهو يقول في وصف غلام:
وبه غنة الصبا تعتليها
بحة الاحتلام للتشريف
وكان هذا التلبيس يبدو كذلك مكشوفا على نحو آخر حين يقول في جارية تتشبه بالكتاب:
مؤزرة مؤنثة
بها ألم، وبي ألم
تجرر ذيل مئزرها
وفارس أذنها قلم
ويذكر مثال الحسن في الجنسين إذا تكلم عن حسناء كما يقول فيمن عرضوها عليه؛ ليتزوجها:
ولو أنها في الحسن كانت كيوسف
وبلقيس أو كانت كخط مثال
وقالت: تزوجني على مهر درهم
لقلت: اغربي عني فمهرك غال
ومما أشار إليه في مجونه، ولا حاجة إلى إيراده، أنه كان يخاطب معشوقيه من الغلمان فيقول لهم: إنه كان معشوقا مثلهم، ويحكي لهم كيف يتشبهون به مع عاشقيه، وفي نسيبه بالنساء تدليل لنفسه يومئ إلى أنوثة كامنة في طبعه كما يقول لإحداهن:
لا تفجعي أمي بواحدها
لن تخلفي مثلي على أمي
وفيه استغاثة تحكي استغاثة المرأة بأخواتها:
تجمعوا علموني
يا إخوتي كيف آتي
يا ويلتا أي شيء
بين الحشا واللهات
فهو في طبيعة النرجسية يسهل عليه أن يلبس ذاته لكلا الجنسين، وأن يكون شاذا في حالة ومساوقا للفطرة في حالة، وما كان على الفطرة في الحالتين!
ومما هو خليق بأن يتأنى عنده الدارسون للنرجسية ولوازمها أن «جنان» كانت أحب معشوقاته إليه، وأنها كما جاء في كتاب ابن منظور عن أخبار أبي نواس كانت تحب النساء وتميل إليهن، فربما كان هذا الكلف الخاص بهذه الفتاة؛ لأن لازمة التشخيص والتلبيس تتحقق بها على نحو لا يتحقق بغيرها، إذ كانت لها السمات النفسية والبدنية التي تتراءى فيها ميول الجنسين.
وخليق بالدارسين كذلك أن يلتفتوا إلى سر هيامه بالجارية «حسن»، واستيحائه من اسمها معنى التوحيد بينه وبينها، كما قال متغزلا بها متشفعا لديها بهذه الحرمة:
إن لي حرمة فلو رعيت لي
لا جوار ولا أقول قرابه
غير أني سمي وجهك لم أحر
مه في اللفظ والهجا والكتابه
فإذا ما دعيت غير مكنى
لم أقصر حفظا له في الإجابه
فاكتبي وانظري إلى شبه الأ
حرف ثم اجمعيهما في الحسابه
فليس أقرب من مسارب الشعور الجنسي من الانتقال بتداعي الخواطر بين هذا التشبيه، والتقريب وبين عادة التشخيص والتلبيس.
فهو في طبيعة النرجسية يسهل عليه كما قدمنا أن يلبس ذاته لكلا الجنسين، وأن يكون شاذا في حالة ومساوقا للفطرة في حالة، وما كان على الفطرة في الحالتين.
لازمة العرض
وتنطبق عليه لازمة العرض كما تنطبق عليه لازمة التلبيس والتشخيص، ولعل لازمة العرض فيه؛ لأنها من شأنها أن تتلمس وسائل الإظهار.
فلم ينظم شعرا في الخمريات أو الغزل أو المجون، إلا تبين منه أن الجهر بالمحرمات أدنى إلى هواه من المتعة بالمحرمات:
وإن قالوا: حرام، قل: حرام
ولكن اللذاذة في الحرام
وتكبر المتعة في حسه وفي وصفه بمقدار المخالفة لا بمقدار المتعة والتذاذها، فلا يتساوى شراء الخمر والفسوق بمال حلال وشراؤهما بمال حرام:
واركب الآثام حتى
يبعث الله الأناما
فلكم نلنا بدينا
ر قمرناه غلاما
وشربنا يومنا ذا
ك بباقيه مداما
لا نصرف في حرام
أبدا إلا حراما
أو كما قال - فيما نسب إليه - إن الخمر لا تشرب إلا بثمن خنزير مسروق من زانية وكأنما ينعت محبوبه الذي يقول فيه:
كطالب مثلا قي
ل خالف الناس تذكر
إن كبر الناس غنى
وإن تغنوا يكبر
ومن اللغو أن يبحث الباحث جدا عن مذهب أبي نواس في الزندقة، فليس له في الزندقة مذهب غير «العرض الإظهار». وقد روي عنه أنه انصرف من بعض المواخير سكران، فمر بمسجد قد حضرت فيه الصلاة فدخل فقام في الصف الأول، فقرأ الإمام: «قل يا أيها الكافرون» قال أبو نواس: لبيك! فلما قضيت الصلاة لببوه وساقوه للحساب. فأي مذهب من مذاهب الزندقة يسول لصاحبه هذا المجون، إنما هي آفة العبث بالمخالفة ولا شيء سواها يغريه بهذا السخف الذميم.
ومن اللغو كذلك أن يقال كما قال بعض المستشرقين: إنه يكره الإشارة إلى الطلول في مطالع القصائد ولعا منه بالتجديد، ونفورا من القديم.
فما كان ينعي على الشعراء بكاء الطلول إلا لينعي من وراء ذلك معيشة البادية على أهلها أجمعين، وبهذه النزعة كان يكثر من التعريض بالعرب العدنانيين، والفخر بالعرب القحطانيين، ولم يكن له نسب ثابت في هؤلاء ولا هؤلاء، وقد كان من شعراء عصره من لهم نسب ثابت في اليمن أو نسب ثابت في الحجاز، فلم يجعلوا هذا النسب هجيراهم كما جعله أبو نواس، وإنما أغراه بالخبط في هذا المعرض الشائك أنه كان مسعر النار في عصره، وكانت النفوس تستثار به حيث لا تستثار بغيره، فقد أطاح النزاع بين القبائل بالدولة الأموية، وأطاح هذا النزاع بالخليفة الأمين في دولة العباسيين، وخيفت العصبيات يومئذ أشد ما تخاف في حقبة من الحقب، ومن هنا كان أمر الخلفاء له بذكر الطلول كما قال:
دعاني إلى وصف الطلول مسلط
لقد ضقت ذرعا أن أجوز له أمرا
ولم يكن هذا الأمر تأييدا منهم لمذهب من مذاهب الأدب على سواه، ولكنه كان اتقاء للشغب وإبعادا لباب الخصومات والعصبيات، ولو لم تكن المسألة مسألة عرض وإظهار عند صاحبنا لما عناه رأي الأقدمين ولا رأي المحدثين، فقد كان ينحو في الطرد والغزل والمدح والهجاء منحى الشعر القديم، ويلهج بمحاكاته على نمط لم يؤثر عن أحد من نظرائه ومعاصريه.
ومن تغلغل هذه اللازمة في خليقته - لازمة العرض والإظهار، والتحدي بالمخالفة - أنه جعل الصلاح تهديدا لإبليس في قصيدته التي يقول منها:
لما جفاني الحبيب وامتنعت
عني الرسالات منه والخبر
واشتد شوقي فكاد يقتلني
ذكر حبيبي، والحلم والفكر
دعوت إبليس ثم قلت له
في خلوة والدموع تنحدر
أما ترى كيف قد بليت وقد
أقرح جفني البكاء والسهر
إن أنت لم تلق لي المودة في
قلب حبيبي وأنت مقتدر
لا قلت شعرا ولا سمعت غنا
ولا جرى في مفاصلي السكر
ولا أزال القرآن أدرسه
أروح في درسه وأبتكر
وألزم الصوم والصلاة ولا
أزال دهري بالخير أأتمر
فما مضت بعد ذاك ثالثة
حتى أتاني الحبيب يعتذر
إلى آخر القصيدة.
قال رزين الكاتب عن سبب نظمه لهذه القصيدة: «اجتمعنا يوما وأبو نواس وعلي بن الخليل في سوق الكرخ، وكنا نجتمع ونتناشد الأشعار ونتذاكر الأخبار ونتحدث بها، فقال أبو نواس: أدبر من كان في نفسي وكان أسرع الخلق إلى طاعتي، فما أدري ما أحتال له؟ فقال علي بن الخليل يمازحه: يا أبا علي! سل شيخك وأستاذك يعطفه عليك، فقال أبو نواس: من تعني؟ فقال: من أنت في طاعته ليلك ونهارك، يعني إبليس! فإن لم يقض لك هذه الحاجة فما ينبغي لك أن تسأله مسألة ولا أن تقر عينه بمعصية، فقال: هو أسد لرأيه من أن يخل بي أو يخذلني. وانقضى مجلسنا ذلك، فلما كان بعد أيام اجتمعنا في ذلك الموضع وأخذنا في أحاديثنا، فضحك أبو نواس. فقلنا له: ما أضحكك؟ قال: ذكرت قول علي بن الخليل يومئذ: سل شيخك يعطفه عليك. حينئذ قد سألته يا أبا الحسن فقضى الحاجة، وما مضت والله ثالثة حتى أتاني من غير أن أبعث إليه ومن غير أن أستزيره، فعاتبني واسترضاني، وكان الغضب مني والتجني، وأحسب الشيخ - يعني إبليس - كان يتسمع علينا في وقت كلامنا».
هذه هي القصة كما رواها رزين الكاتب لا يعنينا صحت روايته أو لم تصح، فإن القصيدة لأبي نواس لا تروى لأحد غيره، ولولا دخيلة طبع مطوية على آفتها ولوازمها لقد كان اقتراح علي بن الخليل خليقا أن يوحي إلى أبي نواس أن يتوجه بالطلب إلى إبليس على غير ذلك الأسلوب، ولكنه جرى على دأبه فصنع مع إبليس ما يصنعه مع الناس، فهو يتحدى الناس بالمعصية والفسوق ويتحدى إبليس بالإصلاح والعفاف، وهي إذن خلة واحدة ذات صبغتين!
وتتمثل هذه الشهوة «النرجسية» شهوة المخالفة والمغايظة في قصيدة أخرى صور فيها إبليس بصورة المتوسل إليه بغواياته؛ ليختار منها ما يحلو له وهو يأباها غواية بعد غواية، ولا يزيد على أن يقول له: «لا» من قبيل المكايدة والمعاندة لا من قبيل الزهد والعفاف.
قال:
نمت إلى الصبح وإبليس لي
في كل ما يؤثمني خصم
رأيته في الجو مستعليا
ثم هوى يتبعه نجم
أراد للسمع استراقا فما
عتم أن أهبطه الرجم
فقال لي لما هوى: مرحبا
بتائب توبته وهم
هل لك في عذارء ممكورة
يزينها صدر لها فخم
ووارد جثل
1
على متنها
أسود يحكى لونه الكرم
فقلت: لا. قال: فتى أمرد
يرتج منه كفل فعم
كأنه عذراء في خدرها
وليس في لبته نظم
فقلت: لا. قال: فتى مسمع
يحسن منه النقر والنغم
فقلت: لا. قال: فتى كل ما
شابه ما قلت لك الحزم
ما أنا بالآيس من عودة
منك على رغمك، يا فدم
لست أبا مرة إن لم تعد
فغير ذا من فعلك الغشم
ولا يخطئ القارئ في هذه الإبليسيات التي تروى لأبي نواس أو تروى عنه، ما تحتويه من خبيئة التعلل بالوجاهة والامتياز والظهور بين الأقران، فمما رواه والبة بن الحباب أستاذ أبي نواس أنه «كان نائما، وأبو نواس غلام نائم إذ أتاه آت في منامه، فقال: أتدري من هذا النائم إلى جانبك؟ قال: لا. قال: هذا أشعر منك وأشعر من الجن والإنس، أما والله لأفتنن بشعره الثقلين ولأغرن به أهل المشرق والمغرب، قال: فعلمت أنه إبليس فقلت له: فما عندك؟ قال: عصيت ربي في سجدة فأهلكني، ولو أمرني أن أسجد لهذا ألف سجدة لسجدت».
ومن رضاء أبي نواس أن يسجد إبليس له ولا يسجد لآدم، أما والبة فحسبه أن يقول: غلامي أبو نواس!
وقد كان من منافع إبليس في مجون أبي نواس أن يكفل له وجاهة التمييز بالخمرة التي هو كفء لها دون عذاله، فهو يخصه بهذا ويصرف عذاله عنها.
دعوت إبليس ثم قلت له:
لا تسق هذا الشراب عذالي
وما كل من يشرب الخمر نظيرا لأبي نواس:
فالخمر قد يشربها معشر
ليسوا إذا جدوا بأكفائها
وكثيرا ما تبدو شهوة الوجاهة والظهور في ولع أبي نواس بشرب الخمر كائنا ما كان نوعها، فهي فضلا عما تخيله لشاربها من العظمة والسلطان ليست مما يرتقي إلى «كفاءته» كل شارب وطالب، وأبو نواس حين يشربها أجدر بشربها من أمم وآحاد، وعلى لسانها يقول:
فاستوحشت وبكت في الدن قائلة:
يا أم ويحك، أخشى النار واللهبا
فقلت: لا تحذريه عندنا أبدا
قالت: ولا الشمس؟ قلت: الحر قد ذهبا
قالت: فمن خاطبي هذا؟ فقلت: أنا
قالت: فبعلي؟ قلت: الماء إن عذبا
قالت: لقاحي؟ فقلت: الثلج أبرده
قالت: فبيتي، فما أستحسن الخشبا؟
قلت: القناني والأقداح ولدها
فرعون: قالت: لقد هيجت لي طربا
لا تمكنني من العربيد يشربني
ولا اللئيم الذي إن شمني قطبا
ولا المجوس فإن النار ربهم
ولا اليهود ولا من يعبد الصلبا
ولا السفال الذي لا يستفيق ولا
غر الشباب ولا من يجهل الأدبا
ولا الأراذل إلا من يوقرني
من السقاة، ولكن أسقني العربا
يا قهوة حرمت إلا على رجل
أثرى فأتلف فيها المال والنشبا
ولم يكن عرضا أنه كان يدعي لها جلالة الشأن على الملوك، ويعيد هذا المعنى كقوله:
ومدامة تحيا الملوك بها
جلت مآثرها عن الوصف
وكقوله:
ومدامة سجد الملوك لها
باكرتها والديك قد صدحا
أو قوله:
صهباء فضلها الملوك على
نظرائها لفضيلة القدم
وكذلك ترديد ذكر التاج عند ذكر سقاتها كما يقول:
نتجت من كرم كسرى
قبل إبان النتاج
وغزال من بني الأص
فر معصوب بتاج
شخصه مني بعيد
وهو مني كالمناجي
أو كما يقول:
لها تاج مرجان وإكليل لؤلؤ
ترنم كالنشوان بين العواشق
يدور بها ظبي غرير متوج
بتاج من الريحان ملك القراطق
فإن الخمر أداة حب للتدليل الذي يكمن في أعماق «النرجسية»، وحب أبي نواس لها حب للتدليل الذي لا تستغني عنه طبيعة الافتتان بالذات أو توثين الذات، ومن هذا التدليل هذا الترنم بالتاج والملك والامتياز بمقام للشرب لا يكافئه كل مقام، وما كان هذا الشعور خبيئة عميقة في نفس الشاعر «النرجسي» وحسب، بل كان على طرف لسانه، وكان أحيانا يلحى السكر في سبيل أحلامه، وهو لا يلتفت إلى مغزى ما يقول حيث قال:
وأصبحت ألحى السكر والسكر محسن
ألا رب إحسان علي ثقيل
كفى حزنا أن الجواد مقتر
عليه، ولا معروف عند بخيل
سأبغي الغنى إما جليس خليفة
يقوم سواء أو مخيف سبيل
بكل فتى لا يستطار جنانه
إذا نوه الزحقان باسم قتيل
لنحمي مال الله من كل فاجر
أخي بطنة للطيبات أكول
فها هنا حلم مستقل عن حلم الخمر، ولكنه لا ينفك عن لازمة «النرجسي» المدلل لنفسه، ويكاد ينسى صاحبه - وهو من الساخرين - أنه عرضة للسخرية التي لا سخرية بعدها حين يتخيله القارئ نديما لخليفة لا يقبل منادمته بغير شرط، بل يشترط فيه «السواء ». ثم يشرئب إلى عزة أكبر من هذه العزة، فيزين له الحلم أنه قاطع سبيل مخيف؛ ليجمع الغنائم وينفق خمسها في سبيل الله، ويحرمه على الولاة ذوي البطنة الذين يأكلون الطيبات. ولا يغلط فيقول: ويشربون المحرمات. فمثل هذا الغلط من أبي نواس غير معقول حتى في الأحلام!
ونحسب أن الفارق قد اتضح من هذه الأمثال بين أنواع التفكير والإباحة، ولا سيما إباحة «الشخصية العاتية»، وإباحة «الشخصية النرجسية».
فالعاتي الذي يستبيح المحرمات يبطل التحريم والتحليل ولا يعرفهما، كما قال أبو الطيب في وصف الأسد:
في وحدة الرهبان إلا أنه
لا يعرف التحريم والتحليلا
ويود لو فرض على الناس حرامه وحلاله شريعة يأخذهم بها، وينزلها منزلة الشريعة التي درجوا عليها، أما الشخصية النرجسية فلا يلوح من عملها وقولها: أنها تريد إبطال المحرمات، بل يلوح من كل أعمالها وأقوالها أنها على نقيض ذلك؛ تريد أن تستبقي شيئا محرما لتستبيحه، وأمرا ملزما لتنعم بعصيانه، وشأنها شأن الطفل المدلل الذي يعطي هواه، ويقيس هواه ودلاله بمقياس التجني والحرمان، والولع بما يمتنع والإعراض عما يبذل ويسهل مناله، أو يستباح.
والتدليل هنا هو قوام توثين النفس والشعور بهذا التوثين من الآخرين، وغاية الهوى هنا في الطفل المدلل أنه يكلف أهله ما لا يوجد، ويأبى ما هو موجود وميسور.
وتلك هي الإباحية النرجسية التي تقترن بتوثين النفس وتدليها، ولا نموذج لها في الأدب العربي أوفى لعوارضها ولوازمها من أبي نواس.
لازمة الارتداد
أما «الارتداد» وهو اللازمة الثالثة التي ذكرناها من لوازم النرجسية، فهو الذي يعرف أحيانا باسم الصفات الثانوية، وليس من طبيعته أن يظهر قبل المراهقة، وربما تأخر إلى ما بعد المراهقة بسنوات إلى أن توجد النوازع الجنسية، التي لا تتأتى الاستجابة لها حين يكتفي النرجسي بتوثين نفسه.
ويسمى الارتداد بالصفات الثانوية؛ لأنه لا يبلغ مبلغ التشخيص والعرض في ملازمة النرجسية؛ ولأنه يأتي مرجوعا في شخص واحد، ويأتي لهذا على ثلاث درجات:
أولاها: توثين النفس.
وثانيتها: خلع الشخصية على إنسان آخر، ومن المتعذر أن يكون هذا الإنسان نسخة مكررة من الشخصية النرجسية كما تهواها، ففيها لا بد شيء من الاختلاف بالتحسين أو بالتقصير.
وثالثة الدرجات: أن تعود الشخصية النرجسية، فتستعير الملامح المختلفة، وتتلبس بها وتحسبها من ملامحها وصفاتها، وبخاصة إذا رأت أنها ناقصة فيها.
ولا حاجة إلى استقصاء شواهد «الارتداد» في شعر أبي نواس، فكل ما وصف به أكفاء المنادمة والظرف، وجعلهم من أقرانه لا يخلو من هذا الارتداد، وكان قريبا في تداعي الخواطر - أو تداعي الهواجس - أن يرى أنه يشبه «حسنا» اسما ورسما إذ كان مفتونا بطول قامتها وهو غير طويل:
طويلة خوط المتن عند قياسها
ولي بالطويلات المتون ولوع
ويخطر على البال أن أكثر الصفات المرتدة إنما كانت من صفات المخلوع محمد الأمين، ومن حبه إياه أنه كان صديق الخمر، وأنه كان ينهاه عنها لينفي عن سمعته قالة السوء.
بل قيل - وما هو بالخاطر البعيد - إن شغفه بالأمين إنما كان شغف عاشق لا شغف تابع بمتبوع، فما كان أبو نواس بالذي يبقى على ولائه بعد خلع الخليفة تشيعا لرأي أو تعصبا لمذهب، وتقول طائفة من الرواة: إن أبيات الشاعر الدالية التي يقول منها:
أصبحت صبا ولا أقول بمن
من خوف من لا يخاف من أحد
إن أنا فكرت في هواي له
أحسست رأسي قد طار عن جسدي
إنما نظمها في الأمين، وأنه كان يشرب معه يوما، فنشط الأمين للسباحة فلبس ثياب ملاح، ولبس غلامه كوثر مثل لباسه، ووقعا في البركة، ونظر أبو نواس إلى بدن الأمين فرأى ما لم ير مثله، فلما كان من غد جاء الحسين بن المنذر مسلما عليه، قال الحسين: فسألته عن خبره مع محمد فقال: ويلك! رأيت الفتنة، وأنشد هذا الشعر فقلت له: ويحك اتق الله في رأيك، فإنه إن بلغه قتلك.
ولعل أبو نواس لم يحفظ للأمين من ذكراه ما هو أدنى إلى طبعه من معاقرته الخمر، ومن مجونه وملاحته:
أأرفضها والله لم يرفض اسمها
وهذا أمير المؤمنين صديقها
فإذا كانت لازمة «الارتداد النرجسي» بحاجة إلى مورد يستعير منه الشاعر ما ليس عنده من الزينة الشخصية، فليس أحرى من الأمين أن يكون هذا المورد الرفيع، مع ما تقدم من ولع الشاعر بترديد الزهو بسمات الملوك وزينة التاج والإكليل. •••
وخلاصة القول في النرجسية: إن أبا نواس كان من الشواذ في تكوينه الجنسي ودوافعه النفسية، ولكن شذوذه غير الشذوذ الذي اشتهر به، وهو إيثاره الذكران على الإناث، ولا بد من التفرقة بين الشذوذين؛ لأن النرجسية تفسر أطوار أبي نواس جميعا، والشذوذ الآخر لا يفسرها، وهذا عدا ضرورة التفرقة بين الشذوذين للكشف عن بواطن السريرة، وفهم الأخلاق الخاصة والأخلاق الاجتماعية.
فغرام أبي نواس بالجنسين وانحرافه مع بني جنسه فاعلا ومنفعلا أمر لا يفسره إيثار الذكران على الإناث
Homosexuality ، ولكن النرجسية تفسره كل التفسير من جميع نواحيه.
والنرجسية تفسر الولع بالمجاهرة الإباحية، ولكن الشذوذ الآخر لا يفسرها؛ لأنه قلما يغري صاحبه بالمجاهرة وكثيرا ما يوحي إليه التخفي والاستتار، وإذا تبذل فإنما يتبذل لاعتقاده أنه أهون من أن يلفت الأنظار وأهون من أن يبالي الإهانة؛ لا لأنه يعمل على لفت الأنظار والاستهانة بالملام.
وقد تكون التفرقة هامة للعلاج النفسي لا محالة يوم تنكشف خصائص الغدد، ومفرزاتها وعلاقتها بالأطوار الجنسية والنفسية، فقد يصبح تعديل هذه المفرزات بالعلاج الجسدي ميسورا، كما يصبح ضروريا لتقويم الأبدان والأفكار.
أبو نواس وأوسكار وايلد
واعتقادنا في مثل هذه الدراسات أن المقارنة أفضل وسائل التمييز فيها، وأن أفضل المقارنات ما كان بين المتباعدين في البيئة والزمان، فإن التشابه بين أبناء البيئة الواحدة والزمن الواحد لا يميز الأضداد، ولكننا إذا قارنا بين اثنين تفرقهما البيئة والزمان، ثم رأينا علامات التشابه بينهما واضحة، فهذا هو الدليل القاطع على فعل العلة التي يشتركان فيها.
وقد أسلفنا أن الشاعر العصري أوسكار وايلد كبير الشبه بأبي نواس في لوازم النرجسية، وهما مختلفان بعدها في كل شيء، في الزمن والموطن واللغة والدين والطبقة الاجتماعية، ولكنهما على هذا يتماثلان في كل لازمة من لوازم النرجسية، ويختلفان فيكون اختلافهما أدل على وحدة المزاج.
ففي أوسكار وايلد نلقى الملامح الأنثوية، وخصل الشعر والصوت الذي تمازجه الرخامة.
وفيه نلقى حب الظهور ولفت الأنظار وشغل الأذهان، ولم تكن مصطلحات التحليل النفسي قد شاعت في أيامه، فلم يصفوه بحب العرض
Exhibitionism
كما كانوا يصفونه لو عاش بعد زمنه بخمسين سنة، ولكنهم أطلقوا عليه اصطلاح العرف الذي يقابل اصطلاح التحليل النفسي تمام المقابلة وقالوا: إنه نموذج حي للزهو المتبرج
Dandyism ، ومنه جاءت كل بلواه.
وليس الزهو المتبرج كل ما هنالك، بل هو الزهو الذي يصدم ويغضب كما قال صديقه أندريه جيد الأديب الفرنسي المعروف في ذكرياته عنه، وكان يتكلم بلغة عصره - لغة الثورة الفرنسية وأعقابها - فيقول: إن المستبدين ثلاثة: «مستبد يطغى على الجسد، ومستبد يطغى على النفس، ومستبد يطغى عليهما معا، أما الأول فيسمونه الأمير، وأما الثاني فيسمونه الحبر والكاهن، وأما الثالث فيسمونه الرأي العام».
وكانت لذته الكبرى أن يتحدى الرأي العام ويثيره، ويتغنى بفضائل الرذيلة أو الخطيئة، ويكتب وهو يدافع عن الشاعر الفرنسي بودلير - زميله في النرجسية: «إن ما يسمى الخطيئة عنصر جوهري من عناصر التقدم تأسن الدنيا بغيره، أو تشيخ أو تنصل من كل لون، فهي بما تنطوي عليه من التطلع تزيد تجارب النوع الإنساني، وهي بتوكيدها المزايا الفردية تنجينا من إرهاق القوالب المطردة».
وقال: «إن الطيبة على المثال الذي تفهمه السوقة سهلة بينة، فكل ما تتطلبه مقدار من الذعر، ونقص في الفكر المتخيل ومعيار دارج من معايير كرامة المساتير».
أما الخطيئة العظمى عنده فهي البلادة، وعلامات الحضارة عنده اثنتان: الثقافة والفساد.
وذهب إلى أمريكا وعاد منها ينعي على قوم غاية البطولة في عرفهم أن يكون الرجل على غرار واشنطون لا يحسن أن يخلق لك كذبة واحدة.
وذهب إلى بلدة من بلاد إفريقيا الشمالية التي يغشاها طلاب الفراغ، وخرج منها وهو يقول لأندريه جيد: «غاية مناي أن أكون قد نجحت في إفساد هذه القرية».
وكتب ونظم وتحدث وعمل ليبشر بمذهب واحد يتكرر في صيغ مختلفة، وهو أن الفن والعلم منعزلان، وينبغي أن ينعزلا في مقاييس الأخلاق.
ومما يستوقف النظر غرام أوسكار وايلد بقصة نرجس في الأساطير الإغريقية، قبل أن يشتق منها النفسيون اصطلاحهم على عادات تلك الآفة الجنسية أو النفسية، فمن أحاديثه عن أندريه جيد أنه قال له ذات يوم بغير تمهيد: إنك تصغي بعينيك؛ ولهذا أقص عليك القصة التالية: «لما مات نرجس أصبحت بركته كأسا من الدمع المر بعد أن كانت من الماء الزلال، وأقبلت عليها الأزهار باكية عسى أن تغني لها وتغريها، فقلن لها حين رأين هذا. لا عجب أن تحزني حزنك على نرجس، فما كان أجمله وأحلاه.
فأجابت البركة: أو كان نرجس جميلا حلوا كما تصفنه!
قالت الأزهار: ومن ذا الذي يعرف جماله إن لم تعرفيه؟ لقد كان يمر بنا ولا ينظر إلينا، ولكنه ينحني عليك ويدمن النظر إليك، وفي مرآة مائك الجميل كان يستجلي بعينيه جماله هو في تلك المرآة.
وعادت البركة تقول: ولكنني أحببت نرجس إذ كان ينحني على حافتي وينظر إلي؛ لأنني كنت أنظر إلى عينيه فأرى جمالي متجليا في تينك العينين». •••
وما كان وايلد إلا ناظرا في أعماق سريرته حين لمح بواطن النرجسية، فلم يلمحها في نرجس وحده، بل لمحها في البركة معه، فإذا هي النرجسية متقابلة بمرآتين.
هذه هي النسخة العصرية من أبي نواس، وتمامها أن أوسكار وايلد كان يتصل بالجنسين، وكان متزوجا وله ولدان.
وأتم من ذلك في المشابهة أن أوسكار وايلد لم يكن يدمن الخمر كما يدمنها أبو نواس، وهذا على دين التحدي بالإباحية هو المعقول، فإن تحريم الخمر لم يبلغ في مجتمع وايلد تلك الشدة التي بلغها في مجتمع أبي نواس، فلا إثارة في إعلان حبها هنا كالإثارة التي يتعمدها أبو نواس في إعلان حبها هناك.
أسرار الغدد
الجنس والنفس
أشرنا قبل ختام الفصل السابق إلى فعل الغدد في التفرقة بين الأمزجة، وإلى آثارها المرجوة في علاج أمراض النفس والجسد مع تقدم العلم بأسرار كل منها على حدة، أو على التعاون بينها وبين الغدد الأخرى.
وكل ما عرفه العلماء حتى اليوم من الأسرار لا يعدو أن يكون مقدمة وجيزة من كتاب ضخم متعدد الأجزاء والأبواب، ولكنه على قلته يبدو كالخوارق التي لا تقبل التصديق لولا أنه محسوس مؤيد بالتجربة المتكررة، وسينجلي من أسراره مع الزمن ما يعلم المنكرين المتهجمين كثيرا من الأناة والروية قبل التهجم والإنكار. فإن الذين استغربوا أسرار الروح بالأمس، فأنكروها لغرابتها ليحارون اليوم بين تلك الغرابة وبين الغرابة التي تحيط بكل غدة من هذه الغدد في عملها المفرد وعملها المرتبط بغيرها، إن أغرب الغرائب ليدخل في حكم المألوف إذا قيس إلى هذه الغرائب، وهي كما أسلفنا لما تجاوز مقدمة الكتاب.
هذه الغدد تعمل معا كالفرقة الموسيقية التي يعطي كل منها اللحن الذي يناسبه، ويناسب آلات الفرقة بأجمعها.
بل هي في تجاربها أدق من ذلك وأعجب؛ لأن الآلة الموسيقية إذا اختلت في أداء لحنها لم تصلحه لها آلة أخرى، أما هذه الغدد فكل اختلال فيها تتصدى لإصلاحه غدة أخرى بعينها، وإذا اختلت غدتان في وقت واحد تعاونت الغدد الأخرى على تعويض عملهما، وبادرت كل واحدة منها إلى أداء مهمة لم تكن تؤديها قبل ذلك، ولا يقع الاختلاط بين هذه المهام المتقابلة، أو المتناقضة في بعض الأحوال، إلا إذا كان الفساد قد عم البنية جميعها فلا يرجى لها صلاح.
والمعروف من عملها حتى اليوم في توجيه الجنس، وتحويل الأحوال النفسية يهول العلماء بما يرونه اليوم، وما ينتظرون غدا أن يروه، ويحسب بعضه من الحقائق المقررة ويحسب بعضه الأكبر من الفروض والتأويلات، بل من الظنون والتخمينات، وهذه هي المرحلة الخطرة في طريق هذا العلم الجديد. لأنها توجب الحذر والانتباه، وقد يفوت الأوان إذا توغل الباحثون مندفعين وهم لا يحذرون ولا يتنبهون.
لقد مضت القرون الأولى ودراسة «الجنس» مهملة، أو مسكوت عنها باتفاق العلماء والجهلاء على السواء، وقد توطئوا جميعا على السكوت؛ لأنهم لم يفلتوا بعد من أسر الطوطمية وتحريماتها، ولا من وهم المتوهمين أن العلاقة الجنسية دنس معيب، أو أنها وصمة مخجلة لمن يتحدث بها ولمن يسمعها ولمن يعنى بها ولو للعلم والعلاج.
ثم اندفع العصر الحديث من الحظر إلى الثرثرة بالجنس في الدراسات وغير الدراسات، وأوشك الخطر من الإفراط في القول أن يضارع الخطر من الإفراط في السكوت أو يزيد عليه.
وهذه كما أسلفنا مرحلة الحذر والانتباه، يواجهها الباحث كما يواجهها القارئ والسامع، وبخاصة حين نذكر أن كثيرا من البحث في هذه المرحلة ضرب من الظن والتخمين.
ووسيلتنا نحن في الحذر والانتباه، أن نقسم أقوال الباحثين النفسيين في مسائل الجنس إلى قسمين: ملاحظات، وتعليلات أو تخريجات.
فأما الملاحظات فالكثير منها مقبول مقصور على الوقائع والمشاهدات، وأما التعليلات فالكثير منها تخمين يجوز عليه ما يجوز على كل تخمين، ولا استثناء في هذا الحكم لمذهب أحد من المتخصصين أو غير المتخصصين، فما اتفقت مدارس التحليل النفسي على أساس واحد من أسس البواعث النفسية الكبرى، فما الظن بغير الأسس من الفروع والتشاعيب؟
وليس أشهر في هذه المدارس النفسية، وما إليها من مدارس فرويد
Freud
ويونج
Jung
وأدلر
Adler
ورانك
Rank
وسليفان
Sullivan
وهورني
Horney
وفروم
Fromm
وبرنزهورن
، وهم أقطاب النفسيين في القارة الأوروبية، ولا نذكر النفسيين في إنجلترا وأمريكا؛ لأن أقطابهم لا يتوسعون في علم النفس «السيكلوجي» إلى التطبيق وتعليل الأخلاق على مثال المدارس الأوروبية، ولا سيما مدارس أوروبا الوسطى، وأعلى ما ترتفع إليه هذه المدارس عنهم إنما بمثابة المحاولات البوليسية للكشف عن الأمراض بدل الجرائم والجنايات.
وإذا سألنا هذه المدارس عن الدافع الأكبر في النفس الإنسانية فماذا نسمع؟ أهو الجنس؟ أهو تغليب الشخصية؟ أهو الغريزة الاجتماعية؟ أهو الدوافع الواعية؟ أهو الدوافع غير الواعية؟ وهل هي موروثة أو مكسوبة؟ وهل هي قابلة للتعديل قبل الولادة أو بعد الولادة؟
إن الجواب عن كل سؤال من هذه الأسئلة خمسة أجوبة أو ستة لا تتفق مدرسة واحدة على أحدها كل الاتفاق فضلا عن الاتفاق عليها بين المدارس المتعددة، وربما ابتدأ الباحث منهم برأي في تجاربه الأولى، ثم عدل عنه إلى غيره في تجربة لاحقة، ولا يستطيع في الحالتين أن يقول: إنه يقرر «علما» قاطعا باليقين، منزها عن ظنون التأويل والتخمين، وربما اتفقوا على الاصطلاح كما تتفق مدرسة فرويد فيما بينها على اصطلاحات أستاذها التي يطلقها على دوافع الوعي الباطن ودوافع النزعة الحيوية، من قبيل الإيد
Id
واللبيد
Libido
والذات العليا
Super-ego
إلى أشباه هذه الاصطلاحات المخترعة، ثم يفسرونها ويشرحون محورها الذي تدور عليه، فإذا ثم أشتات متفرقة في التصوير والتعليل، ينقض أحدهم ما يثبته زميله، وقد ينقضون جميعا ما أثبته الأستاذ عند وضع الاصطلاح، أو عند التصرف فيه بعد المراجعة.
وأولى الأقطاب النفسيين بالحذر من تعليلاته وتعميماته هو رائدهم الأول سيجموند فرويد، وإنما كان الأولى بالمحاذرة؛ لأنه الرائد الأول وفيه إلى جانب فضائل الرواد كل عيوب الارتياد، ومنها الاقتحام.
فالفضل الذي يشكر عليه فرويد لا نزاع فيه بين مؤيديه ومخالفيه، فقد دخل بالتحليل النفسي في دور جديد لم يسبق إليه، ولكنه وثب منه إلى تعليلات وتعميمات لا تستند إلى الوقائع والمعلومات، وقد تبطلها وتفندها جميع الوقائع والمعلومات، كدعواه الأخيرة عن إرادة الموت في الإنسان، وأنها إرادة كإرادة الحياة.
وقد بدأ فرويد عمله بالعلاج الطبي، ثم عكف على دراسة الأعصاب، وانتقل منها إلى دراسة الحالات النفسية وهو في نحو السادسة والثلاثين، ثم بنى فلسفته في مسائل الجنس النفسية على أحوال العلاج، أو على حجرة الاستشارة
Consulting room
كما يقول ناقدوه.
وكان أستاذه في طب العلاج النفسي الدكتور بروير
Breuer ، الذي نقل هذا الطب من تجارب التنويم المغناطيسي وشعوذاته إلى الإيحاء البريء من الشغوذة، وكان معوله الأول في علاجه على قاعدة «التسرية»، أو رد الفعل التمثيلي
Abreaction
وهي تتلخص في البحث عن الصدمة العصبية، التي أحدثت المرض ثم إعادة تمثيلها للمريض بحيث يشعر بمنشأ العلة في نفسه، وقد استمد هذا العلاج من الراحة التي يشعر بها الإنسان إذا رأى شكواه النفسية ممثلة في قصة يقرؤها، أو ينظر إليها على المسرح، فأصاب في الملاحظة ولم يتوسع في القياس.
ولكن فرويد زاد على الصدمة العصبية التي يعرفها المريض أنه بحث عن صدمات الوعي الباطن، والصدمات التي لا يعيها أحد، فكان على بر الأمان وهو يتتبع الأعراض المرضية في كل مريض على انفراد، ولكنه لم يلبث أن وثب من حجرة الاستشارة إلى العالم بأسره، وإلى النوع الإنساني من أبعد نشأته، بل إلى الكيان الحيواني ومن ورائه الكيان المادي الذي يخبط فيه فلاسفة ما وراء الطبيعة، ولا يحسبونه في علم التجربة والمشاهدة، ولا يستخرجون منه علاج الأبدان والأخلاق.
وحسبك حذرا من تعليلاته وتعميماته أنها تجعل الشذوذ أساس الحياة الإنسانية، فكل إنسان مصاب بعقدة الأب أو عقدة «أوديب» المكبوتة، وكل إنسان عرضة من جراء هذه العقدة للقلق في بيئته النفسية وعلاقاته الخارجية، وليست العقائد والشعائر والعبادات والفنون إلا تعبيرا عن هذا القلق، أو دفاعا عن النفس أمام طغيانه في داخلها وخارجها.
وعقدة أوديب هذه ما هي؟ وفي أي عصر كان الإنسان الهمجي براء من كبتها؟
إن عقدة أوديب
Oedipus Complex
هي غيرة الابن من أبيه على أمه، وتقابلها عند المرأة عقدة ألكترا
Electra ، وهي غيرة البنت من أمها على أبيها، ويقول فرويد: إن هذه العقدة ترجع إلى أيام قيادة القطيع ثم قيادة العشيرة، ثم كفالة العائلة، وفي هذه الأدوار يوجد ذكر واحد - وهو الأب - مستأثرا بجميع الإناث في القطيع أو العشيرة أو العائلة، وتنجم نزعات الانحراف الجنسي بين سائر الذكور، كما تنجم بينها المؤامرة على قتل الأب تخلصا من احتكاره للإناث.
هل شوهدت حالة من حالات الجماعات الإنسانية كانت سابقة لهذا الكبت المزعوم؟ هل توجد الآن حالة كهذه بين الجماعات الهمجية، التي تقاس عليها الجماعات البدائية في الأزمنة السحيقة؟ وإن كان هذا التطور مغرقا في القدم فكيف عرفناه؟ هل وجد بين جماعات الحيوانات مثال لهذه النوازع يتأتى لنا أن نشاهد ما يقاس عليه؟
من المحقق أن كل ما شوهد ويشاهد من أطوار الجماعات الإنسانية، أو الحيوانية لا يسمح بهذه الوثبة الطويلة العريضة في التعليل والتعميم.
على أن الوثبة الطويلة العريضة لم تقف عند أطوار الإنسان الأول أو الحيوان الأعجم، بل جاوزتها بعيدا جدا إلى ما وراءها، فاستخرجت من أطوار المادة «غير العضوية» ما يسميه فرويد غريزة الموت، ويكاد يحصر فيه كل دفعة لا تحتويها الغرائز الجنسية.
ففي طوية الإنسان - على رأي فرويد - دوافع ضارة به تهيئ له طريق الموت من حيث لا يشعر ولا يريد، ومرجع هذه الدوافع حنين المادة في كيانه إلى حالتها الأولى قبل الحياة!
هذا ضرب من التعليلات التي تنقض الحس والعلم والمشاهدة، ولا يعززها اللفظ في عبارة فرويد نفسها إذا أراد أن نفهم من اللفظ أصدق معانيه.
فهل فارقت المادة في الجسم الحي شيئا من خصائصها «غير العضوية» حتى يقال: إنها تحن إلى معاودته، وإن حنينها إلى معاودته هو الذي يسمى بغريزة الموت. هل فارقت قانون الجاذبية؟ هل فارقت قوانين اللون والإضاءة؟ هل فارقت قانونا واحدا من قوانين الطاقة، سواء نظرنا إلى الطاقة الحيوية كلنها طاقة مادية أو طاقة روحانية؟
الواقع أن المادة تحافظ على خصائصها هذه مع قوة الحياة كما تحافظ عليها مع كل قوة، وينبغي أن يقال إذن: إن غريزة الموت تعم الكون كله ما دامت للمادة هذه المقاومة، أو هذا القصور الذاتي مع كل طاقة، فمن أين جاءت الطاقة التي لا تحتويها المادة؟ وإلى أين ننتهي إذا نحن ذهبنا نتخبط في هذه التعليلات والتعميمات.
إننا لا نستطيع في هذا العصر أن نصف المادة حتى «بالقصور الذاتي» الذي يعزلها عن الطاقة. ولا نستطيع أن نقول: إنها ذات طاقة تريد ما لا تريده الحياة، ولو كان معنى الإرادة المقصود أنها تطيع قانونا لا فكاك لها من طاعته، فلا نستطيع أن نفهم غريزة الموت على أي معنى من معاني فرويد ومدرسته، وكل معنى نفهمه قد يصدق على المادة التي تحيط بالجسم الحي والمادة التي تكمن فيه.
أقل ما يقال عن هذه التعليلات والتعميمات أنها لم تثبت حتى يسوغ لنا أن نثبت ما يقوم عليها، وغاية ما تنتهي إليه أنها خواطر موحية تومئ إلى مواضع البحث والمناقشة، وتتفرق إلى كل مفترق حتى يختار منها الناقد ما هو أحرى بالاتباع.
فمن أراد أن ينظر فيها على أمان فلينظر إليها كأنها ضرب من الحدس لا يزال يتردد بين الافتراض والاحتمال؛ وليأخذ به على حسب اقترابه من المعرفة العلمية في تجارب الغدد، وتطور الوظائف الجنسية.
ونسميها المعرفة العلمية عمدا للتمييز بينها وبين العلم المقرر، إذ لم تبلغ المعرفة بالغدد وتطور الجنس مرتبة العلم المقرر الذي تتفق عليه جميع المذاهب، وتتساوى تجاربه في كل حالة، وليس من السهل أن يرتقي إلى هذه المرتبة في مدى هذه السنوات القصار؛ لأنه متعلق بحياة الحيوان والإنسان، ولا يسهل ضبط الملاحظات على نمط واحد في جميع الأحياء.
ومن المعرفة العلمية العامة أن الغدد الصماء وثيقة العلاقة بتكوين الجسم، وتكوين وظائفه الجنسية على الخصوص، وهي الغدة النخامية والغدة الصنوبرية في الدماغ، والغدتان الدرقيتان والشبيهتان بالدرقيتين في الرقبة، والغدتان السعتريتان في أعلى الصدر، والغدتان الكظريتان فوق الكليتين، والخصيتان في الرجل والمبيضان في المرأة.
وليس من غرضنا في هذا السياق أن نتوسع في شرحها وبسط وظائفها، وإنما نكتفي بالمعلومات الحديثة عن كل منها فيما يتعلق بالوظائف الجنسية، والأطوار العاطفية أو النفسية.
فقد كان المنظور قبل هذه الكشوف أن الخصيتين والمبيضين هي الغدد الجنسية دون غيرها في جسم الرجل والمرأة.
فتبين بعد مراقبة الإنسان وإجراء التجارب الكثيرة على الحيوان أن الغدة النخامية ذات أكثر كبير في تكوين خصائص الحي، ومنها خصائص الرجولة والأنوثة.
الجنس
فالخصية تفرز الخلايا المنوية والخلايا البينية
Interstitial
المعروفة باسم خلايا ليدج
Leydig ، وهي التي ترتبط بها صفات الرجل الثانوية، فيشبه الرجال في بعض الصفات، ويشبه النساء في صفات أخرى على حسب إفراز الخلايا البينية،
1
وهي تتلقى التنبيه بإفراز من الغدة النخامية، وتتوقف سلامتها على سلامة هذه الغدة.
وتبين من تجارب الدكتور ستيناخ
Steinach
أن وقف الخلايا المنوية يضاعف إفراز الخلايا البينية ويجدد الحيوية.
ومن تجترب الأستاذ زوكرمان
Zuckerman
أستاذ التشريح بجامعة برمنجهام أن الطيور وسائر الحيوانات، التي يراد تأخير مواسم الولادة عندها تتغير مواسم الحمل عندها بمقدار ما تتعرض له من النور، وأن التجارب المتكررة أظهرت أن هذا التأثير يسري من غددها النخامية إلى غددها التناسلية، وينقطع أثره في الأحيان التي تستأصل الغدة النخامية منها.
وإذا أفرط عمل الغدة النخامية تضخم الجسم، وأصابه المرض الذي يسمى بمرض الإفراط النخامي
Hyper-pituitarism ، فتطول العظام وتمتد القامة نحو ثمانية أقدام.
وتتعاون الغدة الدرقية والغدة السعترية على إنماء الجسم إلى سن المراهقة، ولكن الغدة الدرقية موكلة بنمو التطور، والغدة السعترية موكلة بنمو الحجم والبدانة، فإذا حقنت الشفدع (فرخ الضفدع) بإفراز الغدة الدرقية تطورت، وتحولت إلى ضفدع وهي على حجمها.
ويحدث عند ضمور الغدة الدرقية، أو إزالتها مرض التوقف العقلي والبدني
Cretinism ، فلا يتقدم المصاب به من حالة الطفولة العقلية أو الجسدية.
ويفهم من هذا أن النمو مرتبط بالغدد جميعها، ولا يرتبط بالغدد الجنسية أو التناسلية وحدها.
ولا بد من استمرار الغدة الدرقية في أداء وظيفتها قبل المراهقة، وبعد البلوغ وتمام النضج في الجنسين، أما الغدتان السعترية والصنوبرية، فتنموان إلى سن المراهقة، ثم تسلمان الجسم إلى عمل الغدة التناسلية التي تبدأ في تلك السن وظيفتها المولدة.
وشوهد فعل الغدة الكظرية في الصفات الجنسية، فتبين أن الطفل الذي تختل غدته الكظرية قبل الولادة يصاب بحالة شبيهة بحالة الجنس المشكل
Ipeudo-hermophroditism ، الذي يتميز فيه الجنسان ببعض الصعوبة.
أما إذا اعتراه الخلل بعد الولادة فقد تتميز فيه صفات الجنس، وتصاحبها سرعة المراهقة، فتظهر ملامح الذكورة أو الأنوثة في الخامسة أو السادسة.
وقد تصاب الغدة بعد سن المراهقة، فينبت الشعر على جسم المرأة ويغلظ صوتها، وتشتد عضلاتها.
وقد بسط بروستر
في كتابه «غلاف الغدة الكظرية»
Adrenal Cortex
أحوال نحو عشرين فتاة أصبن في غلاف غدتهن الكظرية، فغلظت أصواتهن وتغطت بطونهن بالشعر، وأشبه البظر عندهن شكل الذكر الصغير، ولا يلزم في جميع هذه الأحوال أن تتغير أطوارهن الأنثوية، وقد يشفى غلاف الغدة، ويخف ورمه فتزول هذه الأعراض وتعود الفتاة إلى أنوثتها.
ويشاهد على وجه التقريب أن العواطف والأحاسيس ترتبط بأعمال الغدة الكظرية، وأن أعمال الدماغ ترتبط بالغدة الدرقية، وأن تكوين العضل يرتبط بالغدة النخامية.
أما الغدة الصنوبرية فعملها مهم جدا، ولكنه لم يتميز من عمل الجزء المقارب لها من الدماغ
Hypothalmus ، فلا يتيسر الآن على سبيل اليقين أن يعرف أي هذه الآثار من فعلها، وأيها من فعل الدماغ كله.
ويذكر للفيلسوف ديكارت على سبيل الإعجاب ببداهته الفلسفية أنه أدرك شأن هذه الغدة قبل ثلاثة قرون، وخطر له أنها مركز القوة الروحية ، وعزز هذا الخاطر عنده أنه رآها الغدة المفردة دون غيرها بين غدد الجسم كله، ويعترض عليه المحدثون بانفراد الغدة النخامية، فيرد عليهم أنصاره مشيرين إلى انقسام الغدة النخامية كأنها غدتان!
وكل غدة من هذه الغدد الصماء تفرز في الدم مباشرة مادة خاصة بها يطلق عليها اسم الهرمون من كلمة هرماو
Hormao
اليونانية بمعنى التنبيه أو التحريض، وكل هرمون من هذه الهرمونات يؤثر في الهرمونات الأخرى ويتأثر بها، ولا ينحصر تأثيره في مفرزات الغدد الصماء دون غيرها، بل يسري إلى الغدد الأخرى للتعاون تارة والمقاومة أو التعويض تارة أخرى، وقد لاحظ الأستاذ هوسى
Houssay
من بونيس أيريس بالأرجنتين أنه عند استئصال البنكرياس والغدة النخامية معا من جسم الحيوان لا تنشأ من إزالتهما الإصابة بمرض السكر، كما تنشأ من إزالة البنكرياس وحده،
2
ولوحظ مثل هذا التجاوب بين الغدد التي تفرز هرموناتها في الدم مباشرة كالصماء، أو تفرزها بالواسطة كالغدد الأخرى.
ودلت مراقبة التوالد في الكائنات الحية على أن هذه الغدد تبدأ في الظهور مع انقسام الجنسين، ولا تتميز خصائصها كل التميز في أنواع الأحياء التي تميزت فيها الذكورة والأنوثة.
وهنا ينبغي أن نذكر أن الأحياء توالدت قبل أن يكون فيها جنسان متميزان.
فالأميبا
Amoeba
مثلا - وهي حيوان من خلية واحدة - تتوالد بالانقسام، فتنشق الخلية شقين ينمو كل منهما حتى يستوفى نموه، ثم ينشق مثل هذا الانشقاق.
ويتم التوالد في أحياء أرقى منها بالنتوء، أو الأزهار تشبيها له بنتوء الكم من فرع الشجرة، فإذا أدرك الحيوان سن الولادة شوهد على ظاهره نتوء يكبر حتى ينفصل ويستقبل بكيانه، ويجري السؤال على هذا النمو في الأحياء التي تتعدد خلاياها، ومنها بعض ديدان الماء والطحالب.
التوالد
ويتم التوالد في أحياء أرقى من الطحالب بالطريقة الجرثومية
أي: بانعزال بعض الخلايا داخل الجسم وتطورها حتى تشابه جرثومتها الأصلية، ثم تخرج من جسم الحيوان كالجنين من الرحم، وتأخذ في النمو ثم التوالد على هذا المثال، والحيوانات المرجانية والدودة المتشعبة من هذا القبيل.
ويلي هذا التوالد الجرثومي توالد متوسط بين هذه الطريقة، وطريقة الحيوان ذي الجنسين، ويسمى البوغية أو الغبارية
Sporogenia ، ويجري التوالد فيها بانعزال خلية واحدة من الجسم تبدأ بالنمو بعد انعزالها، وتتعدد خلاياها وهي في جسم واحد حتى تشابه أصلها الذي نشأت فيه، وهذه الطريقة شائعة في بعض الفصائل من النباتات السفلى.
ويلي الطريقة البوغية طريقة تسمى بالتوالد العذري
، ويكاد يحسبها بعضهم نكسة من طريقة أرقى منها.
فتتوالد من الحيوان جرثومة قابلة للنمو بغير تلقيح، وهي نفسها قد تلقح فيختلف النتاج، كما يحدث في جراثيم النحل الذي تنمو خلاياه غير الملقحة، فتصبح ذكورا وتنمو خلاياه الملقحة فتصبح إناثا، ولا يبقى النوع بغير هاتين الطريقتين.
ومن الأحياء الطفيلية ما يجمع بين الذكورة والأنوثة، ومنها ما يجري التلاقح فيه بين حيوانين كل منهما لاقح وملقوح، كالدودة التي تسمى دودة الأرض
Earthworm
والقوقعة الحلزونية
Snail ، وأعلى من هذه الطبقة قليلا حيوانات تتناوب الذكورة والأنوثة موسما بعد موسم، فالمحار
Oyster
أنثى ويصبح ذكرا في موسم تال، وقد يرتد إلى الأنوثة في موسم يليه.
والطبقة التي تعلو على هذه الطبقة هي طبقة التوالد من جنسين يستقل كل منهما بوظيفة لا يؤديها الجنس الآخر، والمسافة شاسعة جدا بين أدنى الحيوانات من هذه الطبقة وبين الإنسان، ولكن الإنسان مع هذا لا يزال مختلفا في كيانه بأصول التوالد في طبقات الأحياء، ويوجد في شبك المبيض مثلا جزء كخصية الرجل ولا يقال فيه: إنه الجزء المقابل للخصية وحسب، ويصح أن يقال بعبارة أخرى: إن كل أنثى تطوي في لباب المبيض «مشروع» خصية
3
قد ينمو حتى يعمل عمل الخصية في الذكور، ويغير أطوار المرأة في صفات الجنس الثانوية.
ويؤخذ من شواهد متكررة أن مبيض الأنثى يفرز الهرمون المذكر المسمى بالأندروجين
Androgen ، كما يفرز الهرمون المؤنث المسمى بالأستروجين
Estrogen ، ومن التجارب في الحيوان أن الدجاجة التي يستأصل مبيضها يضمر عرفها، ولا تعود إلى النمو الطبيعي إلا إذا ألقحت بالأندروجين دون الأستروجين، مما يفيد أن مبيض الدجاجة لا غنى له عن إفراز الأندروجين لاستقامة كيانها.
ويحتاج الذكر كما هو معلوم إلى وقت للنضج، واستيفاء كيان الرجولة أطول من الوقت الذي تحتاج إليه المرأة، فينضج الشاب في نحو العشرين، وتنضج الشابة في نحو الثانية عشرة، فإذا ألقح الحيوان بهرمون المرأة - أي: الأستروجين - بكر نضجه والتحمت كراديس جمجمته
Epiphyses
قبل الأوان.
والمعلوم أن الذكر في الحيوانات الفقارية أجسم من الأنثى، فإذا خصي الذكر والأنثى من صغار الحيوانات، فالخصي يعطل نمو الذكر ويعجل نمو الأنثى، كأنما هرمون الأنثى يعطل النمو فإذا غاب نما الجسم وإذا بقي أبطأ نموه، ويجري العلماء هذه التجربة على نحو آخر، إذ يلقحون ذكور الجرذان وإناثها بالأستروجين، فيتعطل نمو الذكور والإناث.
4
كذلك يحدث تضخم البروستاتة في الشيخوخة لنقص إفراز هرمون الذكر، أي: الأندروجين، وزيادة إفراز هرمون الأنثى، أي: الأستروجين.
ويشاهد على الأغلب أن أثر الأندروجين في عموم الجسم أقوى من أثره في جهاز التناسل مباشرة، فإذا نقص نقصت في الرجل صفات الذكورة الثانوية، وإن لم يضعف جهازه التناسلي، فتغلب عليه بعض أطوار الأنوثة، ولا تتعطل قدرته على التوليد.
ومن هذه المشاهدات المتكررة يجنح ذوو التجارب إلى القول بأن غياب أطوار الرجولة يبرز أطوار الأنوثة ولا يحدث عكس ذلك، أي: أن غياب أطوار الأنوثة لا يعطي الرجل صفات جنسه النفسية أو الجسدية.
وأيا كان مقطع الرأي في هذه التجارب، فالثابت من أطوار الصبغيات والناسلات أن أنوثة الجنين مطردة، حيث يغيب الصبغي الذي ينفرد الذكر بإفرازه، وإنه حيث يوجد هذا الصبغي يكون الجنين ذكرا على الدوام.
فمن عجائب الخلقة أن الخلايا المولدة التي تصل إلى رحم المرأة تبلغ نحو مائتي مليون خلية، كل خلية منها تحتوي على أربعة وعشرين صبغيا، وكلها متشابهة إلا بعض صبغيات الذكر؛ فإن الصبغي الرابع والعشرين منها يشتمل على خلية واحدة ذات جزئين مختلفين، ولا يأتي هذا الاختلاف إلا على النسبة التي يتعادل بها عدد الذكور، وعدد الإناث في النوع الإنساني بوجه التقريب.
وأعجب من ذاك أن هذا الصبغي
Chromosome
يعين جنس المولود، ولكنه لا يعين الطبائع الموروثة، بل يرجع توريث هذه الطبائع إلى الناسلات
Genes ، فتنتقل إلى بعض الذرية ولا تنتقل إلى بعضها؛ لأن الناسلات تتزاوج، وتتلاقى ناسلات الأب وناسلات الأم، ويختلف الولدان من ثم في الذرية الواحدة، ولا يندر أن يكون الذكر وارثا لصفات أمه، وأن تكون الأنثى وارثة لصفات أبيها، بل لا يندر أن تكون الصفات الموروثة منقولة من الأجداد والأسلاف: صفة من الجد الأبوي وصفة من الجد الأموي، وكلتا الصفتين قد خفيتا في الأب والأم على السواء.
وكثيرا ما يرث الولد استعدادا تحول البيئة دون ظهوره، ولكنه لا يكسب في البيئة خلقا لم يكن على استعداد له بتكوينه.
وقد تقدم أن الصبغيات في النوع الإنساني أربعة وعشرون، أحدها هو الذي يعين الجنس، فينمو الجنين ذكرا أو أنثى على حسبه، ويبقى ثلاثة وعشرون صبغيا تعمل في تكوين الجنين، فهذه الحقيقة يبني عليها بعض العلماء رأيا قويا في تعليل الوراثة المختلفة، ويسمون هذه الصبغيات بالمستقلة أو الذاتية
Altosomes
تمييزا لها من الصبغي المختص بتعيين جنس المولود، ولم ينكشف بعد من مراقبة مواليد الإنسان ما يكفي للجزم برأي في علاقة هذه الصبغيات الثلاثة والعشرين بوراثة الأخلاق والمزايا؛ لأن التجارب على الحيوان لا تصلح للقياس عليها.
ولكن العلماء يتابعون البحث على هذه الخطوط الواسعة؛ أملا في الوصول إلى تعيين عمل الصبغيات جميعا في نقل الأخلاق والخلال الموروثة، وهو بحث عويص محفوف بالمجازفات والصعوبات، ندرك شيئا من صعوباته كلما أحضرنا في خلدنا دقة الناسلة التي تعد بمئات الملايين في إفراز الغدة الواحدة، وتحمل فيها ما ظهر، وما خفي من خلائق الآباء والأجداد من طرفي الأبوة والأمومة إلى أجيال لا ندرك أولها في القدم، ولا نهايتها في المستقبل، ومن المجازفة الشديدة أن يتصدى أحد - بالغا ما بلغ علمه - لمحاولة التعديل في مثل هذه الناسلة الدقيقة حتى يمحو منها خلقا، أو يسويه من عوج إلى اعتدال.
الفوارق بين الجنسين
وبعد فهذه عجالة توخينا الإلمام فيها بما هو ضروري من المعارف العلمية من أعمال الغدد، وتطور الوظائف الجنسية، فما هي النتيجة التي تنتهي إليها؟
إنها لا تنتهي بأية حال إلى تهوين الفوارق بين الجنسين، ولا إلى زعم الزاعم أن الإنسان مزدوج الجنسين
Bisexual
مختلط الذكورة والأنوثة بطبيعته، وأن الشذوذ الجنسي فيه فطرة عامة تتخذ أطوارها على حسب العمر من الطفولة إلى تمام النمو في الجنسين، كما يقول فرويد ومتبعوه، إن النتيجة التي تنتهي إليها بحوث المختصين بتطور الجنس لا تنتهي إلى هذه النتيجة، بل تنتهي إلى نتيجة تناقضها، وهي أن الفوارق بين الجنسين تتعدد وتتوزع، وتتشعب حتى لا يكفي لتعيينها جهاز التناسل وحده، ولا بد معه من دلائل أخرى تنطوي فيها وظائف الغدد وسائر أطوار البنية.
وإذا كانت هذه الخصائص لا تتوافر جميعها في بنية واحدة، فهذا شأن جميع الخصائص في كل تراكيب الأحياء أو الجماد، فلا يوجد إنسانان ولا شجرتان ولا حجران على مثال واحد، ولا يلزم من عموم المادة الكربونية مثلا أن الفحم والماس، والسكر أشباه لا فوارق بينها في جميع المزايا والقيم والأغراض.
وللنوع الإنساني ولا شك خصال عامة يشترك فيها الجنسان، ولكن التطور الجنسي لم يتقدم هذا التقدم ليتشابه الجنسان في النهاية، وإنما تقدم الجنس لتظهر بينهما الفوارق اللازمة، ويبقى كل منهما بعد ذلك إنسانا فيما عدا هذه الفوارق اللازمة؛ لأنها لا تخرج الذكر من إنسانيته، ولا تخرج الأنثى من إنسانيتها، ولن يكون النوع الذي ينتميان إليه نوعا واحدا إذا اختلفا في كل شيء.
وقد وجدت حالات من الشذوذ الجنسي لا شأن لها بالخصائص الموروثة، ومرجعها كلها إلى العوارض الاجتماعية، أي العوارض التي تطرأ بعد الولادة.
فالذين راقبوا الشذوذ الجنسي في الحيوانات وجدوا أنه يعرض للقردة والكلاب، وبعض الطيور كالحمام، ولكنه لا يعرض لها إلا في غيبة الإناث وحين يتربى الذكور من هذه الحيوانات في مكان واحد تنعزل فيه، ولا تظل على شذوذها بعد اختلاطها بإناثها.
والذين راقبوا الشذوذ الجنسي في القبائل البدائية وجدوا كذلك أنه يعرض للناشئين، وهم منعزلون في المزارع والغابات، ثم يتعقبونه بالسخرية والاشمئزاز.
5
وهذه هي العوارض التي يتخذها بعضهم شاهدا على النزعة الفطرية في الشذوذ الجنسي؛ لأن الحيوانات والهمج يباشرونه كأنما كانت استقامة الفطرة وقفا على الحيوان والهمج المتخلفين عن المدنية.
وقد درست في عواصم المدينة أحوال الشواذ المحترفين، فلم يوجد بمعظمهم شذوذ في تكوين البنية، ودلت دراستهم وفحصهم على أنهم يحترفون البغاء طمعا في الكسب، ولا ينقادون للغواية بدافع فطري من النزوة الجنسية.
وتفعل البواعث النفسية فعلها في حالات شتى من الشذوذ الجنسي، الذي لا يقبل التعليل بغيرها ولا يتأتى خلوه منها، إذ لا يخفى أن الصلة بين الرجل والمرأة لا تقوم على الوظيفة التناسلية بمفردها، بل تسبقها في المجتمعات المتحضرة ومجتمعات البداوة أحيانا أشواق نفسية، ومطالب اجتماعية، فيجوز أن يكون الرجل سليم البنية، ولكنه لا يروق المرأة ولا يثير شعورها أو يستولي على عواطفها، ويجوز أنه يشعر بذلك فيحجم عن طلب المرأة هربا من المهانة وألم الخيبة، ويجوز أن يحس من نفسه ضعفا فيتجنب الصلة التي تخجله أمام شريكته، ويجوز أن ينفر من امرأة واحدة ذات شأن عنده، أو ينفر من امرأة واحدة أضرته واحتقرها أو احتقرته، فيسحب احتقاره على جميع بنات جنسها، ويجوز أمثال ذلك كثير من علل الشذوذ الجنسي الذي ينفر صاحبه من المرأة، ولا يمكن أن يخلو من البواعث النفسية.
فإذا قيل مثلا: إن الناشئ الذي نقصت وظائف الرجولة عنده يتشبه بالنساء وينقاد لشهوات الرجال، أو قيل: إن الناشئة التي جارت فيها هرمونات الذكورة على هرمونات الأنوثة تتشبه بالرجال، وتتعشق بنات جنسها، فكيف يمكن أن نعلل بعلة الهرمونات حالة الناشئ الذي لا يحب المرأة، ولا يميل بعاطفته الجنسية إلى غير أبناء جنسه؟ إن زيادة الهرمونات المذكورة خليقة أن تصرفه إلى الإفراط في حب الإناث، وإن نقصها خليق أن يلحقه بالمتأنثين: أما الرغبة التي تقيد الرجل بأبناء جنسه، فليس لها تعليل معقول من قبل الهرمونات، ولا بد من الرجوع بها إلى الحالات النفسية والعادات العارضة، سواء نشأت من ظروف المجتمع، أو من البيئة المنزلية في نطاقها المحدود.
وقد أحصى هرشفيلد
Hirchfield
وستيكل
Steckel
وستيناخ
Steinack ، وغيرهم حالات كثيرة يعزى النفور فيها من المرأة إلى علل نفسية، ولا ارتباط لها بفعل الهرمونات وما إليها.
إحدى هذه الحالات حالة فتى كان يحب أمه حب العبادة، ثم ماتت فوقع في صندوقها على رزمة من الأوراق قرأها، فوجد أنها رسائل غرامية، وعلم منها أن أمه كانت تخون أباه وتخون عشاقها، وأنهم كانوا يتبذلون في الكتابة إليها عن أفانين الرذيلة التي كانوا يقترفونها معها، ويستعيدون ذكراها.
وإحدى هذه الحالات حالة فتى أصابه المرض من امرأة يهواها، وغيرها حالة فتى أذلته فتاة، وصدمته في كبريائه فجعل يتمثلها في كل فرد من بنات جنسها، وأشباه ذلك حالات تحصى بالمئات.
فمن السخف أن يقال - اعتمادا على المعرفة العلمية في مسائل الغدد، وتطور الوظيفة التناسلية: إن هذه المعارف أثبتت أن الشذوذ الجنسي طور من أطوار العمر كما هو مذهب فرويد وشيعته، أو أن الشذوذ الجنسي جنس ثالث مستقل بين الذكورة والأنوثة، كما هو مذهب هرشفيلد وطائفة من تلاميذه، وكل ما يصح بعد هذه المعارف العلمية في العصر الحديث أن الشذوذ الجنسي قد يرجع إلى أصل في البنية، وأنه قد يرجع إلى علل نفسية أو عوارض اجتماعية، ويجزم طبيب من أقطاب النفسيين الجنسيين بنفي العلل البيولوجية، ويقصر علل الشذوذ كلها على الصدمات العصبية والعادات المكتسبة، وهذا الطبيب هو ولهلم ستيكل الذي كان مديرا للكلية الطبية بجامعة فيينا، وصاحب التواليف المعتمدة في العلاج النفسي والتحليلات النفسية، وأشهرها: كتاب «الأمراض العصبية في الشواذ»
The Homosexual Neurosis
وكتاب «حب الجنس المزدوج»
Bisexual Love ، وهما موضوعان لنفي العلل البيولوجية الموروثة، وإثبات العلل النفسية والعصبية بالأمثلة المستمدة من تجاربه الشخصية.
وقد سجلت الإحصاءات التي أشرفت عليها لجان العلماء المسئولين ممن خولوا درس هذه المسائل في الجامعات، والمدارس والمستشفيات والحقول، والمعاهد المزدحمة بأفراد الجنسين أو أفراد الجنس الواحد، فدلت هذه الإحصائيات على أن نسبة الشواذ مدى الحياة لا تزيد على أربعة في المائة، وأن الحالات التي تعرض بعض الناس للشذوذ الجنسي قد تعرض أمثالهم للاتصال بالحيوان، وأن الوسائل المصطنعة في العواصم تشجع الشذوذ، ومنها البؤر والمباءات التي يديرها طلاب الكسب، ويتردد عليها طلاب الاستطلاع ممن تستهويهم تجربة اللهو حيثما اطلعوا منه على لون غريب، ولا نظير لهذه البؤر والمباءات في القرى الصغيرة، فهي لذلك قليلة الشواذ بين أبنائها بالنسبة إلى العواصم الكبرى.
6
ويتحرج ومعظم العلماء في تقرير القواعد والأوصاف التي يسوقونها مساق الجزم واليقين في هذه الأمور، فلم يسلم من الملامة أمثال جريجوريو مارنون الإسباني
Gregorio Maranon ؛ لأنه سرد في بحثه العلمي عن تطور الجنس
Evolution of Sex
أشباها وملامح زعم أنها تلازم الشواذ وتميزهم من غيرهم، وربما شملت هذه الملامة أناسا من أجل الأساتذة الموقرين بين تلاميذهم، ومريديهم من طبقة هرشفيلد وستيناخ المتقدم ذكرهما، أو طبقة العلامة الفرنسي أندريه تريدون
Andre Tridon
صاحب كتاب «التحليل النفساني والأخلاق»؛ لأنه زاد عليهم فعمم الحكم على طائفة كاملة لا تجمع بينها ملامح خاصة، بل يجمعها اليتم أو فراق الأبوين.
فمثل هذه التعميمات، في الحق تهجم لا مسوغ له من العلم ولا من أدبه، ولسنا نقصد بهذا أن الشواذ مجردون من الملامح والخصائص التي قد تدل عليهم، ولكننا نقصد أنها قد توجد فيهم وفي غيرهم، وقد تميز الشواذ حين تفترن بدلالات كثيرة تلصق بهم مجتمعة ولا تميزهم متفرقة، وسنضرب المثل على ذلك بهذه المياسم المتعددة حين تجتمع في شخصية «أبي نواس».
وينبغي أن نثوب إلى قسطاس مفهوم لا يعتسف التفرقة بين العلامة الجسدية، وهي عرض من أعراض الشذوذ الجنسي، وبين هذه العلامة بعينها، وهي لا تدل على مرض من أمراض النفس، ولا تتعدى موضعها من البنية.
فالنفسانيون متفقون على أن العاهات النفسية إنما هي توقف في النمو، أو احتباس له يعوق المصاب عن أن يستوفي نمو العاطفة أو الفكر أو الحاسة الاجتماعية أو وظائف البنية، وتقترن بهذه العاهات أحيانا علامة محسوسة أو عادة جسدية نابية، إلا أن هذه العلامات قد تكون موضوعية، فلا تدل على نقص مستتر، كعثرات النطق مثلا، فإنها قد تدل على احتباس القوى الناطقة عند دور الطفولة، فيظل الرجل طفلا تلازمه عيوب النطق الناقص إلى سن الشيخوخة، وقد تطرأ بعد تمام النمو فيلثغ الرجل في الخمسين أو الستين إذا سقطت ثناياه، ويتمتم أو يرت لسانه إذا اصطدم واختل جهازه الصوتي دون مساس بعاطفته وشعوره.
كذلك الطفل اليتيم أو الطفل الذي افترق أبواه، وتربى مهملا أو مدللا في حضانة أم جاهلة لاهية، فهو عرضة للشذوذ الجنسي إذا كان ضعيف المزاج في بيئة مغرية، شبيها بالنساء في سماته وملامحه، ولكنه قد يندفع إلى السطو والإجرام إذا كان قوي المزاج متغلبا على أقرانه، وقد يسلم من الشذوذ والإجرام معا وهو ضعيف المزاج مشابه للنساء إذا نشأ في بيئة بعيدة عن مغريات الرذيلة والجريمة، أو كانت الرذيلة والجريمة في بيئته مما ينفر الطفل، ويثير سخطه واشمئزازه.
فالعلامات الجسدية وحدها لا تكفي لتمييز الشواذ، والدلالة على عاهات الأخلاق والطباع، ولا بد معها من قرائن عدة تتناول البيئة في نطاقها المحدود، وفي نطاق المجتمع الكبير، وتأتي دلالتها حتمية قاطعة متى ثبت المرض، وتجمعت أعراضه الأخرى. أما قبل ذلك فهي دلالة ناقصة تسقط من كل تقدير صحيح. •••
وسنرى عند تطبيق هذه العلامات على أبي نواس نماذج من الأعراض، التي لا تدل على شيء حين تنفرد، ولا تنقض دلالتها حين تجتمع؛ فإن أعراض البنية والتربية البيتية ونشأة المجتمع، وأحداث العصر قد اجتمعت في حالته الخاصة دون سائر الحالات التي وجد فيها شعراء عصره، فجعلته تلك «الشخصية النموذجية» التي تكاد لا تتكرر في جيل.
شخصية منحرفة
شخصية أبي نواس
والآن نستطيع أن نثبت من سيرة «الحسن بن هانئ» صاحب الشخصية النموذجية، التي وجدت حقا ولم يخلقها الوهم من تصورات السامعين به على حسب اختلاف الأوقات والأحوال.
وهذه الشخصية النموذجية غير شخصية «أبي النواس» هي شخصية «نرجسية» باصطلاح النفسيين المحدثين على أن تفهم «النرجسية» فهما يخالف تعليلات «فرويد» وتعميماته، وهي تلك التعليلات والتعميمات التي لا يقرها أحد من نظرائه وأنداده، ومنهم أناس ضارعوه في المنزلة العلمية، والشهرة العالمية بعد أن تتلمذوا عليه.
فليست النرجسية طورا طبيعيا من أطوار العمر يمر به كل إنسان، ولكنها آفة نفسية تولد مع صاحبها في رأي بعض النفسيين، وتنشأ من التربية البيتية وعوارض المعيشة الاجتماعية في رأي آخرين.
فمن الذين أنكروا تعليل فرويد لهذه الآفة العالم الفرنسي الدكتور رولان دالبيج
Dalbieg ، الذي عقب على مذهب فرويد بمجلدين ضخمين خلاصتهما أن فرويد لا يفرق بين منهج العلاج وفلسفة علم «النفاسيات»، وقد تناول دراسة النرجسية خاصة فقال في لهجة حاسمة: «ولكن هل لدينا ما يسوغ الذهاب إلى أبعد من هذا المدى لنقول كما قال فرويد: إن النرجسية درجة طبيعية في التطور الجنسي؟ إننا لا نتردد في الإجابة عن هذا السؤال بالنفي، فليس التطور الجنسي سلسلة متتابعة من الشذوذات، وليس النمو الجسدي كذلك سلسلة متتابعة من المسوخات».
1
ومن معارضيه هرشفيلد المؤلف الموسوعي في النفاسيات الجنسية، وهو يتناول النرجسية في الفصل السادس من الجزء الأول من كتابه عن النفاسيات الجنسية، وهو كذلك ينكر أن النرجسية درجة طبيعية في التطور الجنسي، ويردها إلى فعل الغدد واختلاف تركيب البنية.
ومنهم الدكتور لوينفلد
Lowenfeldt
مؤلف كتاب «الجنسيات والأمراض العصبية»، وعنده أن النرجسية ليست طورا طبيعيا أو درجة طبيعية، ولكنها انحراف يميل إلى الشذوذ الجنسي، ويجري أحيانا في مجرى واحد مع غرام النرجسي بأبناء جنسه.
ومنهم الدكتور سادجر
Sadger
تلميذ فرويد الذي يخالف أستاذه، ويوافق الدكتور لوينفلد في رأيه وتفسيره.
2
ومنهم إمام مدرسة مستقلة عن المدارس الأوروبية، وهو الدكتور وليام مكدوجال ورأيه في كتابه «إجمال العلل النفسية» أن غرام الطفل بنفسه حالة غير النرجسية.
3
ومنهم سيدة طبيبة
4
تطبق العلل النفسية على الخصوص من الوجهة الأنثوية، وهي الدكتور كارين هورني
Horney
التي تقرر في كتابها عن الأساليب الحديثة في التحليل النفسي أن فرويد لم يفرق بين تعظيم النفس، وتمديدها
Self-Inflation ، وبين النرجسية بمعنى عشق النفس والتدله بها من الناحية الجنسية.
فالنرجسية التي نتتبع أعراضها في الحسن بن هانئ ليست حالة طبيعية تلاحظ على أنداده وفي مثل عمره، ولكنها حالة منحرفة ولد ببعض أعراضها، وجاءته الأعراض الأخرى من البيت والمجتمع، والعصر الذي نشأ فيه وعاش فيه سائر حياته، وهي حالة لا يشابهه فيها أحد من شعراء عصره، ولم يخطئ معاشروه الذين أفردوه بها، وأحسوا أنه هو دون غيره تلك «الشخصية» النموذجية التي طبعت بطابع واحد لم يتعدد في زمانه، ولعله لم يتعدد على هذا النمط بعد زمانه.
ولقد توافقت الدلالات والأعراض على تمييز هذه الشخصية النموذجية، فاجتمعت فيها دلالات التكوين ودلالات النشأة البيتية، ودلالات المجتمع ودلالات العصر بحذافيره حيث عاش بين البصرة والكوفة وبغداد، أو حيث عاش فترة من عمره في الديار المصرية.
وعلينا أن نقيم الفاصل الواضح بين هذه الدلالات في سيرة الحسن بن هانئ، وبين هذه الدلالات بعينها حين تؤخذ متفرقة، وحين تنفرد كل منها بالاستدلال على «شخصية مجهولة».
فالآفة هنا ثابتة والدلالات إنما تأتي بعد ذلك لتطبيقها، واستخراج أسبابها ومراجعة هذه الأسباب على النشأة والبيئة.
فليست الدلالات هنا هي التي تهم الحسن بن هانئ، وتقيم البينة على اتصافه بآفته النفسية، ولكنها قرائن تنتظر التطبيق والمضاهاة بينها وبين الآفة الموجودة، فلا حرج من الاستدلال بها وهي متفرقة، أو من الاستدلال بها وهي مجتمعة.
أما الاعتماد على أشباه هذه الدلالات لإثبات آفة غير ثابتة، فهذا هو موضع الحرج والأناة، فإن كلا منها قد يؤخذ على حدة، فلا يدل على شيء وقد تجتمع معا فيبقى الشك في حقيقة الارتباط بينها، ومقدار التوافق في جوانب هذا الارتباط وتلاقيها حقا على وجهة واحدة.
لهذا يجوز أن يعتمد الباحث على بعض الأغراض في دلالتها على هذه الشخصية، ولا يجوز أن يعتمد عليها في سائر الشخصيات، ومرجع ذلك إلى ثبوتها مجتمعة ومتفرقة ثبوتا لا خلاف عليه.
ونبدأ بدلالات التكوين الجسدي كما جاءت في أوصاف لم يخالفها أحد من مترجميه.
التكوين الجسدي
قال ابن منصور في أخبار أبي نواس: «كان حسن الوجه، رقيق اللون، أبيض، حلو الشمائل، ناعم الجسم، وكان في رأسه سماحة وتسفيط - أي: كان شعره منسدلا على وجهه وقفاه - وكان ألثغ بالراء يجعلها غينا، وكان نحيفا، وفي حلقه بحة لا تفارقه».
وقال من سيرته مع والبة بين الحباب: «فرأى بدنا حسنا، وكان جميل الوجه وحسن البدن، فأطار عقله».
وقال في سبب تسميته بأبي نواس: «سئل مرة أخرى فقال: سبب كنيتي أن رجلا من جيراني بالبصرة دعا إخوانا له، فأبطأ عليه واحد منهم فخرج من بابه يطلب من يبعثه إليه ليستحثه على المجيء إليه، فوجدني مع صبيان ألعب معهم، وكانت لي ذؤابة في وسط رأسي فصاح بي يا حسن امض إلى فلان وجئني به، فمضيت أعدو لأدعو الرجل وذؤابتي تتحرك، فلما جئت بالرجل قال: أحسنت يا أبا نواس، لتحرك ذؤابتي، فلازمتني هذه الكنية».
وكان يعتز بفراهة بدنه، قال أبو القشير: «نظمت الشعر وأنا غلام وأبو نواس غلام، وكنا جميعا نضرب العود، وكنت أحسن وجها من أبي نواس وأبو نواس أطبع مني، فتفاخرنا بالشعر وغيره، ثم قلت له: إني أجمل منك وجها، فقال: بل أنا أحسن منك وجها وأفره.»
وكان لا ينسى ملاحته وتيهه بها، وقد جاوز الشباب كما قال من شعره:
تتيه علينا أن رزقت ملاحة
فمهلا علينا بعض تيهك يا بدر
فقد طالما كنا ملاحا وربما
صددنا وتهنا ثم غيرنا الدهر
وتكاد تتمثل لنا من هذه الملامح صورة نرجسية للحس والعيان قبل النرجسية التي يدور عليها بحث علماء الأمراض النفسية، فالبياض والرقة والنعومة والملاحة والشعر المتهدل أشبه ما تكون بملامح الفتى نرجس، الذي حنا على الجدول فاستحال نرجسة واتخذه الأسطوريون اليونان نموذجا للجمال المفتون بمحاسنه.
ودلالات التكوين الأخرى تتم هذه الملامح فيما تسمعه الأذن ولا تراه العين، فاللثغة وبحة الصوت تشيران إلى تكوين وسط بين كيان الصبي وكيان الشباب الناضج، وليس هذا الاحتباس في جهاز الصوت موضعيا لا يرتبط بحالة كامنة في وظائف البنية؛ لأنه غير مقصور على لثغة اللسان بل شامل للحنجرة كما يبدو من بحة الصوت التي لا تفارقه، ولعلهم لو كانوا في زمانه يعرفون مراكز الدماغ التي تسيطر على النطق عامة لأضافوا إلى ذلك لوازم أخرى مع اللثغة والبحة الحنجرية، ولكن ما ذكروه كاف للدلالة على أن النقص شامل لجهاز النطق كله، وما يليه من الغدد التي تسيطر على إعداد البنية للمراهقة، وليس بالمقصور على الحنجرة واللسان.
ولا يخفى أن جهاز النطق شديد العلاقة بالنمو الجنسي في الرجال على الخصوص، فلا يدرك الرجل سن النضج حتى يغلظ صوته، ويعمق ويبرأ لسانه من لكنة الطفولة ولثغات الحروف، فإذا عم النقص لسانه وحنجرته كان لذلك علاقة بوظائفه الجنسية مدى الحياة.
وتضاف إلى لثغة أبي نواس، وبحته ظاهرة لها علاقة بالنفسية الجنسية، وبالكيان الجسدي المتصل بهذه النفسية، فالضفيرة التي كانت مرسلة من رأسه تنبئ من الوجهة النفسية التي كان أهله يشعرون بها ولا ريب عن صبي شبيه بالبنات ترسل له الضفائر تدليلا ومجاراة لسيماه الغالبة عليه، هذا التدليل من علامات النرجسية التي يرجع فيها إلى أثر البيت والتربية.
ويظهر أن أبا نواس قد أراد الاحتفاظ بهذه الضفيرة بعد بلوغه سن الرجولة معتزا بغزارة شعره، فأشفق من السخرية والعبث ولم يسترح إلى نبذها مرة واحدة، فاستعاض عنها بتسفيط شعره وبقائه منسدلا على جبهته وقذاله، وهذا إلى نعومة الجسم وخلوه من الشعر، علامة جنسية لا تهمل مع إضافتها إلى غيرها من العلامات المتوافقة.
فالمعهود في شعر الرأس أنه من العلامات الجنسية الثانوية، وأنه على صلة بهرمونات الذكور والإناث على السوء.
ويتعرض الرجل للصلع بعد سن الشباب على الأغلب، فقلما يصلع الشبان في إبان القوة الجنسية.
ولو وقف الأمر عند هذا لما احتاج إلى بحث طويل، فيكفي أن يقال: إن غزارة شعر الرأس مرتبطة بالقوة الجنسية، ثم يتساقط الشعر مع تقدم السن، وتناقص هذه القوة.
ولكن المشاهد أيضا أن النساء قليلات الصلع، وأنه قلما يصيب الخصيان المجبوبين قبل البلوغ.
فبماذا يكون تعليل الصلع مع النظر إلى جميع هذه الملاحظات؟ هل يأتي من ضعف هرمونات الذكورة؟ إن كانت هذه هي العلة فالأولى أن يصاب به النساء والخصيان.
فهل يأتي من قوة تلك الهرمونات؟ على هذا التقدير ينبغي أن يصلع الشبان، ولا يصلع الشيوخ.
والتعليل المعقول إذن أنه يأتي من تحول طبيعة هرمونات الذكورة، فإذا كانت في نشأتها قوية غالبة، ثم شاخت مع شيخوخة البنية حدث الصلع، وإن لم تكن من نشأتها قوية غالبة لم يتحول الشعر عن حالته، وإذا بقيت على قوتها بقي شعر الرأس كأنه في سن الشباب.
فأبو نواس إذن بقي على حالة واحدة من صباه إلى شيخوخته، فحكمه في هذه الحالة حكم النساء والخصيان.
وإذا أضيف إلى هذا خلو جسمه من الشعر واحتباس جهازه الصوتي عند الحالة التي تتوسط بين الصبا والشباب كانت هذه العلاقة أيضا خليقة أن يتلفت إليها، ولا تهمل في سياق الفحص عن الجنسيات والنفسيات.
ولا حاجة إلى الإسهاب في الكلام عن شعوره بمحاسن بدنه شعورا نرجسيا كالعشق الذي يعنيه الأطباء النفسانيون، فإن مفاخرته لأبي القشير واعتزاه بفراهة بدنه، وذكرى التيه الذي كان ينعم به في صباه وأشباه ذلك من نوادره وقصائد مجونه، تغني عن الإسهاب في هذا الباب.
البيت
وعنوان النرجسية التي اندست إليه من تربية البيت هي تلك الضفيرة، التي ظلت مرسلة من رأسه إلى السن التي يلعب فيها مع الصبيان، سواء كانت هي سبب تسميته بأبي نواس، أو كان لهذه التسمية سبب غيرها.
فهو طفل مدلل في كفالة أمه؛ وربما دللته لأنه وحيدها كما قال في شبابه:
لا تفجعي أمي بواحدها
لن تخلفي مثلي على أمي
فقد عاشت حتى شاخت وقالت فيها الجارية «عنان» تهجوه وتهجوها:
عليك أمك (خذها)
فإنها كندبيرة
والكندبيرة بالفارسية هي العجوز الخرفة.
ولا يمنع أنه واحدها ما جاء في ترجمته من سيرة أخيه وأخته، فربما كانا أخويه لأبيه؛ إذ كانت أمه قد تطلقت من أبيه وهو غلام صغير، ولبث بعد ذلك في كفالة أمه، ولا يبعد أن يكون أبوه قد تزوج قبلها أو بعدها.
ومن أسباب التدليل التي أحصاها أطباء الأمراض النفسية أن تشتهي الأم أن ترزق بنتا لغربتها، أو وحدها واقترابها من الشيخوخة التي تحتاج فيها إلى عناية المرأة، فترزق ولدا ذكرا بدلا من البنت التي تتمناها، ويحدث في هذه الحالة أنها تربي الولد تربية البنات تسلية لها ومغالطة لأمنيتها، وليست هذه الأمنية بعيدة من خاطر أمه؛ لأنها كانت امرأة من قرى الأهواز تزوج بها هانئ وهو في جيش الأمويين، ثم نقلها إلى البصرة بعد قيام الدولة العباسية، فجاءتها وحيدة منقطعة عن أهلها، وجعلت تعيش في موطنها الجديد بإرضاع الأطفال، وصنع الجوارب وبيع الملابس لنساء البيوت.
يقول أندريه تريدون
Tridon
في كتابه «التحليل النفسي والأخلاق»:
إن المحللين النفسيين متفقون جميعا على تكوين الشذوذ الجنسي في صورته المنفعلة، فإن الصبي الشاذ المنفعل هو في جميع الحالات ابن أيم أو زوجة مطلقة فارقت زوجها بالموت أو الهجر والمقاضاة عقب ولادة الطفل، فنما الطفل مضطرا إلى التماس قدوة يقتدي بها فوجد هذه القدوة في أمه، وكبر وهو يحاكيها في الإعراض عن النساء والمبالاة بالرجال، وأصبح كالمرأة في كل اعتبار غير اعتبار التشريح، ثم يدرك الرغبة الجنسية على النحو الذي تدركه المرأة، فيتمنى مثلها أن يحرزه رجل كما يحرز النساء.
ويجاري النفسيين في مثل هذا الرأي أستاذ لعلم الأمراض النفسية قليل الشطط في آرائه، وهو الدكتور جوردون آلبورت
Allport
أستاذ هذا العلم بجامعة هارفارد، فيقول في كتابه عن الشخصية والترجمة النفسية:
5 «إن الولد النحيل الذي يعاني جرحا نرجسيا يجد ملاذا له في أن يصبح عشيرا مدللا
لأستاذه».
ولم يكن التدليل هو كل ما ابتلي به أبو نواس في صباه من مغامز الآفات الجنسية، فقد قيل: «إن أمه كانت تستخدم في صناعاتها في الاتجار بملابس النساء للجمع بين الغواني وطلابهن في بيتها «وكان لها بيت تنادي فيه الغواني»، ولصقت به هذه السمعة إلى ما بعد شبابه، فقال فيه الشاعر أبان بن عبد الحميد اللاحقي:
أبو نواس بن هاني
وأمه جلبان
والناس أفطن شيء
إلى دقيق المعاني
وكانت الجارية عنان تغري به السفهاء والعيارين أن يصيحوا به كلما رأوه:
أبو نواس اليماني
وأمه جلبان
والنغل أفطن شيء
إلى حروف المعاني
وتريد بالنغل أبا نواس، وتشير إلى امرأة كانت كما قيل ترضع أولاد الزنا وتربيهم، وهي أمه جلبان!»
أما أبوه «هانئ» فالأرجح أنه من سلالة زنجية تنتمي إلى مولى من اليمن، وكان أسود شديد السواد، قال فيه إبان:
هانئ الجون أبوه
زاده الله هوانا
وكان أبو نواس يتعصب لليمانية أحيانا، ويهجو من أجلهم النزارية كثيرا، ولكن أصدق الأقوال في نسبه ما قاله فيه الرقاشي أنه:
واضع نسبته حيث اشتهى
فإذا ما رابه ريب رحل
فقد ادعى زمنا أنه من ولد عبيد الله بن زياد بن ظبيان من بني عامر من تيم اللات الذي ينتهي نسبه إلى وائل. فقيل له: إن الرجل الذي تدعي النسب إليه لا عقب له؛ لأنه فلج ومات ولا ولد له، فترك الانتساب إليه وذهب يتنقل بين الأنساب اليمانية حيث شاء، ولم يلبث أن هجا اليمانية فقال:
لأزد عمان بالمهلب نزوة
إذا افتخر الأقوام ثم تلين
وبكر ترى أن النبوة أنزلت
على مسمع
6
في الرحم وهو جنين
وقالت تميم: لا نرى أن واحدا
كأحنفنا حتى الممات يكون
وفي غير هذا الكلام يهجو نزارا فيقول:
واهج نزارا وافر جلدتها
واهتك الستر عن مثالبها
وفي هذه القصيدة يقول مفتخرا بقطحان:
فافخر بقطحان غير مكتئب
فحاتم الجود من مناقبها
ولا ترى فارسا كفارسها
إن زلت الهام عن مناكبها
عمرو وقيس والأشتران وزيد
الخيل أسد لدى ملاعبها
وربما تعاجم وتنكر للعرب جميعا كما قال:
تراث أبي ساسان كسرى ولم تكن
مواريث ما أبقت تميم ولا بكر
وربما فضل منادمة العجم على منادمة العرب حيث يقول:
نادمتهم أرتاض في آدابهم
فالفرس عدوى سكرهم محسوم
ولفارس الأحرار أنفس أنفس
وفخارهم في عترة معدوم
ويستكثر في قصيدة أخرى منادمة الشراب على الأمم جميعا غير العرب فيقول:
لا تمكنني من العربيد يشربني
ولا اللئيم الذي إن شمني قطبا
ولا المجوس فإن النار ربهم
ولا اليهود ولا من يعبد الصلبا
ولا السفال الذي لا يستفيق ولا
غر الشباب ولا من يجهل الأدبا
ولا الأراذل إلا من يوقرني
من السقاة، ولكن أسقني العربا
وهكذا راح أبو نواس يفخر اليوم بما ازدراه أمس، ويمدح لهذه المناسبة أو تلك ما ذمه لمناسبة أخرى، ويلهج بهذه المفاخرات والمهاترات في مطالع القصائد؛ لينعي على العرب طلولهم وبواديهم ويؤثر عليها التغني بالمدامة والمنادمة، أو يلهج بها في المدائح ليقدح في كل نسب غير نسب الممدوح، أو في الأهاجي ليعيب من يقصده بالهجاء، وكانت هذه النغمة هجيراه لا يكاد يسكت عنها في باب من أبواب المعصية.
ومن اللغو أن تؤخذ هذه المهاترات مأخذ الدعاوى الجدية التي يحققها مدعيها، ويعول على تحقيقها، فإن المرء لا يلهج هذا اللهج بشيء إلا أن يكون له مساس بهوى دفين يغريه باللغط فيه على غير مشيئته، والمساس بالهوى الدفين هو الذي يسميه العصريون بالعقدة النفسية، وها هنا عقدة نفسية على متناول اليد لا تعنت السائل عنها من قريب، ولا تلجئه إلى سر غير مكشوف.
فليس في نفس النرجسي عقد آلم لها من تلك التي تمسها في فتنتها بذاتها، وتمسها من ثم في شهوة العرض والمعارضة، ونزوة التحدي والاستثارة.
ومشكلة النسب تمس أبا نواس في هذه وتلك، أي أنها تمس فتنته بذاته، وشهوة العرض والمعارضة في دخيلة طبعه.
فليس أثقل على الفتى المغمور النسب في أبويه معا من المفاخرات، التي تتعالى بها الأصوات من حوله، ولا يسمع له بينها صوت.
وقد كان العصر عصر المفاخرة بين الشعوبيين والعرب أجمعين، وكان عصر المفاخرة بين القحطانيين والعدنانيين، وكان عصر المناجزة والمعاجزة بين العلويين والعباسيين، ولم يكن أبو نواس قصير اللسان منزويا عن الناس فيسكت وينزوي، ولم يكن صغيرا عند نفسه فيعترف عليها بالصغر والمهانة.
ونخالها العقدة الوحيدة التي شقيت بها نفس أبي نواس؛ لأن العقد النفسية لا تعيش في دخائل الإباحيين، إذ كانت العقدة بطبيعتها كبتا وكتمانا، وكانت الإباحية مجاهرة بما يكبته الناس ويكتمونه، ولكن مشكلة النسب شيء لا يباح به ولا يكشف إلا على المغالطة والتحدي، وهذا ما فعله أبو نواس.
ولا شك أن هذه العقدة كانت من أقوى بواعث أبي نواس على معاقرة الخمر وألفة مجالسها، واختيار المجالس التي لا تسمع فيها المفاخرة بالأنساب أو تسمع فيها، ولكنها تعاب على سنة الظرفاء والأحباب:
راح الشقي على الربوع يهيم
والراح في راحي، فرحت أهيم
بمزمزمين عدوا بسدفة ليلة
والليل ملتبس الظلام بهيم
نادمتهم أرتاض آدابهم
فالفرس عدوى سكرهم محتوم
ولفارس الأحرار أنفس أنفس
وفخارهم في عترة معدوم
وإذا أنادم عصبة عربية
بدرت إلى ذكر الفخار تميم
وعدت إلى قيس وعدت قوسها
سبيت تميم وجمعهم مهزوم
وبنو الأعاجم لا أحاذر منهم
شرا فمنطق شربهم مذموم
لا يبذخون على النديم إذا انتشوا
ولهم إذا العرب اعتدت تسليم
وجميعهم لي حين أقعد بينهم
بتذلل وتهيب موسوم
نعم وهذه العقدة، فهو يختار المنادمة حيث لا مضايقة بالمفاخر والدعاوى، وحيث يرى من حوله التوقير والتسليم، ولكنه لا يسكت سكوت الواجم الذليل في غير هذا المجال، بل يصول صولته هاجيا أو مباهيا ليتحدى ويستثير.
ولا شك أن ولاءه لقوم من اليمانية غير مكذوب من أساسه، ولكنه ولاء العبد الذي تدرج من الفخر بسادته إلى ادعاء ولائهم ثم ادعاء نسبهم، وليس من المصادفات أن يكون اسم أبيه هانئا كاسم بطل اليمن المشهور في حرب ذي قار «هانئ بن مسعود بن بكر»، وقائد قومه في النصر على جيش الأكاسرة، وليس من المصادفات أن يسمى أخوه أبا معاذ على اسم معاذ بن جبل الخزرجي الذي كان من اليمن، وكان رسول النبي - عليه السلام - إلى اليمن وقاضيها المختار لهدايتها وإرشادها، وكذلك جاءت نسبة أبي نواس إلى الذوين من اليمانيين، بل كذلك اختار أبو نواس جميع أساتذته أو أكثرهم من اليمانية وأصحاب الولاء فيهم، منهم يعقوب الحضرمي وخلف الأحمر وأبو زيد الأنصاري وغيرهم من المنتمين إلى اليمن بالنسب أو بالولاء.
فليس هذا مما يتفق بالمصادفة، ولكن صاحبنا علم أصل ولائه، ونما وترعرع وهو يستمع إلى الأسماء اليمانية في بيته، فأراد أن يغرس عقيدته في الانتساب إلى اليمانية بالإيحاء إلى نفسه، والتماس القربى لكل لاهج مثله بهذه النسبة، ومكنها بهجو النزارية عسى أن يقبله القحطانيون، فيتمكن بينهم بالإغضاء والسكوت إن لم يتمكن بينهم بلحمة الآباء والأجداد.
وأصل هذه الدعوى كلها على ما هو ظاهر أن هانئا آباه كان من زنج اليمن أقرب بلاد العرب إلى جلب الزنج من طريق البحر الأحمر، ولم يختلط قومه طويلا بغير الزنج، فلم يفارق أباه سواد لونه، وتزوجت أخته من عبد يسمى فرجا القصار، وولد الشاعر أبيض بلون أمه، فاختار من النسب أقربه إليه، ولم يخترع إلا وهو مستعد للإنكار وتشديد النكير على من ينكر دعواه، وبخاصة حين يجد من طبعه نزوعا إلى تشديد النكير للتحدي والإثارة.
والحسن الصغير - على هذا - قد أخذ من بيته النرجسية مولودا، وأخذها وهو يتربى مدللا مهملا محروما من الرعاية الرشيدة، وأخذها من مشاهداته فيه، وهو يخطو إلى الفهم ويظن أنه يتعقل ما يراه، فليس أعون على الإباحية النرجسية من مشاهدة الرياء حاسرا بغير قناع في حظائر الأسرار بين جدران البيت. وخليق بمن طبع على العبث بالعرف ألا يكترث له، وهو يرى المساتير من الرجال والنساء أمام الناس بادين على حقيقتهم في خلوات الفجور والمجون!
بيئة المجتمع
وتطبق البلية من بيئة المجتمع حيث فتح الحسن عينيه على الدنيا العريضة من مدينة البصرة فرضة العالم كله في ذلك الزمان.
فالبصرة في موقعها مثابة الطلاب والقصاد من كل بلد وكل نحلة، وفيها محاسن الحاضرة ومساوئها مبذولة لمن يشاء كيف شاء، وكل مصيب فيها بغية من العلم والأدب أو من الكسب والتجارة، أو من اللهو والغواية أو من الثورة على الدولة والولاء لها في ذلك الزمن المريج المتقلب بين شتى الدعوات والغارات.
وكان من حولها قطاع الطريق يتربصون بالقوافل برا وبحرا، وينهبون من استطاعوا نهبه، ثم ينفقون السلب على الخمر والقمار والدعارة في الحاضرة الكبيرة، ولا يزالون بين اجتراء واختفاء كلما أنسوا غرة من الدولة وشاغلا من حفاظ الأمن، أو أحسوا لها شدة ويقظة في تعقب الشطار والخراب.
وكان عصر أبي نواس أول عهد البصرة بالبوهيمية المتشردة المتهجمة، كما عرفتها مدن الحضارة حيث شاعت وفشت في أدوار القلاقل والمنازعات، ففي ذلك العصر أخذ «البوهيميون» يفدون من مواطنهم الآسيوية الهندية، ويزحفون إلى الغرب جموعا أو متفرقين، بل جيوشا أو عصابات على حسب المكان الذي يغيرون عليه.
هؤلاء هم الزط أو النور أو البوهيميون بعاداتهم وأساليبهم، التي تجمع بين غارات الفتك والعدوان، وغارات الغواية والمتاع المبذول، حيث يستطاع الفتك أو يروج المتاع.
والزط هم البوهيميون بعينهم، والكلمة مصحفة من كلمة أوروبية قديمة أطلقت عليهم؛ لأن الأوروبين حسبوهم قادمين من الديار المصرية، فسموهم تارة «جيتو» وتارة «جبسي»
Gipsy
من كلمة جبسيانو أو إجبسيانو التي يطلقونها على المصريين، إلى أن قامت طائفة منهم في أواسط أوروبا، فغلب عليهم اسم البلد الذي أقاموا فيه، واشتهروا من ثم بالبوهيميين.
والبوهيمية بعاداتها وأساليبها معروفة لم تتغير منذ تسربت إلى بلاد الحضارة، وأولها التشرد وقلة المبالاة بالعرف الاجتماعي، وطلب الكسب اختطافا أو اختلاسا، أو متاجرة باللذات والشهوات حيثما اتفقت، وهذه على الأقل هي البوهيمية كما اصطلح عليها العرف الشائع بين أبناء الحضارة وصفا لما عهدوه من عادات «الزط» المترحلين.
وكان هؤلاء الزط ينزلون حيث نزلوا إلى جوار الحواضر، ومعهم فتياتهم يردون لهم البيوت والديار، وقد يكشفن لهم ثغرات المدن للإغارة عليها كلما أمكنتهم الفرصة أو العوز.
قال ابن خلدون: «هم قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة وعاشوا فيها».
وتفاقم خطبهم أيام الخليفة المعتصم فاجترءوا على مهاجمة المدن، ونهب بيادرها وحمل أرزاقها، ولم يأمن شرهم حتى جرد لهم قائده عجيفا، وحصرهم بقطع الأنهار وسد مسالك الطرق، ثم أسر منهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل نقلهم إلى عين زربة، فأخذهم الروم بنسائهم وذراريهم في غارة من غاراتهم على تخوم آسيا الصغرى.
أما في جيل أبي نواس فلم يكن قد وفد منهم على جيرة البصرة غير طلائع متفرقة، يقطع بعضهم الطريق في البادية، وينزل بعضهم إلى جوار الأرباض المتطرفة، ويجرون على عاداتهم التي تلخصها كما أسلفنا كلمتان: التشرد والتحلل من عرف المجتمع وآداب الحضارة.
وكانت الثقة التي اشتهرت باسم «الشطار» بعض طلائع هؤلاء الأخلاط، وهم المثل المقتدى به عند أبي نواس كما جاء في مجونه وخمرياته، ومنها فيمن يقول: إنها لامته على صحبتهم جاهلا شرورهم:
وملحة باللوم تحسب أنني
بالجهل أوثر صحبة الشطار
ومن كلامه في منادمة الفتاك:
حندريس عطر النك
هة كالمسك السحيق
إنما طابت لذي فتك
تردى بفسوق
جاهر الناس بما يأ
تيه في ضنك وضيق
وبدا في الناس مشهو
را كذي الرأس الحليق
أي: كالفاتك الذي يأخذه أولياء الأمر ويحلقون شعره ويطوفون به للتشهير، وفي كل هذا مواضع تأمل لما يتحدث به الوعي الباطن من سريرة أبي نواس ، أو يحن إليه مزاج الإباحية والغرام بالخروج على العرف المألوف.
ومن أمانيه في هذا المقصد أن يقطع الطريق إن لم يرتفع إلى منامة الخلفاء:
سأبغي الغنى إما جليس خليفة
يقوم سواء، أو مخيف سبيل
بكل فتى لا يستطار جنانه
إذا نوه الزحفان باسم قتيل
لنخمس مال الله من كل فاجر
أخي بطنة للطيبات أكول
ولما خرج من بغداد ينوي الرحلة إلى مصر أحب أن يمثل الشطارة بزيه وثيابه، إذ كان لا يقوي على تمثيلها بسيوفه وحرابه، فخرج كما جاء في أخباره لابن منظور «بزي الشطار»، مصففا شعره موسعا كميه يجرر ذيله على حد قوله في مجونياته:
يجرر أذيال الفسوق ولا فخر
ويروى في ترجمته أنه سأل أستاذه والبة بن الحباب أن يخرج إلى البادية مع وفد بني أسد ليتعلم العربية والغريب، فأخرجه مع قوم منهم، فأقام بالبادية سنة ثم قدم، ففارق والبة ورجع إلى بغداد.
ولم يرد في ترجمة أديب من بني عصره أنه ذهب إلى صحراء بني أسد؛ ليتعلم العربية والغريب فيها، فالراجح أنها كانت جمحة من جمحاته في مصاحبة الشطار، ثم أشفق من مغبتها وسكت عنها مخافة الطلب والقصاص. •••
تقول الدكتور كارين هورني في مراقبتها النسوية للنرجسيين: إنهم يتعلقون بالمشروعات ولا يثبتون عليها، ويتنقلون من حرفة إلى حرفة، ومن مظهر إلى مظهر؛ ليطمئنوا إلى تمثيل الشخصية التي يستريحون إليها.
ويقول فليشر
Flesher
في كتابه عن الصحة العقلية والوقاية من الأمراض النفسية أو العصبية:
7 «إن اشتهاء القوة المشتق من غريزة العدوان وحب النفس النرجسي يشترك على التساوي في هذه الرغبة - رغبة التشبه بالكبار في كل ما يفعلون - وإن إعجاب الطفل بقدرة الكبار ينبغي أن يعزى إلى تمديد الشخصية الغالبة في النرجسية ليخلعها على أحدهم، وبخاصة خلال الطور الأول من أطوار الافتتان بالذات».
فإذا كانت الشطارة حلما من أحلام اليقظة تكبح مخاطرة الغلام النحيل الرقيق، الذي لا قبل له بتلك المخاطر المستهولة، ففي البيئة الاجتماعية التي ترعرع بينها هذا الغلام ألوان مستطاعة مما يحلم به، ويميل إليه طبعه ويرضي أهواء النرجسية في طويته، ويكاد أبو نواس يتشكل بكل شكل منها على التعاقب أو في وقت واحد، متتبعا للمطالب المتنافرة التي لا يتأتى له الجمع بينها، ولا يجمع بينها عنده إلا تجاربه للشخصيات الجذابة التي يقدر أنها تلفت إليه الأنظار وتوافق «الفتنة الذاتية» التي لا تستقر على قرار.
فتعلم العزف على العود، ودق الدفوف ليسلك مسلك المسمعين والقيان بين طلاب الملاهي والفنون، وتعلم اللغة وتعلم التنجيم وتعلم الفقه والحديث، وتعلم القراءة والتجويد، ونظم الشعر وروي قصائد الفحول، وتعلم العطارة والتجارة، وتعلم الأخبار والأنساب، وتردد على معاهد الدرس ومعاهد الرقص والسكر والمجون، وتداول هذه الأدوار كأنما يخلع لباس دور من أدوار التمثيل؛ ليلبس غيره على المسرح، ولكنه مسرح الحياة.
وروى أبو هفان: «أن أبا نواس لما تأدب ونشأ وظرف، ورغب فيه فتيان البصرة للمصادقة قال: لا أصادق إلا رجلا غريبا شاعرا يشرب الخمور، يصفها ويصف المجالس، ويكون له سخاء وشجاعة، فذكروا له جماعة، فلم يحب أن يكون الرجل من أهل بلده، فهرب إلى الكوفة، وذكر له بها رجل من بني أسد يقال له: والبة بن الحباب، يشرب الخمر ويقول الشعر ويجمع الخصال التي أرادها».
وهذا تلفيق ظاهر لا نخاله يروي قصة واقعية، ولكنه إذا أريد به تمثيل «الشخصية النواسية» أصدق من التاريخ في تصور هذه الشخصية، ولا يكون أبو نواس إلا هكذا في اختياره للناس، والتذرع للسفر والإقامة.
وأيا كانت الشخصية التي يتلبس بها للعرض والظهور، لقد كانت وراءها جميعا تلك «النرجسية الجنسية»، التي تغريه أن يتشكل بجميع هذه الأشكال، ويتطور بجميع هذه الأطوار، وما نسيها ولا انسلخ منها وهو يغشى معاهد الدرس والتفوق، وكان كل أمرد يغشى معاهد الدرس على هذا المثال في عرفه كما قال:
إذا ما وطئ الأمر
د للعلم حصا المسجد
فقل حل لنا عقدا
من العفة واستسفد
فإن كان عروضيا
فها ذاك له أجود
وإن مال إلى الفق
ه فللفقه له أفسد
وإن كان كلاميا
فحرك طرف المقود
وميله إلى الخير
ففيه قرب ما يبعد
وخذه كيفما شيء
ت اقتضابا أو على موعد
وقل: هذا قضاء الل
ه هل يدفع أو يجحد؟
وانتهى مصرحا:
فيا من وطئ المسجد
من ذي بهجة أغيد
أنا قست على نفسي
فهذا الأمر لا أجحد
وقد كان يستند إلى سارية في معهد من هذه المعاهد حين كتب إليه ابن مناذر يمدحه بأبيات من الشعر فيما روى الرواة، فأجابه يفهمه أنه يتصدى للحباء وزينة الأزياء:
وألذ عندي من مديحك لي
سود النعال ولين القمص
ويخيل إلينا أنه لو نبت في بيئة اجتماعية تخالف بيئته تلك لما انثنى عنانه إلى غير المواطن التي تجذبه إليها آفته النفسية، فإنما هي الآفات كالثمرات في التربة المزروعة تمتص كل ثمرة من أرضها وهوائها وضيائها ما يلائم بذورها، ويوائم طعمها وشكلها ولونها. وإلى جانبها على مد الباع ثمرة أخرى تمتص من التربة والجو طعما غير ذلك الطعم، وشكلا غير ذلك الشكل ولونا غير ذلك اللون وفي البذور سر ذلك التباعد على القرب بين الثمرتين.
أما وهو قد نبت بين إباحية الشطار وإباحية الشذاذ من جميع الآفاق في مآلف الغواة والفساق، فقد كانت المحنة أقوى من طاقة المقاومة عنده لو أنه يقاوم، وإنما كان على عكس ذلك ينطلق انطلاقه ليسبق النظراء في حلبة الجماح والمجاورة.
العصر السياسي
العصر الذي أحاط بحياة أبي نواس يبتدئ من أوائل القرن الثاني للهجرة إلى نهايته، وهو عصر سقطت فيه دولة بني أمية وقامت فيه دولة بني العباس، وأمثال هذا العصر في تواريخ الأمم يتسم بسمات الانقلاب، ويشيع فيها اليأس من جانب والمجازفة من جانب، ويتبدل فيها الولاء غير مرة بين النجم الآفل والنجم الطالع، ولا تطول فيها الثقة بشيء حتى تثوب الأمور إلى قرار.
كان فيه لسان حال الأمويين يتردد في صيحة ابن سيار:
أرى خلل الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له ضرام
وما أدري ولست إخال أدري
أأيقاظ أمية أم نيام
ففري عن رحالك ثم قولي
على الإسلام والعرب السلام
ومثلها أبيات عباس بن الوليد:
إني أعيذكم بالله من فتن
مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
ولم يكن بنو أمية خلوا من ذلك الملل الذي قال ابن الوليد: إنه عم البرية، فإن الأمويين انقسموا في بيت الملك منذ ابتدعوا عادة التوصية لولاية العهد باثنين في وقت واحد، يزاحمهما من بينهما من لم تشمله الوصاية، فلم ينقض عهد خليفة من خلفائهم دون مؤامرة من هنا ودسيسة من هناك، ونفاق يتراءى هنا وهناك.
وهذه المؤامرات في بيت الملك تقابلها في الرعية شعب متفرقة بين الفرس والعرب، وبين القحطانيين والعدنانيين من العرب أنفسهم، بل شعب متفرقة بين كل معسكر من هذه المعسكرات، فلا القحطانيون ولا العدنانيون مجتمعون على هوى واحد، ولا الخلاف حيث كان يرجع إلى سبب واحد، فربما تمرد أناس من الفرس لثقل الضريبة، ولا سبيل إلى تخفيفها كلما افتقرت الدولة المتداعية إلى المال للتدعيم والتقويم، أو افتقرت إليه لاستشراء عادات الترف، وانتشار الغصب والاختلاس بين العمال، وربما تمرد أناس منهم؛ لأنهم على حد قول القائل:
إذا لم يمكن للمرء في دولة امرئ
نصيب ولا حق تمنى زوالها
فلا تسلم الدولة من عداء السوقة الفقير، الذي حرمته رزقه، وعداء السيد الغني الذي حرمته الدولة ميراثه من الجاه والعتاد.
ووراء هؤلاء جميعا قوم لا يرضون عن أحد ولا يرضى أحد عنهم، وهم الخوارج الذين حكموا على هذه الطوائف جميعا بالكفر، وجردوا مرتكب المعاصي من الإسلام، وليس أكثر من مرتكبيها في ذلك الزمان.
وبعد شقاق طويل في معسكر الدولة الذاهبة تقبل الدولة الجديدة، وهي مشعبة بين فرعين: فرع بني علي وفرع بني العباس، وقد والاها من والاها في إبان الدعوة إليها باسم العلويين، ثم اتفق وجود زعيم بني العباس بالكوفة عند انهزام بني أمية، فبادر أعوانه إلى مبايعته، وذاع يومئذ أنها بيعة إلى حين انتظار إمام العلويين، ولم تمض غير سنوات حتى وضح أن العباسيين لا ينزلون عنها، وتولى الأمر خليفتهم الثاني بعد أن كان الغالب على الظن أن الخليفة الأول يوصي بها لصاحبها العلوي من أيام الدعوة ، وهو محمد «صاحب النفس الزكية». فنشط محمد لها وآزره العديد الجم من الأهواز والعراق، واقتحم أخوه إبراهيم البصرة فدان له أهلها، وتمت البيعة له أو كادت لولا غلبة أبي جعفر على بغداد، فلم يلبث أولياء العلويين في البصرة أن تحولوا فجأة، أو على مهل إلى ولاء العباسيين.
كل هذا وأبو نواس في سن الفهم والوعي يناهز العاشرة، ولا يفوته أن يعي ما يرى من تبدل الحال، وتبدل الولاء وتقلب الناس مع السلطان والمال.
ثم تتساند الدولة الجديدة ويسطع فيها نجم الرشيد، ثم يذهب الرشيد والناس لم يتركوا الحديث عن المستخلفين الموعودين من أئمة العلويين، ولكن الرشيد يقسم الدولة بين ولديه، ويجعل للأمين ولاية العهد بعده، ويجعل للمأمون ولاية المشرق برعاية أخيه، فلا يمضي قليل حتى ينتقض العهد بين الأخوين، ويعيش الشاعر على مقربة من قصر الملك ببغداد، فيرى سيد القصر بين خاصته وجنده وذويه، وهم يتداولون تسليمه إلى عدوه مرة بعد مرة، ويقتله من اؤتمن عليه.
وكان الشاعر يذهب حيث ذهب، فلا يلقى في الرقعة الطويلة العريضة غير الثورة وأشراطها ومقدماتها، وقسم له في مصر أن يشهد بوادرها، وأن يعين واليها «الخصيب» على تسكينها، فخاطب الشاغبين بأبياته التي يقول فيها:
منحتكم يا آل مصر نصيحتي
ألا فخذوا من ناصح بنصيب
ولا تثبوا وثب السفاه فتحملوا
على حد حامي الظهر غير ركوب
فإن يك باق إفك فرعون فيكم
فإن عصا موسى بكف خصيب
رماكم أمير المؤمنين بحية
أكول لحيات البلاد شروب
ولم تكن هذه الثورة يومئذ إلا إلى عودة، ولم تقمع بعد عودتها إلى أن حشد المأمون جيوشه بقيادته، ولم يعتمد في قيادتها على أحد من ولاته.
والذين زاملوا أبا نواس في هذا العصر كثيرون، منهم الشعراء والأدباء، ومنهم الظرفاء والندماء، ومنهم العلماء والحكماء، ولكن أحدا منهم لم يبتل بمحنة العصر كما ابتلي بها؛ وليس ذلك لأنه كان مستعدا للإباحة بتكوينه وتربيته وحسب؛ بل لأنه عاش في قلب التقلبات ولم يكن أثرها فيه مقصورا على المعية في الزمن، فأبوه كان من جند بني أمية وضاع رزقه في الجيش الأموي بقيام الدولة الجديدة، وأمه من الأهواز حومة القتال بين كل خصم وكل خصم ينازعه، ومن جراء هذه المنازعات، وحرمان زوجها الرزق الرتيب هاجرت من موطن قومها إلى البصرة، وهذه البصرة كانت حومة أخرى للدعوة السياسية جهرا وسرا وبالإقناع والإرهاب، فلما آن لوليد هذين الأبوين أن يفهم ويعقل فهم أن الدنيا كلها نفاق وشقاق، ولم يعقل من أحداثها وخلائقها إلا أنها إباحة ورياء.
العصر الثقافي
وتصطلح على الفتى محنة العصر الثقافي، ومحنة العصر السياسي في ضربة واحدة، فقد كانت مدن العراق يومئذ ملتقى كل ملة ومجتمع كل نحلة، وكان يغشى البصرة والكوفة مجوس وزنادقة، كما يغشاها أهل الهند والصين على اختلاف عاداتهم وشعائرهم، ومطالبهم في أوقات جدهم ولهوهم، وكان من حوله مشتجر المذاهب حتى في النحو والفقه بل في الفلسفة وعلوم الكلام، وما يجاورها أحيانا من حذلقة المتعالمين ودعاوى المتظرفين. وتعدى اللغط بالخلاف والجدال في هذه المسائل طائفة المتأدبين والمتحذلقين إلى سواد الناس ممن يطلع في الكتب الغريبة، أو يطلع في الكتب المأثورة، أو لا يطلع على هذه ولا تلك، ولا يرجع في اعتقاده إلى اطلاع.
فالإباحية التي نادى بها بابك الخرمي في السنة الأولى من القرن الثالث للهجرة لم تفاجئ العراق ولا جيرتها من البلاد الفارسية، ولكنها كانت نحلة يدين بها ألوف من العامة وسواد الناس في شمال العراق، ويتفلسف بها المتحذلقون من المتظرفين؛ ليجعلوا لها محلا من الفكر والطبيعة كأنها تبالي الحلال والحرام، وهي في جوهرها تستبيح كل محظور، وقد هزم «بابك الخرمي» جيشا بعد جيش من أقوى الجيوش العباسية، ولم يهزم قائد المعتصم الجبار إبراهيم بن مصعب جموع الخرميين إلا بعد أن قتل منهم ستين ألفا وشتت أكثرهم، فلبثوا في انتظار الفرصة إلى حين، ثم أغار عليهم جباره الآخر حيدر بن كاوس الإفشيني، فطاولهم وطاولوه حتى ظفر بزعيمهم، وساقه مع أهله أسارى إلى بغداد.
ولم يقض أبو نواس سنة واحدة بعد خروجه من البصرة والكوفة إلا حيث ينغمس كما أسلفنا في «قلب التقلبات»، ولا يلامسها ملامسة «المعية» في الزمن وحسب، فلما طلعت بوادر الثورة في مصر كان هو ضيف الخصيب ونديمه، ولما استفحلت الثورة في عاصمة الدولة كان هو ضيف الأمين ونديمه، ولما أقصاه الأمين عنه حذرا من وصمته كان ذو الرئاستين - داعية المأمون - يصف القوم جميعا فيقول: إنهم «أهل فسق وفجور وخمور وماخور.»
بل كان رهط الزندقة قاطبة يقيم حيث أقام أبو نواس.
ومن آفات الإباحة في العصر الثقافي ما يصيب أبا نواس وأضرابه خاصة، فيغريهم بالإباحة حيث لا يغرى بها كل نابت في ذلك العصر، أو مطلع على مذاهبه الثقافية.
فالهوس بالإباحة - احتجاجا على نفاق العلية وأرباب المقامات - إنما يعتري أبا نواس وأضرابه؛ لأنهم يرشحون أنفسهم بحكم ثقافتهم لأرفع المناصب وأشرف المجالس وأوجه المراسم، فهم أكفاء أهلها بالثقافة والدراية، أو أرجح منهم كفاءة وكفاية، ولكنهم يصدون عنها ويرون من أهلها الاحتجاز عنهم، والاعتزاز عليهم بسمتهم ومهابتهم، فلا يلعجهم شيء كما يلعجهم الولع بهتك ذلك الحجاز، وتلويث ذلك السمت واستباحة ذلك الذمار.
فلا يعاني الوضيع الجاهل مثل هذا الدافع العنيف إلى استباحة الوقار الذي يتدثر به سادة المجتمع، ولا يعاني الوجيه العالم دافعا مثله؛ لأن وقار المجتمع وقاره، وسيادة العرف سيادته. وإنما يعانيه أشد المعاناة وضيع يتسامى إلى الوجاهة بحقها، ولا يزال مذودا عنها، منظورا إليه بين أهلها من عل وإن ضارعهم في مراتبها ومراسمها.
وعلى هذا الرفرف المضطرب بين الضعة والوجاهة كان أبو نواس.
لا حرمة له بين الحرمات، فما له يغار عليها من الإباحة والابتذال؟!
ولا نعرف اسما أصدق من اسم الهوس يطابق ذلك الولع بعرض الإباحة، والتحدي بها، كما اشتهر بها أبو نواس غير مزاحم في هذه الشهرة بين أبناء عصره.
فلا يكفي لإغراء المرء بهذا الولع أن يكون صاحب مذهب في الزندقة، فقد يعتقد الزنديق استحلال المحرمات فيبيحها لنفسه، ويقارفها سرا أو لا يعنت نفسه بالتستر والتجمل، ثم لا يزيد على ذلك.
ولا يكفي لإغرائه بذلك الولع أنه يتحدى ذوي الوقار؛ لأنهم يحتقرونه ويترفعون عليه بسمتهم وكبريائهم، فإن المرء إذا تسامى إلى الرفعة ونبذه أهلها قد يضطر المغيظ المحنق إلى هتك الستار عن ريائهم، والاستخفاف بصيانتهم وهو يود لو لم تلجئه الضرورة إلى هذا المأزق المكروه، وفرق بعيد بين هذا التحدي المستنكر وبين ارتياح المرء إلى عرض الإباحة كأن العرض غرض مقصود لذاته، وكأنه لذة أمتع من اللذات التي يستبيحها.
وقد كان أبو نواس يتقي من حسن السمعة ما يتقيه الإنسان السوي من مذمتها، وقد أشرنا إلى طرف من كلامه في ذلك عند الكلام على النرجسية، ونشير هنا إلى نادرة هي جماع النوادر في هوى العرض وشهرة السوء. رواها ابن منظور في أخباره فقال: إن إخوانا له أشاعوا أنه تاب ونزع عما كان عليه من الفسوق والخمر، فأقبل الناس يهنئونه، فجعل يكذب ذلك ويقول: والله أنا شر مما كنت، فلما كثر ذلك عليه دعا بخمار يهودي غلام، وأجلسه في جانبه ومعه خمر، فكلما جاء من يهنئه يقول لليهودي قبل أن يتكلم: صب لي من خمرك، فيشرب قدحا ثم يقبل اليهودي، ويقول للذي جاء يهنئه: قد رأيت صحة التوبة! ثم قال في ذلك:
قالوا: نزعت ولما يعلموا وطري
في كل أغيد ساجي الطرف مياس
كيف النزوع وقلبي قد تقسمه
لحظ العيون ولون الراح في الكاس
إذا عزمت على رشد تكنفني
رأيان قد شغلا يسري وإفلاسي
فاليسر في القصف واللذات أخلسها
والعسر في وصل من أهوى من الناس
لا خير في العيش إلا في المجون مع الأ
كفاء والحور والنسرين والآس
ومسمع يتغنى والكئوس لها
حث علينا بأخماس وأسداس
يا موري الزند قد أعيت قوداحه
اقبس إذا شئت من قلبي بمقياس
فليس هذا ولع المتمذهب بزندقة ولا ولع المضطر على رغمه، وإنما هو هوس المغلوب على طبعه منحرفا عن الخلق السوي في كمين هواه.
والانحراف الوحيد الذي يفسر هذا المرض في جميع أعراضه هو النرجسية، أو الغرام بالذات.
فداء أبي نواس هو النرجسية بدخائلها وتوابعها وخفاياها وألوان شذوذها.
وليس داؤه الشذوذ الجنسي بمعنى الشغف بأبناء جنسه، والإعراض عن المرأة، فإنه لم يكن يعرض عن المرأة، وليس الشذوذ الجنسي بهذا المعنى دافعا إلى العلانية والإباحة، وعلماء الأمراض النفسية يدرسون حالتين من أحوال هذا الشذوذ لكل منهما أسبابها وعوارضها، وعلاقتها بسلامة البنية إجمالا وبالغدد الصماء على التخصيص، ولكل منهما كذلك ملابستها البيتية والاجتماعية، فلا يتشابه الشاذ الفاعل والشاذ المنفعل بالملامح والسمات، ولا بالأخلاق أو عوامل النشأة البيتية والاجتماعية، ثم لا يتشابهان في العلاج النفسي عند الأطباء المختصين.
والقرائن التي تفسر إحدى الحالتين من الشذوذ لا تفسر الحالة الأخرى، بل لعلها تناقضها وتبطلها، فلا يمكن أن يجتمعا إلا في شذوذ واحد هو شذوذ النرجسية، بل تجتمع معهما في النرجسية هوى المرأة وغير هذا الهوى من العادات المريضة كالدلك أو جلد عميرة، وقد كان أبو نواس أول من لهج به من الشعراء، ونظم فيه لمناسبات لا داعي لاستقصائها، وهذا الدلك من أعراض المتعة النرجسية، حيث يستخدم النرجسي خياله لتشخيص ذاته
Autoerotic Gratification . •••
وجملة القول: أن هذه الآفة تفسر كل عادة من عادات الحسن بن هانئ، وكل خبر من أخباره وكل نزعة من نزعاته: تفسر غرامه الفاعل والمنفعل، وتفسر غرامه بالنساء وكل ما عرف عنه من الشذوذات الجنسية، وتفسر ولعه بالعرض والعلانية، واستهتاره بسوء القالة. لأن هذا كله يتولد من تشخيص الذات بالصورة التي يستملحها النرجسي ويتخيلها في خوالجه الجنسية، ومن هيامه بالعرض والعلانية، ولفت الأنظار إلى «الذات» وتقرير وجودها بالتحدي والمخالفة، أو ما يسمونه في التعبير الشائع المكايدة، ويوشك أن يقصروه على الشواغل الجنسية دون غيرها.
وكلما أمعن الباحث النفسي في دراسة هذه الشخصية بدا له أنها من كل وجه «شخصية نموذجية» في بابها، وأنها «لقطة» لا تظفر بها المشرحة النفسية في كل دراسة، ففيها أثر التكوين المولود وأثر البيت، وأثر البيئة الاجتماعية وأثر العصر من جانب السياسة وجانب الثقافة، ولديها تثبت العلامات التي يتشكك فيها النفسيون إذا طرأت منفردة متفرقة لا تتصل بالقرائن الأخرى، فإذا اتصلت جميعا كما اتصلت في هذه الشخصية النموذجية، فهي أدل ما تكون على أعراضها وآفاتها.
الشعر والشيطان
الشيطان
للشيطان تاريخ قديم مع الشعر، وموقع متغلغل في الدراسات النفسية، وأولها دراسة الدخائل المرضية.
فنحن نعلم من أدب الجاهلية قصة أولئك الشياطين الذين يصحبون الشعراء، ويوسوسون لهم بدقائق المعاني وخفايا الأفكار التي لا ينفذ إليها الناس بغير معونة الجن، ونعلم من شعر النابغة أن الجن هي التي بنت لسليمان بن داود هياكل بعلبك كما قال:
إلا سليمان إذ قال المليك له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ولكن الشيطان هنا شيطان فني أو أستاذ فنان لا شأن له بوساوس الضمائر ووساوس الأخلاق، وكل شأنه أن يصنع ما يعجز الإنس عن صنعه لدقته أو ضخامته وفخامته، وقد كان أرباب الفصاحة كما قال أبو العلاء:
كلما رأوا حسنا عدوه من صنعة الجن
هذا الشيطان «الفني» لا يعني أصحاب الدراسات النفسية، ولا مدخل له في الوساوس المرضية، إنما يعنيهم الشيطان «الأخلاقي» الذي يرمزون به لحالة من حالات الضمائر على سواء أو على عوج؛ لأنهم يرمزون به أبدا لقيمة وجدانية تتشخص في ضمير الإنسان على نحو من الأنحاء.
وعلى هذا لم يكن الشيطان عندهم شيطانا واحدا بل عدة شياطين، وهم يصاحبون الشعراء أيضا في هذا المجال، ولكن الآية في هذا المجال معكوسة يقوم فيها الشعراء بصنع شياطينهم على الصورة التي يتخيلونها، فكل شيطان هو بطل يصوره الشاعر كما يصور أبطال ملامحه وتواريخه، ويكاد كل شيطان من هذا القبيل أن يعرف باسم شاعره المختار. فهناك الشيطان رمز الكبرياء والتمرد، وقد صوره الشاعر الإنجليزي ملتون
Milton
في فردوسه المفقود، وصوره الشاعر الإيطالي
Carducci
في نشيده إلى إبليس، وأجمع النقاد على أن الشاعرين قد صوراه مريدا متكبرا ثائرا؛ لأنهما عاشا في إبان ثورة عنيفة، فوضعا على لسانه الكلام الذي يريدانه ويخفيانه في مضامين القول أو يعلنانه.
ومع هذا الارتباط بين ثورة إنجلترا وشيطان ملتون، وبين ثورة إيطاليا وشيطان كروتشي، يرى النقاد أن هذين الشيطانين نسخة مقتبسة من أقدم الشياطين المتمردين في آداب العالم المحفوظ، وهو الرب اليوناني القديم برومثيوس
، الذي تمرد على رب الأرباب زيوس؛ ليعلم أبناء آدم ما أخفاه الأرباب عنهم، ويتخذ من هؤلاء الآدميين تلاميذ له ومريدين.
وملتون وكردوتشي مسيحيان، ولكن النقاد يقولون: إن الشيطان في شعرهما أقرب إلى صورة برومثيوس من الصورة التي مثلها العهد القديم لإبليس الرجيم.
وعلماء النفس يستنبطون من صورة برومثيوس والنسخ المنقولة عنها أن التمرد عريق في طبيعة الإنسان.
وهناك عدا الشيطان الذي يرمز إلى التمرد والكبرياء شيطان يرمز إلى السحر، والمعرفة الباطنية وهو مفستوفليس بطل رواية فوست من نظم جيتي شاعر الألمان.
واسم مفستوفليس على الأرجح منحوت من ثلاث كلمات يونانية بمعنى الذي لا يحب النور؛ لأنه يتعلم المعرفة ويعلمها كأنها ضرب من التجسس في الظلام على الأسرار الإلهية، فهو يلتمسها في السحر والطلاسم، ويجعلها ألغازا يتولى حلها لمن يشاء.
وهذا الشيطان كما صوره جيتي والشعراء من قبله، يصنع إكسير الحياة ليطيل به العمر، ويرد به الشباب إلى الشيوخ ويساوم به على الضمائر والأرواح، فمن باعه الحياة الأبدية أخذ بديلا منها المتعة والقوة والسيطرة بالمعرفة في حياته الأرضية.
وعند النفسيين أن هذا الشيطان متمرد متكبر كذلك الشيطان، ولكنه يتمرد بعقله من حيث يتمرد ذلك الشيطان بنفسه، وسلاحه المعرفة من حيث يتسلح زميله القديم بالشجاعة الحربية.
ولم يبتدع النفسيون المحدثون هذه الفكرة بعلمهم الحديث، إذ الواقع أن الأقدمين من أهل الثقافة اليونانية أو العبرية كانوا يحسبون المعرفة كلها ضربا من التمرد والتطاول على علم الإله العليم، فاليونان الأقدمون كانوا يسمون هذا الفضول الإنساني بالهوبري
Hubris
والعبرانيون الأقدمون كانوا يسمون الشجرة، التي أكل منها آدم بشجرة المعرفة، ولا يحمدون من الإنسان أن يتطاول إلى علم كعلم الإله.
فالتمرد خلة مشتركة بين شيطان ملتون وكردوتشي وشيطان جيتي، وقد فضل جيتي شيطان المعرفة؛ لأنه كان في عصر النهضة العلمية ببلاده، وفضل الشاعر الإنجليزي والشاعر الإيطالي شيطان الغضب والتحدي؛ لأنهما كانا يغضبان ويتحديان، ويمثلان ثورة الأمتين على سلطان الملوك وسلطان الكهان.
وتزاد على هاتين «الشخصيتين» الشيطانيتين صورة أخرى من قريحة شاعر شرقي، يتخيلها في بعض أحلامه ويرينا فيها الشيطان فاتنا وسيما يكذب بملاحته أقاويل أبناء آدم عن دمامته وقبحه؛ لأنهم مطرودون موتورون!
ذلك الشاعر الشرقي هو (السعدي) صاحب البستان والجلستان، وأكثرهما مترجم إلى اللغة العربية.
فمن قصائده تلك القصيدة التي يتحدث فيها عن حلم رآه كما زعم أو كما تخيل، فيقول:
رأيت الشيطان في حلم، فيا عجبا لما رأيت.
رأيته على غير ما وهمت من صورة شنعاء تخيف من ينظر إليها.
قامة كفرع البانة، عينان كأعين الحور، طلعة كأنها تضيء بأشعة النعيم!
قاربته وسألت: أحق أنت الشيطان المريد؟ أحق ذاك ولا أرى ملكا له جمال محياك؟ ولا عينا قد نظرت إلى شبيه سيماك.
ما بال أبناء آدم يتخذونك لهم ضحكة فيما يصورونك؟
وفي وسعك أن تجلو لهم وجها كصفحة البدر، ونظرة تتهلل ببهجة الرضوان؟ وابتسامة تشرق بالنعيم؟
أولئك الرسامون يبغضونك إلى العين، وحمامات الإنس تكشفك لنا في صورة تنقبض لها القلوب!
ويقولون لي: إنك كالليل البهيم.
وما أرى أمامي إلا الصباح المنير. •••
سألت وتسمعت.
فتحرك الحلم الساحر، وترفع له صوت فخور.
ولاحت على طلعته كبرياء، وقال:
لا تصدق يا صاح أنه مثالي ذاك الذي رأيت فيما يمثلون.
فإن الريشة التي ترسمني تجري بها يد عدو حسود.
سلبتهم السماء، فسلبوني الجمال.
وهذه صورة للشيطان لا نستغربها من مصورها، فقد كانت للسعدي طبيعة يمتزج فيها التصوف بالحكمة العملية، وقد طاف الرجل أقطار المشرق وجاس خلال فارس والعراق والهند، وعاش بين الوشايات وقصور الأمراء والوزراء، ورأى أناسا بعد أن سمع عنهم وسمع عن أناس بعد أن رآهم، فخرج من سياحاته وتجاربه، وهو يعلم ما وراء الثناء وما وراء المذمة، وشعاره في الحياة «ألا تصدق كل ما يقال»، ولا شك في أنه لم يصور الشيطان على تلك الصورة التي تخيلها أو حلم بها إلا بعد أن رأى الشياطين من الإنس في أجمل صورة، وقاس الأمر بعقله فخطر له أن الشيطان خادع محتال، وأنه يخدع الناس ويستهويهم بوجه يقابلونه بالنفور والإعراض.
وتزاد بعد هذه الشخصيات الشيطانية المتباعدة، أو المتقاربة شخصية أخرى يعدونها مثالا للشيطان الذي يخلقه الشاعر على صورته، وذلك هو شيطان الشاعر الروسي لرمنتوف
Lermentov ، الذي عاش في أوائل القرن التاسع عشر، وسمع من بعيد بمقلقات الفكر في غرب القارة الأوروبية.
فهذا الشيطان الذي صوره لرمنتوف هو لرمنتوف بعينه مزيدا عليه ما يتمناه ولا يناله لأنه إنسان، فإن الشيطان يتشكل بما شاء من الأشكال ويظهر للعيان أو يتوارى كما يشاء، وقد يتوارى عن قوم ويبدو لغيرهم وهم في مجلس واحد.
وهذا الشيطان مسكين معرض للغواية باختياره، فهو يحب فتاة من الإنس ويتراءى لها متجملا في أبهج حلله، فتهواه وتكاد أن تجفو خطيبها من أجله، ثم يغار الشيطان من ذلك الخطيب فيقتله، وينقل جثته إلى الفتاة لتوقن من وفاته وتنساه، فتنقلب الآية وتحزن عليه حزنا يحجب عن عينيها محاسن الحياة، فتأوي إلى الدير وتنذر الرهبانية مدى الحياة. ويجن جنون الشيطان فيلاحقها ويتصدى له الملك الحارس عند باب الدير وتصطرع قوة الشر وقوة الخير، فينهزم الملك وينتصر الشيطان، وينفذ إلى حجرة الفتاة فيملك الجسد وتصعد الروح إلى السماء.
ولم يتصرف لرمنتوف كثيرا في نقل هذه الصورة من ذات نفسه، ولم يبتعد بالحادثة كلها عن المكان الذي أقام فيه وهو يكتب القصة، فقد أجراها في بلاد القوقاز حيث كان يقيم منفيا مغضوبا عليه.
هذه نماذج من الشياطين، بين نموذج الشيطان المتكبر المتمرد ونموذج الشيطان الوسيم القسيم، ونموذج الشيطان الساحر الساخر، ونموذج الشيطان الخادع المخدوع.
ولعه بالشيطان
وقد كان أبو نواس كثير اللهج بذكر الشيطان، كثير التعويل عليه في غواياته ومغامراته، فأي هذه الشياطين هو شيطانه «المختار؟» وأي أثر لشخصية أبي نواس ذلك الشيطان؟
إن شيطان أبي نواس هو الشيطان الذي يريده أبو نواس، أو هو الشيطان الذي يلزم أبا نواس.
ففيه كل خلة من الخلال بالقدر الذي ينتفع به أبو نواس، فيه التيه والخبث والعلم والحلية والظرف على حسب الطلبة الموقوتة والحاجة العارضة، وكأنه لم يخلق إلا لأبي نواس خاصة، ولا عمل له إلا أن يرضي أبا نواس ولو خالف مهمة حياته، وهي الإغراء بالمعاصي.
فمن مهمة إبليس أن يغري الناس بشرب الخمر ما استطاع، ولكنه مطالب عند أبي نواس بأن يكف عنها عذاله، ومن يترفع عن مشابهتهم إياه في تعاطيها:
ناديت إبليس ثم قلت له:
لا تسق هذا الشراب عذالي
وإبليس في صورته عند أبي نواس تياه خبيث:
عجبت من إبليس في تيهه
وخبث ما أظهر من نيته
وهو في صورته عنده عليم فقيه يستنبئه فيفتيه:
إني قصدت إلى فقيه عالم
متنسك حبر من الأحبار
متعمق في دينه متفقه
متبصر في العلم والأخبار
قلت: النبيذ تحله؟ فأجاب: لا
إلا عقارا ترتمى بشرار
قلت: السماع فما علمت؟ أجابني
لا تعدلن عن ماجن غيار
قلت: الصلاة؟ فقال: فرض واجب
صل الصلاة وبت حليف عقار
أجمع عليك صلاة حول كامل
من فرض ليل فاقضه بنهار
قلت: الصيام؟ فقال لي: لا تنوه
واشدد عرى الإفطار بالإفطار
إلى أشباه هذه الفتاوى الإبليسية.
وهو عنده ظريف يعينه على فساده:
لم يرض إبليس الظريف فعالنا
حتى أعان فسادنا بفساد
ولكنه في كل أولئك إبليس خاص بأبي نواس، يخدمه على الطلب ويؤثره بالخدمة ويذلل له من يعصيه:
فرده الشيخ عن صعوبته
وصار قوادنا ولم يزل
وكأنما خلق إبليس لأبي نواس على تفضيل «المزاج النرجسي»، الذي يتذلل ويتأبى، ولا يملك إلا أن يجاريه في دلاله وتأبيه.
وليستحضر القارئ صورة طفل مدلل يسوم أبويه ما يرضيه وما يغضبه، ففي أية صورة يتمثله؟
إنه إذا شاء أن يهدد أبويه أنذرهم لا يأكلن الطعام، ولا يشربن الدواء ولا يدخلن الحمام حتى يرى ما يشتهيه بين يديه، وإنه ليسوق الحران أحيانا، فيرفض كل شيء ويلوي وجهه عن كل سلوى.
أليس هذا هو أبا نواس بعينه حين يهدد إبليس وينذره:
إن أنت لم تلق لي المودة في
صدر حبيبي وأنت مقتدر
لا قلت شعرا ولا سمعت غنا
ولا جرى في مفاصلي السكر
ولا أزال القرآن أدرسه
أروح في درسه وأبتكر
أليس هذا هو أبا نواس بعينه وهو يزعم التوبة، ويتجنى على إبليس فيأبى كل ما يبذله له من شهوة ومتاع:
هل لك في عذراء ممكورة
يزينها صدر لها فخم
ووارد جثل على متنها
أسود يحكي لونه الكرم
فقلت: «لا» قال: فتى أمرد
يرتج منه كفل فعم
كأنه عذراء في خدرها
وليس في لبته نظم
فقلت: «لا» قال: فتى مسمع
يحسن منه النقر والنغم
فقلت: «لا» قال: ففي كل ما
شابه ما قلت لك الحزم
ما أنا بالآيس من عودة
منك على رغمك يا فدم!
وينم أبو نواس على أخفى الخفايا بين جوانحه حين يعجب من تيه إبليس على آدم ثم خدمته لشهوات أبنائه، أو بعبارة أخرى لشهوة ابنه أبي نواس خاصة:
عجبت من إبليس في تيهه
وخبث ما أظهر من نيته
تاه على آدم في سجدة
وصار قوادا لذريته
أو على الأصح أنه قد صار قوادا «خصوصيا» لأبي نواس:
فرده الشيخ عن صعوبته
وصار قوادنا ولم يزل
فمن هنا ننتهي إلى عقدة العقد في طوية الشاعر، وقد أسلفنا أن مثله لا يتعرض كثيرا للعقد النفسية؛ لأنه يبوح برذائله ولا يكتم أقبحها وأفضحها، فلا سبيل للعقد النفسية إلى طويته من قبل هذه الرذائل، ولكن مشكلة النسب المدخول هي العقدة التي غلبته، فكانت من دوافعه إلى إدمان الخمر ومن بواعث الاحتيال عليها بالحيل الملتوية التي يصطنعها «مركب النقص» في أمثال هذه المشكلة.
فبماذا يفخر الفاخرون بالآباء من الآدميين قاطبة أكثر من أنهم أبناء آدم؟ ومع هذا يتيه إبليس على آدم، ولا يتيه على ابنه «أبي نواس» خاصة حين يخدمه، ويكاد يفرغ لخدمته قبل سواه.
بل مع هذا يأبى إبليس أن يسجد لآدم، ولا يأبى أن يسجد للحسن بن هانئ! كما جاء في حديث والبة: «ترى غلامك الحسن بن هانئ؟ قلت: ما شأنه؟ قال: إن له لشأنا، فوالله لأغوين به أمة محمد، ثم أرضى حتى ألقي محبته في قلوب المرائين من أمته وقلوب العاشقين لحلاوة شعره، قال والبة: فعلمت أنه إبليس، قلت: فما عندك؟ قال: عصيت ربي في سجدة فأهلكني، ولو أمرني أن أسجد لهذا ألف سجدة لسجدت».
ورواية القصة على هذا النسق أليق رواياتها بسياقها، وسواء كان والبة قد أوحاها إلى غلامه، أو كان غلامه قد أوحاها إليه، فقد رسخت في ذهن الغلام وأعجبته وارتفعت به هواجس أحلامه وأمانيه إلى الغاية القصوى من الفخر بالآباء، وهل بعد آدم غاية يرتفع إليها أبناء آدم وحواء؟
الشيطان ومذهب فرويد
ويدعونا الكلام عن الشيطان وعقدة الأدب، أو النسب إلى استطراد في مذهب «فرويد» حول هذا الموضوع، يدور على قصة مصور من أبناء القرن السابع عشر، فقد أباه وحالف الشيطان ودفعته إلى هذه المحالفة الشيطانية تلك العقدة النفسية التي يسميها فرويد بعقدة أوديب، ويقول في شرحها: إنها عقدة تتولد من حب الطفل لأمه وغيرته عليها من أبيه، ويكاد فرويد يزج بهذه العقدة في تعليل التاريخ الإنساني من أوله غير قانع باستخدامها في تعليل المسائل الفردية، والأزمات الوجدانية التي تعتري هذا وذاك من حين إلى حين.
وعقدة أوديب في رأينا لا تؤخذ جملة ولا ترفض جملة. إذ ليست كل غيرة على الأب غيرة جنسية، وبخاصة حين تكون الأم هي كل شيء في حياة الطفل الرضيع، فيغار عليها غيرة على حظوته وغيرة على طعامه وغيرة على سلامته، وغيرة على كل شيء يحسه ويدركه، وقد رأينا كلابا تغار من كل شيء يعنى به صاحبها، ومن كل أحد يدلله أمامها، ولا تختلف هذه الغيرة باختلاف الذكورة والأنوثة، ولا باختلاف الحياة والجماد، وإذا كان الجنس يفسر كل شيء على رأي فرويد، فهو لا يفسر شيئا على الإطلاق، ولا يميز لنا بين دافع ودافع من دوافع الحياة.
ومن ضعف مذهب فرويد في هذه النقطة أنه يفترض حينا أن الطفل الذكر يغار من أبيه على أمه، ويفترض حينا آخر أنه يغار من أمه على أبيه، ويحب أن يستأثر بالأب استئثارا جنسيا كاستئثار الزوجة بالزوج، ثم لا ينجح أقل نجاح في التفرقة البيولوجية «الحيوية»، أو النفسية بين الطفل الذي يغار من أبيه على أمه، والطفل الذي يغار من أمه على أبيه.
وهذا الشطط في تعليلات فرويد وتخريجاته يعيبه عليه تلاميذه قبل العلماء المعارضين له في أساس مذهبه، فيرى «أدلر
Adler » أن عقدة أوديب ليست غريزة أساسية تستقر في الوعي الباطن لكل وليد، وإنما هي ميل عارض يحدثه سوء التصرف من بعض الآباء وبعض الأمهات، ويرى «ينج
Jung » أن الطفل لا يدرك في أمه صفة جنسية، وأن «عقدة أوديب» إنما تستحكم عند مفارقة الفتى لبيت الأسرة الذي عاش فيه بين أبويه، فإن لم تشغله في هذه الآونة وشيجة روحية لجت به علاقته بالبيت، ولم يستطع أن يغفل عن الفارق بين جو الأسرة بحنانه وعطفه، وجو العالم الخارجي بقسوته وعنفه، ودارت نفسه حول شعوره بأمه أو شعوره بأبيه، وقد وضع «ينج» عقدة «إلكترا
Electra » إلى جانب عقدة «أوديب» خلال تفسيره لما يشاهد من ميل البنات إلى الآباء وميل البنين إلى الأمهات.
أما «سليفان
Sullivan »، فلعله أكثرهم توفيقا في تفسيره لحب البنات للآباء وحب البنين للأمهات، وهو يرد ذلك إلى سلوك كل من الأبوين نحو الطفل المخالف لجنسه، فالأب لا يتدخل مع بناته في الخصوصيات والأم لا تتدخل مع أبنائها الذكور فيما يقابل هذه الخصوصيات عندهم، ويؤدي هذا إلى استخفاف البنات لوطأة الآباء وشعورهن بالأمان معهم، كما يؤدي إلى استخفاف البنين لوطأة الأمهات، وشعورهم بالأمان معهن، وإذا شاب هذا الشعور مس خفيف من النظرة الجنسية، فهو عارض لا يتعمق إلى مكمن الغرائز في باطن كل إنسان.
فعقدة أوديب قابلة للتفسير بتخريجات كثيرة غير العاطفة الجنسية، وهي في القصة التي نسرد خلاصتها صالحة للمقارنة بين بطلها وبين أبي نواس؛ لأنها تشتمل على عقدة الأب ومحالفة الشيطان، وبطلها فنان يتعاطى الخمر، ويكثر منها أحيانا فتتجسم أمامه الرؤى والأشباح.
تناول فرويد موضوع هذه القصة في تقرير مفصل كتبه سنة 1923، وبناه على وثيقة مأخوذة من دار المحفوظات الإمبراطورية بمدينة فيينا فحواها أن المصور «كريستوف هايتزمان» من أهالي بافاريا عاهد الشيطان، وكتب معه عقدا موقعا بالمداد الأسود، ثم عقدا موقعا بالدم على أن يبيعه روحه ويسعد بمعونته، وحدث ذات يوم (29 أغسطس سنة 1677) أن هذا المصور كان يصلي في الكنيسة، فسقط مصروعا وجيء به إلى الأسقف، فاعترف له بتلك المعاهدة وتوسل إليه أن يسأل السيدة العذراء أن تعتقه من أوهاق الرجيم، وتسترد منه الوثيقة التي تسلط بها عليه، ثم رأى المصور بعد فترة قضاها في التوبة والتكفير أن الشيطان جاءه بوثيقة الدم، وحفظ عنده وثيقة المداد الأسود، فشفى من داء الصرع برهة ثم عاودته النوبات، وتمثلت له في خلالها الأطياف المقدسة من عليين، ووقع في روعه أنها لا ترضى عنه ما بقيت في حوزة الرجيم تلك الوثيقة السوداء.
ويستدل من الأوراق المحفوظة على سر هذه المعاهدة، وهو حالة اليأس والهبوط التي استولت على الفتى بعد فقد أبيه فحرمته لذة الإقبال على العيش، ثم حرمته فوق ذلك قدرته على إتقان فنه، فاضطربت موارد رزقه وغامت على عقله غيمة الخوف والتشاؤم، وظهر له الشيطان في إبان هذه الأزمة. فساومه على روحه، وأطمعه في رد كل ما فقده من بشاشة العيش وبراعة الفن، فانقاد له، ولكنه رفض ما عرضه عليه الشيطان من العلم بطلاسم السحر، والمتعة بالمسرات والأموال، ولم يطلب منه إلا طلبة واحدة، وهي أن يكون ابن جسده وأن يندمج فيه روحا وبدنا بعد تسع سنين، وأن يحل في خلال هذه السنوات التسع محل أبيه.
وللقصة حواش متفرعة لخصها فرويد في رسالته، وعلق عليها فكان موفقا في جوهر تعليقاته.
قال: إن عجز المصور عن إتقان فنه بعد وفاة أبيه إن هو إلا طاعة مرجأة
Deferred obedicnce ؛ لأن أباه كان ينهاه عن الاحتراف بهذا الفن، فعصاه أثناء حياته وغام عليه تبكيت الضمير بعد موته، ففر من هذا الفن وعزفت عنه نفسه وتعذر عليه إتقان صوره، فكسدت سوقه وبارت تجارته وثقلت عليه أعباء العيش وتبكيت الضمير، فساورته الأوهام وود الخلاص، وهو يؤمن كغيره من أبناء القرون الوسطى بقدرة الشيطان على السحر والطب، فخيل إليه الوسواس أنه عاقده، واعتمد على سنده، وشخصه في صورة أبيه الذي يحنو عليه ويرعاه.
قال فرويد ما فحواه: إن شعور الابن بأبيه - ولا سيما الابن المختل كهذا المصور - هو شعور مزدوج متقابل
Ambivalent
يريه أباه في صورة الحامي الودود، وفي صورة العائق المخيف معا، فهي صورة تلتبس في باطن السريرة بصورة الشيطان المقتدر المرهوب، وما كان الشيطان عند ذلك المصور إلا بديلا من أبيه لا يبغي منه إلا الحماية والإنقاذ.
والقصة في جملتها تغري بالمقارنة بين هذا المصور وأبي نواس، فكلاهما فنان وكلاهما يعاقر الخمر وكلاهما يحالف الشيطان على نهجه.
والإغراء بالمقارنة يأتي من أوجه الشبه، ومن أوجه الاختلاف بين «الشخصيتين».
فأبو نواس لا يشعر بالكبت فلم يصبه الخبل، ولا يثقل عليه نهي أبيه عن مزاولة فنه، فلم يعجز عن قرض الشعر في حياة أبيه ولا بعد موته.
إلا أن الواضح من سيرة أبي نواس أن الشيطان كان بديلا عنده من المعلم لا من الأب، وكان كل من معلميه الذين طالت عشرتهم له في صباه فاسقا شاذا يتخذ معه شكل الشيطان في تعليمه إياه الفجور والانقياد للشهوات، فوالبة بن الحباب معلمه الشعر زنديق ماجن، وبدر الجهني البراء معلمه العطارة على هذه الخليقة من الفجور والمجون، وقد تقدم في الفصل السابق أن التلميذ النرجسي يتوق إلى أستاذ يكون عنده بمثابة العزيز المدلل
، ويتطلع إلى مكانة خاصة لديه، فهذا الشيطان الذي كان أبو نواس يسميه شيخه هو بديل الأستاذ حين شب عن طوق التتلمذ على والبة الشاعر وبدر العطار.
ولو كان أبو نواس يعاقد الشيطان سرا لاختبله الوسواس، الذي اختبل المصور وأوقع في روعه أنه هنالك ما بقي في يد الشيطان ذلك العقد الموقع بالمداد الأسود، وذلك العقد الموقع بالدم، ولكن أبا نواس كان يحالف الشيطان ويجهر بمحالفته، وكان يلعنه ويحسب أن اللعنة هي التحية المحببة إليه، فسلم من الخبل بالعلانية، وإن لم يسلم من كل عقدة نفسية تتعلق بالنسب كما سنرى في بيان العقدة التي ألجأته إلى إدمان السكر، والهيام بالخمر هيام المتهوس المفتون.
عقدة الإدمان
أبو نواس والخمر
نكرر هنا أن طبيعة أبي نواس لم تكن من الطبائع التي تتسلل إليها العقد النفسية؛ لأنه كان يبوح برذائله ويتكشف بها ويتعمد أن يجبه الناس بها علانية، وإنما تكمن العقدة النفسية في طوية الإنسان، أو تتسلل إليها من الكبت وطول الكتمان.
إلا عقدة واحدة هي الاستثناء لهذه القاعدة وهي عقدة الإدمان. فقد كان إدمانه الخمر هوسا، ولم يكن مجرد عادة أو لذة ذوقية، ولا بد وراء كل هوس من عقدة نفسية.
فما هي هذه العقدة التي أثبت نفسا محصنة من العقد، فغلبتها ولم تفلح فيها إباحته، ولا العلانية التي عاش فيها من طفولته إلى ختام عمره.
إنها غلبته؛ لأنها جاءته من قبل طبيعته، ونعني بها الطبيعة النرجسية.
فهي الطبيعة التي تزين للنرجسي عادات العرض والظهور، وهذه العقدة النفسية ليست مما يتقبل العرض والظهور؛ لأنها مهينة لصاحبها مذلة له بين قومه، وهي خسة النسب في عصر الأنساب والأحساب.
وربما خطر لبعضهم أن إنسانا مثل أبي نواس في مجونه واستخفافه لا يعيى بمثل هذه العقدة، ولا يتحرج منها وهو لم يتحرج قط من منكر أو رذيلة، لكنه عند النظر إليه خاطر خاطئ لا يثبت على التأمل والمراجعة، فإن احتمال الهوان يهدم النرجسي، ولا يبقي له بقية يعتصم بها، وأما احتمال الملام والنقد فقد يجاري طبيعته إذا كان فيه معنى التحدي ولفت الأنظار، وقد يهزأ النرجسي بالملام والنقد مع علمه برياء اللائمين وتذبذب الناقدين، واعتقاده أنهم مثله في الفجور وإن خالفوه في الظهور.
وينبغي أن نعرف قوة هذه العقدة النفسية في زمان أبي نواس، خاصة قبل أن نعرف السر في غلبتها عليه، وعلاجه لها بإدمان السكر والتهافت على عشرة الندماء.
فالعصر الذي عاش فيه أبو نواس كان معترك الأنساب والأحساب بين كل إنسان، وكل إنسان في الدولة الإسلامية.
هب فيه الشعوبيون يفاخرون العرب، ولا يعترفون لهم بفضل غير فضل النبوة، ثم يغمزون فضلهم هذا بتعييرهم بما جنوه على عترة النبي - عليه السلام - ومفاخرتهم إياهم بانتصارهم لتلك العترة، وتشيعهم لآل البيت من العلويين والعباسيين، ولم يزل هؤلاء الشعوبيون يفخرون على العرب بالحضارة والصناعة، والترف والكياسة حتى قال قائلهم: «لا يفلح العربي إلا ومعه نبي يوحى إليه!»
والعرب أنفسهم كانوا فيما بينهم يتنازعون الفخار بين قطحان وعدنان، أو بين عرب الشمال وعرب الجنوب، وكانت كل قبيلة من القحطانية تفاخر القبائل الأخرى بالكثرة والعزة، وسوابق التاريخ ومكارم الآباء والأبطال، وكذلك كانت تفعل كل قبيلة من قبائل العدنانيين.
بل كان أبناء البيت النبوي العلويين والعباسيين يتنافسون على شرف النسب، ويرى أبناء العباس لإخوتهم شرفا لا يرونه لأبناء علي؛ لأن العباس عم وعليا ابن عم، فيقابلهم أبناء علي بالانتماء إلى فاطمة الزهراء، وهي بنت النبي - عليه السلام.
وتكاد لا تسمع بأحد في ذلك العصر إلا سمعت حوله بفخر نسبه أو بمنازعة له عليه، ولا استثناء في ذلك للخلعاء المتبذلين بل لعلهم أحرص على دعوى النسب من غيرهم على سبيل التعويض والعزاء.
فهذا والبة بن الحباب أستاذ أبي نواس لم يهبط أحد إلى حضيض المهانة والزراية، كما هبط بين سواد الناس وبين زملائه من الشعراء والأدباء، وكان مع هذا يستطيل عليهم بنسبه العربي، ويدعو شاعرا كأبي العتاهية إلى هجوه وإنكار نسبه، والنزول به إلى طبقته، أي: طبقة الموالي المعترفين بحرمانهم من عراقة النسب ومن الأصالة العربية، فيقول له فيما قال:
وابن الحباب صليبة
1
زعموا
ومن المحال صليبة أشقر
ويقول:
هلم إلى الموالي الصي
د في سعة وفي رحب
فأنت بنا لعمر الله
أشبه منك بالعرب
وقد تلخص هذا الشغل الشاغل بالنسب في ذلك العصر حقيقة مشهورة في علم الأنساب، وهي ظهور أول كتاب عن الأنساب في تلك الفترة لإمام النسابين ابن الكلبي صاحب جمهرة الأنساب المتوفى حوالي سنة خمس ومائتين للهجرة، وقد ظهر في مدينة الكوفة وهي من بيئات أبي نواس.
ذلك هو مبلغ شغلان العصر بالنسب وهو المهم في هذا الصدد؛ لأنه هو مقياس قوة العرف في هذه المسألة التي تمتحن بها طبيعة أبي نواس، وكلها تشوف إلى العرض والظهور.
أما مبلغ شغلان أبي نواس بها فهو من التواتر والتواطؤ بين الشواهد والأعراض، بحيث تكفي فيه الإشارة دون الإسهاب.
فلا خفاء بلهفة أبي نواس على النسب العربي يتلمسه تارة في هذه القبيلة، وتارة في غيرها من اليمانية أو النزارية حيثما اتفق مقامه، وتفتحت له أبواب الدعوى والانتماء، وما كان هو يكره أن يفخر في الحانات بالنسب لو سلم له هذا الفخر بين أربابه المسلم لهم بحقه، فمن شعره في الخمريات ذلك الحوار الذي دار بينه وبين الخمار يسأله عن نسبه ويجيبه:
وخمار طرقت بلا دليل
سوى ريح العتيق الخسرواني
فقام إلي مذعورا يليي
وجوف الليل مثل الطيلسان
وقال: أمن تميم؟ قلت: كلا
ولكني من الحي اليماني
وأشد من ذلك إبانة عن هذه اللهفة المطوية في قرارة نفسه أنه كان يهجو، فلا يقع على هجاء لأحد أقبح من الأصل الخسيس كما قال للرقاشي:
والله لو كنت جريرا لما
كنت بأهجى لك من أصلكا
وكما قال للهيثم بن عدي:
الحمد لله هذا أعجب العجب
الهيثم بن عدي صار في العرب
وأدق منه في الإبانة عن طوية الشاعر قوله لحمدان بن زكريا:
ما أنت بالحر فتلحى ولا
بالعبد نستعتبه بالعصا
فرحمة الله على آدم
رحمة من عم ومن خصصا
وموضع الدقة الذي نعنيه هنا وثوبه بالنسب إلى أبى الآباء آدم وهو الذي أعجب الشاعر؛ لأن إبليس يتيه على ذريته، وداخله الوهم أن إبليس قد أبى له السجود، ولا يأبى السجود لابنه أبي نواس ألف سجدة.
وربما كان أشد من ذلك إبانة عن لهفته على النسب أنه يمدح خليفة يتسع للشاعر مجال تعظيمه، وتمييزه بالصولة والنعمة والسجايا، والسمات ما صدق منها وما كذب، فلا يرى مدحا له أبلغ من نسبه:
أبوك الذي لم يملك الأرض مثله
وعمك موسى الصفوة المتخير
وجدك مهدي الهدى وشقيقه
أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر
ومن مثل منصوريك منصور هاشم
ومنصور قحطان إذا عد مفخر
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا
وعبد مناف والداك وحمير
وفي مقطوعة غير هذه يقول في هذا المعنى:
رضينا بالأمين عن الزمان
فأضحى الملك معمور المعاني
تمنينا على الأيام شيئا
فقد بلغتنا تلك الأماني
بأزهر من بني المنصور تنمي
إليه ولادتان له اثنتان
وليس كجدتيه أم موسى
إذا نسبت ولا كالخيزران
له عبد المدان وذو رعين
كلا خاليه منتخب يماني
فمن يجحد بك النعمى فإني
بشكري الدهر مرتهن اللسان
وتنطوي هذه اللهفة في نفس إنسان لم تكن المهانة هينة عليه، بل كان تياها بطبيعته «النرجسية»:
لقد زادني تيها على الناس أنني
أراني أغناهم وإن كنت ذا عسر
وكان يهتبل الفرصة للتعالي على الذين يتعالون عليه، فكان يجلس حيث جلس ويتلقى التحية من القادة والرؤساء فلا ينهض لواحد منهم، ولم ينهض لأحد حياه غير أبي العتاهية. وفي هذا أيضا دلالة على دخيلة نفسه من هذا الجانب؛ فقد كان أبو العتاهية من الموالي، وكان في شبابه على زي المخنثين، وكان هو معاصره الوحيد من الشعراء الذي صافاه ولم يقاطعه أو يترفع عنه، ونكاد نرى أن انتماءه إلى والبة في صباه إنما كان لدخيلة كهذه الدخيلة، فإن والبة كان مطعونا في نسبه، وكان أبيض كأبي نواس - أو أشد بياضا - وأبوه أسود كأنه زرزر، كما قال أبو العتاهية:
ما لي رأيت أباك أسود غر
بيب القذال كأنه زرزر
وكأن وجهك حمرة رثة
وكأن رأسك طائر أصفر
وقد تناقضت علاقة الشاعرين بوالبة، فأبو العتاهية يهجوه؛ لأنه مثله في عقدة نفسه وأبو النواس يألفه؛ لأنه مثله في محاولة الخلاص من شبهة نسبه.
ونعتقد أن أبا نواس إنما تشبث بالكنية وترك اسم أبيه فرارا من هذا النسب المدخول، فهي مناط الدعوى عنده، ولم يكن نسبه الصحيح إلا مسبة له من السفلة والعلية على السواء.
كانت الجارية عنان تريد النكاية به فتذكر له اسم أمه جلبان، وكان الخليفة الأمين يسبه فيذكر له اسمها الآخر «شحمة»، وكان أبان ومن لف لفه من الشعراء يهجونه، فيسمون أباه «هنيا» أو النساج المتستر على حريمه وما شاكل ذلك من المثالب، التي كان يعيى الجواب عنها على تعجله بالهجاء حين يشاء، فلا جرم تساوره العقدة فلا يجد لها حلا في غير الإدمان.
لماذا يشرب الخمر؟
وللمؤرخ النفسي أن يكتفي بما تقدم للإبانة عن شدة اهتمام العصر بالنسب، وشدة اهتمام أبي نواس به في عشرته لكل طبقة من طبقات المجتمع الذي احتواه، إلا أننا نرى على الدوام أن ديوان الشاعر أصدق ترجمة لحياته الباطنية، ويصدق هذا على أبي نواس كما يصدق على سائر الشعراء المطبوعين، وهو أصدق ما يكون على خمرياته التي تفيض بدلائل العقدة النفسية، ومركب النقص الذي يساوره من انتسابه إلى كل من أبويه.
فهو يشرب الخمر؛ لأنها شراب الملوك أو الشراب العريق الذي عاش مع أجداد الأكاسرة والقياصرة، وقبل مدار النجوم:
تحيرت والنجوم وقف
لم يتمكن بها المدار
وهو يستريح إلى شربها حيث لا فخار بالآباء والأجداد بين الندامى الذين يهابونه ويتذللون بين يديه:
وإذا أنادم عصبة عربية
بدرت إلى ذكر الفخار تميم
وبنو الأعاجم لا أحاذر منهم
شرا فمنطق شربهم مذموم
وجميعهم لي حين أقعد بينهم
بتذلل وتهيب موسوم
وجنونه المتسلط عليه أن يفتتح كل خمرية، أو يتخللها بالنعي على الطلول والرسوم ومن يذكر الطلول والرسوم، ومن ذاك ما لا نحصيه:
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة
كانت تحل بها هند وأسماء
حاشا لدرة أن تبنى الخيام لها
وأن تروح عليها الإبل والشاء
له بكيت كما يبكي النوى رجل
على المعالم والأطلال بكاء
ومنه:
أعرض عن الربع إن مررت به
واشرب من الخمر أنت أصفاها
ومنه:
أيا باكي الأطلال غيرها البلى
بكيت بعين لا يجف لها غرب
ومنه:
دع الأطلال تسقيها الجنوب
وتبكي عهد جدتها الخطوب
وخل لراكب الوجناء أرضا
تحث بها النجيبة والنجيب
ولا تأخذ عن الأعراب أرضا
ولا عيشا فعيشهم جديب
فأين البدو من إيوان كسرى
وأين من الميادين الدروب
ومنه:
دع الربع ما للربع فيك نصيب
وما إن سبتني زينب وكعوب
ولكن سبتني البابلية أنها
لمثلي وإن طال الزمان سلوب
ومنه:
عد عن رسم وعن كثب
واله عنه بابنة العنب
ومنه:
يأيها العاذل دع ملحاتي
والوصف للموماة والفلاة
ومنه:
سقيا لغير العلياء فالسند
وغير أطلال مي بالجرد
ومنه:
لا تبك رسما بجانب السند
ولا تجد للدموع بالجرد
وبيت القصيد من هذا الهوس بالنعي على الرسوم والطلول إنما هو الازدراء بأهلها وبعيشهم، وفخارهم الذي عز عليه أن يجاريهم فيه، والإشادة بالخمر التي لا يدرك الكفاءة لها كل شارب، ولا يسمو الشاربون لها إلى مثل شمائل أبي نواس:
عاج الشقي على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد
يبكي على طلل الماضين من أسد
لا در درك قل لي من بنو أسد؟
ومن تميم ومن قيس ولفهما؟
ليس الأعاريب عند الله من أحد
نعم كل الأعاريب من شمال أو جنوب، وما يفخرون به من حسب حسيب وعيش جديب!
وأحيانا ينقل هذه النفرة من مفاخر القبائل والأنساب إلى لسان الخمار الذي يقصد إليه:
فقلت له: ما الاسم؟ قال: سموأل
على أنني أكنى بعمرو ولا عمرا
وما شرفتني كنية عربية
ولا ألبستني لا ثناء ولا فخرا
لا جرم تصبح المنادمة قرابة تغني عن قرابة النسب بين أناس لا يتفاخرون ولا يتعاظمون:
فذلك ما حييت له وإني
أبر بمثله من والديه
ورابعها فللندمان حق
سوى حق القرابة والجوار
ولم يخف على أحد من أبناء عصره ما كان يعنيه بالإنحاء على الطلول، وباللجاجة في هذا الإنحاء، ولم يكن هو يخفي مقصده منه وهو يتبعه بالإنحاء على الأعراب من كل قبيل، ويقابل بين الخيام وإيوان كسرى، وبين الدروب والميادين؛ فلهذا نهاه الخليفة عن الاستمرار في هذه اللجاجة وأمره بوصف الطلول، فقال:
دعاني إلى وصف الطلول مسلط
لقد ضقت ذرعا أن أجوز له أمرا
فليس اللهج بالنعي على الطلول دعوة إلى الجديد كما يتراءى من النظرة السطحية إلى ظاهر العبارة، ولم يأمره الخليفة بالكف عنه؛ لأنه تجديد ينكره، ولكنه فهمه على معناه الذي لا يفهم على سواء من هذا التهوس بتحقير الأطلال وأهل الأطلال، وخشي منه مغبته بين القبائل المتحفزة في تلك الآونة، فنهاه عنه نهيا عن هجاء سياسي لا تحمد عقباه.
وبعد فهل كان أبو نواس يتجنب بكاء الأطلال إيثارا للتجديد، أو إيثارا لمذهب كائنا ما كان من المذاهب الفنية؟ كلا، فإنه لم يدع إلى تجنبها إلا ليستطرد من ذلك إلى النعي على أهلها ومفاخر أنسابها. وإلا فمطالعه في بكاء الأطلال والديار تزيد على مطالع الشعراء من معاصريه أو المتقدمين عليه، وهذه بعض تلك المطالع المتكررة.
قال في أحدها:
هل عرفت الربع أجلى
أهله عنه فزالا
وقال في مطلع آخر:
ألا حي أطلال الرسوم الطواسما
عفت غير صقع كالحمام جواثما
وفي مطلع آخر:
لمن طلل لم أشجه وشجاني
وهاج الهوى أو هاجه لأوان
وفي مطلع آخر:
ألا لا أرى مثلي امترى اليوم في رسم
تعرفه عيني ويلفظه وهمي
وفي مطلع آخر:
لمن الديار تسربلت ببلاها
نسيتك ربتها وما تنساها
وفي مطلع آخر:
هل لديار حييتها درس
من صمم ما هتفت أو خرس
وفي مطلع آخر:
غننا بالطول كيف بلينا
واسقنا نعطك الثناء الثمينا
وفي مطلع آخر:
ألا حي أطلالا بسيحان فالعذب
إلى برع فالبئر بئر أبي زغب
وفي مطلع آخر:
ألم تربع على الطلل الطماس
عفاه كل سحم ذي ارتجاس؟
فالأطلال لا تهمه إذن إلا ليستطرد منها إلى عقدته، وإلى التنفيس عنها بالخمر كلما برمت بمفاخر النسب من تميم ومن قيس ومن أسد. وليس الأعاريب جميعا عند الله من أحد.
ومنادمة الخمر هي الوجاهة التي يسمو بها الشاعر على النظراء، وهي التي تنفث فيه الزهو والفخار بديلا من زهو السادة الأصلاء وفخار الأبناء والآباء.
نوبات السآمة
وثمة خلة أخرى من خلال الطبيعة النرجسية تعرضها لإدمان الخمر، وما إليها من عقاقير التخدير، وتلك هي نوبات السآمة التي تعاود النرجسي كلما خلا إلى نفسه وفرغ من العمل، إن كان له عمل يشغله.
فالوقت ثقيل على الطبيعة النرجسية تدفعه بكل ما تستطيع من الشواغل والملاهي، وعواطفها الموكلة بشيء واحد - وهو عشق الذات - لا تزال أبدا في حاجة ملحة إلى التنبيه والاستثارة.
وقد يتصف النرجسي بدقة الحس أو رقة العاطفة وخفة الشعور، ولكنه محروم من تلك الدوافع الحيوية المتدفقة، وتلك الطبائع العميقة التي تستجيش النفس أبدا بما يشغلها ويجدد نشاطها، ويوثق روابطها بالعالم وما فيه، فإذا ترك النرجسي لنفسه لم يجد فيها ما يملأ فراغه كله، ولم يزل متلمسا للفرجة والتسلية، والنشوة التي تلهيه وترضيه عن ذاته وتجدد لها أشواقها فيما يعنيها من فتنتها وغوايتها.
ومن ثم يتسرب حب الخمر إلى الطبائع النرجسية، فإذا أعانتها بواعث أخرى من غواية الطبع أو البيئة تمادى بها حب الخمر إلى الإدمان والإصرار عليه.
ويلاحظ في خمريات أبي نواس هذا الولع بكل ما ينبه الشعور، ويدفع السآمة ويوقع في خلده أنه مشغول بما يشغل ويثير، فهو مع السكر والسماع لا ينسى أن يمثل لنا مخافة صاحب الحان، وذعره وانتباهه من النوم في وجل وريبة، ويوشك أن يكون وصف الخوف ملازما لكل قصة من قصص السعي إلى الحانات، والبحث عن الجيد النفيس من الشراب، فيعجبه أن يرى الساقي بين الخوف والرجاء حيث يقول:
لما قرعت عليه الباب أوجله
وقال بين مسر الخوف والراجي
أو فزعا شديد الفزع كما قال:
فقام لدعوتي فزعا مروعا
وأسرع نحو إشعال الذبال
أو ممتلئا ذعرا كما قال:
فلما قرعنا بابه هب خائفا
وبادر نحو الباب ممتلئا ذعرا
ومثله قوله:
فقام إلي مذعورا يلبي
وجون الليل مثل الطيلسان
ومثله:
ففزع من إدلاجنا بعد هجعة
وليس سوى ذي الكبرياء رقيب
تناوم خوفا أن تكون سعاية
وعاوده بعد الرقاد وجيب
ومثله:
يا رب صاحب حانة قد رعته
فبعثته من نومة المتزمل
وهكذا يروقه أن نستثيره الخمر، وهو يسعى إليها وتستجيشه وهو يشربها ويستمع إلى ندمائها.
وما هو غاية الحرمان عنده؟ وما هو عقاب البخل على الخمرة بالمال؟
إنه لا شيء غير الشعور بطول الوقت وثقلة الملل حتى تكون الساعة كالحين:
واصرفنها عن بخيل
دان بالإمساك دينا
طول الدهر عليه
فيرى الساعة حينا
ولهذا نرى الشاعر يستريح إلى كر الأيام بأسمائها في شعره، كما يستريح المسافر الملول إلى عدد الفراسخ والمراجل التي خلفها وراءه، وكثيرا ما لغط قراؤه بما أراده من إحصاء هذه الأيام، ولا مراد له غير السرور بفواتها وعدها وهي تنقضي وتنصرم، وهو يشعر بعدها «بالوجاهة النرجسية»؛ لأنه لم يكن كذلك البخيل الذي طول الدهر عليه.
ومن كلامه في هذا الغرض ذلك البيت المشهور:
أقمنا بها يوما ويومين بعده
ويوما له يوم الترحل خامس
ومنه:
تترك المرء إذا ما
ذاقها يرخى الإزارا
ويرى الجمعة كالسبت
وكالليل النهارا
ومنه:
فلم تزل في صباح السبت نأخذها
والليل أجمعه حتى بدا الأحد
ثم ابتدأنا الطلا باللهو من أمم
في نعمة غاب عنها الضيق والنكد
حتى بدت غرة الإثنين واضحة
والسعد معترض، والطالع الأسد
وفي الثلاثاء أعملنا المطي بها
صهباء ما فرغتها بالمزاج يد
والأربعاء كسرنا حد سورتها
والكأس يضحك في تيجانها الزبد
ثم الخميس وصلناه بليلته
قصفا وتم لنا بالجمعة العدد
ويلحق بهذا طي الشهر والشهرين بين حانات القفص وقطربل، كما حدثوا في بعض خمرياته أنه أقام بقطربل من أول يوم في رجب إلى آخر يوم في شعبان، ثم عاد ليشرب قبل أن تثبت رؤية الهلال، ونسبوا إليه أنه قال:
لو شئت لم نبرح من القفص
نأخذها صفراء كالجص
نسرق هذا اليوم من شهرنا
فربما يعفى عن اللص
فهذا الملل وذاك الفتور من مغرياته بالشراب وإدمان المعاقرة: إلا أنه إدمان حسي لا يلزم منه أن يتهوس صاحبه بالخمر ذلك التهوس، الذي ينم على العقد النفسية ويلعج فريسته، كأنما يركبها الشيطان فلا يدعها أو يوردها المورد الذي يبغيه.
وينبغي ألا ننسى في معرض المغريات التي سولت لأبي نواس إدمان الشراب باعثا قويا نظنه إحدى هذه المغريات ظن الاحتمال والترجيح، وذاك هو سوء العيش ونقص الغذاء، وافتقار الجسم إلى الحركة والتنبيه، فإن أبا نواس قد عاش في ضنك وفاقة معظم أيامه على غير ما يتوهم المتوهمون، وكان يسمي نفسه العاشق المفلس في بعض شعره، ويبالغ فيما أنفقه على الخمر أحيانا فيروي لنا أنه أنفق عليها الثمانين دينارا التي عاد بها من مصر ممتلئ الوطاب بجوائز الخصيب، وفي كل يوم يمتلئ الوطاب هذا الامتلاء! فإذا كانت جوائز الخصيب التي كاثر بها المكاثرون لم تخلف عليه إلا هذه الدنانير الثمانين، فما الظن بأيامه الأخرى التي تفرقت بين السجن والإقصاء، وتبدل السادات والأولياء؟ تلك حال لا يستبعد على صاحبها أن يحوجه سوء الغذاء إلى استفزاز البنية بالكحل وما إليه، كأنه بديل من الفخر بالآباء، وبديل من السآمة والخواء. •••
ونرجع إلى المقابلة بين أبي نواس وأوسكار وايلد في الخلة، خلة الإدمان، تطبيقا لما أسلفناه من أن الاختلاف بينهما يثبت المشابهة كما يثبتها الوفاق.
فالشاعر الإيرلندي لا يشكو من عقدة النسب؛ لأنه من سلالة النبلاء، ولا يشكو من سوء الغذاء؛ لأنه من الأغنياء، ولا يدفع السآمة بالخمر وحدها؛ لأنه مقتدر على السياحة والتردد على المقاصف والملاهي والتشاغل بإقامة المآدب، وحضورها عند من يدعونه إليها، وليس من همه أن يتحدى الناس بالشراب؛ لأن بيئة عصره لم تكن كتلك البيئة التي كان أبو نواس يتحداها حين يقول:
ألا فاسقني خمرا وقل لي: هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
ولهذا اختلف النرجسيان في أمر الإدمان، فكان اختلافهم أدل على الآفة المشتركة بينهما من الوفاق.
طبيعته الفنية
الفن وأبو نواس
أحق الشعر النواسي بالدراسة النفسية - بعد الخمريات - هو شعره في الغزليات والنسكيات، ولكن البحث النفسي يتقاضانا قبل ذلك أن نتكلم عن طبيعة فنه على الجملة، فإننا إذا فهمنا طبيعته الفنية لم نجد صعوبة في فهم عاطفة الحب، ونوازع العقيدة كما عبر عنها بقصائد الغزل أو القصائد الدينية.
وصفوة ما يقال في طبيعة فنه أنه ظاهرة من ظواهر العرض، الذي أشرفت عليه الطبيعة النرجسية، وإذا كان الكلام عن شاعر فالعرض النرجسي والعرض الفني تعبيران مترادفان.
يواجهنا الشعر النواسي بألغاز لا تفهم حيث تتلاقى الزندقة بالنسك، ويتلاحق غزل المؤنث وغزل المذكر ويمتزج الهزل والجد، ولكننا إذا أدخلنا في حسابنا طبيعة العرض النرجسي ومشتقاته، ولوازمه لم يبق من هذه النقائض لغز يستعصي على الفهم، وأصبحت هذه الألغاز في كثير من المناسبات، وهي المفتاح الحاضر الذي يحل كل إشكال.
فالعرض الفني هو قوام شعر أبي نواس، لا يهمه أن يتغزل أو يرثي أو ينظم في النسك والحكمة، وإنما يهمه أن «يعرض» من طويته «دورا مسرحيا» يلفت النظر، وكل عروضه الفنية هي مسرحيات تتميز بالموضوع، ولكنها تتساوى في صبغة واحدة: هي صبغة التمثيل.
ولا نقصد بهذا أن شعره خلو من الشعور، بل نقصد به أن العرض هو الباعث الأول عليه، وما عدا ذلك من شعور واقعي أو شعور فني، فهو تابع من توابع الباعث الأصيل.
ولا يغيب عن بالنا أن الممثل المقتدر في فنه يستوحي شعور الدور الذي يمثله من سليقته وخياله، ولا يغيب عن بالنا إلى جانب ذلك أن «التشخيص»
Identifcation
فطرة في النفس النرجسية، يبلغ من غلبتها على الحس أن يخلع الإنسان شخصيته على كائن غيره، وهو لا يشعر بذلك كل الشعور في صميم وعيه، فليس من العسير على الفطرة الفنية المطبوعة على التشخيص أن تستوحي الشعور الذي يلائم عملها الفني، وتودعه قالب الكلام المطبوع فإذا هو مطبوع.
نظم هذه الأبيات في رثاء خلف الأحمر:
لما رأيت المنون آخذة
كل شديد، وكل ذي ضعف
بت أعزي الفؤاد عن خلف
وبات دمعي أن لا يقف يكف
أنسى الرزايا ميت فجعت به
أمسى رهين التراب في جدف
1
وكان ممن مضى لنا خلفا
فليس منه إذ بان من خلف
ولم يكن خلف الأحمر قد مات حين نظمها، وسواء كان نظمها مستجيبا لاقتراح خلف على الشعراء أصحابه، أو كان نظمها بغير اقتراح منه، فأبو نواس هو الشاعر الوحيد الذي رويت له مرثاة لخلف الأحمر في حياته، وبقية القصة في بعض الروايات جديرة بالشاعر في عبثه وسخريته، فإن خلفا على ما قيل قد استحسن أبيات الرثاء فقال له تلميذه الهازل: يا أبا محرز! مت ولك عندي خير منها، فقال خلف: كأنك قد قصرت؟ قال: لا، ولكن أين باعث الحزن؟
وندع الرثاء وهو معلق بفقيد يموت، وننظر في شعر النسك الذي لا يتوقف النظم فيه على غير الناظم، فإنما كان يطرق هذا الباب، أو يدعه كأنه دور من أدوار التمثيل يأخذ منها ما يأخذ، ويوزع منها بين زملائه ما يحبونه وما يكرهون أن ينافسهم عليه.
قال أبو مخلد الطائي: جاء أبو العتاهية إلى عندي فقال لي: إن أبا نواس لا يخالفك، وقد أحببت أن تسأله ألا يقول في الزهد شيئا، فإني قد تركت له المديح والهجاء والخمر والرقيق وما فيه الشعراء، وللزهد شوقي. فبعثت إلى أبي نواس فجاء إلي وأخذنا في شأننا، وأبو العتاهية لا يشرب النبيذ معنا، فقلت لأبي نواس: إن أبا إسحاق من قد عرفت في جلالته وتقدمه، وقد أحب أنك لا تقول في الزهد شيئا. فوجم أبو نواس عند ذلك وقال: يا أبا مخلد! قطعت علي ما كنت أحب أن أبلغه من هذا، ولقد كنت على عزم أن أقول فيه ما يتوب به كل خليع، وقد فعلت، ولا أخالف أبا إسحاق فيما رغب فيه!
فمعارض الشعر إذن في عرفه وعرف زميله أبي العتاهية أدوار توزع على حسب الحاجة إلى العرض الفني لا على حسب البواعث الصادقة من إلهام السريرة. وليس مما يفوت الناقد في هذه القصة أن أبا العتاهية كان أثيرا عند أبي نواس، وأنه دون غيره من معاصريه كان لديه في مقام التوقير والاستجابة للرجاء، وتلك إحدى العلامات على عصبية الانحراف التي تقرب بين المنحرفين كأنها من وشائج اللحم والدم، وقد كانت هذه العصبية على أشدها بين الشاعرين، وكانت القرابة بينهما في هوس الانحراف أشد من النسب المدخول، ولو كان في المقام متسع للبحث في دخيلة أبي العتاهية لفصلنا هنا أخباره ودلائل أطواره، ولكن قصة واحدة من قصصه تصور لنا هذه الطبيعة المضطربة بين المجون والنسك، فتبدو لنا من بعض جوانبها كأنها ملامح مكبرة مؤكدة من أبي نواس، فهما زميلان في أكثر من زمالة، وهذه القصة ترينا أن أبا نواس كان على حق حين قبل من أبي العتاهية أن يستأثر دونه بالزهديات.
حدث مخارق المغني قال: جاءني أبو العتاهية فقال: عزمت على أن أتزود منك يوما تهبه لي، فمتى تنشط؟ فقلت: متى شئت، فقال: أخاف أن يقطع بي، فقلت: والله لا فعلت وإن طلبني الخليفة، فقال: يكون ذلك في غد. فلما كان من غد باكرني رسوله فجئته فأدخلني بيتا له نظيفا فيه فرش نظيف، ثم دعا بمائدة عليها خبز سميذ وخل وبقل وملح وجدي مشوي، فأكلنا منه، ثم دعا بسمك مشوي فأصبنا منه حتى اكتفينا ثم دعا بحلواء فأصبنا منها وغسلنا أيدينا، وجاءونا بفاكهة وريحان وألوان من الأنبذة، فقال: اختر ما يصلح لك منها، فاخترت وشربت، وصب قدحا ثم قال: غنني في قولي:
أحد قال لي ولم يدر ما بي
فغنيته فشرب قدحا وهو يبكي أحر بكاء، ثم قال: غنني في قولي:
ليس لمن ليست له حيلة
ميسورة خير من الصبر
فغنيته وهو يبكي وينشج، ثم شرب قدحا آخر ثم قال: غنني فديتك في قولي:
خليلي ما لي لا تزال مضرتي
تكون من الأقدار حتما من الحتم
فغنيته إياه.
وما زال يقترح علي كل صوت غني به في شعره فأغنيه، ويشرب ويبكي حتى صارت العتمة، فقال: «أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع، فجلست، فأمر ابنه وغلامه فكسر كل ما بين أيدينا من النبيذ وآلته والملاهي، ثم أمر بإخراج كل ما في بيته من النبيذ وآلته، فأخرج جميعه فما زال يكسره ويصب النبيذ وهو يبكي حتى لم يبق من ذلك شيء، ثم نزع ثيابه واغتسل، ثم لبس ثيابا بيضاء من صوف، ثم عانقني وبكى، ثم قال: «السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم، سلام الفراق الذي لا لقاء بعده» وجعل يبكي ويقول: «هذا آخر العهد بك في حالة تعاشر أهل الدنيا»، فظننت أنها بعض حماقاته وانصرفت وما لقيته زمانا، ثم تشوقته، فأتيته فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فإذا هو قد أخذ قوصرتين - أي: وعائين من قصب - وثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص، وثقب الأخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السراويل. فلما رأيته نسبت كل ما عندي من الغم عليه والوحشة لعشرته، وضحكت والله ضحكا ما ضحكت مثله قط، فقال: «من أي شيء تضحك؟» فقلت: «سخن الله عينك؟ هذا أي شيء هو؟ من بلغك عنه أنه فعل مثل هذا من الأنبياء والزهاد والصحابة أو المجانين؟! انزع عنك هذا يا سخين العين» فكأنما استحى مني، ثم بلغني أنه جلس حجاما، فجهدت أن أراه بتلك الحال فلم أره، ثم مرض فبلغني أنه اشتهى أن أغنيه فأتيته عائدا فخرج إلي رسوله يقول: «إن دخلت إلي جددت لي حزنا، وتاقت نفسي من سماعك إلى ما قد غلبتها عليه، وأنا أستودعك الله وأعتذر إليك من ترك الالتقاء، ثم كان آخر عهدي به».»
وهذه القصة التي قصها علينا مخارق تمثل لنا نسخة من نسخ العرض المضطرب بين المجون والنسك، وترينا وشيجة من وشائج القرابة في الانحراف بين نفس أبي العتاهية ونفس أبي نواس، وسنرى فيما بعد أن القرابة بينهما أوثق من ذلك، ولا سيما في باب النسك والتوبة، وأن الحكمة التي تقول لنا: إن الجنون فنون أعمق وأصدق مما أراد القائلون.
وبديه أن أبا نواس لم تكن به حاجة إلى طبيعة العرض في معظم الأبواب، التي قال أبو العتاهية: إنه ترك النظم فيها كالمديح والهجاء وما فيه الشعراء، فهذه الأبواب قد اصطلح الناس جميعا على بداهتها، وفهموا أنها تدور على العطاء والمنح والمودة والجفاء، فلا حاجة للشاعر إلى خلق أسبابها من عنده، ولكن بابا من الأبواب تركه أبو العتاهية، وأكثر أبو نواس من النظم فيه قد كان يصدر منه عن طبيعة العرض، ولا تدعوه إليه حاجة الشاعر إلى الكسب أو إلى التسلح بالمدح والهجاء؛ لترغيب الأصدقاء وترهيب الأعداء، وذلك الباب هو باب الطرد ووصف الصيد، فكل بواعثه عند أبي نواس إنما هي من قبيل العرض الفني بغير مشاركة من البواعث «المعيشية» المصطلح عليها بين معاصريها.
ولا يعتمد الناقد على تعليل قصائد الطرد بطبيعة العرض لو كان أبو نواس من هواة الصيد في غير صحبة يجاريها، كما يجاري كل صحبة.
وإنما يكون الشعر من «العرض الفني» حين يكون مداره على الصورة والحكاية، وهكذا كان شعر أبي نواس في قصائده الطردية على الإجمال، فإنه وإن صاحب الصيادين على ما يظهر من بعض شعره، لم يؤثر عنه أنه كان يحب الطرد والصيد ذلك الحب الغلاب، وإنما نظم فيه ليعرض قدرته على النظم في هذا الباب ، فاختار أكثر طردياته من الرجز وهو وزنه التقليدي عند الشعراء، واصطنع فيه الغريب ليحكي إمام الرجاز رؤبة بن العجاج وهو مشهور بكثرة غريبه في أراجيزه. فكل ما في هذا الباب «عرض فني» تنحصر بواعثه في هذه الرغبة، ولا تعبر عن باعث نفسي غير هذا الباعث، ومن اتفاق العرض أنه كان يتخير القوافي الفخمة العسيرة كالطاء والظاء، ومن أمثلتها قوله في وصف كلب:
أنعت كلبا جال في رباطه
جول مصاب فر من إسعاطه
2
عند طبيب خاف من سياطه
هجنا به وهاج من نشاطه
كالكوكب الدري في انخراطه
عند تهاوي الشد وانبساطه
يقمم القائد في حطاطه
وقده البيداء في اعتباطه
3
لما رأى العلهب في أقواطه
سحابه وقر في التباطه
4
كالبرق يذري المرو بالتقاطه
مثل قلي طار في إنفاطه
5
وانصاع يتلو على قطاطه
6
أغضف لا ييأس من خلاطه
إلى آخر الأرجوزة على هذا المثال.
وفي هذا الباب على حرف الظاء:
أعددت كلبا للطراد فظا
إذا غدا من نهم تلظى
وجاذب المقود واستلظا
كأن شيطانا له ألظا
يكظ أسراب الظباء كظا
حتى تراها فرقا تشظى
يجوز منها كل يوم حظا
حتى ترى جميعها مفتظا
وقس على ذلك سائر طردياته وهي من أجود منظوماته، وباعثها كلها ما علمنا من حب العرض الفني المتمكن من خليقته من ناحية الطبيعة النرجسية والهبة الفنية، فلولا أن رؤبة قد أغرب في رجزه، ولولا أن الطرد ينظم في الرجز، ولولا أن أبا نواس قد حفظ الغريب وأحب أن يعرضه، فلم يجد لغرضه بابا غير هذا الباب، لما ألح على هذا الباب ينظم فيه، ويعيد النظم على السهل والصعب من قوافيه.
وقد أجمع مؤرخو الأدب لعصر أبي نواس على علمه بالغريب، وأغرق بعضهم في توسعة نصيبه من العلم به حتى زعم أنه لم ينظم الشعر إلا بعد أن حفظ ألف أرجوزة، ثم أمره أستاذه خلف الأحمر بنسيانها، وأغرق هو في مثل هذه المبالغة فقال: إنه لم ينظم الشعر إلا بعد أن روى لأكثر من ستين شاعرة، وناهيك عن الشعراء الفحول، فإذا تركنا جانب الإغراق من هذه الأقاويل، فالذي يبقى ثابتا لا مبالغة فيه أنه كان وافر العلم بالغريب والأراجيز، وأنه احتاج إلى العرض في هذا الباب؛ لأنه كان في شعره كله سهلا قليل الإغراب لا يطرق الحوشى من الألفاظ إلا في الندرة النادرة، ولا بد هنا من ملاحظتين على تقليد أبي نواس للأقدمين حين يكون هذا التقليد سبيلا للعرض ولفت النظر، فأولى هاتين الملاحظتين أنه كان حريصا على محاكاة الأعراب في أسلوبه ونسي هنا الإزراء على جفاء الأعراب؛ ولأن العرض في باب الطرد لا يأتي له مع نبذ جفاء الأعراب، والملاحظة الثانية أنه اجتنب التصرف في مطالع الأراجيز، فهي تحكي مطالع الأقدمين في هذا الباب، ومنها تكراره «أنعت كلبا» و«قد أغتدي» و«يا رب» و«لما»، وكلها مما تفتح به الأراجيز، وهو يحافظ عليها حتى حين يترك الأرجوزة إلى ما يشبهها من المجزوءات كما قال:
ربما أغدو مع كلبي
طالبا للصيد في صحبي
ثم يعود في هذا الوزن الخفيف إلى الإغراب في الغريب فيقول:
فسعونا للحزيز به
7
فدفعناه على أظب
فاستدرته فدر لها
يلطم الرفقين بالترب
فادراها وهي لاهية
وجحيم الحاذ والغرب
8
ففرى جماعهن كما
قد مخلولان من عصب
غير يعفور أهاب به
جاب دفيه عن القلب
9
ضم لحييه بمخطمه
ضمك الكسرين بالشعب
وانتهى للباهيات كما كسر
ت فتخاء
10
عن لهب
فتعانى التيس حين كبا
ودنا فوه من العجب
11
ظل بالوعساء
12
ينفضه
أزما منه على الصلب
تلك لذاتي وكنت فتى
لم أقل من لذة حبي
وقد غير هنا البحر ولم يستطع أن ينزع عن لوازم العرض في باب الطرد، وهي الإغراب في اللفظ، فملأ هذا البحر المستخف بالجلاميد الجافية من مفردات اللغة الوعرة؛ لأن الغرض الأكبر هو إظهار القدرة على الإغراب ومحاكاة الأعراب.
فالشاعر على هذا ماض مع طبيعة العرض تملي عليه هذه الطبيعة أن ينعي على الأطلال فينعاها، وتملي عليه أن يحذو حذو الأقدمين فيبالغ في محاكاتهم، وينتزع من درايته باللغة شملة بدوية لا ملاءمة بينها وبين أسلوبه، حيث يلبس للحضر لبوسه ويناجي أبناءه وبناته بما يأنسون من لغة الأندية ومجالس اللذات.
وقد سئل الشاعر عن جيده ورديئه فقال: إذا أردت أن أجد قلت مثل قصيدي: «المنتاب من عفره»، وإذا أردت العبث قلت مثل قصيدي: «طاب الهوى لعميده». فأما الذي أغني فيه وحدي وكله جد «فإذا وصفت الخمر».
وهذه رواية تشككنا في صحتها أو تشككنا في صواب أبي نواس حين يحكم على شعره، فإن قصيدته: «طاب الهوى لعميده» ليست من شعره الرديء على كثرة الرديء منه، ولكن الصواب - لو كان أبو نواس ينفذ إلى دخيلة طبعه - أن يقول: إنه يجيد حين يجمع قريحته للعرض الفني، ويسف ويهبط حين ينسى العرض، ويترك قريحته في مباذلها! •••
على أن النرجسية قد استوفت نصيبها من كل مسماها، فليس التهافت على العرض كل ما يجنيه الفنان من الطبيعة النرجسية، وليس بالنادر أن يستفيد منها نفخة من لطافة الحدس، وشفافية الحس تلهمه الخواطر التي تدق على الطبيعة الخشنة، وهذه المزية لم يحرمها أبو نواس، فأفادته زكانة في كثير من طرائفه كأنها زكانة تلك اللغة الوحيدة، التي كان يتفاهم بها مع أودائه ويعنيها بقوله:
أزور محمدا فإذا التقينا
تكلمت الضمائر في الصدور
فأرجع لم ألمه ولم يلمني
وقد رضي الضمير عن الضمير
أمور ليس يعرفها سوانا
يحير لطفها بصر البصير
أو يعنيها بقوله:
تجمع عيني وعينها لغة
مخالف لفظها لمعناها
إذا اقتضاها طرقي لها عدة
عرفت مردودها بفحواها
فإذا لم تكن طرائفه كلها من وحي هذه اللغة، فمن وحيها ولا شك قسط غير يسير.
غزل المؤنث والمذكر
الحب والغزل
قال أبو نواس في جنان:
ما هوى إلا له سبب
يبتدي منه وينشعب
فتنت قلبي محجبة
وجهها بالحسن منتقب
خليت والحسن تأخذه
تنتقي منه وتنتخب
فاكتست منه طرائفه
واستزادت بعض ما تهب
فهي لو صيرت وفيه لها
عودة لم يثنها أرب
1
صار جدا ما لعبت به
رب جد جره اللعب
وقال في عريب:
صيرني عبدا لها مذعنا
حبي لها، والحب شيء عجب
لو وعدتني موعدا صادقا
أو كاذبا، بالجد أو باللعب
ظننت أني نلت ما لم ينل
ذو صبوة من عجم أو عرب
وقال:
جفن عيني كاد يس
قط من طول ما اختلج
وفؤادي لحر حب
ك والهم قد نضج
خبريني فداك نفس
ي وأهلي متى الفرج
كان ميعادنا خرو
ج زياد، وقد خرج
أنت من قتل عائذ
بك في أضيق الحرج
وقال في دنانير:
صليت من حبها نارين واحدة
بين الضلوع وأخرى بين أحشائي
وقد حميت لساني أن أبين به
فما يعبر عني غير إيمائي
يا ويح أهلي أبلى بين أعينهم
على الفراش وما يدرون ما دائي
لو كان زهدك في الدنيا كزهدك في
وصلي مشيت بلا شك على الماء
وقال في حسن:
طفلة خوذ رداح
هام قلبي بهواها
قدها أحسن قد
فاسألوا من قد رآها
ما براها الله إلا
فتنة حين براها
تنثر الدر إذا غن
ت علينا شفتاها
وترى للعود زهوا
حين تحويه يداها
ربما أغضيت عنها
بصري خوف سناها
هي همي ومناي
ليتني كنت مناها
وقال في عنان:
لولا حذاري من جنان
لخلعت عن رأسي عناني
وركبت ما أهوى ولم
أحفل مقالة من نهاني
وخرجت أخبط سادرا
لم أغن عن حب الغواني
قد ذبت غير حشاشة
في النفس تحسبها الأماني
يا من يلوم على الصبا
دعني فشأنك غير شاني
لم تلق من حر الهوى
ما قد لقيت على عنان
أني ترد علي قلب
راح في غلق الرهان؟
قلبا إذا كلفته
غير الذي يهوى عصاني
قد خضت في لجج الهوى
وشربت صافية الدنان
ومضمخات بالعب
ير نزلن من غرف الجنان
راضعتهن من الصبا
كأسا عقدن بها لساني
أقبلن من باب الرصا
فة كالتماثيل الحسان
يحففن أحور كالغزا
ل أمر إمرار العنان
يمشي بردف كالنقا
يختال تحت قضيب بان
ولقد أقول لمن دعا
ه من الهوى ما قد دعاني
أبلغ هواك من الغنا
والكأس واغن عن الزمان
لا يشغلنك غير ما
تهوى فكل العيش فان
ودع الهوان لأهله
إن زلت عن دار الهوان
وقال في جنان:
دع جنانا وحبها
عنك إن كنت عاقلا
لا تذكر بنفسك المو
ت إن كان غافلا
أنت إن لم تمت بها ال
عام لم تنج قابلا
رجمت نفسك التي
ذهبت عنك باطلا
وقال فيها:
ولقد سباك منعم
ميسان مبتهج ربيب
خود يحول وشاحها
في طي مئزرها كثيب
وإذا تقوم لشأنها
يمشي بأعلاها قضيب
فالويل لي ما حل بي؟
قد شفني حزن مذيب
بين الجوانح والمفا
صل كالشرار له لهيب
وقال في منية:
أبت عيناي بعدك أن تناما
وكيف ينام من ضمن السقاما
بكيت من الفرق لما ألاقي
وراجعت الصبابة والغراما
رجعت إلى العراق برغم أنفي
وفارقت الجزيرة والشآما
على شط الشآم وساكنيه
سلام مسلم لقي الحماما
مذكرة مؤنثة مهاة
إذا برزت تشبهها الغلاما
تعاف الماء والعسل المصفى
وتشرب من فتوتها المداما
وقال موريا أو مصرحا:
لما تكشف عني أنني كلف
كشفت عمدا لهم عمن به الكلف
جيم وجدت لها نونين بينهما
لمن تهجى اسمها أو خطه ألف
يضمه من ثقيف بعض دورهم
ما بينكم بعد ذا التبيان مختلف
وقال من غزل المذكر:
غزال به فتر وفيه تأنث
وأحسن مخلوق وأجمل من مشى
أقول له يوما وقد مضني الهوى:
أطلت عذابي فيك يا خير من نشا
فقال: ألما يأن أن نترك الصبا
وما لك يا هذا؟ وما لي؟ وما تشا؟
فقلت له: أقصر عن اللوم سيدي
فمن ذا يطيق الصبر عن مشبه الرشا
أرى لك وجها فتت القلب حسنه
به ينجلي كربي وقد ينجلي الغشا
أتقتلني إن قلت: إني أحبه
ولا ذنب لي إن كان في الناس قد فشا
كتمت الهوى حتى أضر بمهجتي
وكان الهوى طفلا صغيرا فقد نشا
فرق لي المولى ففزت بموعد
وقال: انتظرني قبل مقتبل العشا
وقال منه:
ومعشوق الشمائل والدلائل
كقرن الشمس في قد الغزال
تأزر بالملاحة وارتداها
وسربل بالكمال وبالجمال
ضيا شمس تفرع في قضيب
ودعص نقا ترجرج في اعتدال
له في خده خال مليح
بنفسي ذاك من خذ وخال
وقال:
مستيقظ اللحظ في أفنان وسنان
قبلت فاه فحياني بريحان
مستبعد للأماني حسن منظره
عف الضمير ولكن لحظه زان
يا من تأنق باريه وصوره
دعصا من الرمل في غصن من البان
وقال:
وظبي تقسم الآجا
ل بين الناس عيناه
وتورى البث والأشجا
ن في القلب ثناياه
وتحكي البدر وقت التم
للأعين خداه
تعالى الله ما أحس
ن ما صوره الله
ولو مثل نفس الحس
ن شخصا ما تعداه
له آخرة قد أش
بهت في الحسن دنياه
فلو أنا جحدنا الل
ه يوما لعبدناه
بنفسي من إذا ما النأ
ي عن عيني واراه
كفاني أن جنح اللي
ل يغشاني وأغشاه
وقال:
متتايه بجماله صلف
لا يستطاع كلامه تيها
للحسن في وجناته بدع
ما إن يمل الدهر قاسيها
لو كانت الأشباح تعرفه
أجللنه إجلال باريها
لو تستطيع الأرض لانقبضت
حتى يكون جميعه فيها
وقال:
أيها الناس ارحموني
وتمشوا بي إليه
كلموه في سكون
لا تشقن عليه
كلموه اليوم يرضى
عن أسير في يديه
لو رأيتم حين يمشي
كاسرا من حاجبيه
في إزار قد لواه
ثم دلى طرفيه
قلتم: ذا الفتك حقا
ليس ما نحن عليه
وقال موريا أو مصرحا:
لكن إذا عيل صبري
ذكرته في هجاتي
عين ولام وميم
مليحة النغمات
وقال كذلك:
لم أزل أخلع في الحب الرسن
وفؤادي عند طبي مرتهن
وجفوني ساكبات دمعها
والحشا في حشوه مني الحزن
منذ أبصرت هلالا طالعا
يتثنى بقوام كالغصن
ميمه شف فؤادي في الهوى
وبحاء، فيه قلبي قد فتن
وبميم بعدها أقلقني
وبدال سل روحي من بدن
هذه أمثلة متفرقة من غزل أبي نواس في المؤنث والمذكر، جمعناها بين جدها وهزلها، ومبالغتها واعتدالها، وجيدها ورديئها، وعرضناها معا ليقابل بينها من يشاء كما قابلنا بينها، فهي على ما نرى سواء في لبابها وقشورها، لا يجزم الناقد برجحان غزل المؤنث منها على غزل المذكر، ولا برجحان غزل المذكر منها على غزل المؤنث، وإذا اتفق تفضيل قطعة من هذا الغزل على قطعة من ذلك الغزل، فكما يتفق تفضيل القطعة على الأخرى في الغزل الواحد، أو كما يتفق التفاضل بين كلام الشاعر في بعض أغراضه أو في جميع أغراضه، فلا يكون الشاعر مجيدا في كل ما يقول ولو قصر النظم على بابه الذي فرغ له، ولم يستحسن له قول في غيره.
وتتشابه الصفات والملامح التي يهواها الشاعر في معشوقاته ومعشوقيه، ويهوى المعشوقة أحيانا؛ لأنها «مذكرة مؤنثة» ويهوى المعشوق أحيانا؛ لأنه «متفتر وفيه تأنيث»، فكما يكون من محببات الأنثى إليه أنها تشبه الغلام في بعض أوصافه، كذلك يكون من محببات الأنثى إليه أنها تشبه الأنثى في بعض الأوصاف.
إنما جزم بعض النقاد برجحان غزله في المذكر على غزله في المؤنث؛ لأنهم ساقوا أنفسهم اضطرارا إلى هذا الترجيح، وفرضوا فرضهم الأول بغير فهم لحقيقته، ثم ألزموا أنفسهم نتائجه عن اعتساف لا دليل عليه.
فرضوا أن الشذوذ الجنسي شيء واحد يستلزم أن يكون الشاذ منحرفا إلى هوى أبناء جنسه، ثم وجدوا أبا نواس يتغزل بالجواري كما يتغزل بالغلمان، ووجب أن يعللوا هذه الغرابة فعللوها بالصدق في أحد الغزلين والكذب في الغزل الآخر، ولكنهم إذا رجعوا إلى الحقيقة لم يجدوا علامة من علامات الصدق عندهم ينفرد بها غزل المذكر أو غزل المؤنث، سواء نظروا إلى التعبير عن الشعور، أو نظروا إلى الإجادة الفنية، وهذا على فرض أن الإجادة الفنية شرط من شروط الشعور الطبيعي في أهل الفنون وفي سائر الناس.
وتصحيح هذا الخطأ إنما يكون بالرجوع إلى العلل النفسية، كما شرحتها الدراسات الأخيرة، فأصل الخطأ سوء فهم الشذوذ الجنسي الذي انطوت عليه طبيعة أبي نواس، فلم يكن شذوذه يستلزم الشغف بأبناء جنسه دون غيرهم، ولم يكن جنسه هو سويا غير مشترك حتى يظن أنه يميل إلى جنس واحد، وإنما كانت له طبيعة جنسية تشتبه بكلا الجنسين، وتتشكل بهذا الشكل مرة وبذلك الشكل مرة أخرى، على حسب غوايات الطبيعة النرجسية، ومن ثم حبه الفتى؛ لأنه كالفتاة وحبه الفتاة لأنها كالفتى، ونظرته إلى الرجولة بعين المرأة في بعض الأحايين.
وإذا اعتبرنا رجحان الغزل بما ينم عليه من حرارة الشعور، فربما توافقت الآراء على أن غزله في جنان أنم على حرارة الشعور من سائر غزله، فإن لم تتوافق الآراء على ذلك فلا نعرف قصيدة في غزل المذكر يحسبها النقاد راجحة بحرارة الشعور على سائر القصائد الغزلية.
والمدار في غزل أبي نواس جميعه على الصورة التي يشخص بها نفسه في ذات معشوقه أو معشوقته على دأب النرجسيين، وقد مر بنا أنه كان يعجبه ممن يتغزل به أن يلثغ بالراء وأن يتشبه بالأدباء، وأن يقتدي به يوم كان معشوقا في صباه، ولم تفارقه هذه الخليقة النرجسية حتى بعد أن كبر واكتهل، فكان يقول في معشوق ملتح:
قال الوشاة: بدت في الخد لحيته
فقلت: لا تكثروا، ما ذاك عائبه
الحسن منه على ما كنت أعهده
والشعر حرز له ممن يطالبه
بهى وأكثر ما كانت محاسنه
أن زال عارضه واخضر شاربه
وصار من كان يلحي في مودته
إن سال عني وعنه قال: صاحبه
وبديه أن النظر في غزل أبي نواس لا محل فيه للكلام على وفاء العشاق بالمعنى، الذي عرفه قراء الأدب العربي من أخبار العذريين، بل لا محل فيه حتى للتجمل الذي كان يناسب سمت الشعراء الغزليين من أمثال ابن أبي ربيعة، فقد كانت بيئة أبي نواس بعيدة عن بساطة البداوة، وبعيدة عن تجمل ذوي البيوتات من الفتيات والعقائل، وكانت بيئته على الأكثر بين الجواري والقيان وبين المتعرضين لشعراء المجون من الغلمان، وقد زاد عدد معشوقاته المذكورات في ديوانه على عشر، منهن جنان ودر ودنانير ونبات وحسن ومنى ومنية وسمجة وعنان ومكنون وعريب وقاتل، عدا اللاتي تغزل بهن ولم يذكر أسماءهن، وكان يبث لوعته لعنان في إبان مناجاته لجنان، فيقول:
لولا حذاري من جنان
لخلعت عن رأسي عناني ... ... ... ... ... ... ... ...
يا من يلوم علي الصبا
دعني فشأنك غير شأني
لم تلق من حرق الهوي
ما قد لقيت على عنان
وتغزل بمثل هذا العدد أو أكثر من المعشوقين، فلم يحرص على ظاهر الوفاء فضلا عن مضمره ومكنونه، ولم يكن عرف البيئة يتطلب منه هذا المظهر في غزله بالمؤنث أو غزله بالمذكر، فما كان الغزل في عرفهم إلا تسلية وتزجية فراغ وشغلانا بثرثرة المجالس، ووشايات المجتمع ومناوشات الأندية التي يجتمع فيها الشاربون، وطلاب السماع والمسمعات أو المسمعون من القيان والمغنيين.
ذلك كان ديدن العصر بجملته. أما الزيادة من أبي نواس على عرف عصره، فهي زيادة الطبيعة الموكلة بالعرض والتشخيص، وهي زيادة الطبيعة النرجسية التي تجعل العاطفة نحو غيره كالمنقولة أو العارية المستردة؛ لأن النرجسي كما تقدم يتمثل نفسه في غيره، ولا يحب ذلك الغير إلا بمقدار الدور الذي يحكيه أو الزي الذي لا يلبث أن يخلعه، وبخاصة حين يكون النرجسي كأبي نواس «مشترك الجنس» قادرا على تمثل شخصه في الإناث والذكور، وعلى تمثل نفسه محبوبا للرجال والنساء.
ويبدو لنا أن شعره الذي يعلن فيه زهده في المرأة إنما كان من إعراض المرأة عنه لا من إعراضه هو عن المرأة، وأنه كان يشتهي المرأة فلا يستهويها فيداري خيبته معها، ويوهم الناس أنه يتركها باختياره، ولا يتركها على الكره منه.
وكان يعجب الناس أن يتحدثوا بعجائبه وشذوذ طبعه، فيجمع المتكلمون عنه على رفض الزواج، ولم يصدقوا كل الصدق على ما يظهر من قوله يخاطب ابنة له:
يا ابنتي أبشري بميرة مصر
وتمني وأسرفي في الأماني
وقوله عمن تركها في بيته:
تقول التي عن بيتها خف مركبي
عزيز علينا أن نراك تسير
ولا بد من الرجوع بشيء من مبالغات أبي نواس في الولع بالغلمان إلى البدعة التي نشأت في زمانه ولم تكن لها سابقة في الأدب العربي قبله، فلم يسمع عن شاعر من الجاهليين والمخضرمين أنه نظم الشعر غزلا بالمذكر، ولم يكن غزل ابن مناذر قبيل أبي نواس بقليل على هذا التهتك والمجون، الذي فشا حوالي منتصف القرن الثاني وقبل نهايته، ففي هذه الفترة كان غزل المذكر بدعة يلهج بها من لم يكن من أهل الفسوق والمجانة، ومن أخبار ابن منظور التي رواها عن أبي نواس أنه عشق فتى يسمى جمالا الدارمي، وكان لا يشرب الخمر ولا يغشى معارض الشبهات، وقد تغزل بخمسين غلاما ولما يجاوز العشرين. وفي هذا الفتى يقول أبو نواس:
يا واصف الخمسين لو تعدل
لكان فيهم اسمك الأول
وصفت خمسين فميزتهم
وأنت أنت الظبية المغزل
جمال دع عنك لنا وصفهم
أنت وربي منهم أجمل
وما كان من شيم أبي نواس - وهو المطبوع على العلانية والتحدي - أن يشهد البدعة، ولا يتمادى فيها حتى يسبق مبتدعيها، فالإفراط في غزل المذكر لا يحسب كله على أبي نواس، ولا يتخذ كله دليلا على نوازعه وأهوائه، ويصدق عليه في هذه الخلة ما يصدق على الشيطان في أمثال الغربيين، فليس هو من السواد الحالك بحيث يرسمه الرسامون!
ثم تنحسر الشهرة عن زياداتها وتثوب الطبيعة إلى حدودها، فتبدي لنا الحسن بن هانئ في تلك الحدود على حقيقة شذوذه الجنسي، الذي يفسر غزله بالمؤنث وغزله بالمذكر، ويفسر تأنثه في صباه ويفسر مبالغته ودعواه، وذلك هو شذوذ الطبيعة النرجسية التي مكنتها فيه بيئته من أهله وعصره ومعاشريه.
الجاحدون واللادينيون
عقيدة أبي نواس
ينقسم الناس إلى مؤمنين وجاحدين، أو كافرين.
وهذا تقسيم شائع في اصطلاح المباحث الدينية، ولكن النفسيين يهمهم الاستعداد النفسي، وارتباطه بتركيب البنية، وبواطن السريرة، فهم يقسمون الناس على حسب هذا الاستعداد إلى قسمين آخرين وهما الدينيون واللادينيون.
وهنالك فارق أصيل بين الجاحدين واللادينيين: فالجاحد قد ينكر دينا لم تطمئن سريرته إلى عقائده وشعائره، ويظل متفتح القلب للإيمان بدين آخر، وقد ينكر الأديان التي يعرفها جميعا، ويجاهد في إنكارها بحماسة تشبه حماسة المؤمن المستبسل في جهاده، ولعله ينكر الأديان التي يعرفها تشوقا إلى دين يسمو عليها، ويرتفع لديه إلى المثل الأعلى الذي يحلم به ويتمناه.
فإن لم يكن منكرا للدين على نحو من هذه الأنحاء، فهو مهتم بالدين على أية حال، وليس مكان الدين من باطنه خواء لا يتسع لإيمان ولا إنكار، ولا مناقشة ولا انتظار.
أما اللادينيون فهم مخالفون للجاحدين في هذه الخلة، إذ هم لا يحفلون بالدين ولا ينشطون لقبوله ولا لإنكاره، ولا يشغلون عقولهم به لمحة عين كأنهم ولدوا قبل وجود الأديان فلم يسمعوا بها، ولم يشعروا قط بخاطر من خواطرها، فهم غرباء منقطعون عن هذا الشاغل القوي من شواغل الوجدان.
إن الجاحد قد يكون عدوا أو مهادنا أو على الحيدة بين معسكرين، أما اللاديني فليس هو بعدو ولا مهادن ولا محايد، ومجمل القول فيه: أنه غريب عن الميدان.
وذلك كما تقدم فارق أصيل بين الجاحدين واللادينيين: فمن أي الفريقين كان الشاعر أبو نواس؟
لم يكن عن يقين من اللادينيين؛ لأنه لم ينقطع قط عن اللهج بالأديان، وإن كان ليلهج بها لهجا لا يطيب للمتدينين الصالحين.
وليقل من شاء ما شاء في زندقته ومجونه وعصيانه ولغو لسانه، فإنه بعد كل ما يقال من هذا القبيل بعيد جدا أن يحسب من اللادينيين، الذين صغر مكان الدين من نفوسهم، فلم يشغلهم منه شاغل ولم يكن فيه ولا في أهله ما يهمهم على وجه من الوجوه.
وإذا صرفنا النظر عن نوع اشتغاله بشأن الدين، فليس بين شعراء العربية من عناه هذا الشأن كما عناه؛ إذ هو لم يذكر قط مجلسا من مجالس لهوه، ولا معرضا من معارض غزله إلا أشار معه إلى جوه الديني أو علاقته الدينية، بغير داعية من دواعي الموضوع أو المقام.
ولو ذهبنا نستقصي هذه الإشارات لأوشكنا أن ننقل ديوان غزله ومجونه، ولكننا نجترئ بما يكفي للدلالة على هذه النزعة العجيبة في قريحته ووجدانه.
منها في موعد:
وظباء يتلون سفرا من الإنجي
ل باكرن سحرة قربانا
ومنها:
صفراء مجدها مرازبها
جلت عن النظراء والمثل
ومنها:
خذها على دين المسيح إذا نهى
عن شربها دين النبي محمد
ومنها:
آذنك الناقوس بالفجر
وغرد الراهب في العمر
ومنها:
حراما كان أوله حلالا
فخل الحل يذهب بالحرام
ومنها في الغزل:
يا سمي الكليم من كلم الله
وأدنى مكانه تقريبا
وشبيه الذي تلبث في السجن
سنينا وكان برا نجيبا
وابن قارئ القرآن غضا كما
أنزل قد سمت قلبي التعذيب
ومنها في الغزل أيضا:
ألا يا قمر الدار
ويا مسكة عطار
ويا نفحة نسرين
ويا وردة أشجار
ويا عرش سليم
ان إذا هم بأسفار
ويا مزمور داود
إذا يتلى بأسحار
ويا كعبة بيت الل
ه ذا ركن وأستار
لقد أصبحت من حبك
بين الخلد والنار
ولا نهاية لهذا المعنى إلا باستنفاد خمرياته وغزلياته، فهو لا يني في قصائده هذه «يتحرش» بالدين والعبادة، وينم تحرشه هذا على العاطفة التي ينم عليها التحرش عادة، وهي عاطفة ليست من العداء وليست من الازدراء، ولكنها شغلان يشوبه العبث واهتمام لا يقوى على الجد، ولا على الترك والنسيان، وفهمه ميسور إذا قسناه على كل تحرش من قبيله في العواطف الإنسانية، فالتحرش قبل كل شيء اهتمام.
مغالاة بقيمة اللذة
وهذا الاهتمام بذكر الحرمات في شعر أبي نواس إنما هو مغالاة بقيمة لذته، وتقريبه بين الشعور بها والشعور بالقداسة، فليس هو في وعيه الخفي حطا من قيمة الحرمات، بل رفع لقيمة اللذات واعتزاز بمقاربتها لمكان الصون من العبادة والتقوى.
دخل أبو نواس السجن لاتهامه بالزندقة، وطال حبسه حتى زار السجن خال الوزير الفضل بن الربيع يتفقد السجناء، ويتحرى أسباب سجنهم، فسأل أبا نواس: أزنديق أنت؟ قال: معاذ الله! قال: لعلك ممن يعبد الكبش؟ قال: أنا آكل الكبش بصوفه، قال: فلعلك ممن يعبد الشمس؟ قال: إني أترك القعود فيها بغضا لها، فكيف أعبدها؟ قال: أفتذبح الديك؟ قال: ذبحت ألف ديك؛ لأن ديكا مرة نقرني فحلفت لا آخذ ديكا إلا ذبحته. فسأله: ألك ذنب غير هذا؟ قال: لا والله! اتهموني أنني أشرب شراب أهل الجنة وأنام خلف الناس. قال - وكانت فيه غفلة: فأنا أيضا أفعل هذا فلماذا حبست؟ ثم خرج إلى الفضل فقال: ما تحسنون جوار النعم، تحبسون من لا ذنب له!
ولم يكذب الخبيث في جواب واحد، فما كانت له نحلة من هذه النحل، ولم يعتقد شيئا من عقائد الزنادقة في عصره عن جد ودراية، ولكن الذين حبسوه على هذا لم يظلموه، ولم يعتقلوه لغير جريرة، فإنه لم يدع تهمة تلحقه بالزنادقة إلا تعرض لها وأورد نفسه كل مواردها، وأعلن من كلامه وفعاله ما يثبتها ويستغني عن الشهود والبينة عليها.
على أن المحتسبين الموكلين بالزنادقة والمفسدين لا يعوزهم الشهود ممن كانوا يحبون الوقيعة بالشاعر لسيئاته وحسناته على السواء، فلم يكن أكثر من حساده بين أنداده كما قال محمد بن عمر: «ولم يكن شاعر في عصر أبي نواس إلا وهو يحسده لميل الناس إليه، وشهوتهم لمعاشرته وبعد صبته وظرف لسانه»، وأشد من حساده سعيا إلى الوقيعة به من كان يهجوهم، أو يرتفع عليهم أو يسخر منهم، وهم غير قليلين.
وأكثر منهم عددا من كانوا يشهدونه ويسمعونه، وهو يجهر بالعصيان والدعوة إليه، ويقول في بعض غزله:
يا أحمد المرتجى في كل نائبة
قم سيدي نعص جبار السموات
أو يقول في بعض مجونه يخاطب الفيلسوف إبراهيم النظام:
قولا لإبراهيم قولا هترا:
غلبتني زندقة وكفرا
أو يقول:
فدعي الملام فقد أطعت غوايتي
وصرفت معرفتي إلى الإنكار
ورأيت إتياني اللذاذة والهوى
وتعجلي من طيب هذي الدار
أحرى وأحزم من تنظر آجل
علمي به خبر من الأخبار
ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنة مذ مات أو في نار
ومن لم يسمع شعره فربما سمع نوادره وشهد مساخره، وقد دخل المسجد مرة وهو على أقبح السكر وسمع الإمام يقرأ: «قل يا أيها الكافرون» فصاح به من ورائه: لبيك. وشرب في يوم مطير فوضع قدحه تحت السماء، فوقع فيه المطر وقال لمن حوله: «أنتم تزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم تراني أشرب الساعة من الملائكة»، ثم شرب ما في القدح.
ولعله كان يتحدث هنا وهناك بمذهب الثنوية، ويروي كلامهم في الظلمة والنور، ويهرف بما يعرف وما لا يعرف من هذه الأمور.
وقد مضى أبو نواس ومتهموه والشهود عليه، ومضى عصره كله وبقي من أخباره أنه كان يتزندق؛ لأنه كان يتفلسف، وأنه اطلع على علم النجوم، وعلوم الأوائل من الهند والروم، فزاغ عن اليقين، ومرق من الدين، إذ كانت كلها علوما منقولة عن الكفرة والملحدين.
أما أن أبا نواس سمع شيئا من تلك العلوم، وألم بطرف من آراء القوم، فذلك مفهوم من أقوال نذكر منها:
تحيرت والنجوم وقف
لم يتمكن بها المدار
وهو من قول أهل الهند أن مدارات الأفلاك يحيط بها مدار واحد، وإن الأفلاك الصغار تدور وتعود إلى المدار، ولكن المدار الأكبر إذا انتهى من دائرته توقف كما كان قبل الحركة، فتكون القيامة ويعود الكون سيرته الأولى دواليك، وربما كان من ذلك قوله:
حتى بدت حركات
مخلوقة من سكون
وربما سمع كلام في الطبائع على مذهب الأقدمين كما يؤخذ من قوله:
سخنت من شدة البرودة ح
تى صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي
كذلك الثلج بارد حار
أو سمع أسماء الكواكب باليونانية وطوالعها التي نقلها اليونان عن العراق قديما، فتحدث بها كأنها من المستحدثات:
صورة المشتري لدى بيت نور اللي
ل والشمس أنت عند انتصاب
ليس «زاويش» حين سار أمام الح
وت والبدر إذ هوى لانصباب
منك أسخى بما تشح به الأنف
س عند انتقاص در الحلاب
لا و«بهرام» تستقل به العق
رب بالليل زائدا في الحساب
منك أمضى لدى الحروب ولا أهو
ل في العين عند ضرب الرقاب
والمشتري وزاويش «زيوس» شيء واحد، وبهرام أو المريخ سيار يقال عنه في الأساطير: إنه إله الحرب، والعقرب برج من البروج المتوهمة في الفلك، والمنجمون المخرفون يزعمون المزاعم عن مقارنات السيارات والبروج، ودلالتها على الوفر والرخاء أو على الحرب والقحط. ومن سمع الحذلقة بهذه الأراجيف في نظم الشاعر خيل إليه أنها هي المعميات التي قادته إلى زندقته ومروقه، ولا شأن لهذا بذلك إلا أن يكون شأن السعود والنحوس، التي هذر بها المنجمون - في وادي النهرين على الخصوص - من قبل التاريخ.
ولعله سمع كلاما في الصفة والموصوف من قبيل قوله في حسن:
إن اسم حسن لوجهها صفة
ولا أرى ذا في غيرها اجتمعا
فهي إذا سميت فقد وصفت
فيجمع الاسم معنيين معا
إلى نظائر من هذه الأقاويل يستطيع المتلقف أن يجمعها في بضعة أيام، وهو يجلس إلى المتفيقهين بها ممن تعمقوا فيها أو تخطفوها لماما، ثم لا يقال عنه: إنه عرف ما يناقض الدين أو يبيح المحظورات، ويغري المرء بركوب رأسه في الموبقات.
ولقد كان إبراهيم النظام من أعلم أهل زمانه بهذا الذي يسمونه علوم الأوائل، وكان أبو نواس يحضر عليه، فينهاه عن التبذل ويذكره الوعيد ويقول له: إن من ترقب وعد الله فعليه أن يحذر وعيده، فلا يرعوي عن لغوه ومجونه حتى يئس منه، فطرده من مجلسه فنظم فيه قصيدته التي اشتهرت بالإبراهيمية ومطلعها:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
وفيها يسخر منه:
فقال لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرءا حرجا
فإن حظركه بالدين إزراء
فالذين اتهموا أبا نواس لم يظلموه، ولم تعوزهم البينات على دعوته للفساد، ولعلهم قد ظلموا الفلسفة وعلوم الأوائل، فظنوها مدرجة المطلعين عليها إلى الزندقة ومذاهبها، ولا زندقة هنا ولا مذهب ولا شيء غير المجون وحب الظهور، وعند أبي نواس منه - كما أسلفنا - أسباب لم تكن عند أحد معاصريه! ولكنه لم يكن يعيبه من نفسه كما كان يعيبه من غيره على حد قوله في إبان اللاحقي، إذ كان يتظرف بادعاء الزندقة:
جالست يوما أبانا
لا در در أبان
ونحن حضر رواق الأ
مير بالنهروان
حتى إذا ما صلاة الأ
ولى دنت لأوان
فقام منذر ربي
بالبر والإحسان
وكلما قال قلنا
إلى انقضاء الأذان
فقال: كيف شهدتم
بذا بغير عيان؟
لا أشهد الدهر حتى
تعاين العينان
فقلت: سبحان ربي
فقال: سبحان ماني
1
فقلت: عيسى رسول
فقال: من شيطان
فقال: موسي نجي
المهيمن المنان
فقال: ربك ذو مق
ول إذن ولسان
أنفسه خلقته
أم من؟ فقمت مكاني
وقلت: ربي ذو رحم
ة وذو غفران
وقمت أسحب ذيلي
عن منكر القرآن
عن كافر يتمرى
بالكفر بالرحمن
يريد أن يتساوى
بالعصبة المجان
أبو نواس ماجن
والمجان في عرف تلك البيئة هم الظرفاء، والمجون هو الظرف على اعتقادها وفي طليعتها أبو نواس، نصح له الأمير أبو العباس محمد أن يتوب عن المجون ، فقال له: أما المجون فما كل أحد يقدر أن يمجن، وإنما المجون ظرف. ولست أبعد فيه عن حد الأدب أو أتجاوز مقداره، أما المعاصي فإني أثق فيها بعفو الله - عز وجل - وقوله تعالى، فوالله لو أن السندي يقول ما قاله الله - عز وجل - لوثقت به، فكيف يقول رب العالمين وهو يقول:
يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا .
والعصبة المجان الذين أراد أبان اللاحقي أن يتشبه بهم هم طائفة من زملاء أبي نواس، كحماد عجرد ووالبة بن الحباب ومطيع بن إياس وقاسم بن زنقط وعيسى بن غصين وعبيد العاشقين، الذي لقب بذلك لجمعه عاشقا ومملوكه وعاشقا وجاريته، وغيرهم ممن يكبرونه في السن أو يقاربونه، ولكنه كان أشهرهم بمنحاهم في المجون؛ لأن دواعيه إليه أكثر وشعره فيه أسير، فهل يحل من هذه الطائفة محل «الشخصية النموذجية» التي تقدم الكلام عليها، معظمهم مثله من الموالي الذين فتحت لهم ثقافة العصر أبواب المعرفة، وكلهم من الذين ابتلوا بمركبات النقص على اختلافها، وليس فيهم من تسلطت عليه جميعا كما تسلطت عليه.
فلا زندقة عند صاحبنا ولا فلسفة، وكل ما عنده ولع بالظهور، وضعف عن مقاومة الغواية والفجور.
وبغير «دراسات نفسية» أو تحليلات عويصة في البواطن الخفية أيمكن أن يكون إنسانا كأبي نواس منكرا للدين كله مواجها الظلام المجهول بذلك الإنكار؟
ليست المعضلة في هذا السؤال معضلة الصلاح والبصيرة الروحانية، وليس فقدان الصلاح والبصيرة الروحية هو كل ما يلزم للإنكار والإصرار عليه، فقد يكون المرء مجردا من صلاح الدين والخلق، مقفر الوجدان من البصيرة الروحانية. ثم لا يقوى على مواجهة الموت الأبدي والظلام السرمدي على يقين وإصرار، ولا بد له في هذا الموقف من صرامة واقتحام يواجه بهما تلك المخافة، التي لا مخافة مثلها في الحياة ولا بعد الحياة.
فهل طبيعة كالطبيعة النواسية تنبني على ذلك المعدن الصلد الجسور، وهل عنده من الشكوك ما يتغلب في أعماق طبعه على تعلات الأمل والرجاء؟
لو اجتمع شهود العالم ومعهم الأطباء النفسيون على زعم كذلك الزعم لما أقنعوا أحدا بزعمهم، الذي تنقضه كل لحمة وسداة في نسيج هذه النفس الرخية المهلهلة، ولكن الأطباء النفسيين على الأقل لا يزعمون له تلك القوة الصماء؛ لأن طبيعته والقوة بأشكالها وأنواعها لا تتفقان.
وأقرب من ذلك إلى المألوف أننا أمام نفس ضعفت عن غواية الظهور وغواية الفجور، ولم تخل قط من شاغل بالدين تتمسح به أو تتحرش به كما تقدم في صدر هذا المقال، وأعيتها عقيدة العزم والمناعة، فاحتالت حيلتها كي تظفر بعقيدة تركن إليها، فوجدتها في نحلة من نحل عصرها، نخالها هي النحلة الوحيدة التي تكلف النواسي الاطلاع على مراجعها، أو على ما يلائمه من تلك المراجع فطابت له، وتقبلتها سريرته على الكره منها؛ لأنها لا تستطيع الخلو من عقيدة، ولا تستطيع عقيدة العزم والمناعة.
تلك هي نحلة «المرجئة» كما توسع فيها طلاب الرخصة من قبيل أبي نواس، وقد وسعوها بأهوائهم فوسعت لهم كل ما اشتهوه.
نحلة المرجئة
نشأت فرقة المرجئة على اعتدال وحكمة في أيام الخلفاء الراشدين، واعتصم بها الذين كرهوا الخوض في الخلاف بين أجلاء الصحابة بعد مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فتركوا الأمر لله يحكم فيه يوم الدين، وسموا بالمرجئة لأنهم لم يتعجلوا الحكم على فريق من الفريقين، وجماع هذا الرأي في الشعر قول ثابت بن كعب الملقب بقطنة:
يا هند إني أظن العيش قد نفدا
ولا أرى الأمر إلا مدبرا نكدا
إني رهينة يوم لست سابقه
إلا يكن يومنا هذا فقد أفدا
يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا
أن نعبد الله لم نشرك به أحدا
ترجى الأمور إذا كانت مشبهة
ونصدق القول فيمن جار أو عندا
المسلمون على الإسلام كلهم
والمشركون استووا في دينهم فددا
ولا أرى أن ذنبا بالغا أحدا
في الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا
لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا
سفك الدماء طريقا واحدا جددا
من يتق الله في الدنيا فإن له
أجر الحساب إذا وفى الحساب غدا
وما قضى الله من أمر فليس له
رد وما يقض من شيء يكن رشدا
كل الخوارج مخط في مقالته
ولو تعبد فيما قال واجتهدا
أما علي وعثمان فإنهما
عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا
وكان بينهما شعب وقد شهدا
شق العصا وبعين الله ما شهدا
يجزي عليا وعثمانا بسعيهما
ولست أدري بحق أية وردا
الله يعلم ماذا يحضران به
وكل عبد سيلقى الله منفردا
وكان ثابت بن كعب صاحب هذه القصيدة - وهو شاعر مجاهد - يعتدل على الجادة المثلى بين الطرفين: الخوارج الذين يتهجمون على التكفير جزافا وطرف الطوائف المتنازعة، التي كانت تخبط في التهم ذات اليمين وذات الشمال، فلا تكفير لأحد آمن بالوحدانية والوحي المنزل، ولا جدوى من الخبط بالتهم بين عثمان وعلي أو بين فرقة وفرقة من الصحابة، وأمرهم جميعهم موكول إلى حساب الله.
أما عصر أبي نواس فقد تباعدت فيه الفجوة بين الطرفين إلى أقصى مداها، فجزم الخوارج بتكفير كل من عداهم، وحملوا السلاح لقتاله، واعتبروا كل من خالف الدين في معصية ارتكبها كافرا مخلدا في العذاب، وتعددت فرق المرجئة فنجم منهم من كاد يسقط الأوامر والنواهي، ويقول: إن الإيمان عقيدة في القلب لا شأن لها بأعمال الجوارح، فكل من اعتقد الوحدانية والوحي المنزل، فله جزاء المؤمنين يوم الحساب.
ونقبس هنا بعض ما كتبه الشهرستاني عن هذه الفرق في كتابه «الفصل في الملل والنحل»، حيث قال في الجزء الرابع:
غلاة المرجئة طائفتان: إحداهما الطائفة القائلة: بأن الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله - عز وجل - من أهل الجنة، وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه، وهو بخراسان وبيت المقدس، والثانية الطائفة القائلة: إن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله - عز وجل - وهذا قول أبي محرز جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب كاتب الحارس بن سريج التميمي أيام قيامه على نصر بن سيار بخراسان، وقول أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي اليسر الأشعري البصري وأصحابهما. وقالت طائفة الكرامية: المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار، وقالت طائفة منهم أيضا: من آمن بالله وكفر بالنبي
صلى الله عليه وسلم ، فهو مؤمن كافر معا، ليس مؤمنا على الإطلاق ولا كافرا على الإطلاق، وقال مقاتل بن سليمان - وكان من كبار المرجئة: لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا.
إلى آخر هذه الأضاليل التي لا طائل تحتها، فلا جرم يتلقف أبو نواس رأيا كهذا ويتهافت عليه؛ ليجمع بين لهوه واعتقاده الإيمان، وطفق ينادي بإنكار الشرك ولا يبالي ما عداه فقط:
ترى عندنا ما يسخط الله كله
من العمل المردي الفتي ما خلا الشركا
وقال:
ترى عندنا ما يكره الله كله
سوى الشرك بالرحمن رب المشاعر
ثم تشبث بأن الكبائر لا تسلك صاحبها مع الكفار، ولا تحرمه الرجاء في عفو الله، فكان من أقواله الكثيرة في ذلك:
وثقت بعفو الله عن كل مسلم
فلست عن الصهباء ما عشت مقصرا
ومنها:
غاد المدام وإن كانت محرمة
فللكبائر عند الله غفران
ومنها:
تكثر ما استطعت من الخطايا
فإنك بالغ ربا غفورا
تعض ندامة كفيك مما
تركت مخافة النار السرورا
ومنها:
خوفتماني الله ربكما
وكخيفتيه رجاؤه عندي
ومنها:
يا كبير الذنب عفو الل
ه من ذنبك أكبر
ومنها:
لم - وعفو الله مبذ
ول غدا عند الصراط
خلق الغفران إلا
لامرئ في الناس خاط
ويبدو أن أقوال المرجئة هي أكثر المراجع التي تتبعها من أولها، فإن المرجئة في زمانه لم يصطنعوا الصمت والعزلة في معترك الفتن، وإنما كان هذا ديدن الصالحين من الصحابة أيام الشقاق بعد عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنهم - وأكثرهم في ذلك الوقت أخذوا بالحديث الذي رواه أبو بكر عن النبي - عليه السلام - وفيه أنه: «ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه. فقال رجل: يا رسول الله! من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة».
فإلى هذا المسلك من مسالك المرجئة الأولين ثاب أبو نواس في أخريات أيامه حين اضطرمت نيران الفتن بين طلاب الخلافة، فقال:
خل جنبيك لرام
وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير
لك من داء الكلام
ربما استفتحت بالمز
ح مغاليق الحمام
رب لفظ ساق آجا
ل نيام وقيام
إنما السالم من ألج
م فاه بلجام
فالبس الناس على الصح
ة منهم والسقام
وعليك القصد إن ال
قصد أبقى للجمام
شبت يا هذا وما تتر
ك أخلاق الغلام
والمنايا آكلات
شاربات للأنام
وليس من المستبعد أن كلامه الذي حمل على الإنكار إنما كان شططا في الدعوة إلى الإرجاء، كقوله في الخلاف بين القدرية والجبرية:
يا ناظرا في الدين ما الأمر
لا قدر صح ولا جبر
ما صح عندي من جميع الذي
يذكر إلا الموت والقبر
أو كقوله:
ما جاءنا أحد بخبر أنه
في جنة مذ مات أو نار
إلى آخر الأبيات، إذ كيفما كان قوله فالمرجع في «الاستعداد» للعقيدة إلى معدنه، وطبيعته، وليس من معدن هذه الطبيعة أن تقدم على ظلام المجهول منكرة ثابتة الجأش على الإنكار، وليس من معدنها كذلك أن تغلب الغواية بمناعة العزم، والتوبة بين وهن الطبيعة وقوة الإغراء، وما كان من دأبه أن يخفي هذه النقيصة فيه؛ لأن إخفاءها يسومه الكبت وهو لا يقوى عليه، وقد صدق وصف نفسه إذ قال:
ما أبعد النسك من قلب تقسمه
قطربل فقرى يني فكلواذي
أو كما قال بعناد كعناد الأطفال:
فلا والله لا والله
لا والله لا أقصر
ومن قبيله قوله:
عررت بتوبتي ولججت فيها
فشقي اليوم ثوبك، لا أتوب
وهو يردد هذا الاعتراف على طريقته المطردة في جميع أحواله، وهي «اتخاذ الفضيلة من الضرورة» كما يقول الغربيون في أمثالهم، فإذا اعترف بنقيصة لاح من اعترافه كأنها مفخرة يباهي بها المحرومين منها، وتلك خديعة الطبع الضعيف.
أشعاره في النسك والتوبة
أما أشعاره في النسك والتوبة، فلم يكن جادا فيها طول حياته إلى ما قبل وفاته، فمنها ما كان يصطنعه خوفا من الأمين حين يصرح قائلا:
أطع الخليفة واعص ذا عزف
وتنح عن طرب وعن قصف
أو قائلا:
ولئن وعدتك تركها عدة
أني عليك لخائف خلقي
أو قائلا:
ولهو لتأنيب الأمير تركته
وفيه للاه منظر وسماع
وقد يغلو متهكما في وصف تقواه كما قال يخاطب الفضل بن الربيع:
أنت يا ابن الربيع ألزمتني النس
ك وعودتنيه والخير عاده
فارعوى باطلي وأقصر حبلي
وتبدلت عفة وزهاده
لو تراني ذكرتك الحسن البصر
ي في حسن سمته أو قتاده
المسابيح في ذراعي والمصح
ف في لبتي مكان القلاده
وإذا شئت أن ترى طرفة تعج
ب منها مليحة مستفاده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي
وتفطن لموضع السجاده
لو رآها بعض المرائين يوما
لاشتراها يعدها للشهاده
ولقد طالما شقيت ولكن
أدركتني على يديك السعاده
على أنه كان يعلم أنه «نهي سياسي» لجأ إليه الخليفة دفعا لسوء السمعة، التي لصقت به من مصاحبته، وقد يجهر بذلك فيصيح كالنافر المغضب:
أأمنعها والله لم يمنع اسمها
وهذا أمير المؤمنين صديقها
هذا أو يكون النظم في النسك بابا من أبواب «العرض» وصدق التمثيل، ليقال: إنه قال في النسك وهو ماجن ما لم يحذقه النساك، وروى محمد بن صالح بن بيهس الكلابي أن أديبا من بغداد أسمعه على سبيل التنويه بشاعرية أبي نواس أبياتا في الزهد و«ليس هو من طريقته»، وهذه هي الأبيات:
أخي ما بال قلبك ليس ينقى
كأنك لا تظن الموت حقا
ألا يا ابن الذين فنوا وبادوا
أما والله ما ذهبوا لتبقى
وما للنفس عندك من مقام
إذا ما استكملت أجلا ورزقا
وما أحد بزاد منك أحظى
ولا أحد بذنبك منك أشقى
ولا لك غير تقوى الله زاد
إذا جعلت إلى اللهوات ترقى
وكان أبو العتاهية يقول: سبقني أبو نواس إلا ثلاثة أبيات، ووددت لو أني سبقته إليها بكل ما نظمته، فإنه أشعر الناس فيها، منها قوله:
يا كبير الذنب عفو الل
ه من ذنبك أكبر
وقوله:
من لم يكن لله متهما
لم يمس محتاجا إلى أحد
وقوله:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
قال: وقد نظمت في الزهد ستة عشر ألف بيت، ووددت لو أن أبا نواس له ثلثهما بهذه الأبيات، والبيت الأخير من قصيدة أولها:
ألا رب وجه في التراب عتيق
ويا رب حسن في التراب رقيق
ويا رب حزم في التراب ونجدة
ويا رب رأي في التراب وثيق
فقل لغريب الدار: إنك راحل
إلى منزل نائي المحل سحيق
وحدث من شاهد أبا نواس لما حج مع جنان، وقد أحرم أنه لما جنه الليل جعل يلبي بشعره، ويحدو بطرب في صوته حتى اجتمع به كل من سمعه، وجعل يقول:
إلهنا ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
ما خاب عبد سألك
إلى آخر هذه التلبية، وقد أفسدها بما رواه عن نفسه في نظمه إذ يقول:
وعاشقان التف خداهما
عند التئام الحجر الأسود
فاشتفيا من غير أن يأثما
كأنما كانا على موعد
لولا دفاع الناس إياهما
لما استفاقا آخر المسند
ظل كلانا ساترا وجههه
مما يلي جانبه باليد
نفعل في المسجد ما لم يكن
يفعله الأبرار في المسجد
ونكاد نجزم بأنه كذب على نفسه؛ ليستخرج من هذا الموقف ملحة نتخيلها ولا نراها تحدث في مزدحم الطواف، وشبيه بذلك ما تحاكى به من شربه في ليلة العيد، كأنما خاف على ما كان يسميه «جاهه» عند المجان ولا جاه له يخاف عليه بين أهل الصلاح.
وما لم يكن من شعر التوبة إطاعة لأمر أو إدلالا بقدرة فنية، فعله خاطرة من خاطرات الندم تطيف بقلبه ساعة، ثم تمحوها داعية من دواعي اللهو فينساها.
ويسري هذا على شعره كله في التوبة والعظة ما خلا نتفا يسيرة من نظمه في أخريات عمره، قد تستشف منها خاطرة الأسف الصادق والحزن الخاشع، ولم تأت هذه التوبة إلا بعد مطاولة ومراوغة يستبقي بهما بقية الشباب:
كأن الشباب مطية الجهل
ومحسن الضحكات والهزل
كان الجمال إذا ارتديت به
ومشيت أخطر صيت النعل
كان المشفع في مآربه
عند الفتاة ومدرك النبل
2
والباعثي والناس قد رقدوا
حتى أبيت خليفة البعل
والآمري حتى إذا عزمت
نفسي أعان يدي بالفعل
والآن صرت إلى مقاربه
وحططت عن ظهر الصبار حلي
والراح أهواها وإن رزأت
بلغ المعاش وقللت فضلي
وبعد يأس ما قال معترفا بتأخير التوبة بعد فوات حينها أو أحيانها:
دب في الفناء سفلا وعلوا
وأراني أموت عضوا فعضوا
ذهبت شرتي وجدة نفسي
وتذكرت طاعة الله نضوا
ليس من ساعة مضت بي إلا
نقصتني بمرها لي جزوا
لهف نفسي على ليال وأيا
م سلكتهن لعبا ولهوا
قد أسانا كل الإساءة - يا ر
ب - فصفحا عنا إلهي وعفوا
ثم جعل يودع دنياه بأمثال هذين البيتين:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميل عفوك ثم إني مسلم
وأبلغ منها قوله:
أراني مع الأحياء حيا وأكثري
على الدهر ميت قد تخرمه الدهر
فما لم يمت مني بما مات ناهض
فبعضي لبعض دون قبر البلى قبر
فيا رب قد أحسنت عودا وبدأة
إلي فلم ينهض بإحسانك الشكر
فمن كان ذا عذر لديك وحجة
فعذري إقراري بأن ليس لي عذر
توبة أبي نواس
وقد تعقبنا الأطوار الجنسية في هذه الطبيعة وأثرها في صباها وكهولتها، فإذا مضينا إلى نهايتها فقد تكون هذه التوبة المترددة أثرا من آثار الطور الجنسي الأخير، وهو سن الحرج
Climacteric
الذي عاجله قبل أوانه لإفراطه في مهلكات النفس والجسد، وهو القائل:
إذا كنت لا أنفك من طاعة الهوى
فإن الهوى يرمي الفتى ببوار
فأدركه ولم يبلغ الخمسين:
وإذا عددت سني كم هي لم أجد
للشيب عذرا في النزول برأسي
ومن آثار هذا الطور الجنسي الأخير أزمات قاسية على الشيوخ، الذين لم يتأهبوا له بشاغل من شواغل الحنان، أو العمل النافع خاصا كان أو عاما، فيدفعهم إلى الصغائر ويبدي منهم للناس بدوات يستغربونها منهم بعد ما ألفوه من رصانتهم واتزانهم، ويصاحب هذه الأزمات شيء من رد الفعل، وتغير المألوف، فيرعوي السادر في الغواية، ويسدر في الغواية من لم يكن من أهلها، وقد رأينا أثر هذه الأزمات في لوثة أبي العتاهية، وهوسه الذي أضحك منه صديقه مخارقا فساءله بحق: من من النساك والصالحين صنع بنفسه مثل هذا الصنيع؟ فزميله النواسي قد أدركته هذه الأزمة، وجنحت به إلى ذلك الوجوم أو السهوم الذي ترجم عنه بتلك الأبيات، ولم تدركه قاسية عنيفة على مثال زميله؛ لأنه لم يستقبلها فجأة بالانتقال إلى النقيض فيما بين عشية وضحاها. •••
وإن أبا نواس في استعداده للعقيدة الدينية لخليق أن يكون من نماذج طبيعته، كما كان نموذجا لها في مياسم شتى، فتلك طبيعة لا تصمد للإنكار ولا تقدر على ضبط الهوى ولا تخلو من مساورة الهواجس التي تحوم بها حول الدين وتقارف بها حرماته، فإذا ترقبت التعلة من حولها فوجدتها بعد لهفة عليها كانت لها تلك التعلة كخشبة الغريق تتشبث بها إلى الرمق الأخير، ولا ترسلها من يديها.
وليس حتما لزاما أن تسترسل النفس المنحرفة أو الزائغة في أهوائها، فإن خصلة التسامي بالأهواء معهودة في النفوس المبتلاة بالنشوز، سواء كانت من ذوات القوة والبأس أو ذوات الوهن والهزال، ولا استثناء للمنحرفين من خصلة التسامي بالعيوب التي تنشأ في الطبع عيوبا، فيجعلها التسامي نقيبة من أنبل النقائب وأشرفها، ويتيح بها للإنسان فرصة يعلو بها على نزواته وصغائره، وقد كان سقراط الحكيم مصابا بهلواس السمع وسبات اليقظة، وكان يحب الفتى السبيادس حب الأستاذية المرشدة، ويحار السبيادس - لمجونه وخلاعته - في معاني هذا الحب، فيستدرج أستاذه ويعرض عليه نفسه، ويروي لنا أفلاطون في مائدته بلسان السبيادس أن هذا الفتى أولم لسقراط وليمة عامة، ثم اجتهد أن يبيت معه على انفراد، قال أفلاطون بلسانه: «فلما أطفئت الأنوار وذهب الخدم لم أرد أن أحوم مع سقراط حول الغرض، وعولت على الإفضاء إليه بما في نفسي، فناديته: سقراط! أنائم أنت؟ فأجابني : ما أبعدني عن النوم! قلت: أوتعلم بماذا أفكر الساعة؟! قال: لا، بماذا تفكر؟ قلت: إنني أشعر أنك الوحيد من عشاقي الجدير بي، ولكنك تخاف أن تفصح عما في قلبك، فاعلم إذن أنني لأرى من الحماقة ألا أستجيب لرغباتك، فأصغى إلي ثم أجابني جوابا على نمطه وبسخريته المعهودة، فقال: إنك ولا ريب فتى لبق يا عزيزي السبيادس! ولا بد أنك ترى في جمالا يفوق جمال جسدك وملامحك، فإن كنت ترى ذلك فإأنت تحاول الساعة أن تبادلني سلعة بسلعة أغلى منها كثيرا، وتخرج رابحا من الصفقة»، ومضى الفيلسوف يعلم الفتى ما لا يعلمه من هداية جمال النفوس حين تواجه جمال الأجسام.
وفي الأدب العربي أمثلة كثيرة لهذا الانحراف الذي اعتدل به التسامي غاية الاعتدال، فالشاعر تقي الدين السروجي قد كان ولا ريب على انحراف في التكوين، وقال الشهابي محمود: إنه كان مع دينه وورعه وزهده مغرما بالجمال، وكان يكره مكانا فيه امرأة، ولما توفى حلف أبو محبوبه ألا يدفنه إلا في قبر ابنه، وقال: كان الشيخ يهواه بالحياة وما أفرق بينهما بالممات، وهذا لما كان يعلمه من دينه وعفته.
وكان الشيخ مدرك الشيباني صاحب «عمرو النصراني» على هذا الخلق، وهو صاحب القصيدة التي أولها:
من عاشق ناء هواه دان
ناطق دمع صامت اللسان
موثق قلب مطلق الجثمان
معذب بالصد والهجران •••
من غير ذنب كسبت يداه
لكن هوى نمت به عيناه
شوقا إلى رؤية من أشقاه
كأنما عافاه من أبلاه
ومنها يستحلف بالمقدسات المسيحية:
يا عمرو بالحق مع اللاهوت
والروح روح القدس والناسوت
ذاك الذي في مهده المنعوت
عرض بالنطق عن السكوت •••
بحق ما في محكم الإنجيل
من منزل التحريم والتحليل
وخبر ذي نبأ جليل
يرويه جيل قد مضى عن جيل
إلى آخر القصيدة التي كان أبناء جيله من المسلمين والمسيحيين يتناشدونها، ويتبركون بناظمها ولا تطوف بنفوسهم طائفة من الشك فيه وفي معشوقه. •••
وقبل هؤلاء ذاع في البصرة هوى الشيخ محمد بن داود الظاهري لصاحبه محمد الصيدلاني، وكلاهما مثل في العفة والأدب، وكان ابن داود هذا يتحرج في الدين حتى يحرم القياس ولا يقبل غير النص، فلما نظم هذين البيتين في محبوبه:
ما لهم أنكروا سوادا بخد
يه ولا ينكرون ورد الغصون
إن يكن غيب خده بدد الش
عر فعيب العيون شعر الجفون
قيل له: أنكرت القياس في الفقه وأثبته في الشعر، فقال: هي غلبة الحب! •••
ومثل هذا التسامي يخلق من النقص فضلا ومن الزيغ اعتدالا، ويعلم النفوس من الرياضيات ما ينفعها في تصفية الأخلاق وتزكية الضمير، وليس أحد من ذوي العلل الكمينة أو العارضة بعاجز عنه إذا استجمع له نيته وعقد عليه عزيمته، ولكن هذه المحاولة أعجزت أبا نواس؛ لأنه وقع من مولده في بيئة تعالج التسامي على أسلوب آخر، وهو اتخاذ الفضيلة من الضرورة وطلب الوجاهة من وراء الشهرة المخالفة، أو تحدي الرياء بالاجتراء عليه، وهذا بديل من التسامي في الواقع يجنح إليه من طبع عليه، ولم تسعده البيئة بمن يروض طبعه على أسلوب سواه.
خاتمة
وبالكلام على عقيدة أبي نواس تنتهي هذه الرسالة، وهي كما يرى القارئ من عنوانها ومحور بحثها مقصورة على الدراسة النفسية لا ترمي إلى ترجمته أو نقد أدبه وشعره ولا تمس وقائع الترجمة أو شواهد الأدب والشعر إلا لما فيها من الإبانة عن طبيعته والإعانة على تفسيرها واستطلاع كوامنها.
ومن الخير أن تقال كلمة الخير في كل ترجمة.
وهي لا تكون خيرا إلا أن تكون صدقا.
وكلمة الخير التي تقال صدقا في الشاعر أن الآفة عنده إنما هي آفة الضعف والشعور المغلوب وليست آفة الشر والأذى. فلم يعرف عنه أنه سعى إلى إيقاع الأذى بأحد أو إنه سر بوقوعه فيه، وعرف عنه على خلاف ذلك أنه كان يسعى إلى المساعدة والمؤاساة ما اقتدر عليهما، فلما أشفق جماعة الشعراء الخاملين من الوفود على الخصيب بمصر وأبو نواس وافد عليه، طيب خواطرهم واستعطف الخصيب عليهم، ولم يطلب جائزته إلا بعد الاطمئنان على جوائزهم، ولما غضب الرشيد على الشاعر ابن مناذر وأمر بلطمه وإقصائه لحرمنه جوائز الصلات في حياته قصد إليه أبو نواس وترك بين يديه بدرة من المال لعله لم يكن يملك غيرها في تلك الآونة.
ولئن كان حبه مشوبا بشهواته لقد كان لمحاسن الدنيا حب مطبوع في وجدانه وذوقه، وكان له في تلك المحاسن وصف يكسو الحياة زينة ويصقل ما اخشوشن من شدائدها وأكدارها على نفوس الأحياء.
وبعد فهل زادت عيوب أبي نواس مقدار الرذيلة في الدنيا؟ إن المقدار ليختلف هنا مع المقدرين، ولكنهم لا يختلفون فيما زاده من ثروة النفس والبيان.
نامعلوم صفحہ