قال: «أنت تعلمين أن أبا مسلم قائم بهذه الدعوة، وأعداؤه كثيرون، وأكبرهم ابن الكرماني ونصر بن سيار، ولا يضمن الفوز إلا بعد قتلهما. وقد أخبرته أن الكرماني خطبك لابنه فسر وابتهج.» قال ذلك وتشاغل بحك ذقنه وضحك.
فأطرقت وأعملت فكرتها، وقد دهشت لذلك التناقض: كيف أن أبا مسلم يحبها، وكيف أنه سر بخطبتها لابن الكرماني؟ فرفعت بصرها إلى الضحاك وفي عينيها ما يشير إلى التساؤل، فضلا عن مظاهر الاضطراب، ففهم سبب دهشتها فقال: «لم يسره أن تكوني للكرماني، بل سره أنك ذاهبة إليه وأنت تريدين أبا مسلم، وتتمنين أن ينتصر على أعدائه.»
فأدركت جلنار أن أبا مسلم يرجو منها أن تساعده على تحقيق غرضه وهي عند الكرماني، ولا يكون ذلك إلا بمساعدته على قتله وقتل ابن سيار، فأكبرت الطلب؛ لأنه لا يتم لها إلا بخيانة الكرماني بعد أن تصير زوجته، فضلا عن الإقدام على القتل، وهي لم تتعوده، فوجمت ولبثت صامتة وقد حارت في أمرها، وأعظمت أن تصرح للضحاك بما فهمته من كلامه، وأصبحت بين عاملين قويين: أحدهما يدفعها إلى مرضاة حبيبها بأية وسيلة كانت، والآخر يمنعها من الاشتراك في قتل رجل سيعد نفسه زوجها، ولا تستطيع الاشتراك في قتله إلا وهي في بيته، فشعرت للحال بأنها في شدة وقلق لا تنجو منهما إلا باعتزام أحد الأمرين: إما أن تقبل الكرماني على أمل أن تنال أبا مسلم بالاشتراك في قتله، أو تأبى ذلك الرأي فتخسر أبا مسلم.
قضت مدة وهي تتردد في الحكم بين الوجهين، فأتعبها التردد، وأحست بصداع شديد، وضاق صدرها، فلم تصبر عن الوقوف بغتة والضحاك يرقب حركاتها، ويتوقع أن يسمع منها جوابا، فلما رآها تقف علم أنها في حيرة شديدة فقال لها: «لا تتعجلي في الحكم يا سيدتي. تمهلي في التفكير؛ فإن الطلب شاق. وعلى كل حال، لا سبيل إلى أبي مسلم إلا بما ذكرته لك؛ لأن الرجل شديد التمسك بعزمه، ولا يرى العدول عنه إلى سواه.»
فأرادت أن تستزيده إيضاحا فقالت: «لم أفهم المراد تماما. لماذا لا تعيد علي قوله حرفيا؟!»
قال: «لو أردت ذلك لطال بي المقام، غير أني أقول لك ما قد فهمته منه إجمالا؛ هو يحبك، ولكنه عاهد نفسه ألا يكتب كتابا إلا بعد الفراغ من حربه وهو فائز، ولكنه لا يرجو الفوز إلا بالتغلب على هذه الرجلين. وقد يمكن التغلب عليهما بدون قتلهما، وقد لا يكون إلا بقتلهما، فإذا كنت أنت عند أحدهما كنت عونا له على ذلك إذا أردت، وإلا فالرأي لك. فكري في الأمر على مهل.»
فأحست جلنار بعجزها عن اتخاذ قرار على الفور، ورأت تأجيله ريثما تحدث ريحانة في شأنه، رغم ما وعدت به من كتمانه عنها. والإنسان إذا أعجزه الحكم في مسألة أحس بميل شديد إلى مكاشفة بعض أخصائه بها، ولا عبرة بما وعد على الكتمان. وقد يكون الإلحاح عليه في كتمان السر من بواعث ترغيبه في إفشائه، وخصوصا النساء؛ فإنهن أقل صبرا على حفظ الأسرار من الرجال بما فطرن عليه من ضعف المزاج، ولا سيما فيما يتعلق بالحب وبأسبابه. ويغلب أن يكون إفشاؤهن للسر على سبيل المسارة، فإذا عهدت إلى إحداهن بسر وأوصيتها بكتمانه، فإنها تخبر به صاحبتها سرا، وهذه تنقله بالمسارة إلى صاحبة أخرى. ولا نبرئ الرجال من مثل ذلك، وإن كانوا أصبر على الكتمان منهن، وقد قالوا: «كل سر جاوز الاثنين شاع.» والحقيقة «أن كل سر جاوز الشفتين شاع.» يقال ذلك في الأسرار على العموم، بغض النظر عن مصلحة أصحابها في إفشائها. وقد يعذر من يفشي سرا من أسراره التماسا للمشورة بعد أن يضيق صدره، ويعجز عن الحكم فيه، كما أصاب عروس هذه الرواية، فإنها اتخذت ريحانة خزانة لأسرارها منذ أعوام، وهي شديدة الثقة بإخلاصها وتعقلها، فلا لوم عليها إذا كاشفتها بما أضجرها من أمر أبي مسلم في طلبه، كما نقله إليها الضحاك.
الفصل الثاني والعشرون
الوداع
فلما ضاقت ذرعا عن أن تقطع الأمر برأي أشارت إلى الضحاك بالانصراف، ومضت إلى غرفتها لتخلو بنفسها؛ لعلها تهتدي إلى حل تلك المشكلة، فأغلقت بابها واستلقت على الفراش وقد استغرقت في الهواجس، فقضت في ذلك ساعة وهي تطوف في عالم الخيال، ثم تعود إلى حيث بدأت حتى ضاق صدرها، فأحست بحاجتها إلى ريحانة وصارت تتوقع مجيئها على مثل الجمر، ثم غلب عليها التعب والقلق وهي مستلقية على الفراش فأحست بالنعاس وشعرت بالبرد، فالتفت باللحاف ونامت، واستغرقت في النوم وقد تركت الباب مغلقا ولم توصده، فجاءت ريحانة لتتفقدها فرأتها نائمة فتركتها ومضت وهي أكثر قلقا منها لاستطلاع ما أسره إليها الضحاك. وكانت على يقين من أن سيدتها لا تكتم عنها شيئا.
نامعلوم صفحہ