فأدركت جلنار ما تعنيه ريحانة، وقد أخجلها، لكن سرورها بهذا الحل هون عليها ذلك التعريض، فابتسمت والانقباض ينازع الابتسام في وجهها، فعادت ريحانة إلى حديثها فقالت: «بقي علينا النظر في الوسيلة إلى أبي مسلم، والحق يقال إن هذا العربي المهزار قد رأى رأيا حسنا؛ فلا غرو إذا وقع لديك موقع الاستحسان؛ لأن زيارتك لأبي مسلم بدون علم أو مبادلة سابقة لا تخلو من الابتذال؛ فالذي أراه أن ترسلي إليه مع الضحاك مبلغا من المال على سبيل الإعانة، والضحاك يفهمه بأسلوب لطيف أنك بعثت بهذه الهدية حبا فيه وفي دعوته، ونرى ما يكون من جوابه. وإذا رأيت أن ترسلي إليه هدية خاصة تؤكد محبتك فعلت.»
فأشرق وجه جلنار لهذا الرأي، وكانت متكئة فجلست وقالت: «لقد أعجبني يا ريحانة رأيك الأخير؛ لأن إرسال الهدية الخاصة استطلاع لرأي أبي مسلم في. فما عسى أن تكون تلك الهدية؟»
قالت: «أجمل هدية تهدى للقواد السيف، فإذا بعثت إليه بسيف مرصع، وبلغه الرسول أنه هدية منك إليه؛ ازداد اعتقادا بسلامة نيتك في نصرته، وإذا كان في نفسه شيء ظهر.»
فقالت: «ومن أين آتي بهذا السيف؟»
قالت: «ذلك هين على من يبذل المال، فأعط الضحاك مالا وفوضيه أن يبتاع سيفا، فما هو إلا أن يذهب ويعود إليك بالسيف في نحو ساعة.»
ففرحت جلنار بهذا التدبير وقالت: «إني أترك تدبير هذا الأمر إليك، وأما النقود فهي عند الخازنة. خذي منها ما تريدين، واحذري أن يعلم والدي بشيء من هذا التدبير فنقع في مشكلة يصعب حلها.»
قالت: «كوني مطمئنة يا مولاتي، فلا يكون إلا الخير، إن شاء الله. والآن خففي عنك ونامي، وعلي تدبير كل شيء.»
ثم قبلت رأسها ويدها وخرجت حافية حتى عادت إلى غرفتها. ولا نظن أن جلنار نامت في تلك الليلة إلا قليلا لعظم اضطرابها.
فلندع هؤلاء في تدبيرهم، ولنرجع إلى أبي مسلم؛ فقد تركناه في دار الضيافة ومعه خالد بن برمك وقد ناما، وأبو مسلم قلما غمض جفنه وهو يفكر في مشروعه، وفيما عساه أن يحول دونه من العقبات. وكان أبو مسلم شديد الحذر، متيقظ الخاطر، سيئ الظن في المستقبل، لا يأمن كوارث الأحداث، فكان - وهو في فراشه - سابحا في بحار التأملات يفرض الممكنات، ويهيئ الأسباب، حذرا من الفشل. وبعد أن نام هزيعا من الليل أفاق على هبات الرياح، وقصف الرعد، وسقوط الأمطار، فشق عليه ذلك مخافة أن تحول الظروف دون مسيره، فلما استيقظ نهض من الفراش، وأطل من نافذة غرفته إلى ما حوله - وكان المطر قد انقطع والصبح قد تبلج - فرأى المياه قد ملأت الطرق وسالت في أخاديد الأرض، فتحول إلى غرفة خالد. ولم يكد يدخلها حتى رآه خارجا منها وقد تزمل بعباءته وتخمر بعمامته، فصاح فيه أبو مسلم: «خالد.»
فقال: «لبيك أيها الأمير.»
نامعلوم صفحہ