وكان الدهقان المذكور يقيم في مزرعة له على بضعة أميال جنوبي مرو في قصر فخم تأنق في بنائه، وأنشأ حوله الحدائق غرس فيها الأشجار المثمرة، وأصناف الرياحين والأزهار، وسرح فيها الطيور الداجنة، وفي جملتها الطاووس، والديك الهندي، وأصناف الدجاج. وقد ابتنى لها أقفاصا في بعض جوانب الحديقة، وأقام حول القصر والحديقة سورا عاليا منيعا كأسوار القلاع. وخارج السور منازل رجال الحاشية والأعوان، وبينها أعشاش يقيم فيها الحراثون والخدم.
ولم يكن يقيم في القصر إلا الدهقان ونساؤه وخدمه وبنته، ولم يكن له أبناء سواها. والقصر المذكور مبني على نمط خاص يحسبه المقبل عليه هيكلا من هياكل النار التي كان الفرس يصلون فيها قبل الإسلام. والظاهر أن هذا القصر كان هيكلا لعبادة النار، فلما أسلم أصحابه حولوه إلى قصر للسكن، وأنشئوا حوله الحديقة والسور؛ ولذلك كان المقبل على القصر يرى في صدره أساطين من الرخام ضخمة، عليها نقوش فهلوية هي عبارة عن صور بعض الأبطال وبعض نصوص الأدعية أو الصلوات على اصطلاحهم. وتحيط هذه الأساطين برحبة أرضها من الرخام مرتفعة عن أرضية الحديقة وتشرف عليها، وفي سقفها نقوش ملونة تمثل بعض الخرافات القديمة عند المجوس، وفيها مواقع حربية أو حوادث دينية. وكانوا يسمون تلك الرحبة قاعة الأساطين أو القاعة الكبرى. ووراء تلك القاعة غرف كبيرة مفروشة بأثمن الأثاث من الديباج والإبريسم على النمط الفارسي.
الفصل الثالث
جلنار
وذات ليلة من ليالي رجب المقمرة من سنة 129ه، كان الدهقان جالسا في تلك القاعة بين تلك الأعمدة، وقد فرشوا المكان بالسجاد وفوقه الوسائد المزركشة بالذهب، وفي وسط القاعة شبه منضدة من خشب الصندل المرصع بالأصداف الملونة، وعلى المنضدة تمثال صغير من الذهب يشبه فارسا فارسيا عليه الدرع، وعلى رأسه الخوذة، وإلى جنبه السيف. وعينا الفارس وعينا الجواد من الحجارة الكريمة. وقد علقوا في سقف القاعة عدة مصابيح بينها مصباح كبير في وسطها، فأضاءوا المصابيح في تلك الليلة كالعادة، ولكن القمر أغناهم عن نورها.
وكان الدهقان جالسا في صدر القاعة على وسادة من الحرير، وعليه قباء من الديباج الأحمر، وعلى رأسه قلنسوة من الجلد الملون، وحول القلنسوة عمامة صغيرة من نسيج الكشمير يغلب فيها اللون الأبيض. وكان القباء مبطنا بالفرو؛ لأنهم كانوا في فصل الربيع. وكانت تلك الليلة باردة، فالتف الدهقان بقبائه وبالغ في الالتفاف حتى غطى الفرو عنقه ومعظم لحيته. وكان كبير الوجه، جاحظ العينين، ضخم الأنف، أشقر الشعر، وقد خالطه الشيب قليلا، فيحسبه الناظر إليه في الخمسين من عمره وهو فوق الستين. وبعد أن جلس هناك وحده ساعة، نهض بغتة ودخل يطلب غرفة ابنته، فبغت الخدم لقيامه وتفرقوا من بين يديه، ثم وقفوا احتراما له. وكانت جلنار قد ذهبت إلى غرفتها بعد العشاء وبعثت إلى ماشطتها الخاصة، فجاءتها وأعانتها على خلع ثيابها ونزع حليها، ثم جلست إلى جانب فراشها لتحادثها ريثما تنام وقد آن وقت النوم، ولكن جلنار احتالت في الذهاب إلى الفراش؛ لتخلو بماشطتها وتحدثها بما في نفسها.
وكانت جلنار على جانب عظيم من الجمال، مستديرة الوجه، ممتلئة الجسم، معتدلة القامة، بيضاء البشرة مع حمرة تتلألأ تحت ذلك البياض، سوداء الشعر مسترسلته، نجلاء العينين كحلاءهما، مع جاذبية وحلاوة يندران في البيض؛ لأن الجاذبية تغلب فى السمر. وكان لها في مقدم الذقن فحصة، وإذا ابتسمت ظهر لها إلى جانب الفم فحصتان هما الغمازتان.
فلما فرغت الماشطة من تبديل ثيابها، ألبستها قميصا من الحرير الناعم وردي اللون، وحلت شعرها وسرحته بمشط من العاج، فاسترسل إلى كتفيها، ثم ضفرته ضفيرة واحدة لئلا يضايقها أثناء النوم . وكانت الماشطة من أهل الذكاء والعقل، وأصلها سرية ابتاعها الدهقان في جملة جوار بيض من بعض تجار الرقيق الذين يتجرون بالمماليك من بلاد الترك والخز، ولكنها تمكنت بذكائها وأسلوبها من اكتساب ثقة الدهقانة جلنار حتى جعلتها ماشطتها. والماشطة من أصحاب النفوذ الأكبر في بيوت الدهاقين؛ لأن نساءهم يفضين بأسرارهن إلى الماشطة، ويعتمدن عليها في المهام العظام. فإذا كانت من أهل الذكاء والدهاء ملكت زمام القصر، وسيطرت على الدهقان والدهقانة.
وكانت ماشطة جلنار، واسمها ريحانة، قد ملكت ثقة سيدتها، وتمكنت من محبتها، ولا سيما بعد وفاة والدتها، فأصبحت ريحانة مركز آمالها وخزانة أسرارها، فلما فرغت من تبديل الثياب استلقت جلنار على فراش أنيق من ريش النعام، غطاؤه سماوي اللون، فغرقت فيه، واتكأت بذراعها اليسرى على وسادة مزركشة، وأسندت خدها على كتفها، وتغطت باللحاف إلى أسفل الكتف، وأرسلت يدها اليمنى فوقه. وقد نزعت من معصمها أكثر الحلي إلا الأساور، وانحسر الكم عن زندها فظهر بضا أبيض. فتوسدت على تلك الصورة ووجهها نحو ريحانة. وكانت ريحانة قد لفت رأسها وحول عنقها بخمار من نسيج الكشمير، ولبست دراعة مستطيلة تحتها سراويل منتفخة على نمط ملابس الفرس في تلك الأيام، وليس عليها شيء من الحلي.
جلست ريحانة إلى جانب جلنار وقد تملكتها الدهشة لما آنسته من سكوتها وانقباضها أثناء تبديل الثياب، وكانت عادتها أن تغتنم مثل تلك الساعة للممازحة والمضاحكة. فلما رأت ريحانة سكوتها جارتها في السكوت تأدبا، وصبرت نفسها حتى تبدأ هي الحديث، مع علمها ببعض ما يجول في خاطر سيدتها من الهواجس. فلما اتكأت جلنار أشارت إلى ريحانة أن تغلق باب الغرفة، ففعلت وعادت إلى مكانها، ومدت يدها إلى شعر جلنار وجعلت تلاعبه بين أناملها، ثم مرت بيدها على رأسها وهي تنظر إلى وجهها وتبتسم كأنها تستفسر منها عن سبب ذلك السكوت. فقالت جلنار باللغة الفارسية - وكانت تعرف العربية مثل معظم أهل فارس في ذلك العصر؛ لأنها لغة الفئة الحاكمة، لكنهم كانوا يتفاهمون فيما بينهم بالفارسية لغة آبائهم - فقالت جلنار : «ما قولك في أبي ...»
نامعلوم صفحہ